مقدمة

في معرفة الفصاحة والبلاغة١

(١) الفصاحة

الفصاحة: تُطلق في اللغة على معانٍ كثيرة؛ منها البيان والظهور، قال الله تعالى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا؛ أي أبين منِّي منطقًا، وأظهر مني قولًا.

ويقال: أفصح الصبي في منطقه إذا بان وظهر كلامه.

وقالت العرب: أفصح الصبح إذا أضاء، وفصح أيضًا.

وأفصح الأعجمي: إذا أبان بعد أن لم يكن يُفصح ويُبين.

وفصح اللسان: إذا عبَّر عمَّا في نفسه، وأظهره على وجه الصواب دون الخطأ.

والفصاحة — في اصطلاح أهل المعاني: عبارة عن الألفاظ البيِّنة الظاهرة، المتبادَرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال بين الكُتاب والشعراء لمكان حُسنها.

وهي تقع وصفًا للكلمة، والكلام، والمتكلِّم، حسبما يعتبر الكاتب اللفظة وحدها، أو مسبوكة مع أخواتها.

(١-١) فصاحة الكلمة

  • (١)

    خلوصها من تنافر الحروف؛ لتكون رقيقة عذبة، تخف على اللسان، ولا تَثْقُل على السمع؛ فلفظ «أسد» أخف من لفظ «فَدَوْكَسٍ»!

  • (٢)

    خلوصها من الغرابة، وتكون مألوفة الاستعمال.

  • (٣)

    خلوصها من مخالفة القياس الصرفي؛ حتى لا تكون شاذة.

  • (٤)
    خلوصها من الكراهة في السمع.٢
أما «تنافر الحروف» فهو وصف في الكلمة يوجب ثِقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان؛ بسبب كون حروف الكلمة متقاربة المخارج. وهو نوعان:
  • (١)

    شديد في الثقل؛ كالظَّش (للموضع الخشن)، ونحو: هُعْجُع (لنبت ترعاه الإبل) من قول أعرابي:

    تركتُ نَاقتي ترْعَى الهُعْجُع
  • (٢)

    وخفيف في الثقل؛ كالنقنقة (لصوت الضفادع) والنُّقَاخ (للماء العذب الصافي)، ونحو: مستشزرات (بمعنى مرتفعات) من قول امرئ القيس يصف شَعر ابنة عمِّه:

    غدائرهُ مُسْتشْزِراتٌ إلى العلا
    تَضِل العقاصَ في مُثنًّى ومُرْسَل٣
ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة سوى الذوق السليم، والحِس الصادق الناجمَيْن عن النظر في كلام البلغاء، وممارسة أساليبهم.٤

وأما غرابة الاستعمال فهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند العرب الفصحاء؛ لأنَّ المعوَّل عليه في ذلك استعمالهم.

والغرابة قسمان:
  • القسم الأول: ما يُوجب حيرة السامع في فَهْم المعنى المقصود من الكلمة؛ لترددها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة.

    وذلك في الألفاظ المشتركة «كمُسرَّج» من قول رُؤبَة بن العَجاج:

    ومُقْلةً وحَاجِبًا مُزَججَا
    وفاحمًا ومَرْسنًا مُسَرَّجا٥

    فلا يُعلم ما أراد بقوله: «مُسرَّجا» حتى اختلف أئمة اللغة في تخريجه.

    فقال «ابن دريد»: يريد أن أنفه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّريجي.

    وقال «ابن سِيدَه»: يريد أنه في البريق واللمعان كالسراج.٦

    فلهذا يحتار السامع في فهم المعنى المقصود لتردد الكلمة بين معنيين.

    بدون «قرينة» تُعيِّن المقصود منهما.

    فلأجل هذا التردد، ولأجل أن مادة «فعل» تدل على مجرد نسبة شيء لشيء، لا على النسبة التشبيهية؛ كانت الكلمة غير ظاهرة الدلالة على المعنى فصارت غريبة.

    وأما مع القرينة فلا غرابة، كلفظة «عَزَّر» في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ فإنها مشتركة بين التعظيم والإهانة، ولكن ذكر النصر قرينة على إرادة التعظيم.
  • القسم الثاني: ما يُعاب استعماله لاحتياج إلى تتبُّع اللغات، وكثرة البحث والتفتيش في «المعاجم وقواميس متن اللغة المطولة».
    • (أ) فمنه ما يُعثر فيها على تفسير بَعْدَ كَدٍّ وبحثٍ، نحو: تكأكأتُم «بمعنى اجتمعتم» من قول عيسى بن عمرو النحوي: ما لكم تَكأكَأتُم٧ عليَّ كَتكأكُئِكُم على ذي جنَّة٨ افرنقعوا عني.٩ ونحو «مُشمَخِرٍّ» في قول بشر بن عوانة يصف الأسد:
      فخرَّ مُدَرَّجًا بِدمٍ كأني
      هَدَمْتُ به بِناءً مُشمَخِرا
    • (ب) ومنه ما لم يُعثر على تفسيره نحو «جَحْلَنْجَع» من قول أبي الْهَمَيْسَع:
      مِنْ طَمحة صَبِيرها جَحلنَجَع١٠
      لم يحضها الجدول بالتنوُّع
وأما «مخالفة القياس» فهو كون الكلمة شاذة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب، بأن تكون على خلاف ما ثبت فيها عن العُرف العربي الصحيح،١١ مثل «الأجْلَل» في قول أبي النَّجْم:
الحمدُ للهِ العَليِّ الأجْلَلِ
الواحدِ الفَرْدِ القَدِيم الأوَّلِ

فإن القياس «الأجَلَّ» بالإدغام، ولا مسَوِّغ لفكهِ.

وكقطع همزة وصل «إثنين» في قول جميل:

ألا لا أرى إثنين أحسن شِيمة
على حدثان الدَّهر منِّي ومن جَمل١٢

ويُستثنى من ذلك ما ثبت استعماله لدى العرب مخالفًا للقياس ولكنه فصيح.

لهذا لم يخرُج عن الفصاحة لفظتا «المشرق والمغرب» بكسر الراء، والقياس فتحها فيهما. وكذا لفظتا «المُدهُن والمُنْخُل»، والقياس فيهما مِفْعَل بكسر الميم وفتح العين. وكذا نحو قولهم: «عَور» والقياس عار؛ لتحرُّك الواو وانفتاح ما قبلها.

وأما «الكراهة في السمع» فهو كون الكلمة وحشية، وتأنفها الطِّباع، وتمجها الأسماع، وتنبو عنها كما تنبو عن سماع الأصوات المنكرة «كالجِرِشَّى» للنفْس في قول أبي الطيب المُتنبيِّ يمدح سيف الدَّولة:

مُبَارَكُ الاسْم أغرُّ اللقبْ
كَريمُ الجِرِشَّى شريفُ النسَبْ

وملخص القول: إن فصاحة الكلمة تكون بسلامتها من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس، ومن الابتذال والضعف. فإذا لصق بالكلمة عيب من هذه العيوب السابقة وجب نبذها واطِّراحها.

تطبيق «١»

ما الذي أخل بفصاحة الكلمات فيما يأتي:

(١) قال يحيى بن يعمر لرجل حاكمته امرأته إليه: «أَئِنْ سألَتْكَ ثَمنَ شكْرِها وشَبرِك، أخذْتَ تُطلها وتُضهِلها؟»

(٢) وقال بعض أمراء العرب، وقد اعتلَّتْ أمُّه، فكتب رِقاعًا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام: صِينَ امرؤٌ ورَعا، دعا لامرأةٍ أنقحُلة، مُقْسَئِنَّة، قد مُنيت بأكل الطرموق، فأصابها من أجله الاستِمْصَال بأن يَمُنَّ الله عليها بالاطرعشاش والابرغشاش.

(٣) أسمع جَعجَعة ولا أرى طِحنًا. الإسْفِنط حرام. وهذا الخَنشليل صَقيل. والفَدَوْكس مُفترس.

(٤) يوم عَصَبصب، وهِلَّوف، ملأ السَّجْسَج طَلَا.

(٥) أمِنَّا أنْ تصَرَّعَ عن سَماحٍ
وللآمال في يدكِ اصْطِرَاع

وقال الفرزدق:

(٦) وإذا الرِّجالُ رأَوْا يَزِيدَ رأيتَهُم
خُضعَ الرِّقاب نواكس الأبصار

وقال أبو تمام:

(٧) قد قلت لمَّا اطلَخَمَّ الأمرُ وانبعثَتْ
عشْوَاءُ تالِيةً غُيسًا دَهاريسا

وقال شِمْر:

(٨) وأحمق مِمَّن يَكرَعُ الماءَ قال لي
دَعِ الخمرَ واشربْ مِن نقاخٍ مُبرَّدِ
(٩) يظل بِمَوْمَاةٍ ويُمسِي بغيرها
جَحِيشا ويَعرورَى ظهور المسالك
(١٠) فلا يُبرَمُ الأمرُ الذي هو حالِل
ولا يُحللُ الأمرُ الذي هو يُبرِم
مقابلٌ في ذُرا الأذواء منصبه
عَيْصًا فعيصًا وقُدْمُوسًا فقُدْمُوسًا

وقال أبو تمام:

نِعْمَ متاعُ الدنيا حَبَاك به
أَوْرَعُ لا جَيْدَرٌ ولا جِبْسُ

وقال امرؤ القيس:

(١١) رُبَّ جَفنةٍ مُثْعَنْجِرَة، وطعنةٍ مُسْحَنْفِرة، وخطبةٍ مُستحضَرة، وقصيدة مُحبرة، تبقى غدًا بأنقرة — أكلت العرين، وشربت الصُّمادح إني إذا أنشدت لأحبَنْطَى نزل بزيد داهية خنْفيق، وحل به عنْقَفِير لم يجد منها مَخلصًا. رأيت ماء نُقاحًا ينباع من سفح جبل شامخ، إخال إنك مَصْوُون — البُعاق ملأ الجرْدَحْل.

(١٢) فإن يكُ بعض الناس سيفًا لدولة
ففي الناس بُوقات لها وطبول
نقيٌّ تقيٌّ لم يكثِّر غنيمة
بنكهة ذي القربى ولا بحَقَلَّد
(١٣) إن بَنِيَّ لَلِئامٌ زَهْدَه
مالي في صدورهم من مَوْدَده
(١٤) رمتني مَيُّ بالهوى رمي ممضغٍ
من الوحش لَوْطٌ لم تعقْهُ الأوَالس
(١٥) بعينين نجلاوين لم يجر فيهما
ضمان وجيد حلي الدُّرِّ شامس

(١٦) عِلمي إلى عِلمك كالقرارة في المُثْعَنْجَر.

(١٧) إن بعضًا من القريض هُرَاء
ليس شيئًا، وبعضه إحكام
(١٨) فيه ما يجلب البراعة والفهم
وفيه ما يجلب البرسام
(١٩) ومِن الناس مَن تجوز عليهم
شعراء كأنها الخازَبَازُ

(١) الشكر: الرضاع. والشبر: النكاح. وتطلها: تسعى في بطلان حقها. وتضهلها: تعطيها الشيء القليل.

(٢) أنقحُلة: يابسة. ومُقْسَئِنَّة: مسنَّة عجوز. ومُنيت بأكل الطرموق: ابتُلِيَتْ بأكل الطين. والاستِمْصَال: الإسهال. وبالاطرعشاش: البرء، وكذا معنى ما بعده.

(٣) جعجعة: غير فصيحة لتنافر حروفها، وهو مثل يُضرب لمن يقول ولا يفعل. والإسْفِنط: الخمر. والخَنشليل: السيف. والفَدَوْكس: الأسد، فكل من هذه الألفاظ الثلاثة وحشية غير مألوفة.

(٤) شديد البرد فيهما، السجسج: الأرض التي ليست بسهلة ولا صلبة.

(٥) أراد: أنهم آمنوا أن يغلبه غالب يصرعه عن السماع ويمنعه منه، وأما قوله: «وللآمال في يدك اصطراع» فمعناه تنافس وتغالب وازدحام في يده، يريد كثرة نواله وكرمه، واستعماله للفظة الاصطراع بهذا المعنى بعيد.

(٦) فقد جمع «ناكس» على «فواعل» شدوذًا، وهذا لا يطَّرِد إلا في وصف لمؤنث عاقل لا لمذكر كما هنا إلا في موضعين «فوارس وهوالك». والناكس: مطأطئ الرأس.

(٧) قال صاحب المثل الثائر: إن لفظ «اطلخم» من الألفاظ المنكرة التي جمعت الوصفين القبيحين في أنها غريبة، وأنها غليظة في السمع، كريهة على الذوق، وكذلك لفظة «دهاريس». واطلخم: أي اشتد وعظم، والعشواء: الليلة المظلمة. والغبسة: جمع أغبس وغبسًا، وهي الشديد الظلام مثلها. والدهاريس: جمع دهريس وهي الدواهي.

(٨) نقاخٍ مُبرَّدِ: الماء العذب الصافي.

(٩) المَوْمَاة: المفازة الواسعة. ويقال للمستبد برأيه: جحيش. ويقال: اعرورى الفرس: ركبها عريانًا. وإن لفظة جحيش من الألفاظ المنكرة القبيحة — ويالله العجب — أليس أنها بمعنى فريد، وفريد لفظة حسنة رائقة، ولو وُضعت في هذا البيت موضع جحيش لما اختل شيء من وزنه، فتأبط شرًّا لأنه ملوم من وجهين في هذا الموضع: أحدهما أنه استعمل القبيح، والآخر أنه كانت له مندوحة عن استعماله فلم يعدل عنه.

(١٠) العيب في هذا البيت من حيث فك الإدغام في «حالل ويحلل» بلا مسوغ، وهو شاذ ومخالف للقياس الصرفي، ومخالف للكلام العربي الصحيح.

(١١) يريد بقوله «جَفنة»: صحفة كيبرة ملأى تُشبع عشرة. والمثعنجرة: السائلة. والمسحنفرة: الماضية بسرعة. وطعنة متسمة ببلد أنقرة. وهو كلام امرئ القيس لما قصد ملك الروم ليستنجده على قتلة أبيه، فهوته بنت الملك، وبلغ ذلك القيصر، فوعده أن يتبعه بالجنود إذا بلغ الشأم، أو يأمر من بالشام من جنوده بنجدته، فلما كان بأنقرة بعث إليه بثياب مسمومة، فلما لبسها تساقط لحمه؛ فعلم بالهلاك فقال: رب … إلخ. وأكلت العرين، وشربت الصُّمادح: يريد اللحم والماء الخالص. واحبنطى: انتفخ بطنه. وخنْفيق: دهياء. ونُقاحًا: عذبًا. وينباع: ينبع ويسيل. ومصوون شاذة، وليست فصيحة لمخالفتها للقياس الصرفي. والبعاق: مطر السحاب، والجردحل: الوادي، وليستا فصيحتين لغرابتهما.

(١٢) بوقات: مزامير. والقياس في جمعه أبواق.

(١٣) مَوْدَده: القياس مودة بالإدغام.

(١٤) لوط: لازق. والأوالس: النياق.

(١٥) ضمان وجيد حلي الدُّرِّ شامس: ضرب من القلائد.

(١٦) المثعنجر لفظة متنافرة، والمعنى: إن علمي مقيس إلى علمك كالغدير الصغير موضوعًا في جانب البحر.

(١٧) القريض: الشِّعر. والهراء: الكلام الفاسد الذي لا نظام له. وأحكام: جمع حُكم، والمراد الحكمة.

(١٨) والبرسام — بفتح الباء وكسرها: التهاب الصدر.

(١٩) الخازَبَاز: صوت الذباب. وتجوز: تروح وتقبل.

تمرين «أ»

  • (١)

    فرِّق بين التنافر في الكلمة، وفي الكلام، واذكر السبب.

  • (٢)

    اذكر مثالًا للتعقيد اللفظي، وبين سبب هذا التعقيد، ثم أزله.

  • (٣)

    قد يلازم تنافر الحروف الغرابة، وقد تنفرد الغرابة عن التنافر، وضح ذلك بأمثلة مبتكرة.

  • (٤)

    كل كلام بليغ يكون فصيحًا ولا عكس. اشرح هذه العبارة، واستشهد عليها بما يحضرك.

تمرين «ب»

ميِّز الكلام الفصيح من غير الفصيح في كل ما يأتي، وبيِّن السبب:

(١) كلما قَرُبَتِ النفس من المال شبرًا بَعُدَت عن الفضيلة ميلًا.

(٢) شَكَتِ امرأةٌ صَمَعْمَعَةُ الرأس، مُتعثكلة الشعر، دَرْدَبيسًا حلت بها.

(٣) نَمْ وإن لم أنم كَرَايَ كراكا
شاهدي الدمع، إنَّ ذاك كذاكا
(٤) فأصبحتْ بعد خطِّ بهجتها
كأن قفرًا رسومها قلما
(٥) وازْوَرَّ من كان له زائرًا
وعاف عافي العُرْف عرفانه
(٦) وأكرم من غمامٍ عند مُحْلٍ
فتًى يُحيي بمدْحته الكراما
(٧) أشكوك كوكك كي ينفك عن كنفي
ولا يُنيخ على الركاب كلكله

(٨) سأل كوفيٌّ خياطًا عن فرس ومُهر فَقَدهما فقال: «يا ذا النِّصاح، وذات السَّمِّ الطاعن بها في غير وغى لغير عِدًا: هل رأيت الخيفانة القبَّاء، يتبعها الحاسن المرْهف؟»

(٩) كتب أحدهم لصديقه يقول: «يا أحبَّ صواحبي وأعزَزهم عليَّ، يؤلمني أن أصبح مَقْصويًا عنك هذا الإقصاي، وأنت منِّي بمنزلة الروح من الجسد.»

(٢) الرأس الصمعمعة: الصغيرة.

(٤) الرسوم: آثار الديار.

(٥) ازْوَرَّ: أعرض. وعاف: كره. وعافي العُرْف: طالب المعروف.

(٦) للمغفور له أحمد شوقي، والمحل: الجدب.

(٧) أناخ بكلكله: هبط بمقدَّم صدره. وينسب البيت للمرحوم الشيخ حمزة فتح الله.

(٨) النِّصاح: الخيط. وذات السم: الإبرة. والخيفانة: الفرس الطويلة. والقباء: الدقيقة الخصر الضامرة. والحاسن: الجميل. والمرهف: المستريح.

تمرين

أيَّ أجزاء هذين البيتين غير فصيح:

(١) أصبحتُ كالثوب اللبيس قد أخلقت
جدَّاته منه فعاد مُذالا
(٢) رمتني ميٌّ رمي ممضغ
من الوحش لوط لم تعقه الأوالس

(١) لابن الرومي. واللبيس: الملبوس. والإخلاق: البلي. والجدة: صفة الثوب الجديد. والمذال: الممتهن.

(٢) اللوط: الخفيف السريع. والأوالس: النوق السريعة.

تطبيق

ما الذي أخلَّ بفصاحة الكلمات فيما يلي؟

يا نفسُ صبرًا كل حي لاقي
وكل اثنين إلى افتراق
(١) أَبْعِدْ بَعِدْتَ بَياضًا لا بياضَ له
لَأَنْتَ أسودُ في عيني من الظلم
(٢) لا نَشَب اليومَ ولا خُلَّة
إتَّسعَ الفَتْقُ على الراقعِ
(٣) فأيقنتُ أني عند ذلك ثائر
غداتَئِذ أو هالك في الهوالك
مهلًا أعاذلَ قد جرَّبتَ من خُلقي
أني أجود لأقوام وإن ضنِنُوا
(٤) تشكو الوجى من أظْلَل وأظلل
من طول إملال وظهر مُمْلِل

(٥) وقال ابن جحدر:

حلفتُ بما أَرْقَلَتْ حولَه
هَمرجلةٌ خُلقُها شَيْظم
وما شَبْرَقَتْ من تَنُوفِيَّةٍ
بها من وحي الجن زيزيزم

(٦) وقال ذو الرُّمة:

حتى إذا الهيْقُ أمسى شام أَفْرُخه
وهُنَّ لا مُؤيس نأيًا ولا كشَبُ

وقال أبو نواس:

يا من جفاني وملَّا
نسيتَ أهلًا وسهلَا

(١) الظلم: الليالي الثلاث آخر الشهر. ولا بياض له: لا حسن له. قاله المتنبي يخاطب الشيب، وخالف القياس في الأسود؛ لأنه لا يبنى اسم تفضيل من نحو سُود وحُمْر.

(٢) الخلة: الصداقة. والفتق: الشق. والراقع: مصلِح الفتق. وقد خالف القياس في اتسع؛ حيث قطع همزة الوصل.

(٣) هوالك: فواعل: لا يطرد في وصف العاقل كما هنا.

(٤) الوجى: الحفا. والأضلل: باطن خف البعير. وخالف القياس بفك الإدغام. تنبيهات: الأول من عيوب فصاحة اللفظة المفردة كونها مبتذلة؛ أي عامية ساقطة؛ كالفالق والشنطار ونحوهما. والابتذال ضَرْبان:

(أ) ما استعملته العامة ولم تغيره عن وضعه؛ فسخف وانحطت رتبته، وأصبح استعماله لدى الخاصة معيبًا؛ كلفظة البرسام في قول المتنبي:

إن بعضًا من القريض هراء
ليس شيئًا وبعضه إحكام
فيه ما يجلب البراعة والفهم
وفيه ما يجب البرسام

وكلفظة الخازَبَاز في قوله:

ومن الناس من تجوز عليهم
شعراء كأنها الخازَبَار

(ب) ما استعملته العامة دالًّا على غير ما وُضع له، وليس بمستقبَح ولا مكروه؛ كقول المتلمس:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدَم

وكقول أبي نواس:

اختصم الجود والجمال
فيك فصارا إلى جدال
فقال هذا يمينه لي
للعرف والبذل والنوال
وقال هذاك وجهه لي
للظرف والحسن والكمال
فافترقا فيك عن تراضٍ
كلاهما صادق المقال

فوصف في الأول البعير بالصيعرية، وهي مختصة بالنوق، وفي الثاني الوجه بالظرف وهو في مختص بالنطق للفالق والشنطار، ونحوهما.

الثاني: لا تستعمل الألفاظ المبهمة إذا كان غرضك التعيين وإحضار صورة الشيء، أو المعنى المراد في الذهن.

الثالث: لا تستعمل اللفظ المشترك إلا مع قرينة تبين المراد من معانيه المشتركة.

(٥) الإرقام: الإسراع. الهمرجلة: الناقة السريعة. الشيظم: الطويل الجسيم من الإبل والخيل. شبرقت: قطعت. التنوفية والتنوفة: المفازة. الوحي: الصوت الخفي. زيزيزم: حكاية أصوات الجن.

(٦) الهيق: الظليم «ذكر النعام». شام البرق: نظر إليه أين يقصد وأين يمطر، واستعمل هنا للنظر إلى الأفرخ. النأي: البعد.

تدريب «١»

ما الذي أخلَّ بفصاحة الكلمات فيما يلي؟

(١) قال النابعة الذبياني:

أو دُميةٍ مرمرٍ مرفوعة
بُنيت بآجُرٍّ يُشاد بقَرْمَد

(٢) وقال أبو تمام:

لك هضبة الحلم التي لو وازنت
أجأ إذا ثقلت وكان خفيفا
وحلاوة الشيم التي لو مازجت
خلق الزمان الفدم عاد ظريفا

(٣) وقال المتنبي:

يُوسِّطه المفاوز كل يوم
طِلاب الطالبين لا الانتظار

(١) الدمية: الصورة المنقوشة المزينة فيها حمرة كالدم، تُضرب مثلًا في الحسن. المرمر: الرخام. الآجُرُّ: مما يبنى به. القَرْمَد — بفتح القاف: ما يُطلى به للزينة، وقيل: حجارة لها خروق يوقد عليها فتنضج ويبنى بها، وقيل: الخزف المطبوخ.

(٢) الهضبة: الرابية. أجأ: جبل. الفدم: الغليظ الجافي. وصف الشيم بالحلاوة، وهي خاصة بالعينين. ووصف خلق الزمان بالظرف، وهو خاص بالنطق.

تدريب «٢»

ما الذي أخل بفصاحة الكلمات فيما يأتي؟

(١) لم يَلْقَها إلا بشكة باسلٍ
يخشى الحوادث حازم مُستعدد
(٢) وأصبح مبيضَّ الضَّرِيب كأنه
على سروات البيت قطن مُنْدِف
(٣) فأيقنت أني عند ذلك ثائر
غداتئذ أو هالك في الهوالك
(٤) وملمومةٍ سيفيةٍ رَبَعِيَّة
يصيح الحصا فيها صياحَ اللقائق
(٥) وألقى بصحراء الغَبيط بَعَاعَه
نزول اليماني ذو العياب المُحمِّل
(٦) ليس التعلل بالآمال من أربي
ولا القنوع بضنك العيش من شِيَمِي

(١) الشكة: الخصلة. الباسل: الشجاع.

(٢) قائله الفرزدق، الضريب: الشبيه والمثيل. سروات البيت: أعاليه. مندف مندوف: من قولهم: ندف القطن ضربه بالمندف.

(٣) الثائر الذي لا يبقي على شيء حتى يدرك ثأره.

(٤) قائله المتنبي، ملمومة: كتيبة مجتمعة. سيفية: نسبة لسيف الدولة. ربعية: نسبة إلى ربيعة قبيلته. اللقالق: جمع لقلقلة، وهي صوت اللقلاق «طائرًا»، أو هي كل صوت في اضطراب وحركة.

(٥) قائله امرؤ القيس. الغبيط: الأرض المطمئنة. وقيل: الواسعة المستوية برفع طرفاها. البعاع: ثقل السحاب من المطر، يقال: بع السحاب يبع بعًّا وبعاعًا إذا ألح بمكان، وألقى عليه باعه؛ أي ثقله. العياب: جمع عيبة، وهي ما يجعل فيه الثياب، يقال: جعل الرجل خير متاعه في عيبته. والمحل يروى بكسر الميم على جعل اليماني رجلًا، وبفتحها على جعله جملًا، والمعنى أن هذا المطر نزل بهذا المكان ولم يبرح كما نزل الرجل في ذلك الموضع. وضمير ألقى يرجع إلى السحاب فيما قبله.

(٦) القنوع: المسألة، يقال: قنع قنوعًا إذا سأل، والمراد القناعة.

(١-٢) فصاحة الكلام

فصاحة الكلام: سلامته بعد فصاحة مفرداته مما يُبْهِمُ معناه، ويحول دون المراد منه،١٣ وتتحقق فصاحته بخلوه من ستة عيوب:
  • (١)

    تنافر الكلمات مجتمعة.

  • (٢)

    ضعف التأليف.

  • (٣)

    التعقيد اللفظي.

  • (٤)

    التعقيد المعنوي.

  • (٥)
    كثرة التكرار.١٤
  • (٦)

    تتابع الإضافات.

  • الأوَّل: تنافر الكلمات مجتمعة: أن تكون الكلمات ثقيلة على السمع من تركيبها مع بعضها، عسرة النطق بها مجتمعة على اللسان، «وإن كان كل جزء منه على انفراده فصيحًا».

    والتنافر يحصل: إمَّا بتجاور كلمات متقاربة الحروف، وإما بتكرير كلمة واحدة.

    (أ) ومنه شديد الثقل: كالشطر الثاني في قوله:

    وقَبْر حرب بمكان قَفْر
    وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْب قَبْرُ١٥

    (ب) ومنه خفيف الثقل كالشطر الأول في قول أبي تمام:

    كريم متى أمدحْه أمدحْه والورى
    معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وحدي١٦
  • الثاني: ضعف التأليف: أن يكون الكلام جاريًا على خلاف ما اشتهر من قوانين النحو المعتبرة عند جمهور العلماء؛ كوصل الضميرين، وتقديم غير الأعرف منهما على الأعرف، مع أنه يجب الفصل في تلك الحالة؛ كقول المتنبي:
    خَلَت البلادُ من الغزالة ليلَها
    فأعاضَهاك الله كي لا تحزنا
    وكالإضمار قبل ذكر مرجعه لفظًا ورتبة وحكمًا في غير أبوابه١٧ نحو:
    ولو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا
    من الناس أبقى مجده الدهر «مُطعِما»١٨
  • الثالث: التعقيد اللفظي: هو كون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد به بحيث تكون الألفاظ غير مرتبة على وفق ترتيب المعاني.
    «وينشأ ذلك التعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض»١٩ وهو مذموم؛ لأنه يوجب اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها؛ كقول المتنبي:
    جفَخَتْ وهم لا يَجْفَخُون بهابهم
    شِيَم على الحسَب الأغرِّ دلائل٢٠

    أصله: جفخت «افتخرت» بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها.

  • الرابع: التعقيد المعنوي:٢١ كون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بحيث لا يُفهم معناه إلا بعد عناء وتفكير طويل.
    وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المفتقرة إلى وسائط كثيرة، مع عدم ظهور القرائن الدالة على المقصود «بأن يكون فهم المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم عُرفًا»٢٢ كما في قول عباس بن الأحنف:
    سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا
    وتسكب عيناي الدموع لِتَجمُدا٢٣
    جعل سكب الدموع كناية عما يلزم في فراق الأحبة من الحزن والكمد؛ فأحسن وأصاب في ذلك، ولكنه أخطأ في جعل جمود العين كناية عما يوجبه التلاقي من الفرح والسرور بقرب أحبته، وهو خفي وبعيد؛٢٤ إذ لم يُعرف في كلام العرب عند الدعاء لشخص بالسرور «أن يقال له: جَمُدت عينك» أو: لا زالت عينك جامدة، بل المعروف عندهم أن جمود العين إنما يُكنى به عن عدم البكاء حالة الحزن، كما في قول الخنساء:
    أعينيَّ جودًا ولا تجمدا
    ألا تبكيان لصخر الندى

    وكما في قول أبي عطاء يرثي ابن هبيرة:

    ألا إنَّ عينًا لم تَجُد يوم واسط
    عليك بجاري دمعها لجمود٢٥

    وهكذا كل الكنايات التي تستعملها العرب لأغراض ويغيرها المتكلم ويريد بها أغراضًا أخرى تعتبر خروجًا عن سنن العرب في استعمالاتهم، ويُعد ذلك تعقيدًا في المعنى؛ حيث لا يكون المراد بها واضحًا.

  • الخامس: كثرة التكرار:٢٦ كون اللفظ الواحد اسمًا كان أو فعلًا أو حرفًا.

    وسواء أكان الاسم ظاهرًا أو ضميرًا تعدد مرَّة بعد أخرى بغير فائدة، كقوله:

    إني وأسطارٍ سُطرنَ سطرًا
    لقائلٌ يا نصرُ نصرٌ نصرَا

    وكقول المتنبي:

    أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِع احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أعِد
    زِدْ هِشَّ بشَّ تفضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِل

    وكقول أبي تمام في المديح:

    كأنه في اجتماع الروح فيه له
    في كل جارحة من جسمه روح
  • السادس: تتابع الإضافات: كون الاسم مضافًا إضافة متداخلة غالبًا، كقول ابن بابك:
    حَمَامَةَ جَرْعَا حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ اسْجَعِي
    فأنتِ بمرأى مِن سُعاد ومَسْمَع٢٧

وملخص القول: إن فصاحة الكلام تكون بخلوِّه من تنافر كلماته، ومن ضعف تأليفه، وتعقيد معناه، ومن وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها.

تطبيق

بيِّن العيوب التي أخلَّت بفصاحة الكلام فيما يأتي:

لك الخير غيري رام من غيرك الغنى
وغيري بغير اللاذقية لاحق
(١) وازْوَرَّ من كان له زائرًا
وعاف عافي العُرْف عرفانه
(٢) أنى يكون أبا البرايا آدم
وأبوك والثقلان أنت محمد؟
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل هم كلهن قلاقل
(٣) وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا
أبو أمه حَيٌّ أبوه يُقاربه
(٤) إلى ملك ما أمه من محارب
أبوه ولا كانت كليب تصاهر
(٥) ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عِرضه مسلول
(٦) كسا حِلمُه ذا الحِلم أثواب سؤدد
ورقى نداه ذا الندَى في ذُرا المجد
(٧) من يهتدي في الفعل ما لا يهتدي
في القول حتى يفعل الشعراء
(٨) جزى بنوه أبا الغَيلان عن كبر
وحُسن فعل كما يُجزى سِنِمَّارُ
(٩) وما من فتًى كنَّا من الناس واحدًا
به نبتغي منهم عديلا نبادله
لما رأى طالبوه مصعبًا ذعروا
وكاد لو ساعد المقدور ينتصر

(١٠) نشر الملك ألسنته في المدينة … مريدًا جواسيسه؛ أي: والصواب «نشر الملك عيونه».

لو كنت كنت كتمت السر كنت كما
كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن
ألا ليت شِعري هل يلومن قومه
زهيرًا على ما جر من كل جانب
(١١) دانٍ بعيد محب مبغض بهج
أغر حلو ممر ليِّن شرس
(١٢) لأنت أسود في عيني من الظلم
(١٣) تسعدني في غمرة بعد غمرة
سبوح لها منها عليها شواهد
(١٤) وليست خراسان التي كان خالد
بها أسد إذ كان سيفًا أميرها
(١٥) والشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أرض لها شرف سواها مثلها
لو كان مثلك في سواها يوجد
والمجد لا يرضى بأن ترضى بأن
يرضى المعاشر منك إلا بالرضا
في رفع عرش الشر
ع مثلك يشرع
(١٦) ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه
يهدَّم ومَن لم يَظلمِ الناسَ يُظلَمِ
(١٧) متحيرين فباهت متعجب
مما يرى أو ناظر متأمِّل
(١٨) فأصبحت بعد خط بهجتها
كأنَّ قفرًا رسومها قلما
(١٩) وما أرضى لمقلته بحلم
إذا انتهبت توهمه ابتشاكا

(١) العيب في تنافر الكلمات، والمعنى: انحرف عنه من كان يزوره، وكره طالب الإحسان معرفته.

(٢) يريد: كيف يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان؛ أي الإنس والجن؟ يعني أنه قد جمع ما في الخليقة من الفضل والكمال. وقد فصل بين المبتدأ والخبر وهما أبوك ومحمد، وقُدم الخبر على المبتدأ تقديمًا قد يدعو إلى اللبس في قوله: «والثقلان وأنت» على أنه بعد هذا التعسف لم يسلم كلامه من سخف وهذر.

(٣) يريد الفرزدق مدح إبراهيم بن إسماعيل خال هشام بن عبد الملك، وما مثله في الناس حي «أحد» يقاربه «يشابهه» إلا مملكًا أبوه، فقدم المستثنى على المستثنى منه، وفصل بين مثل وحي وهما بدل ومبدل منه، وبين أبو أمه وأبوه وهما مبتدأ وخبر، وبين حي ويقاربه وهما نعت ومنعوت، ولا يُفصَل بين كل منهما بأجنبي. والمعنى: وليس مثل إبراهيم في الناس أحد يشبهه في الفضائل إلا ابن أخته هشام. فضمير أمه عائد على المُمَلَّك، وضمير أبوه عائد على إبراهيم الخال.

(٤) يريد: إلى ملك أبوه ليست أمه من محارب؛ أي ما أمه منهم.

(٥) فيه ضعف تأليف؛ حيث وضع الضمير المتصل بعد إلا، وحقه وضع المنفصل «إياك».

(٦) أي من كان ديدنه الحلم والكرم حاز السيادة والرفعة. فالضمير في حلمه لذا الحلم المذكور بعدُ، فهو المتأخر لفظًا ومعنى وحكمًا، وكذا الضمير في نداه لذا الندى.

(٧) أي يهتدي في الفعل ما لا يهتديه الشعراء في القول حتى يفعل.

(٨) العيب فيه من جهة أن ضمير بنوه عائد على أبا الغيلان، وهو متأخر لفظًا ورتبة؛ لأنه مفعول، ورتبته التأخر عن الفاعل، وسنمار رجل رومي بنى قصر الخورنق بظهر الكوفة للنعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، فلما فرغ منه ألقاه النعمان من أعلاه فخر ميتًا؛ لئلا يبني لغيره مثله.

(٩) أي: وما من فتى من الناس كنا نبتغي واحدًا منهم عديلًا نبادله به.

(١٠) لأن الذي يتوصل به إلى الأخبار عادة إنما هو العيون لا الألسنة.

(١١) فيه توالي الصفات، وذلك مما يُحدث في الكلام ثقلًا، وهذا مما يُؤخذ على «المتنبي».

(١٢) والقياس أشد سوادًا؛ لأنه لا يُبنى أفعل التفضيل من الأفعال الدالة على الألوان.

(١٣) معنى البيت: وتسعدني بالفوز بالغنائم والنجاة في شدة بعد شدة فرس سبوح؛ أي حسنة العدو لا تتعب راكبها، فكأنما تسبح على الماء.

(١٤) خالد وأسد: علَمان. والتعقيد فيه نشأ من تقديم أسد الذي هو جزء مما أضيف إليه إذ.

(١٥) أي: والشمس ليست بكاسفة نجوم الليل وهي تبكي عليك، والقمر يبكي عليك أيضًا، ففيه تعقيد نشأ من الفصل بين اللفظة التي هي كاسفة، ومفعولها الذي هو نجوم بجملة «تبكي عليك».

(١٦) فيه تعقيد معنوي؛ حيث كنى بالظلم عن المحافظة على الحقوق، وهو بعيد.

(١٧) باهت بمعنى مدهوش، لغة رديئة، واللفظ العربي المستعمل بُهت الرجل فهو مبهوت.

(١٨) أي: فأصبحت بعد بهجتها قفراء كأن قلمًا خط رسومها.

(١٩) المقلة: العين. والحلم: الرؤيا التي يراها النائم. والابتشاك: الكذب. قال الصاحب: لم يُسمع الابتشاك في شعر قديم ولا محدث.

(١-٣) فصاحة المتكلم

فصاحة المتكلم: عبارة عن الملكة٢٨ التي يقتدر بها صاحبها على التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أي غرض كان.

فيكون قادرًا بصفة الفصاحة الثابتة في نفسه على صياغة الكلام، متمكنًا من التصرف في ضروبه، بصيرًا بالخوض في جهاته ومناحيه.

أسئلة على الفصاحة يطلب أجوبتها

ما هي الفصاحة لغة واصطلاحًا؟ ما الذي يُوصف بالفصاحة؟

ما الذي يُخرج الكلمة عن كونها فصيحة؟

ما هي فصاحة المفرد؟ ما هو تنافر الحروف؟ وإلى كم ينقسم؟

ما هي الغرابة وما موجبها؟ ما هي مخالفة القياس؟ ما هي الكراهة في السمع؟ ما هي فصاحة الكلام؟ وبمَ تتحقق؟ ما هو تنافر الكلمات؟ وما موجبه؟ وإلى كم يتنوَّع؟

ما هو ضعف التأليف؟ ما هو التعقيد؟ وإلى كم ينقسم؟ ما هي كثرة التكرار؟ ما هو تتابع الإضافات؟ ما هي فصاحة المتكلم؟

(٢) البلاغة

البلاغة في اللغة «الوصول والانتهاء» يقال: بلغ فلان مراده إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها،٢٩ ومبلغ الشيء منتهاه.

وبلغ الرجل بلاغة فهو بليغ إذا أحسن التعبير عمَّا في نفسه.

وتقع البلاغة في الاصطلاح وصفًا للكلام والمتكلم فقط.

ولا توصف «الكلمة» بالبلاغة؛ لقصورها عن الوصول بالمتكلم إلى غرضه، ولعدم السماع بذلك.

(٢-١) بلاغة الكلام

البلاغة في الكلام: مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب،٣٠ مع فصاحة ألفاظه «مفردها ومركبها».

والكلام البليغ: هو الذي يصوِّره المتكلم بصورة تناسب أحوال المخاطبين.

وحال الخطاب (ويسمى بالمقام) هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد عبارته على صورة مخصوصة دون أخرى.

والمُقْتَضَى (ويُسمَّى الاعتبار المناسب) هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة.

مثلًا: المدح: حال يدعو لإيراد العبارة على صورة الإطناب.

وذكاء المخاطب: حال يدعو لإيرادها على صورة الإيجاز.

فكل من المدح والذكاء «حال ومقام»، وكل من الإطناب والإيجاز «مقتضى».

وإيراد الكلام على صورة الإطناب٣١ أو الإيجاز «مطابقة للمقتضى» وليست البلاغة٣٢ إذًا منحصرة في إيجاد معانٍ جليلة، ولا في اختيار ألفاظ واضحة جزيلة، بل هي تتناول مع هذين الأمرين أمرًا ثالثًا «هو إيجاد أساليب مناسبة للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ» ما يكسبها قوة وجمالًا.

وملخص القول أن الأمر الذي يحمل المتكلم على إيراد كلامه في صورة دون أخرى يسمى «حالًا»، وإلقاء الكلام على هذه الصورة التي اقتضاها الحال يُسمى «مقتضى»، والبلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لما يقتضيه الحال.

(٢-٢) بلاغة المتكلم

بلاغة المتكلم: هي مَلَكة في النفس٣٣ يقتدرُ بها صاحبها على تأليف كلام بليغ، مطابق لمقتضى الحال، مع فصاحته في أي معنًى قصده.

وتلك غاية لن يصل إليها إلا من أحاط بأساليب العرب خُبرًا، وعرف سنن تخاطبهم في منافراتهم، ومفاخراتهم، ومديحهم، وهجائهم، وشكرهم، واعتذارهم؛ ليلبس لكل حالة لبوسها «ولكل مقام مقال».

(٢-٣) أقوال ذوي النبوغ والعبقرية في البلاغة

  • (١)

    قال قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب:

    • المساواة: وهي مطابقة اللفظ المعنى، لا زائدًا ولا ناقصًا.
    • والإشارة: وهي أن يكون اللفظ كاللمحة الدالة.
    • والتذييل: وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد؛ ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه.٣٤
  • (٢)
    وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللفظ محيطًا بمعناك، كاشفًا عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سالمًا من التكلف، بعيدًا من سوء الصنعة، بريئًا من التعقيد، غنيًّا عن التأمل.٣٥
  • (٣)
    ومما قيل في وصف البلاغة: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يُسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.٣٦
  • (٤)
    وسأل معاوية صحارًا العبدي: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ.٣٧
  • (٥)
    وقال الفضل: قلت لأعرابي ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل.٣٨
  • (٦)

    وسئل ابن المقفع: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما تكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل، فعامَّة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز: هو البلاغة.

    فأما الخُطَب بين السِّماطين وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك. فقيل له: فإن مَلَّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقُمْت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام — فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنه لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلستَ منه وليس منك، وقد كان يقال: «رضاء الناس شيء لا يُنال».٣٩
  • (٧)
    ولابن المعتز: أبلغ الكلام: ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه.٤٠
  • (٨)
    وسمع خالد بن صفوان رجلًا يتكلم، ويكثر الكلام، فقال: اعلم «رحمك الله» أن البلاغة ليست بخفة اللسان، وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى، والقصد إلى الحجة.٤١
  • (٩)

    ولبشر بن المعتمر فيما يجب أن يكون عليه الخطيب والكاتب رسالة من أنفس الرسائل الأدبية البليغة، جمعت حدود البلاغة، وصورتها أحسن تصوير.

وسنذكر مع شيء من الإيجاز ما يتصل منها بموضوعنا، قال: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وغرَّة من لفظ شريف، ومعنًى بديع.

واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدِّ، والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة.

وإيَّاك والتوعُّر؛ فإن التوعر يُسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويَشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقِّهما أن تصونهما عما يفسدهما ويُهجِّنهما …

وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا.

إمَّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي.

فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك … على أن تُفْهِم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسعة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكْفاء — فأنت البليغ التام.

فإن كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها وإلى حقِّها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحُلَّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها — فلا تُكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاطَ قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعِبْك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفته، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا محكِمًا لسانك، بصيرًا بما عليك أو ما لك — عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.

فإن ابتُليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة — فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياضَ يومِك، أو سوادَ ليلِك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق.

فإن تمنَّع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال — فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة والشهوة، فهكذا هذا.

وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا؛ حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.

وبعدُ؛ فأنت ترى فيما قالوه أن حد البلاغة هو أن تجعل لكل مقام مقالًا؛ فتوجز حيث يحسن الإيجاز، وتُطنِب حيث يجمُل الإطناب، وتؤكد في موضع التوكيد، وتقدم أو تؤخر إذا رأيت ذلك أنسب لقولك وأوفى بغرضك، وتخاطب الذكي بغير ما تخاطب به الغبي، وتجعل لكل حال ما يناسبها من القول، في عبارة فصيحة، ومعنًى مختار.

ومن هنا عَرَّفَ العلماء «البلاغة» بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحة عباراته.

واعلم أن الفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، وأن الفصاحة تكون وصفًا للكلمة والكلام، والبلاغة لا تكون وصفًا للكلمة، بل تكون للكلام، وأن فصاحة الكلام شرط في بلاغته، فكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا، كالذي يقع فيه الإسهاب حين يجب الإيجاز.

تمرين

بيِّن الحال ومقتضاه فيما يلي:

(١) هَناءٌ مَحَا ذاكَ العزاءَ المقدَّما
فما عَبَسَ المحزونُ حتى تَبَسَّما

(٢) تقول للراضي عن إثارة الحروب: «إن الحرب مَتْلَفة للعِباد، ذهَّابة بالطارِف والتِّلاد.»

(٣) يقول الناس إذا رأوا لصًّا أو حريقًا: «لصٌّ»، «حريقٌ».

(٤) قال تعالى: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا.

(٥) يقول راثي البرامكة:

أُصبتُ بسادة كانوا عيونًا
بهم نُسْقَى إذا انقطع الغَمام

(١) الحال هنا هو تعجيل المسرة، والمقتضى هو تقديم الكلمة الدالة على السرور، وهي كلمة «هناء».

(٢) الحال هنا هو إنكار الضرر من الحرب، والمقتضى هو توكيد الكلام.

(٣) الحال هنا هو ضيق المقام، والمقتضى هو الاختصار بحذف المسند إليه، والتقدير: هذا لص، هذا حريق.

(٤) الحال في أَشَرٌّ أُرِيدَ هو عدم نسبة الشر إلى الله تعالى، والمقتضى هو حذف الفاعل؛ إذ الأصل: أشر أراده الله بمن في الأرض؟

والحال في أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا هو نسبة الخير إلى الله تعالى، والمقتضى بقاء الفاعل من غير حذف «أي فعل الإرادة جاء مع الشر على صورة المبني للمجهول، ومع الرشد على صورة المبني للمعلوم، والحال الداعية إلى بناء الأول للمجهول «التأدب» في جانب الله تعالى بعدم نسبة الشر إليه صراحة، وإن كان الخير والشر مما قدره الله تعالى وأراده».

(٥) الحال هنا هو الخوف من «الرشيد» ناكب البرامكة، والمقتضى حذف الفاعل من أُصبت.

ملاحظات

  • (١)
    التنافر: يُعرف «بالذوق» السليم، والحس الصادق.٤٢
  • (٢)

    مخالفة القياس: تُعرف «بعلم الصَّرف».

  • (٣)

    ضعف التأليف والتعقيد اللفظي: يُعرفان «بعلم النحو».

  • (٤)

    الغرابة: تُعرف بكثرة «الاطلاع» على كلام العرب، والإحاطة بالمفردات المأنوسة.

  • (٥)

    التَّعقيد المعنوي: يُعرف «بعلم البيان».

  • (٦)

    الأحوال ومقتضياتها: تُعرف «بعلم المعاني».

  • (٧)

    خُلوُّ الكلام من أوجه التَّحسين التي تكسوه رقة ولطافة بعد رعاية مطابقته: يعرف «بعلم البديع».

فإذًا وجب على طالب البلاغة: معرفة اللغة، والصَّرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، مع كونه سليم الذوق، كثير الاطلاع على كلام العرب، وصاحب خبرة وافرة بكتُب الأدب، ودراية تامة بعاداتهم وأحوالهم، واستظهار للجيد الفاخر من نثرهم ونظمهم، وعلم كامل بالنابغين من شعراء وخطباء وكُتَّاب ممَّن لهم الأثر البين في اللغة، والفضل الأكبر على اللسان العربي المبين.

(٢-٤) أسباب ونتائج

يحسُن أيضًا بطالب البلاغة أن يَعْرِف شيئًا عن «الأسلوب» الذي هو المعنى المصوغ في ألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفوس سامعيه.

وأنواع الأساليب ثلاثة:

الأسلوب العلمي

وهو أهدأ الأساليب، وأكثرها احتياجًا إلى المنطق السليم، والفكر المستقيم، وأبعدُها على الخيال الشِّعري؛ لأنه يخاطب العقل، ويُناجي الفكر، ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء، وأظهر ميزات هذا الأسلوب «الوضوح»، ولا بدَّ أن يبدو فيه أثر القوة والجمال، وقوَّته في سطوع بيانه، ورصانة حججه، وجماله في سهولة عباراته، وسلامة الذوق في اختيار كلماته، وحسن تقريره المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام.

فيجب أن يُعنَى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها، الخالية من الاشتراك، وأن تُؤَلَّف هذه الألفاظ في سهولة وجلاء؛ حتى تكون ثوبًا شفافًا للمعنى المقصود، وحتى لا تُصبح مثارًا للظنون، ومجالًا للتوجيه والتأويل.

ويحسن التَّنحي عن المجاز ومحسِّنات البديع في هذا الأسلوب، إلا ما يجيء من ذلك عفوًا، من غير أن يمسَّ أصلًا من أصوله، أو ميزة من ميزاته.

أمَّا التشبيه الذي يُقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام، وتوضيحها بذكر مماثلها — فهو في هذا الأسلوب مقبول.

الأسلوب الأدبي

والجمال أبرز صفاته، وأظهر مميزاته، ومنشأ جماله؛ لما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق، وتلمُّس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء، وإلباس المعنوي ثوب المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنوي.

هذا؛ ومن السهل عليك أن تعرف أنَّ الشِّعر والنَّثر الفني هما موطنا هذا الأسلوب، ففيهما يزدهر، وفيهما قنَّة الفنِّ والجمال.

الأسلوب الخطابي

هنا تبرز قوَّة المعاني والألفاظ، وقوة الحجَّة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، وهنا يتحدث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم، واستنهاض هممهم. ولجمال هذا الأسلوب ووضوحه شأن كبير في تأثيره، ووصوله إلى قرارة النفوس. ومما يزيد في تأثير هذا الأسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه، وقوة عارضته، وسطوع حجَّته، ونبرات صوته، وحسن إلقائه، ومُحْكَم إشاراته.

ومن أظهر مميزات هذا الأسلوب «التكرار»، واستعمال المترادفات، وضربُ الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرَّنين.

ويحسن فيه أن تتعاقب ضروب التعبير: من إخبار، إلى استفهام، إلى تعجُّب، إلى استنكار، وأن تكون مواطن الوقف كافية شافية، ثم واضحة قوية.

ويظن الناشئون في صناعة الأدب أنه كلما كثر المجاز وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأسلوب — زاد حسنه، وهذ خطأ بيِّن؛ فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التكلف، ولا يفسده شرٌّ مِن تعمُّد الصناعة.

هوامش

(١) مقدمة مشتقة من قدم اللازم، وهذه مقدمة كتاب؛ لأنها ألفاظ تقدمت أمام المقصود لارتباط له بها، وانتفاع بها فيه، بخلاف مقدمة العلم فهي معانٍ يتوقف المشروع عليها، كبيان حد العلم المشروع فيه، وموضوعه، وغايته.
واعلم أن علوم البلاغة أجلَّ العلوم الأدبية قدرًا، وأرسخها أصلًا، وأبسقها فرعًا، وأحلاها جنى، وأعذبها وِردًا؛ لأنها العلوم التي تستولي على استخراج درر البيان من معادنها، وتُريك محاسن النكت في مكامنها (ولولاها لم ترَ لسانًا يحوك الوشي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويريك بدائع الزهر، وينثر بين يديك الحلو اليانع من الثمر)؛ فهي الغاية التي تنتهي إليها أفكار النظر، واللآلئ التي تتطلبها غاصة البحار؛ لهذا كانت منزلتها تلو العلم بتوحيد الله تعالى.
(٢) ففصاحة الكلمة تكونها من حروف متآلفة يسهل على اللسان نطقها من غير عناء، مع وضوح معناها، وكثرة تداولها بين المتكلمين، وموافقتها للقواعد الصرفية. ومرجع ذلك الذوق السليم، والإلمام بمتن اللغة، وقواعد الصرف؛ وبذلك تسلم مادتها، وصيغتها، ومعناها، من الخلل. واعلم أنه ليس تنافر الحروف يكون موجبه دائمًا قرب مخارج الحروف؛ إذ قربها لا يوجبه دائمًا، كما أن تباعدها لا يوجب خفتها.
فها هي كلمة «بفمي» حسنة، وحروفها من مخرج واحد وهو الشفة، وكلمة «ملع» متنافرة ثقيلة، وحروفها متباعدة المخارج، وأيضًا ليس موجب التنافر طول الكلمة وكثرة حروفها.
(٣) «الغدائر»: الضفائر، والضمير يرجع إلى «فرع» في البيت قبله. و«الاستشزار»: الارتفاع. و«العقاص»: جمع عقيصة وهي الخصلة من الشعر. و«المثنى»: الشعر المفتول. و«المرسل» ضده. أي: ابنة عمه لكثرة شعرها بعضه مرفوع، وبعضه مثنى، وبعضه مرسل، وبعضه معقوص، أي ملوي.
(٤) الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمان حسنان، وقسم قبيح. فالقسمان الحسنان: أحدهما ما تداول استعماله السلف والخلف من الزمن القديم إلى زماننا هذا، ولا يُطلق عليه أنه وحشي. والآخر ما تداول استعماله السلف دون الخلف، ويختلف في استعماله بالنسبة إلى الزمن وأهله، وهذا هو الذي يُعاب استعماله عند العرب؛ لأنه لم يكن عندهم وحشيًّا وهو عندنا وحشي.
ولا يسبق وهمك إلى قول قصراء النظر بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا فهذا دليل على أنه حسن، بل ينبغي أن تعلم أن الذي نستحسنه نحن في زماننا هذا هو الذي كان عند العرب مستحسنًا، والذي نستقبحه هو الذي كان عندهم مستقبحًا. والاستعمال ليس بدليل على الحسن، فإننا نحن نستعمل الآن من الكلام ما ليس بحسن، وإنما نستعمله لضرورة، فليس استعمال الحسن بممكن في كل الأحوال.
واعلم أن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يُؤخذ بالتقليد من العرب؛ لأنه شيء ليس للتقليد فيه مجال، وإنما هو شيء له خصائص وهيئات وعلامات إذا وُجدت عُلم حسنه من قبحه، ألا ترى أن لفظة «المزنة» مثلًا حسنة عند الناس كافة من العرب وغيرهم، لا يختلف أحد في حسنها، وكذلك لفظ «البعاق» فإنها قبيحة عند الناس كافة من العرب وغيرهم؟ فإذا استعملتها العرب لا يكون استعمالهم إياها مخرجًا لها عن القبح، ولا يُلتفت إذن إلى استعمالهم إياها، بل يُعاب مستعملها، ويُغلظ له النكير حيث استعملها. فلا تظن أن الوحشي من الألفاظ ما يكرهه سمعك ويثقل عليك النطق به، وإنما هو الغريب الذي يقل استعماله، فتارةً يخفُّ على سمعك ولا تجد به كراهة، وتارة يثقل على سمعك وتجد منه الكراهة، وذلك في اللفظ عيبان: كونه غريب الاستعمال، وكونه ثقيلًا على السمع كريهًا على الذوق. وليس وراءه في القبح درجة أخرى، ولا يستعمله إلا أجهل الناس ممن لم يخطر بباله شيء من معرفة هذا الفن أصلًا.
انتهى عن المثل السائر، بتصرف.
(٥) «مزجَّجًا» مدققًا مطولًا. «فاحمًا» شعرًا أسود كالفحمة. «مرسنًا» بكسر الميم وفتح السين كمنبر، أو بفتح الميم وكسر السين كمجلس، ومعناه أنه ذا لمعان كالسراج، أو ذا صقالة واحْدِيدَاب كالسيف السُّرَيْجي؛ أي المنسوب إلى سُرَيْج، وهو قَيْن حَدَّاد تُنسب إليه السيوف في الدقة والاستواء.
(٦) أي ولفظة مسرج غير ظاهرة الدلالة على ما ذُكر؛ لأن فعل إنما يدل على مجرد النسبة، وهي لا تدل على التشبيه، فأخذه منها بعيد؛ لهذا أدخل الحيرة على السامع في فهم المعنى المقصود من الكلمة لترددها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة. ومثله قول الشاعر:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
فلا يُعلم ماذا أراد الشاعر بقوله: «فعلت ما لم أفعل» أكان يبكي إذا رحلوا، أم كان يهيم على وجهه من الغم الذي لحقه، أم يتبعهم إذا ساروا، أم يمنعهم من المضي على عزمة الرحيل؟
(٧) اجتمعتم.
(٨) جنون.
(٩) انصرفوا، وقال ذلك حين سقط عن دابته فاجتمع الناس حوله.
(١٠) الطمحة: النظرة. والصبير: السحاب المتراكم. وقبله:
إن تمنعي صوبك صوب المدمع
يجري على الخد كضئب الثعثع
الضئب: الحب. والثعثع: اللؤلؤ. قال صاحب القاموس: ذكروا جحلنجع ولم يفسروه. وقالوا: كان أبو الهميسع من أعراب مَدْيَن، وكنا لا نكاد نفهم كلامه. ا.ﻫ.
(١١) ما استثناه الصرفيون من قواعدهم المجمع عليها وإن خالف للقياس «فصيح» فمثل «آل وماء» أصلهما أهل وموه، أبدلت الهاء فيهما همزة، وإبدال الهمزة من الهاء وإن كان على خلاف القياس إلا أنه ثبت عن الواضع، ومثل «أبى يأبَى» بفتح الباء في المضارع، والقياس كسرها فيه؛ لأن فعل بفتح العين لا يأتي مضارعه على يفعل بالفتح إلا إذا كان عين ماضيه أو لامه حرف حلْق؛ كسَالَ ونَفَع، فمجيء المضارع بالفتح على خلاف القياس، إلا أن الفتح ثبت عن الواضع. ومثل «عور يعور» أي فالقياس فيهما عار يعار بقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصحيح الواو خلاف القياس إلا أنه ثبت عن الواضع.
(١٢) الشيمة: الخُلق. والحدثان: نوائب الدهر. وجمل: فرسه.
(١٣) المراد بفصاحة الكلام تكونه من كلمات فصيحة يسهل على اللسان النطق بها لتآلفها، ويسهل على العقل فهمها لترتيب ألفاظها وفق ترتيب المعاني.
ومرجع ذلك الذوق السليم، والإلمام بقواعد النحو، بحيث يكون واضح المعنى، سهل اللفظ، حسن السبك؛ ولذلك يجب أن تكون كل لفظة من ألفاظه واضحة الدلالة على المقصود منها، جارية على القياس الصرفي، عذبة سلسلة، كما يكون تركيب الكلمات جاريًا على القواعد النحوية، خاليًا عن تنافر الكلمات مع بعضها، ومن التعقيد. فمرجع الفصاحة سواء في اللفظة المفردة أو في الجمل المركبة إلى أمرين: «مراعاة القواعد، والذوق السليم». وتختلف فصاحة الكلام أحيانًا باختلاف التعبير عما يدور بالنفس من المعاني اختلافًا ظاهرًا.
فتجد في عبارات الأدباء من الحسن والجودة ما لا تجد في تعبير غيرهم، مع اتحاد المعنى الذي يعبر عنه، ويختلف الأدباء أنفسهم في أساليبهم، فقد يعلو بعضهم في أسلوبه، فتراه يسيل رقة وعذوبة، ويصل إلى القلوب فيبلغ منها ما يشاء أن يبلغ، وذلك نوع من البيان يكاد يكون سحرًا، وقد يكون دون هذه المنزلة قليلًا أو كثيرًا، وهو مع ذلك من فصيح القول وحسن البيان.
(١٤) «كثرة التكرار وتتابع الإضافات» أقول الحق: إن هذين العيبين قد احتُرز عنهما بالتنافر، على أن بعضهم أجازهما لوقوعهما في القرآن كما في قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا الآيات، وفي قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
(١٥) حرب بن أمية: قتله قائل هذا البيت، وهو هاتف من الجن صاح عليه. و«قفر» خالٍ من الماء والكلأ. وقبر اسم ليس مؤخر، وقرب خبرها مقدم. قيل: إن هذا البيت لا يمكن إنشاده ثلاث مرات متوالية إلا ويغلط المنشد فيه؛ لأن نفس اجتماع كلماته وقرب مخارج حروفها يُحدثان ثقلًا ظاهرًا، مع أن كل كلمة منه لو أُخذت وحدها ما كانت مستكرهة ولا ثقيلة.
(١٦) أي هو كريم، وإذا مدحته وافقني الناس على مدحه، ويمدحونه معي لإسداء إحسانه إليهم كإسدائه إليَّ، وإذا لمته لا يوافقني أحد على لومه؛ لعدم وجود المقتضى للوم فيه، وآثر لمته على هجوته مع أنه مقابل المدح إشارة إلى أنه لا يستحق الهجو، ولو فرط منه شيء فإنما يُلام عليه فقط. والثقل في قوله: «أمدحه» لما بين الحاء والهاء من التنافر، للجمع بينهما، وهما من حروف الحلق كما ذكره الصاحب إسماعيل بن عباد.
(١٧) المجموعة في قول بعضهم:
ومرجع الضمير قد تأخرا
لفظًا ورتبة وهذا حصرا
في باب نعم وتنازع العمل
ومضمر الشأن ورب والبدل
ومبتدأ مفسر بالخبر
وباب فاعل بخلف فأخبر
واعلم أن ضعف التأليف ناشئ من العدول عن المشهور إلى قول له صحة عند بعض أولي النظر، أما إذا خالف المجمع عليه كجر الفاعل ورفع المفعول ففاسد غير معتبر، والكلام في «تركيب له صحة واعتبار».
(١٨) فإن الضمير في «مجده» راجع إلى «مُطعِمًا» وهو متأخر في اللفظ كما يُرى وفي الرتبة لأنه مفعول به؛ فالبيت غير فصيح لمخالفته قواعد النحو. ومُطعِم: أحد رؤساء المشركين، وكان يدافع عن النبي . ومعنى البيت أنه لو كان مجد الإنسان سببًا لخلوده في هذه الدنيا لكان «مطعِم بن عَدي» أولى الناس بالخلود؛ لأنه حاز من المجد ما لم يحُزْه غيره على يد صحاب الشريعة.
(١٩) وذلك كالفصل بأجنبي بين الموصوف والصفة، وبين البدل والمبدل منه، وبين المبتدأ والخبر، وبين المستثنى والمستثنى منه؛ ما يسبب ارتباكًا واضطرابًا شديدًا.
(٢٠) فلفظة جفخت مرة الطعم، وإذا مرت على السمع اقشعر منها، ولو استعمل «المتنبي» عوضًا عن جفخت «فخرت» لاستقام البيت، وحظي في استعماله بالأحسن.
(٢١) بحيث يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل فيه كلمات في غير معانيها الحقيقية؛ فيسيء اختيار الكلمات للمعنى الذي يريده؛ فيضطرب التعبير، ويلتبس الأمر على السامع، نحو: نشر الملك ألسنته في المدينة، يريد جواسيسه، والصواب: نشر عيونه.
(٢٢) فالمناط في الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم، لا كثرة الوسائط الحسية، فإنها قد تكثر من غير صعوبة، كما في قولهم: «فلان كثير الرماد» كناية عن المضياف، فإن الوسائط كثيرة فيه، ولكن لا تعقيد.
(٢٣) تسكب بالرفع عطف على أطلت، وبالنصب عطف على بعد، من قبيل عطف الفعل على اسم خالص من التأويل بالفعل، والمراد طلب استمرار السكب لا أصله؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل.
(٢٤) ووجه الخفاء والبعد أن أصل معنى جمود العين جفافها من الدموع عند إرادتها منها، والانتقال منه إلى حصول السرور بعيد؛ لأنه يحتاج إلى وسائط بأن ينتقل من جمود العين إلى انتفاء الدمع منها حال إرادة البكاء، ومنه إلى انتفاء الدمع مطلقًا، ومنه إلى انتفاء الحزن ونحوه «فإن ذلك هو السبب غالبًا في الدمع» ومن انتفاء الحزن ونحوه إلى السرور. ولا يخفى أن الشاعر قد طوى وحذف جميع هذه الوسائط؛ فأورث بطء الانتقال من المعنى الأصل الحقيقي إلى المعنى المراد، وخالف حينئذ أسلوب البلغاء؛ فنشأ من ذلك التعقيد المعنوي.
واعلم أن الشاعر أراد أن يرضى بالبعد والفراق، ويُعود نفسه على مقاساة الأحزان والأشواق، ويتحمل من أجلها حزنًا يفيض من عينيه الدموع؛ ليتوصل بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة لا تزول، على حد قول الشاعر:
ولطالما اخترت الفراق مغالطًا
واحتلت في استثمار غرس ودادي
ورغبت عن ذكر الوصال لأنها
تبني الأمور على خلاف مرادي
(٢٥) أي: لبخيلة بالدموع.
(٢٦) المراد بالكثرة ها هنا ما فوق الواحدة، فذكر الشيء ثانيًا تكرار، وذكره ثالثًا كثرة، وإنما شُرطت الكثرة؛ لأن التكرار بلا كثرة لا يخل بالفصاحة، وإلا لقبح التوكيد اللفظي.
(٢٧) ففيه إضافة حمامة إلى «جَرْعا» وهو تأنيث الأجرع، وهو المكان ذو الحجارة السود، أو مكان الرمل الذي لا ينبت شيئًا. و«جرعا» مضاف إلى «حومة» وهي معظم الشيء. و«حومة» مضاف إلى «الجندل» بسكون النون وهو الحجر، والمراد به هنا مكان الحجارة، فهو بمعنى الجندل بفتح النون وكسر الدال، وقوله:
فأنت بمرأى من سعاد ومسمع
أي أنت بحيث تراك سعاد وتسمع كلامك. يقول: اسجعي أرض قفرة سبخة؛ فإن سعاد تراك وتسمعك.
(٢٨) أي أن كيفية وصفه من العلم راسخة وثابتة في نفس صاحبها، يكون قادرًا بها على أن يعبر عن كل ما قصده من أي نوع من المعاني كالمدح والذم والرثاء وغير ذلك بكلام فصيح، فإذًا المدار على الاقتدار المذكور سواء وجد التعبير أو لم يوجد، وأن من قدر على تأليف كلام فصيح في نوع واحد من تلك المعاني لم يكن فصيحًا، وأنه لا يكون فصيحًا إلا إذا كان ذا صفة من العلم راسخة فيه وهي المسماة ﺑ «الملكة» يقتدر بها على أن يعبر عن أي معنى قصده بكلام فصيح؛ أي خالٍ عن الخلل في مادته (وذلك بعدم تنافر كلماته)، وعن الخلل في تأليفه (وذلك بعدم ضعف تأليفه)، وعن الخلل في دلالته على المعنى التركيبي (وذلك بعدم التعقد اللفظي والمعنوي)، فإن كان شاعرًا اتسع أمامه ميدان القول في جميع فنون الشعر: من نسيب، وتشبيب، ومديح، وهجاء، ووصف، ورثاء، وعتاب، واعتذار، وأشباه ذلك. وإن كان ناثرًا حاك الرسائل المحلاة، والخطب الممتعة الموشاة في الوعظ والإرشاد، والحفل والأعياد.
(٢٩) البلاغة هي تأدية المعنى الجليل واضحًا بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلاب، مع ملاءمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون. والبلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها، وبلغتها غيري، والمبالغة في الشيء الانتهاء إلى غايته. فسميت البلاغة بلاغة؛ لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، وسميت البُلغة بُلغة؛ لأنك تَتَبَلَّغ بها، فتنتهي بك إلى ما فوقها. وهي البلاغ أيضًا، ويقال: الدنيا بلاغ؛ لأنها تؤديك إلى الآخرة. والبلاغ أيضًا التبليغ، ومنه هذا بلاغ للناس أي تبليغ، ويقال: بلغ الرجل بلاغة إذا صار بليغًا، كما يقال: نبل الرجل نبالة إذا صار نبيلًا.
قال أعرابي: البلاغة التقرب من البعيد، والتباعد من الكلفة، والدلالة بقليل على كثير. وقال عبد الحميد بن يحيى: البلاغة تقرير المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام. وقال ابن المعتز: البلاغة البلوغ إلى المعنى، ولم يطل سفر الكلام. وقال العتابي: البلاغة مد الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف إذا طال. وقال عبد الله بن المقفع: البلاغة لمعانٍ ترى في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون خطبًا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ. والإيجاز هو البلاغة، فالسكوت يسمى بلاغة مجازًا، وهي في حالة لا ينجع فيها القول، ولا ينفع فيها إقامة الحجج إما عند جاهل لا يفهم الخطاب أو عند وضيع لا يرهب الجواب، أو ظالم سليط يحكم بالهوى، ولا يرتدع بكلمة التقوى، وإذا كان الكلام يعرى من الخير أو يجلب الشر فالسكوت أولى. وقال الرشيد: البلاغة التباعد من الإطالة، والتقرب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. قال أحد الأدباء: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه.
(٣٠) مقتضى الحال: هو ما يدعو إليه الأمر الواقع؛ أي ما يستلزمه مقام الكلام وأحوال المخاطب من التكلم على وجه مخصوص، ولن يطابق الحال إلا إذا كان وفق عقول المخاطبين، واعتبار طبقاتهم في البلاغة، وقوتهم في البيان والمنطق، فللسوقة كلام لا يصلح غيره في موضعه، والغرض الذي يبنى له، ولسراة القوم والأمراء فن آخر لا يسد مسده سواه. من أجل ذلك كانت مراتب البلاغة متفاوتة، بقدر تفاوت الاعتبارات والمقتضيات، وبقدر رعايتها يرتفع شأن الكلام في الحسن والقبح، ويرتقي صعدًا إلى حيث تنقطع الأطماع، وتخور القوى، ويعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وتلك مرتبة الإعجاز التي تخرس عندها ألسن الفصحاء لو تاقت إلى العبارة. وقد عُرف بالخبر المتواتر أن القرآن الكريم نزل في أوفى العصور فصاحة، وأجملها بلاغة، ولكنه سد السبل أمام العرب عندما صاح عليهم صيحة الحق، فوجفت قلوبهم، وخرست شقاشقهم، مع طول التحدي وشد النكير «وحقت للكتاب العزيز الكلمة العليا».
(٣١) فإن اختلاف هذه الظروف يقتضي هيئة خصوصية من التعبير، ولكل مقام مقال، فعلى المتكلم ملاحظة المقام أو الحال، وهو الأمر الذي يدعوه إلى أن يورد كلامه على صورة خاصة تُشاكل غرضه، وتلك الصورة الخاصة التي يورد عليها تسمى المقتضى، أو الاعتبار المناسب، فمثلًا الوعيد والزجر والتهديد مقام يقتضي كون الكلام المورد فيه فخمًا جزلًا، والبشارة بالوعد، واستجلاب المودة — مقام يتطلب رقيق الكلام ولطيفه، والوعظ مقام يوجب البسط والإطناب، وكون المخاطب عاميًّا سوقيًّا أو أميرًا شريفًا يوجب الإتيان بما يناسب بيانه عقله.
(٣٢) لأن البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع، فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك، مع صورة مقبولة، ومعرض حسن، وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطًا في البلاغة؛ لأن الكلام إذا كانت عبارته رثة، ومعرضه خلقًا — لم يُسَمَّ بليغًا، وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى.
فعناصر البلاغة إذًا «لفظ ومعنًى وتأليف للألفاظ» يمنحها قوة وتأثيرًا وحُسنًا، ثم دقة في اختيار الكلمات والأساليب، على حسب مواطن الكلام ومواقعه، وموضوعاته، وحال السامعين، والنزعة النفسية التي تتملكهم وتسيطر على نفوسهم، فرب كلمة حسنت في موطن، ثم كانت مستكرهة في غيره، ورب كلام كان في نفسه حسنًا خلابًا، حتى إذا جاء في غير مكانه، وسقط في غير مسقطه — خرج عن حد البلاغة، وكان غرضًا لسهام الناقدين.
(٣٣) أي أن الهيئة والصفة الراسخة الثابتة في نفس المتكلم يمكنه بواسطتها أن يعبر عن المعاني التي يريد إفادتها لغيره بعبارات بليغة؛ أي مطابقة لحال الخطاب، فلو لم يكن ذا ملكة يقتدر بها على التصرف في أغراض الكلام وفنونه بقول رائع، وبيان بديع، بالغًا من مخاطبه كل ما يريد — لم يكن بليغًا.
وإذًا لا بد للبليغ: أولًا من التفكير في المعاني التي تجيش في نفسه، وهذه يجب أن تكون صادقة ذات قيمة وقوة، يظهر فيها أثر الابتكار، وسلامة النظر، وذوق تنسيق المعاني وحسن ترتيبها، فإذا تم له ذلك عمد إلى الألفاظ الواضحة المؤثرة الملائمة، فألَّف بينها تأليفًا يكسبها جمالًا وقوة.
فالبلاغة ليست في اللفظ وحده، وليست في المعنى وحده، ولكنها أثر لازم لسلامة تآلف هذين وحسن انسجامهما. وقد علم أن البلاغة أخص والفصاحة أعم؛ لأنها مأخوذة في تعريف البلاغة، وأن البلاغة يتوقف حصولها على أمرين: الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، والثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره؛ لهذا كان للبلاغة درجات متفاوتة تعلو وتسفل في الكلام بنسبة ما تراعي فيه مقتضيات الحال، وعلى مقدار جودة ما يستعمل فيه من الأساليب في التعبير والصور البيانية والمحسنات البديعية، وأعلى تلك الدرجات ما يقرب من حد الإعجاز، وأسفلها ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم، وإن كان صحيح الإعراب، وبين هذين الطرفين مراتب عديدة.
(٣٤) نهاية الأرب جزء ٧ ص٨.
(٣٥) نهاية الأرب جزء ٧ ص٦.
(٣٦) من كتاب البيان والتبيين للجاحظ جزء ١، صحيفة ٩١.
(٣٧) نهاية الأرب جزء ٧ ص٨.
(٣٨) البيان والتبيين للجاحظ جزء ١ ص٩١.
(٣٩) البيان والتبيين جزء ١ ص٩١، ٩٢.
(٤٠) نهاية الأرب جزء ٧ ص١١.
(٤١) مختار العقد الفريد ص٩٨.
(٤٢) الذوق في اللغة: الحاسة يدرَك بها طعم المأكل. وفي الاصطلاح: قوة غريزية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية، وتحصل بالمثابرة على الدرس، وممارسة كلام أئمة الكتاب، وتكراره على السمع، والتفطن لخواص معانيه وتراكيبه، وأيضًا تحصل بتنزيه العقل والقلب عما يفسد الآداب والأخلاق؛ فإن ذلك من أقوى أسباب سلامة الذوق.
واعلم أن «الذوق السليم» هو العمدة في معرفة حسن الكلمات وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الاستكراه؛ لأن الألفاظ أصوات، فالذي يطرب لصوت البلبل، وينفر من صوت البوم والغربان — ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف، ألا ترى أن كلمتي «المُزنة والدِّيمة (للسحابة الممطرة)» كلتاهما سهلة عذبة يسكن إليها السمع، بخلاف كلمة «البعاق» التي في معناهما؛ فإنها قبيحة، تصك الأذن؟! وأمثال ذلك كثير في مفردات اللغة تستطيع أن تُدركه بذوقك، وقد سبق شرح ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤