تمهيد

لمَّا وُضِعَ «علم الصرف» للنظر في أبنية الألفاظ.

ووُضع علم النحو للنظر في إعراب ما تركَّب منها.

وُضِعَ «البيان»١ للنظر في أمر هذا التركيب، وهو ثلاثة علوم:
  • العلم الأول: ما يُحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى الذي يريده المتكلم لإيصاله إلى ذهن السامع، ويُسمَّى «علم المعاني».
  • العلم الثاني: ما يحترز به عن التعقيد المعنوي — أي عن أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد — ويُسمى «علم البيان».
  • العلم الثالث: ما يُراد به تحسين الكلام، ويسمَّى «علم البديع». فعلم البديع تابع لهما؛ إذ بهما يُعرف التحسين الذاتي، وبه يُعرف التحسين العرضي.

والكلام باعتباره «المعاني والبيان» يقال إنه: «فصيحٌ» من حيث اللفظ؛ لأن النظر في الفصاحة إلى مجرَّد اللفظ دون المعنى.

و«بليغ» من حيث اللفظ والمعنى جميعًا؛ لأن البلاغة يُنظر فيها إلى الجانبين.٢

وأما باعتبار البديع فلا يقال: إنه فصيح ولا بليغ؛ لأن البديع أمر خارجي يُراد به تحسين الكلام لا غير.

إذا تقرر ذلك وجب على طالب البيان أن يعرف قبل الشروع فيه معرفة معنى «الفصاحة والبلاغة»؛ لأنهما محوره، وإليهما مرجع أبحاثه، فهما الغاية التي يقف عندها المتكلم والكاتب، والضالة التي ينشدانها.

وما عقد أئمةُ البيان الفصولَ، ولا بوَّبوا الأبواب إلا بُغية أن يوقفوا المسترشد على تحقيقات وملاحظات وضوابط إذا رُوعيت في خطابه أو كتابه بلغت الحد المطلوب من سهولة الفهم، وإيجاد الأثر المقصود في نفس السامع؛ واتصفت مِن ثَمَّ بصفة الفصاحة٣ والبلاغة.

هوامش

(١) علم البيان في اصطلاح المتقدمين من أئمة البلاغة يطلق على فنونها الثلاثة من باب تسمية الكل باسم البعض، وخصه المتأخرون بالعلم الباحث عن المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، والغرض منه صوغ الكلام بطريقة تبين ما في نفس المتكلم من المقاصد، وتوصل الأثر الذي يريده إلى نفس السامع.
(٢) وبيان ذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان، فهي مقصورة على اللفظ؛ لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى؛ فإذن هي كمال لفظي توصف به الكلمة والكلام. والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى في القلب، فكأنها مقصورة على المعنى. ومن الدليل على أن الفصاحة تتضمن اللفظ، والبلاغة تتناول المعنى، أن الببغاء يُسمى فصيحًا ولا يُسمى بليغًا؛ إذ هو مقيم الحروف وليس لها قصد إلى المعنى الذي يؤديه. وقد يجوز مع هذا أن يُسمى الكلام الواحد فصيحًا بليغًا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلَّف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
واعلم أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البيِّن، وإنما كان ظاهرًا بيِّنًا؛ لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال بين النابهين من الكُتاب والشعراء لمكان حسنه، وحسنه مدرَك بالسمع، والذي يُدرَك بالسمع إنما هو اللفظ؛ لأنه صوت يتألف من مخارج الحروف، فما استلذذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بالفصاحة؛ لأنه ضدها لمكان قبحه.
(٣) يرى الإمام عبد القاهر الجرجاني وجمع من المتقدمين أن الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة ألفاظ مترادفة لا تتصف بها المفردات، وإنما يُوصف بها الكلام بعد تحري معاني النحو فيما بين الكلم حسب الأغراض التي يُصاغ لها.
قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنًى واحد، وإن اختلف أصلاهما؛ لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له. وقال الرازي في نهاية الإيجاز: وأكثر البلغاء لا يكادون يُفرقون بين الفصاحة والبلاغة. وقال الجوهري في كتاب الصِّحَاح: الفصاحة هي البلاغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤