في العصور الحديثة

نقل المقريزيُّ في خططه عن ابن الحَكَم١ من أخبار مصر أنه في سنة ٢٣ بعد الهجرة، لما افتتحها عمرو بن العاص جاء إليه الأقباط وقالوا: إن للنيل سُنَّةً لا يجري إلا بها، قال: وما هي؟ فقالوا: إذا خلت اثنتا عشرة ليلة من شهر بئونة من الشهور القبطية عمدنا إلى جارية بكر مليحة نأخذها من أبويها غصبًا، ونجعل عليها الحُلي والحلل، ثم نلقيها في بحر النيل في مكان معلوم عندنا، فلما سمع كلامهم قال: هذا لا يكون في الإسلام أبدًا، فأقام أهل مصر أربعة أشهر بئونة وأبيب ومسرى وتوت لم يزد فيها النيل لا كثيرًا ولا قليلًا، ولما رأوا ذلك هموا بالجلاء عنها، ولما رأى عمرو بن العاص منهم ذلك، كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وصل إليه ذلك الكتاب وعلم ما فيه كتب بطاقة وأرسلها إلى عمرو بن العاص، وأمره أن يلقيها في نهر النيل، فلما وصلت إليه تلك البطاقة فتحها فإذا مكتوب فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عمر بن الخطاب إلى نيل مصر المبارك، أما بعدُ، فإن كنت تجري من قِبلك فلا تجرِ، وإن كان الله تعالى هو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك.

فلما وقف عمرو بن العاص رضي الله عنه على ما في البطاقة ألقاها في بحر النيل قبل عيد الصليب بيوم واحد، وعيد الصليب يكون في السابع عشر من شهر توت، فأجرى الله تعالى النيل في تلك الليلة ست عشرة ذراعًا في دفعة واحدة.

وروى بعض السائحين بمصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد الميلاد أن المصريين استبدلوا بالفتاة البكر عروسًا من الخشب يلقونها في النيل، وهذه الآثار باقية من العهد القديم، وإليك وصف الاحتفال:

يتألف الموكب من حاكم البلد وطوائف عديدة من الأقباط والعلماء والأعيان ورجال الدين والبطرك، وفريق من رجال الإكليروس، وتتبعهم الموسيقى وخلفها الجماهير يصفقون ويترنمون بالأناشيد، ثم يلقون العروس في النيل وقت فتح الخليج.

ثم اتبع الأقباط عادة أخرى في الاحتفال في عيد الشهداء الواقع في بشنس، فكانوا يلقون في النيل أصبع أحد أجدادهم موضوعًا في علبة كما رواه المقريزي، وذكر أن السلطان قلاوون حاكم مصر أبطل هذه العادة سنة ٧٠٢ھ.

ولما أتى بونابرت مصر ترأس حفلة النيل باعتباره أكبر حاكم للبلاد. ولا يزال المصريون يحتفلون بوفاء النيل، ويقيمون الأفراح في كل الجهات احتفالًا به، فيكون بالرونق والزينات عيدًا مشهودًا.

وروى المؤرخون اليونانيون أنه كان لكل إقليم من الأقاليم المصرية القديمة آلهة خاصة، إلَّا أن جميع القدماء أجمعوا على تقديم فرائض خاصة للنيل، وكان لفيضانه العجيب احتفال سنوي كعيد يبتهج به جميع أفراد الشعب.

وكان من عقائد القدماء أن لكل شيء روحًا وحياة وإرادة وشخصية سامية من هبات المعبود الأعلى، وأن النيل يشفي من الأمراض، وأن الأقباط والمسلمين، وإن كانوا أبطلوا الاعتقاد بألوهية النيل، لكنهم لا يزالون يصفونه بقولهم النيل المبارك، وفي زمن فيضانه كان البطرك يذهب إلى النيل مصحوبًا بحاشيته إلى مصر العتيقة، ويلقي في النيل صليبًا من الفضة، وكان الترك يحتفلون به رسميًّا، ومتى انتهى الاحتفال كانت الجماهير تلقي في النيل الحبوب والثمار والسكر والخبز والدراهم، ويغتسل الأطفال في مياه النيل، وبعض الناس يغتسلون أيضًا بأول ماء يمر في الخليج طلبًا للشفاء وإزالة العقم.

وكان من المتبع قبل اليوم المحدد لجعله يوم وفاء النيل أن يضعوا في مصر العتيقة تمثالين كبيرين عليهما أنوار مركبة على منصة من الخشب مسندة على مراكب، وهذان التمثالان يمثلان رجلًا وامرأة ويسميان العروسين.

وكان من عادتهم صنع عروس أخرى من الطين ويلقونها في النيل يوم الفيضان.

وقال هيردوت: «إن المصريين كانوا يكرهون ذبح الحيوانات، فمعقول جدًّا أن يترفعوا عن إزهاق الأرواح التي قيل: إنهم يقدمونها كقربان وضحية طلبًا لوفاء النيل.»

وليلاحظ أن كل أمة يدخل عليها دين جديد ينشر عنها خرافات كثيرة، وإذا تأملنا رواية ابن الحكم والناقلين عنه كالمقريزي وغيره، يتضح لنا أنها خرافة مخترعة، نعم، إن ابن الحكم نقل هذه الرواية عن اليونان، كما نقل غيره أكاذيب أخرى في كتاب عنوانه «الأنهار»، نسبوه إلى «بلوارك»، ودوَّنوا به أن أحد ملوك مصر لما أبطأ فيضان النيل في بعض السنين ألقى ابنته فيه بأمر الآلهة، واشتهر في الروايات أن الاحتفال يمثل «زواج النيل الذي هو أزوريس بأرض مصر التي تمثل إزيس»، فالمرجع في كل الروايات إلى تصور خيالي ليس إلَّا.

١  عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع المصري، صاحب كتاب فتوح مصر وغيره، وتوفي سنة ٢٥٧ﻫ/سنة٨٧٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤