العفر الطاهر

الأحد في ٢٠ من مارس سنة ١٩٢٧

متجملة أكثر مما هي جميلة، متطرفة أكثر مما هي ظريفة. دون الطويلة على أنها ليست بالقصيرة. كانت ترتدي جلبابًا من الحرير السماوي الشفاف، وقد شمرت عن بعض ساقيها الدقيقتين، إذ جوربتهما بجورب يروح لونه بين صفرة بعض المرمر وحمرة بعض الورود … ارتفع كُم جلبابها ليكشف عن معصمها المبيض، وكانت مشيتها بطيئة في شيء من التثاقل والعجب والعظمة، وليس يحول صدرها المرتفع دون تموج الجسم وتثني الخصر، وحيث كانت تسير تضوع منها شذى المسك والياسمين. أما عيناها فكانتا مكتحلتين بالسواد المصنوع الذي تعدى بعضه باطن الجفنين، ومآقي العينين. وتعلو بشرة وجهها طبقة من المسحوق الأبيض الذي يمازجه آخر أحمر، وعلى رأسها قبعة عليها طاقة من الزهر المصنوع.

أما صاحبها فكان رداؤه أسود أنيقًا وقبعته من النوع الرخي السخي. حليق اللحية، أزالت الموسى طرفي شاربيه، وشذب المقص ما بقي منهما، ولم يذر إلا ما هو دون فتحات الأنف. منديله الأبيض يطلُّ مشرئبًا على صدره بطرفين يشرفان إلى العلو، وفي فتحة من فتحات معطفه زهرات باسمة، وفي يسراه عصا كأنها تعتمد على عنايته في صيانتها أكثر مما يعتمد عليها في صيانته.

•••

السيد والسيدة كانا ينتظران القطار على إفريز إحدى محطات الضواحي ويسيران، ثمَّ متبخترين مقبلين مدبرين.

وقبل وصول القطار بدقائق قليلة أقبل من خلف الإفريز فاعل من الفعلة، كأنه نبت من الأرض طفرة واحدة. وكان حافي القدمين، مفتول العضل، يرخي لحية سوداء قصيرة مغيرة، عليه سروال يظهر ساقه داكنة، وفوق قامته قميص استحال بياضه إلى لون التراب، وعلى رأسه شبه عمامة، وقد أرسل على كتفه جلبابًا أسود يظهر فيه مزيج من الجير والرمل والحمرة. هو من هؤلاء العمال الذين يعلمون في تشييد المنازل، أو حفر الجنادل. وكأنه حين رأيته كان قد فرغ من عمله لساعته؛ لأن آثار الجهد تبدو عليه. ويظهر أن الرجل المكدود كان مستغرقًا في فكره، أو أوصابه، فلا يلفته ما أمامه ولا ما حوله.

خطا الفاعل خطوتين، أو ثلاثًا أمام السيد الأنيق والسيدة المتأنقة، ثمَّ قبل أن يرتدي رداءه المسدل على كتفه أخذ ينفضه مما علق به من العفر. وما كاد يلوح به مرة، أو اثنتين في الهواء حتى لحقه السيد الأنيق صائحًا، متوعدًا، مهددًا، رافعًا عصاه اللينة ليهوى بها على المنكبين الصلبين الشديدين، ولكن الفاعل — وقد أخذه نوع من الذعر — لم يفه إلا بعبارة واحدة:

هذا تراب طاهر. أنه لتراب طاهر!

حقًّا لم يكن صاحبنا الفاعل ليعلم أن وراءه المتأنقة المعفرة بالمسحوق الأبيض؛ ليتقي الشر ممن أزعجه اليسير من عفر العمل. وحقًّا لم يكن صاحبنا السيد ليتذكر وقتئذ أن أمثال القصر الأنيق الذي يسكن إلى صاحبته فيه، قد ترك تشييده في ثوب العامل ما من أجله أهين وانتهر.

ألا فأرخ بربك ساعديك أيها الملوح بعصاه، المشمئز من تراب العامل. وأطرق إجلالًا، فإن الغبرة التي تجلل ثوب هذا المنتج الكادح، وتغمر وجهه أطهر وأكرم عند الله من تلك المساحيق التي ذرتها صاحبتك على وجهها؛ لتجعل منها عليه وجها آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤