القانون الخلقي وجلاله

الأحد في ٢٦ من يونيه سنة ١٩٢٧

كثيرًا ما يقطع الغافلون من الناس أطوال الأرض وأعراضها، ويسلكون مسالكها، ويذرعون سبلها، وتمر أمام أعينهم مختلف المشاهد وأجناس الناس — وكم في نفوس الناس من فصول نقرأ منها رواية الحياة العظيمة — لكن دون أن يتنبهوا لأمر دقيق من دقائق هذه الحياة. ودون أن يصيبوا موعظة مما يشاهدون.

وكثيرًا ما تتجلَّى للناظر المتبصر صور من الحياة ظاهرة جليَّة في مجلس ضيق محدود يغشونه، أو من حيث تسترق أسماعهم قولًا لطيفًا، أو حديثًا طريفًا، وقد ينزع اليقظون مما يحيط بهم زبدة من زبد الحياة، أو عبرة من عبرها تخلص لهم، كما يخلص المعنى الجامع من القول الطويل عند السامع اليقظ.

وإليك صورة تجلت لي، وظهر لي معها جلال القانون الخلقي:

فى عربة من عربات الترام، الذي أكاد أركبه كل يوم لأذهب إلى عملي، اجتمعت فئة من الراكبين، فيهم أمٌّ مصرية وبجانبها طفلها الصغير، وفيهم بعض رجال من أعمار مختلفة، وفيهم سيدة خليعة، وفيهم عامل الترامواى.

أما الأمّ فكانت مثلًا في الاحتشام توجه إلى صبيها نظرات الحنون، وكانت تارة تصلح له من ملبسه، وتارة أخرى تحدثه في وداعة ورحمة. بالاختصار كانت كأنها ترعى فيه أملها المرتجى، وسعادتها النابتة، ونعمتها السابغة، فلا تكاد نفسها وحركاتها تتوجه إلا إليه وإلى ما يهمه.

وأمَّا الرجال الجالسون، فكان بعضهم مكبًا على المطالعة في الصحف، وبعضهم يتحدثون فيما بينهم في شؤون لهم، والبعض يرعى شيئًا في نفسه من فكرة عارضة تشغل الرأس، أو أمر ذي بالٍ.

أما الخليعة المكحلة، فكانت تتلوَّى في حركات مصنوعة لتلفت النظر إلى نفسها، وكانت تارة تشمر الأزار عن بعض ساقيها، وتارة أخرى تكشف الثوب عن بعض ذراعيها، ومرة تبدي زينتها، ومرة أخرى تحاول أن تتحدث مع العامل، أو مع من حولها من غير حاجة ماسة لمثل هذا الحديث.

أما عامل الترام فكان في ثوب عمله الأصفر، مأخوذًا في واجبه ذاهلًا بذلك عمَّا عداه.

•••

سار بنا الترام شوطًا، ثمَّ أخذت الخليعة تستوقفه بصوت وعبارات وإشارات كان من شأنها أن تلفت نظر الجالسين، ولكن بامتهان واحتقار. فلمَّا شرعت في النزول التفت البعض إلى البعض، ثمَّ التفتوا إليها التفاتًا يدل على امتعاضهم من تلك الصورة المخجلة، ثمَّ قطع الترامواى بعد ذلك شوطين، وقامت السيدة المحترمة أمّ الصبي لتتأهب للنزول، فأخذ الجالسون في عونها وعون ولدها في صورة من التقدير والإجلال لاحتشامها.

•••

في الصورة التي مثلتها السيدة الخليعة، والصورة التي مثلتها السيدة الجليلة، وفى موقف الناس حيال الصورتين ظهر لي القانون الخلقي في هيبته الصامتة، حين يعاقب من يستحقون العقاب بما تحفظه صدور الناس للناس من احتقار حقيق بأهل الاحتقار، وحين يثيب من يستحقون المثوبة، بما تكنه صدور الناس للناس من احترام حقيق بمن يستحقون الاحترام من أهل الكرامة. وإن عقاب القانون الخلقي عند من يشعرون بعقابه لمؤلم حديد، وإن ثوابه عند من يعرفون ثوابه لقوي شديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤