الفصل الخامس

الثقافة الفلكية: رحلات الفضاء والخيال

لكي تُصبح رحلات الفضاء حقيقةً واقعة، كان على المرء أن يتخيَّلها أولًا. وقد أدى ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر، متبوعًا بالدعوة غير الخيالية إلى الفضاء في أوائل القرن العشرين، إلى نشْر فكرة أنَّ السفر إلى الفضاء لم يكن مجرَّد خيال. وقد نجم عن هذا نموُّ ما أسماه ألكسندر سي تي جيبرت، في عشرينيَّات القرن العشرين وما بعدها، ﺑ «الثقافة الفلكية»: «مجموعة غير مُتجانِسة من الصور والفنون والوسائط والممارسات التي تهدف جميعها إلى تحديد معنًى للفضاء الخارجي مع إثارة كلٍّ من الخيال الفردي والجماعي.»1 أثناء سباق الفضاء في الحرب الباردة، أصبحت رحلات الفضاء جزءًا لا يتجزَّأ من الثقافات الوطنية للقوى العظمى، وأيضًا للعديد من الدول الأخرى. ومع ذلك، فدائمًا ما كانت الثقافة الفلكية تشتمل على أكثر من رحلات الفضاء، الواقعية والمُتخيَّلة؛ لأنها استندت إلى التقاليد القديمة والإسهامات الجديدة من عِلم الفلك والروحانية ومفاهيم الحياة خارج كوكب الأرض. ووجودُ مسلسلات الخيال العلمي التي تَحكي عن الفضاء مثل «حرب النجوم» («ستار وورز») و«رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») في جميع أنحاء العالم اليوم شهادة ليس فقط على أمركة الثقافة الشعبية العالمية، ولكن أيضًا على التأثير الذي تركته الثقافة الفلكية على مُخيلة الناس في كل مكان.

لكي تُصبح رحلات الفضاء حقيقةً واقعة، كان على المرء أن يتخيَّلها أولًا. وقد أدى ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر، متبوعًا بالدعوة غير الخيالية إلى الفضاء في أوائل القرن العشرين، إلى نشر فكرة أنَّ السفر إلى الفضاء لم يكن مجرَّد خيال.

لتحليل هذه المجموعة المُتباينة من الظواهر، قسَّمتُ هذا الفصل إلى خمسة أقسامٍ موجزة: (١) ظهور «المُستقبلية الفلكية»، والتي شملت كلًّا من الدعوة الواقعية والخيالية للسفر إلى الفضاء باعتباره مُستقبل الجنس البشري. (٢) مفاهيم الحياة خارج الأرض وتأثيرها على استكشاف الفضاء. (٣) ازدياد وتناقُص الحماس لرحلات الفضاء خلال سباق الفضاء والإعجاب الشديد بروَّاد الفضاء. (٤) تأثير رحلات الفضاء على تخيُّل الأرض ككوكبٍ وضلوعها في التطوُّر الكوني. (٥) ظهور الثقافة الفلكية العالمية من خلال الترفيه الجماهيري وانتشار القُدرة على القيام برحلات الفضاء خارج حدود القوى العظمى.

الخيال العِلمي الفضائي والمستقبلية الفلكية

نوَّه الفصلُ الأول عن التأثير المُهم لقصص الخيال العلمي المبكرة، وخاصةً تلك التي كتبَها جول فيرن وإتش جي ويلز، على مخيلات روَّاد نظرية السفر إلى الفضاء. وقد ظهر هذا الجنس الأدبي في القرن التاسع عشر في البلدان الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية بسبب تأثير التكنولوجيا إلى حدٍّ كبير. فإذا كان البشَر قد استطاعوا القيام بكذا، فما الذي لا يُمكننا فِعله؟ وألهمَ إطلاق المناطيد الذي بدأ في فرنسا عام ١٧٨٣ بالعديد من الحكايات حول القيام برحلةٍ ناجحة إلى القمر خلال القرن التالي، قبل أن يُثبِت علم الفلك والصعود إلى الستراتوسفير أنَّ الغلاف الجوي له حدود — على الرغم من أنَّ الفهم الشعبي لتلك الحقيقة قد تأخَّر عقودًا عن العِلم. اقترح فيرن، مدركًا لهذه الحقائق، مدفعًا بدلًا من المنطاد، على الرغم من أنه فشل في فهم أنَّ التسارُع اللحظي سيُهلِك رُكَّابه الخياليِّين. واستخدم ويلز في روايته «أول رجالٍ على سطح القمر» (١٩٠١) وكيرد لاسفيتس في روايته الألمانية المهمَّة التي تناولت رحلات الفضاء «كَوْكَبَان» (١٨٩٧) مواد غامضة لمقاومة الجاذبية، وهي وسيلة مُفضَّلة في خيال المؤلِّفين المُبكرين. وهكذا، فإنَّ السفر إلى الفضاء قد دخل في وعي الجزء المُتقدِّم من العالَم الذي يُهيمِن عليه البيض على الأقل، حتى لو بدَت الرحلات الفعلية مُستحيلةً أو بعيدة جدًّا.2

وجود مسلسلات الخيال العلمي التي تحكي عن الفضاء مثل «حرب النجوم» («ستار وورز») و«رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») في جميع أنحاء العالَم اليوم شهادة ليس فقط على أمركة الثقافة الشعبية العالمية، ولكن أيضًا على التأثير الذي تركَتْه الثقافة الفلكية على مُخيلة الناس في كل مكان.

بدأ الصاروخ غزوَهُ لرحلات الفضاء الخيالية في عشرينيات القرن العشرين، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى الصدى العالمي لأطروحة روبرت جودارد سميثسونيان «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى» (١٩١٩). بعد ذلك بوقتٍ قصير، عزَّزت أعمال هيرمان أوبرث وكونستانتين تسيولكوفسكي الاهتمام بالصاروخ كوسيلةٍ لرحلات الفضاء، خاصة في وسط وشرق أوروبا. أدَّى ذلك إلى إنتاج أول أفلامٍ واقعية تتحدَّث عن الفضاء: «إليتا» (١٩٢٤) و«رحلة كونية» («كوزميك فويدج»، ١٩٣٦) في الاتحاد السوفييتي، وفيلم «امرأة في القمر» («وومان إن ذا مون»، ١٩٢٩) في ألمانيا. وبداية من أواخر عشرينيَّات القرن العشرين ظهرت مجلَّات وسلاسل أفلام خيالٍ علمي رخيصة وجماهيرية في الولايات المُتحدة، تضمُّ قائدَي صواريخ مثل باك روجرز وفلاش جوردون. كان الخيال العلمي الرديء مُنتشرًا للغاية في الثلاثينيَّات من القرن الماضي لدرجة أنه أضرَّ بمصداقية رحلات الفضاء في الولايات المتحدة وشوَّه كلمة «صاروخ». عندما عرَض سلاح الطيران بالجيش الأمريكي تمويلًا للصواريخ المساعدة للإقلاع في عام ١٩٣٨، أخبر مهندسُ طيرانٍ رائدٌ ثيودور فون كارمان، عالِم الديناميكا الهوائية المشهور في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أنه كان بإمكانه الحصولُ على «وظيفة باك روجرز». ولذلك عندما حصلت مجموعة كالتيك على دعمٍ متزايد من الجيش في عام ١٩٤٤، أطلقتْ على نفسها اسم مُختبر الدفع النفَّاث (وليس الصاروخي).3

بعد الحرب العالمية الثانية، أعطت رحلات صواريخ «في-٢» وصواريخ التجارب شرعيةً جديدة لفكرة أنَّ رحلات الفضاء يمكن أن تكون قريبة، لكنَّ الموضوع لا يزال يحمِل رائحة خيال الكتُب الهزلية. وشرع المدافعون عن فكرة رحلات الفضاء في إقناع الجماهير الأنجلو أمريكية، من خلال الواقع والخيال، بِوُشُوك السفر إلى الفضاء وأهميته. وكان العديد من الشخصيات البارزة التي قادت هذه الدعوة نتاجًا لمُجتمعات الفضاء بين الحربَين، ولا سيما اثنَين من الألمان السابقين، وهما الكاتب العلمي ويلي لي ومهندس الصواريخ فيرنر فون براون، والمؤلِّف البريطاني آرثر سي كلارك. وكان كلارك استثنائيًّا في نجاحه في نشْر أعمال حول السفر إلى الفضاء سواءٌ كانت خيالية أو غير خيالية، ولكن كُتَّاب الخيال العلمي مثل روبرت هاينلين شاركوا مشاركةً مثمِرة في هذه الدعوة أيضًا.

كان الخيال العلمي الرديء منتشرًا للغاية في الثلاثينيَّات من القرن الماضي لدرجة أنه أضرَّ بمصداقية رحلات الفضاء في الولايات المتحدة وشوَّه كلمة «صاروخ».

ابتكر الباحثُ الأدبي دي ويت دوجلاس كيلجور مصطلح «المستقبلية الفلكية» لوصف هذه الظاهرة، وكانت ذُروتها في الخمسينيات من القرن العشرين. وكان المبدأ الجوهري هو أن مستقبل الجنس البشري يكمُن في الفضاء. في الحقيقة، كانت رحلات الفضاء ضمانًا للتقدُّم البشري نظرًا إلى المعرفة والموارد خارج كوكب الأرض التي سوف تُتيحها هذه الرحلات. وكان من بين المصطلحات المَجازية الرئيسية في رؤية المستقبلية الفلكية الاستكشاف العالمي، والغزو الإمبريالي، واليوتوبية التكنولوجية، و(بالنسبة إلى الولايات المتحدة بشكلٍ خاص) الحدود الغربية. وكانت الإنجازات البارزة في الدعوة إلى رحلات الفضاء هي كتاب لي لعام ١٩٤٩ «غزو الفضاء»، مع رسومات فنَّان الفضاء الرائد تشيسلي بونستيل، وكتاب كلارك «استكشاف الفضاء» (١٩٥١)، وسلسلة مقالات مجلة «كوليير» الخاصة بفون براون ولي وبونستيل وغيرهم (١٩٥٢–١٩٥٤). وأدَّت السلسلة إلى ثلاثة كتُب وثلاثة برامج تليفزيونية من إنتاج شركة والت ديزني (١٩٥٥–١٩٥٧) تضمُّ كلًّا من لي وفون براون. وكانت هوليوود قد أنتجت بالفعل فيلم «الوِجهة القمر» («ديستينيشن مون») وهو فيلم روائي طويل يرجع تاريخه إلى عام ١٩٥٠ ويستنِد إلى كتاب هاينلين. فاز الفيلم بجائزة الأوسكار للمؤثرات الخاصة. ومع ذلك، فإنَّ ما ظهر في دُور السينما كان في الغالِب أفلامًا منخفضة الجودة مثل أفلام الرعب والوحوش. ومع ذلك، نجح مؤيِّدو المستقبلية الفلكية في إقناع الكثيرين في العالَم الناطق باللغة الإنجليزية وفي أوروبا الغربية بوشوك القيام برحلات إلى الفضاء حتى قبل إطلاق القمر الصناعي «سبوتنيك».4
حدثت ظاهرة موازية في الاتحاد السوفييتي في ظروفٍ مختلفة للغاية؛ إذ بعد الحرب، بدأ مهندسو الصواريخ البارزون مثل سيرجي كوروليف، وفالنتين جلوشكو، وميخائيل تيخونرافوف، الذين شاركوا سرًّا في برامج الصواريخ الباليستية، حملة لإضفاء الشرعية على السفر إلى الفضاء، والذي تمَّ التخلِّي عنه لمدَّة عقدٍ بسبب قمع ستالين والحرب العالمية الثانية. واستغلوا ذكرى تسيولكوفسكي، الذي تُوفِّي عام ١٩٣٥، في حديثهم إلى الجلسات المُغلقة، وكذلك فيما نشروه أيضًا في الصحافة السوفييتية بأسماءٍ مُستعارة، لتأكيد ريادة روسيا/الاتحاد السوفييتي في مجال السفر إلى الفضاء. وبعد وفاة ستالين في عام ١٩٥٣، بدأ الذَّوبان الثقافي لخروتشوف في فتح المجتمع، وبدأ الخيال العلمي في الازدهار مرةً أخرى، وزادت المقالات عن رحلات الفضاء. ونجح كوروليف وشركاؤه أيضًا سرًّا في إقناع قيادة الحزب بمشاريع الأقمار الصناعية، مما أدَّى إلى صدمة «سبوتنيك».5
fig9
شكل ٥-١: يقِف مهندس الصواريخ الألماني الأمريكي فيرنر فون براون أمام لوحة تشيسلي بونستيل لمجلة «كوليير» في عام ١٩٥٢، حاملًا نموذجًا للمُعزِّز الخاص به، للإعلان عن حلقات والت ديزني التليفزيونية عن الفضاء في ١٩٥٥. بعد أن كان فون براون قائدًا في برامج صواريخ الجيش الألماني والأمريكي، ثُم في وكالة ناسا، جعل نفسه أيضًا واحدًا من أهمِّ مُروِّجي المُستقبلية الفلكية في أمريكا في الخمسينيات من القرن العشرين (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني التابع لمؤسَّسة سميثسونيان).

لم تنتهِ ظاهرة المستقبلية الفلكية بانقضاء الخمسينيات، بل إنها أصبحت، بدعمٍ من سباق الفضاء المبكِّر، عُملةً مُشتركة في الستينيَّات. وأصبحت رحلات الفضاء جزءًا طبيعيًّا من رؤى المستقبل؛ بل إنَّ الكثيرين من الجمهور والصحافة والنخبة السياسية أصبحوا يُساوونها بمستقبل الإنسان. وبرَز دُعاة جُدد للسفر إلى الفضاء، مثل عالِم الفلك كارل ساجان، الذي أصبح شخصيةً عامة في السبعينيَّات. وازدهر الخيال العلمي، لكن بتنوُّع رهيب، مبتعدًا في الكثير من الأعمال عن التفاؤل الذي اتَّسمَتْ به أصوله، وأيضًا مُبتعدًا عن البطل الذكر الأبيض. كما أدى تراجع سباق الفضاء إلى تقويض الإيمان برحلات الفضاء باعتبارها المُستقبل. وسيتمُّ استكشاف هذه الظواهر أدناه.

الحياة خارج كوكب الأرض

من الواضح أنَّ أفكار الحياة خارج كوكب الأرض لم تكن جديدةً عند قدوم عصر رحلات الفضاء. واندمجت الثورة العلمية في أوروبا الحديثة المُبكرة مع الاعتقاد المسيحي لتخلُق توقعًا بأنَّ القمر والكواكب تسكنها مخلوقاتٌ ذكية أخرى، وإلا فَلِمَ خلق الله تلك الأماكن؟ ولاقتْ فكرة «تعددية العوالم» قبولًا على نطاقٍ واسع في أدب القرنَين السابعَ عشر والثامنَ عشر. وفتح ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر مجالًا آخَرَ لتخيُّل لقاءات الكائنات الفضائية.6
وقد أدَّى تزايُد المعرفة الفلكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى إيماننا بأن معظم الكواكب التي يضمُّها نظامُنا الشمسي غير صالحة للسكن، ولكن كان له تأثير معاكس على تصوُّراتنا فيما يخصُّ كوكب المريخ. فبعد أن اقترب الكوكب الأحمر في عام ١٨٧٧ من كوكب الأرض، ادَّعى عالِم الفلك الإيطالي جيوفاني شياباريللي أنه رأى canali مُستقيمة، وهي كلمة تعني «قنوات». وبعد موجةٍ من الحماس الشعبي بعد اقترابٍ آخَر لكوكب المريخ من الأرض في عام ١٨٩٢، أصبح رجال المريخ موضوعًا للعديد من قصص الخيال العلمي مثل «حرب العوالم» بقلَم ويلز (١٨٩٧) و«كَوْكَبان» بقلم لاسفيتس (الذي صوَّر فيه رجال المريخ على أنهم صالحون). وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نشر عالِم الفلك الأمريكي بيرسيفال لويل كتبًا تدَّعي أنَّ القنوات تُمثِّل العمل اليدوي لحضارةٍ متقدِّمة. كما كانت هناك نقاشاتٌ متكررة حول كيفية التواصُل مع الكوكب الأحمر أو، بعد ظهور الراديو، الاستماع إلى رسائلهم.7 كما كان كوكب الزهرة المُغلَّف بالسحب، والأقرب إلى الأرض من حيث المسافة والحجم، موضوعًا للتخمين والتنبؤ. وعندما نشأت حركة رحلات الفضاء بين الحربَين العالميَّتَين، تحدَّث دُعاتها بطبيعة الحال عن قوة تكنولوجيا الصواريخ لاستكشاف هذه الألغاز.
بعد الحرب العالمية الثانية، أضافت ظاهرة الأجسام الطائرة المجهولة (UFO) بُعدًا آخر. وقد بدأت هذه الظاهرة في عام ١٩٤٧ عندما أبلغ طيَّار كان يُحلِّق فوق ولاية واشنطون عن رؤية أقراصٍ فضية تُناور بالقُرب منه، والتي سرعان ما أطلق عليها الإعلام «الأطباق الطائرة». وكانت للمشاهدات العديدة التي تلت ذلك سوابق؛ إذ يبدو أنَّ العديد من موجات مشاهدات المناطيد الغامضة في بريطانيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى بين العقد الثامن من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين مُستوحًى من تقارير الاختراعات الجوية والخَوف منها في أيدي العدو. في عام ١٩٤٦-١٩٤٧، ادَّعى سُكَّان الدول الاسكندنافية وشمال أوروبا أنهم رأوا «صواريخ شبحية»، وهي حالة أخرى مُحتمَلة للإيحاء الجماعي الذي شكَّله اختبار صواريخ «في-٢» الألمانية فوق بحر البلطيق في الحرب العالمية الثانية والخوف من أن يفعل السوفييت نفس الشيء. استمرَّت موجة الأجسام الطائرة المجهولة لفترةٍ أطول بكثيرٍ من أيٍّ من الموجات السابقة، ربما لأنها كانت نتاجًا ثانويًّا للخوف من الأسلحة الغريبة والانبهار بها في أثناء الحرب الباردة. ولم تكن الفرضية القائلة بأن الأجسام الطائرة المجهولة أجسام فضائية هي التفسير الوحيد؛ فقد كان هناك الكثير من التكهُّنات المبكِّرة حول الطائرات الأمريكية والسوفييتية السرية، على الرغم من أنَّ هذا التفسير قد تراجع بعد أن أصبح التطوير الفعلي للأسلحة على كلا الجانبَين معروفًا بشكلٍ أفضل. هناك دليلٌ آخر يُشير إلى أنَّ الحرب الباردة كانت مؤثرة وهو أنَّ الاهتمام الجماهيري بالأجسام الطائرة المجهولة قد تراجع بعد انتهاء تلك الحقبة. ولم تَحظَ فرضية الأجسام الفضائية بأي جاذبيةٍ بين النُّخَب العلمية والعسكرية والسياسية، ومن ثَم لم يكن لها تأثير على برامج الفضاء الوطنية، ولكن تأثيرها على تطوير الثقافة الفلكية كان على أيةِ حالٍ تأثيرًا ملحوظًا، من خلال أفلام الخيال العلمي التي تتناول الفضاء، والتغطية الإعلامية المُتكرِّرة، وتطوير ثقافات فرعية معقدة من المؤمنين بهذه الفرضية.8
كان للاستكشاف الفعلي للقمر والكواكب الذي بدأ في الستينيَّات تأثيراتٌ حاسمة على تصوُّرات الجمهور للحياة خارج كوكب الأرض. وسرعان ما قوَّضت المركبة الفضائية الأمريكية «مارينر» الأمل الذي كان في سبيله إلى التلاشي بالفعل في أنَّ أشكال الحياة الأكبر، أو حتى الكائنات الحية الأحادية الخلية، قد تكون موجودةً على كوكب الزهرة والمريخ. كانت درجات الحرارة في كوكب الزهرة ساخنةً بما يكفي لإذابة الرصاص، في حين بدا كوكب المريخ مثل صحراء باردة مَلأى بالفوَّهات. وقد جعل التصوير الفوتوغرافي المداري المُكثَّف للمريخ في السبعينيَّات هذا الكوكب أكثر إثارةً للاهتمام مرةً أخرى، بسبب الدور الواضح الذي لعبته الفيضانات في ماضيه البعيد، لكن فشل «فايكينج» في اكتشاف أي حياة في عام ١٩٧٦ أنهى بالفعل عملية استكشاف المريخ الأمريكية لمدة عشرين عامًا. وأوضحت استطلاعات الرأي العام أنَّ الحياة خارج الأرض كانت دائمًا دافعًا قويًّا للدَّعم العام والسياسي لاستكشاف الفضاء. ولعلَّ أي اكتشافٍ مُبكر للحياة كان سيُغيِّر جذريًّا مسار تاريخ الفضاء. ولكن العكس تمامًا هو ما حدَث؛ حيث عزَّزت النتيجة السلبية للبحث عن حياة خارج كوكب الأرض تراجُع الاهتمام الجماهيري وتمويل الدولة لرحلات الفضاء التي تلَتْ سباق القمر.9

ومع ذلك، استمرَّ افتتان الجماهير بالحياة خارج كوكب الأرض، مما أدى إلى التحوُّل في الموقع المُتصوَّر للحياة الذكية إلى الفضاء بين النجوم والأنظمة النجمية الأخرى. في بداية الحرب الباردة، عندما كان يُنظَر إلى الأجسام الطائرة المجهولة على أنها كائنات فضائية، تحدَّثت الصحافة والجمهور غالبًا عن «رجال المريخ». وعندما وأد استكشاف الفضاء كلَّ أملٍ في وجود حياة ذكية في النظام الشمسي، بل حتى في وجود أي حياةٍ تتجاوز الكائنات الحية البسيطة، تحوَّل تركيز الثقافة الفرعية للأجسام الطائرة المجهولة والخيال العلمي السائد إلى السفر بين النجوم. لم تكن فكرة جديدة، لكنها سرعان ما أصبحت محطَّ الاهتمام الرئيسي لتمثيل كيفية مواجهة البشر للكائنات الفضائية، لا سيما في الأفلام — سواء كانت لدَينا تلك القدرة التكنولوجية أو لدَيهم أو كانت لدى كِلَينا. أظهر ستانلي كوبريك في عام ١٩٦٨ في فيلمه «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» («٢٠٠١: أَ سبيس أوديسي») وستيفن سبيلبيرج في فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» («كلوز إنكونترز أوف ذا ثيرد كايند») عام ١٩٧٧ وفيلم «إي تي» في عام ١٩٨٢ الكائنات الفضائية كشخصياتٍ طيبة تأتي إلى كوكب الأرض، في حين جسَّد المسلسل التليفزيوني والسينمائي «رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») تحوُّل الاستكشاف البشري إلى الفضاء المُتخيَّل بين النجوم. وفي الوقت نفسه ظهرت رُؤًى أكثر تشاؤمًا للحياة خارج كوكب الأرض، كما في فيلم «إيليَن» (١٩٧٩) للمخرج ريدلي سكوت، وأجزائه اللاحقة، والتي كانت بمثابة الوجه الآخر للعُملة نفسها.

أثَّر التوسُّع في الأدوات والإمكانيات الفلكية أثناء الحرب الباردة على الثقافة الفلكية والمفاهيم العلمية للحياة خارج الأرض أيضًا. كما أدَّى توفُّر التليسكوبات الراديوية الكبيرة إلى قيام عالِم الفلك الأمريكي فرانك دريك باقتراح الاستماع إلى النجوم القريبة بحثًا عن أي إشاراتٍ لحضاراتٍ خارجية. وولَّدت هذه الفكرة مجالًا فرعيًّا جديدًا؛ ألا وهو البحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض (SETI)؛ وأصبح كارل ساجان واحدًا من أكثر المُدافعين عن هذه الفكرة ومن أكثر مُروِّجيها إقناعًا، تمامًا كما كان عندما كان يبحث عن حياةٍ في النظام الشمسي. أصبحت رواية الخيال العلمي الخاصة به التي تتناول البحث عن الذكاء خارج الأرض: «الاتصال» («كُونتَاكت»، ١٩٨٥)، فيلمًا من أفلام هوليوود في عام ١٩٩٧، وهذا الفيلم عرَّف الجمهور العالمي بهذه الفكرة بطريقةٍ لم تُحقِّقها التغطية الإعلامية. وكان لبحث علم الفلك المُحترف عن أدلة على وجود أنظمة كوكبية أخرى تأثير أكثر وضوحًا، ولا سيما بعد الإنجاز التكنولوجي الذي تحقَّق في التسعينيَّات وأدَّى إلى الكشف الفعلي عن كواكب خارج المجموعة الشمسية. وقد عزَّز الاكتشاف اللاحق لآلافٍ من الأنظمة، ولا سيما من خلال تليسكوب كيبلر الفضائي التابع لوكالة ناسا، الرسالة القائلة بأنَّ هناك الكثيرَ من المواقع المُحتمَلة للحياة خارج كوكب الأرض.10

وما زال البحث عن الحياة جاريًا، وما زال يشكِّل دعمَ الجماهير لبرامج الفضاء ودعمَهم الأوسع للثقافة الفلكية. وقد أعاد علم الأحياء الفلكي إحياء البحث في النظام الشمسي من خلال التأكيد على أشكال الحياة الغريبة على الأرض وكيف يمكن أن تنطبِق على مواقع جديدة، مثل المُحيطات الموجودة تحت سطح الأقمار الجليدية للمُشتري وزحل. وقد كانت الحياة هي السياق العلمي عندما استُؤنِفَ برنامج المريخ الأمريكي في نهاية التسعينيَّات باستراتيجية «اتبع المياه» — على الرغم من أنَّ الأمل قد انحسَر في العثور، في أحسن الأحوال، على كائناتٍ وحيدة الخلية تحت الأرض أو أحافير لها في الصخور. وقد عكست الأفلام الحديثة هذه المهام (على سبيل المثال، فيلم «تقرير أوروبا» («يوروبا ريبورت»، ٢٠١٣) أو «الحياة» («لايف»، ٢٠١٧)) على الرغم من أنَّ الكائنات والأوساط بين النجمية لا تزال مُهيمِنة على الترفيه الجماهيري، وغالبًا ما يُراعَى الحدُّ الأدنى لقوانين الفيزياء. وهكذا، وبغضِّ النظر عن النتائج الفعلية لبعثات الفضاء وعلم الفلك، تظل الكائنات الفضائية موضوعًا منتشرًا في الثقافة الفلكية.

سباق الفضاء والإعجاب الشديد بروَّاد الفضاء

كان أول قمرَين صناعيَّين من نوع «سبوتنيك» بالفعل موضوعًا للأغاني والقصائد، ولا سيما الكلبة لايكا المسكينة التي كانت على متْن القمر الصناعي «سبوتنيك ٢». لكن الظهور السريع لرحلات الفضاء المأهولة، المدفوعة بسباق الفضاء، جنبًا إلى جنبٍ مع القومية وتَعرُّف الجمهور بشكلٍ أكبر على ما يُمكن أن يَمُرَّ به البشر في الفضاء، يعني أنَّ الإنتاج الثقافي المُرتبِط ببرامج الفضاء الحقيقية أصبح يتمحوَر بأكمله تقريبًا حول روَّاد الفضاء. وقد أضحى رُوَّاد الفضاء السبعة على مَتْن المركبة «ميركوري» أبطالًا فور إعلان ناسا اختيارهم في أبريل ١٩٥٩؛ إذ كان على رُوَّاد الفضاء أن ينتظروا الشهرة حين تحين رحلتهم الأولى، هذا إذا حصَلوا على واحدة، فتلك كانت السرِّية التي هُوِس بها السوفييت. وضع الجانبان الأمريكي والسوفييتي مبادئ مُتوازية؛ إذ كان روَّاد الفضاء طيَّارين بطوليِّين، ذكوريِّين في الغالب، ومواطنين نموذجيِّين، وآباء، ووطنيين، ومؤمنين حقيقيِّين بأنظمتهم السياسية. وبوصفهم مُمثلين دوليِّين، كانوا مبعوثين للسلام، على الرغم من أنهم كانوا في الغالِب ضباطًا في الجيش (في المجموعات الأولى). كانت هذه المبادئ مدعومة من الحكومة، لكنها كانت حقيقيةً أيضًا بالنسبة إلى العديد من الناس في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وحلفائهم.11
كان النجاح الجماهيري لروَّاد الفضاء الأمريكيين يصِل إلى درجة أن الطيار المقاتل/التجريبي أصبح على الفور صورة رائد الفضاء البطل في السينما والتليفزيون الأمريكي، مُزاحمًا بذلك التجسيدات السابقة للعلماء والمُغامرين وغيرهم. ومن بعد هذا الوقت (وإلى حدٍّ بعيد من قبله أيضًا) كان العلماء الذين يظهرون في حبكات الأفلام، يَميلون إلى أن يكونوا مهووسين أو مُعرقَلين أو غير أكْفاء أو أشرار. وعندما اختارت ناسا روَّاد فضاء من العلماء الحقيقيِّين بدءًا من عام ١٩٦٥، وجدوا دورَهم هامشيًّا، حيث كان روَّاد الفضاء الطيَّارون يُسيطرون تمامًا على المهام. ولم يصعد إلى الفضاء إلا أربعة فقط قبل عصر مكُّوك الفضاء.12
في الاتحاد السوفييتي، كان رُوَّاد الفضاء ورثةً للطيارين الأبطال السابقين، الذين حقَّقوا مآثر مختلفة لستالين في الثلاثينيات. ومع ذلك، لم يؤكد إعلام الدولة على دورهم كطياريين بدرجةٍ كبيرة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنَّ الحزب الشيوعي كان يكرَه الفردية، وجزئيًّا إلى أنَّ روَّاد الفضاء السوفييت كانوا طيَّارين مُقاتلين صغار السن وعديمي الخبرة نسبيًّا — ومن ثَم صمَّم كوروليف ومهندسوه مركبة فضائية أوتوماتيكية بالكامل حيث كان لدى رائد الفضاء القليل من القُدرة على التحكم. واضطُرَّ روَّاد الفضاء في وقتٍ لاحق إلى خَوض صراعٍ خلف الكواليس من أجل مزيدٍ من التحكم؛ حيث أصبحت المركبات أكثر تعقيدًا. كما وجدوا أنفسهم يُواجهون تحدِّيًا من قِبَل فئةٍ جديدة من روَّاد الفضاء المُهندسين، غالبًا ما يتمُّ اختيارهم من مكتب تصميمات كوروليف.13
ووجد روَّاد الفضاء الذين طاروا أنفسهم عالِقين في مُعضلة. وبما أن الدعاية السوفييتية كانت تُروِّج لأنَّ كلَّ المهام التي أُنجِزَت في الفضاء كانت ناجحةً وكل شيء يسير وفق خُطة مُسبقة، وكل تفاصيل المركبات الفضائية والصواريخ من أسرار الدولة، فقد أُجبِروا على التلاعب أو عدَم الأمانة أمام الجماهير، في الوقت الذي كانوا يُعتبَرون نماذج تُجسِّد «الصدق الاشتراكي». وقد بدأ هذا مع جاجارين، الذي اضطُرَّ إلى التستُّر على إعادة دخوله المروِّعة بسبب فشل المعدَّات، بالإضافة إلى قذفِه وهبوطه بمظلَّةٍ لأنَّ مركبة «فوستوك» الفضائية لم تستطع أن تُبطئ بما يكفي ليهبِط ركَّابها بأمانٍ على الأرض. وكانت قواعد الطيران الدولية تتطلَّب أن يهبط في مركبتِه لكي تُسجَّل هذه الرحلة كأول رحلةٍ فضائية مأهولة، لذلك أمر السوفييت جاجارين بالكذِب بشأنها. وأصبح بطلًا قوميًّا وعالميًّا، وقام بجولةٍ في العديد من البلدان، وألقى العديد من الخطابات للحزب، ومع ذلك كان عليه تحمُّل جميع الأكاذيب التي حُوصِر هو وزملاؤه فيها. وربما يكون هذا التوتُّر والضغط النفسي قد أسهم في إدمانه الكحول وعلاقاته النسائية المُتعدِّدة، على النقيض تمامًا من الصورة التي رسمَها له الجمهور.14
إنَّ سلسلة النجاحات التي ساقتها الدعاية السوفييتية من عام ١٩٦١ إلى عام ١٩٦٥ لم تُهيِّئ الجمهور السوفييتي للوفَيات المفاجئة والكوارث المُفجِعة التي وقعت في وقتٍ لاحق من هذا العقد، والتي انتهت بالفشل في مواكبة أيٍّ من النجاحات التي حقَّقها روَّاد فضاء المركبة «أبولُّو» في القمر. كان ثمَّة ثلاث وفَيات صادمة بشكلٍ خاص؛ ألا وهي: وفاة سيرجي كوروليف على طاولة العمليات في يناير ١٩٦٦ في سنِّ التاسعة والخمسين (كشف نعيُه أنه كان حتى الآن كبير المُصمِّمين المجهول ولكن المشهور في الوقت ذاته)، ووفاة فلاديمير كوماروف أثناء تحطُّم مركبته الفضائية «سويوز ١» في أبريل ١٩٦٧، ووفاة يوري جاجارين في حادث طائرة تدريب في مارس ١٩٦٨. فيما يتعلَّق بالوفاة الأخيرة على وجه الخصوص، تداول المواطنون السوفييت نظريات المؤامرة والشائعات في مجتمعٍ غارق فيها بالفعل بسبب عدَم وجود صحافة نزيهة. أما «الحماس الكوني» الحقيقي الذي انتشر على نطاقٍ واسع في أوائل الستينيات، عندما كان الاتحاد السوفييتي يبدو الأول في العالم، ولم يكن المجتمع الشيوعي المِثالي بعيدًا جدًّا، فقد تحوَّل إلى تشكُّك سنوات ركود الاتحاد السوفييتي السابق، وأخيرًا إلى الحنين القومي الروسي إلى الأيام الخوالي في الفضاء. أما بالنسبة إلى برنامج الفضاء المأهول الفعلي، فإنَّ التحوُّل إلى محطات الفضاء في السبعينيَّات وما بعدها لم يستطع ببساطةٍ الحفاظَ على نفس المستوى من الاهتمام لدى الجمهور، على الرغم من أنها كانت تُثير الاهتمام أحيانًا على نحوٍ متقطِّع. مثل روَّاد الفضاء الأمريكيين في عصر المكوك، تمَّ تبجيل رواد الفضاء عندما يتمُّ التعامُل معهم كأفراد، لكنَّ أسماءهم أصبحت غير معروفة للجمهور.15
بدأ التحرُّر من وهم برنامج الفضاء المأهول في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات أيضًا، ويرجع الفضل في ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أعمال الشغب الحضرية والفقر والجريمة والانغماس في مُستنقع فيتنام، مما أدى إلى تزايُد المقاومة لإنفاق أموال الضرائب على الفضاء، وتزايد عدَم الثقة بالنُّخب التكنوقراط والسياسيين. وقد عكسَت سنة إنجاز «أبولُّو» المجيدة من أواخر عام ١٩٦٨ إلى أواخر عام ١٩٦٩ مؤقتًا تراجع الدعم الشعبي لوكالة ناسا، لكنها لم تُغيِّر المسار العام. وفي أعقاب «أبولُّو ١١» مباشرةً، أظهرت استطلاعات الرأي دعمًا ضعيفًا لإجراء المزيد من عمليات الهبوط على سطح القمر، ناهيك عن البرامج الطَّموحة مثل الذهاب إلى المريخ. ونشأت في ذلك الوقت نظرية المؤامرة التي تقول إنَّ عمليات الهبوط تلك كانت مُزيَّفة، مما يعكس إيمانًا بكذِب الحكومة الفيدرالية في عهد فيتنام وووترجيت. واستعانت إدارة نيكسون بالرأي العام وخفَّضت ميزانية وكالة ناسا أكثر، مُبقيةً على المكوك فحسب. ومن ثَم تحوَّلت الوكالة اليائسة إلى التأكيد على النتائج الثانوية لأبحاث الفضاء وإسهامها في تنظيف البيئة. في الثمانينيات، ساعدت الرحلات المكوكية المُبكرة في إعادة بناء الفخر الوطني والاهتمام برحلات الفضاء، لكن روَّاد الفضاء ظلُّوا مجهولين، فيما عدا عددًا قليلًا وهم الذين حقَّقوا إنجازاتٍ بارزةً مثل سالي رايد، التي أصبحت في عام ١٩٨٣ أول امرأةٍ أمريكية تصعد إلى الفضاء.16
كان الجنس، وكذلك العِرق، يُعقِّدان دائمًا الصورة الفائقةَ الذكورةِ لرائد الفضاء الطيَّار البطل. وقد تعارَض رفض وكالة ناسا للطيَّارين من النساء في أوائل الستينيَّات مع رحلة فالنتينا تيريشكوفا في عام ١٩٦٣، ممَّا جعل الولايات المتحدة تتطلَّع إلى الوراء إلى دُعاة الحركة النسائية في الداخل والخارج، على الرغم من أنها لم تُغيِّر الدعم الذي تقدِّمه لوكالة ناسا بشكلٍ ملحوظ حتى الآن. وعانت وكالة ناسا من مشكلة علاقاتٍ عامة أخرى في سلاحها الأبيض بالكامل؛ إذ فشل المرشَّح الأسود المُحتمَل الذي دفعته إدارة كينيدي في التقدُّم في مدرسة الطيران التجريبي للقوات الجوية إمَّا بسبب إمكانياته المحدودة أو بسبب التمييز، بناءً على مَن تستمِع له. وقد أسهم عدَم وجود روَّاد فضاء سُود في الانخفاض الحاد في الحماس للفضاء في مجتمع الأمريكان الأفارقة في أواخر الستينيَّات، على الرغم من أنَّ الدافع الأساسي لهذا الانخفاض كان هو الشعورَ بأنَّ الأموال كانت تُبَدَّد على القمر عندما كان من المُمكن إنفاقها على الفقراء والمدن الداخلية (الأحياء ذات الدخل المنخفِض) — وهو شعور يشارك فيه معظم الليبراليين واليساريين البِيض.17
عندما سمح برنامج المكوك بإعادة فتح وكالة ناسا لتجنيد روَّاد الفضاء في منتصف السبعينيات، كان ذلك في بيئةٍ سياسية وثقافية وقانونية مختلفة. كان التمييز على حسب الجنس والعِرق الآن قد أصبح غير قانوني رسميًّا، ممَّا أثمر عن اختيار أول روَّاد الفضاء من النساء والسُّود في عام ١٩٧٨. ومع ذلك، كان ردُّ فِعل وسائل الإعلام على أول رائدة فضاءٍ يُعتبَر جنسانيًّا ويفتقر إلى الحساسية إلى حدٍّ بعيد، وكان المهندسون الذكور في وكالة ناسا في كثيرٍ من الأحيان جهَلَةً إلى حدٍّ ما.18
من ناحيةٍ أخرى، ألهمت رحلة تيريشكوفا الكثير من النساء والفتيات في الكتلة الشرقية، ولكن الدِّعاية حول كيف أظهرت تلك الرحلة مساواة المرأة بالرجل في المجتمعات الاشتراكية تمَّ تقويضها بواسطة الإحجام عن إرسال النساء إلى الفضاء لمدة تسعة عشر عامًا. وأرسل السوفييت أخيرًا سفيتلانا سافيتسكايا إلى الفضاء في عام ١٩٨٢ بِهدَفٍ واضح وهو منع سالي رايد من أن تُصبح ثانيَ امرأةٍ تصِل إلى الفضاء. بمرور الوقت، قامت برامج المكُّوك والمحطة الأمريكية والسوفييتية/الروسية بتطبيع التنوُّع الجنسي والعِرقي للطواقم (جزئيًّا من خلال إطلاق أفراد الطاقم مِن العديد من الدول الأخرى)، ولكن حتى يومِنا هذا لم تستبدل نموذج رائد الفضاء الطيَّار الذكوري في الثقافة الشعبية.19 ولا يزال أيضًا الارتباط في أذهان العامَّة بين رحلات الفضاء المأهولة و«برنامج الفضاء» مُنتشرًا حتى الآن، لدرجة أنه عندما انتهى برنامج المكُّوك في عام ٢٠١١، اعتقد العديد من الأمريكيين أنَّ وكالة ناسا قد أُغلِقَت.

الكوكبة والتطوُّر الكوني

إنَّ التأثير الأكثر عمقًا لرحلات الفضاء على الوعي والثقافة، وربما يكون الأصعب من حيث الإثبات، هو كيف شكَّلت الصور الفضائية والاكتشافات العلمية إدراكنا لكوكبنا ومكاننا في الكون. إنَّ القليل من المنح الدراسية المُتوفِّرة حول هذا الموضوع كان حول الصور التي التقطتها «أبولُّو» للأرض وتشكيل ونشر الصور التي التُقِطت من قِبَل تليسكوب هابل الفضائي. وثمَّة سؤال ذو صلة، ولكن من الصعب الإجابة عنه؛ ألا وهو: ما مدى تأثير الصور والمعرفة الفضائية على تغيير الإدراك البشري لهدَفِه ومكانه في الكون — وهو سؤال يُثار بطبيعة الحال في مجال الدين والفلسفة.

لا يزال الارتباط في أذهان العامة بين رحلات الفضاء المأهولة و«برنامج الفضاء» منتشرًا حتى الآن، لدرجة أنه عندما انتهى برنامج المكوك في عام ٢٠١١، اعتقد العديد من الأمريكيين أنَّ وكالة ناسا قد أُغلِقت.

وقد نُسِب الكثير إلى صورتَين التقطَتْهما «أبولُّو» واكتسبتا أسماءً غير رسمية بسبب انتشارهما في كل مكان: «شروق الأرض»، التي التقطها روَّاد فضاء «أبولُّو ٨» من فوق القمر في ديسمبر ١٩٦٨، و«الأرض الكاملة» (ويُطلَق عليها أيضًا «الرخام الأزرق») وهي صورة التقطتها «أبولُّو ١٧» من بعد الإطلاق في ديسمبر ١٩٧٢ وتُظهِر جانب النهار المُضاء بالكامل مع التركيز على أفريقيا والجزيرة العربية. لم تكن هاتان الصورتان هما أولَ صور تُلتقَط للكوكب في الفضاء، بأي حالٍ من الأحوال، كما لم تكونا أول تصوُّرات للأرض؛ فقد وصف الكُتَّاب اليونانيون الرومانيون وكُتَّاب عصر النهضة والعصر الحديث المُبكر ما قد تبدو عليه. وتضمَّنَت كتُب الفلك الشهيرة رسومًا توضيحية للأرض منذ وقتٍ مبكر للغاية يصِل إلى القرن التاسع عشر. وقد انبهر الكثيرون بالمناظر الفاتنة التي التقطَتها بالونات الستراتوسفير والصواريخ التجريبية والبعثات المأهولة المبكرة التي تُظهِر السحاب والمناظر الطبيعية والأفق المُنحني. في عام ١٩٦٦، التقطت المركبة الفضائية «لونار أوربيتر ١» أول صورة ﻟ «شروق الأرض» والتقطَ القمر الصناعي لتكنولوجيا تطبيقات ناسا صورةً قريبة من صورة «الأرض الكاملة» من المدار الجغرافي الثابت للأرض. ومع ذلك، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إنكار التأثير الفريد لصور «أبولُّو» الواضحة والملوَّنة بالكامل، مقارنةً بالصور المُشوَّشة بالأبيض والأسود؛ وما أضاف إلى جاذبية هذه الصور، هو أنها التُقِطت بواسطة بشَر وليس آلات. لم تتحوَّل كل من «شروق الأرض» و«الأرض الكاملة» إلى أيقونات إعلامية فحسْب، بل أصبحتا أيضًا شائعتَين في اللافتات وإعلانات الحركات البيئية في السبعينيات وما بعدَها. في الواقع، كثيرًا ما أرجعَت وسائل الإعلام الغربية الفضل في ظهور الحركة البيئية الحديثة إلى صور «أبولُّو» لكوكب الأرض الهشِّ الذي يفتقِر إلى الحدود، متجاهلةً أصول تلك الحركة وتاريخَها السابق. ومع ذلك، فإن وجود الصورتَين في كل مكانٍ دليل على أنهما قد غيَّرتا بطريقة ما الثقافةَ الفلكية والإدراك البشري.20
fig10
شكل ٥-٢: في ٢٤ ديسمبر ١٩٦٨، أثناء أول بعثةٍ بشرية تصِل إلى القمر، التقط رائد فضاء المركبة «أبولُّو ٨» ويليام أندرس الصورة الفضائية الأكثر تأثيرًا على الإطلاق. وسرعان ما أطلق عليها اسم «شروق الأرض»، وانتشرت انتشار النار في الهشيم؛ إذ إنها تُمثِّل بالنسبة إلى الكثير جمال كوكب الأرض المنعزل وهشاشته في ذلك الكون الفسيح. وكانت هذه الصورة وغيرها من الصور التي التقطتها «أبولُّو» جوهريَّتَين في «كوكبة» الهوية البشرية في عصر الفضاء (المصدر: وكالة ناسا).
قبل سنوات من «سبوتنيك»، أطلق الفيلسوف الفرنسي بيير تيلار دي شاردان على عملية التصالح مع كون وطننا مجرد كوكب واحد في الفضاء اسم «الكوكبة». وأنا أتفق مع جيبرت في أن هذا المفهوم يمكن تمييزه على نحوٍ مفيد عن مفهوم العولمة.21 إنَّ دمج ثقافات العالم واقتصاداته وأنظمته الحكومية يُشكِّل تصوُّرات الإنسان لكوكب الأرض أيضًا — ولكن إلى حدٍّ كبير كمسائل تتعلق بالهوية كأعضاءٍ في الجماعات الإثنية والوطنية في مقابل الإنسانية المشتركة. إنَّ رؤية الأرض في الفراغ، وهي جزءٌ من كونٍ شاسع لا يمكن سَبرُ أغواره، وإدراكُ أنها المكان الوحيد الذي نعرفه يدعم الحياة، على الأقل الحياة التي نعرفها حتى الآن، يخلق تَجرِبة عاطفية مختلفة تمامًا عن تخيُّل العالم كمجموعةٍ مترابطة من المجتمعات البشرية، شئنا أم أَبَينا.
والسؤال ذو الصِّلة هو تأثير المعرفة المتزايدة بالمسافات الشاسعة، ومقياس الوقت، وتطوُّر الكون، وهو سؤال غالبًا ما يتضافر مع المناقشات حول احتمالية وطبيعة الحياة خارج الأرض. كان كارل ساجان، في أعماله الجماهيرية ومرَّات ظهوره العديدة في التليفزيون في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، مؤثرًا بشكل خاص في محاولته لخلق وعيٍ بمكاننا في الكون وكيف يرتبط بماضي الجنس البشري ومُستقبله. ونظرًا إلى رسوخه المعروف في علم الفلك، وفي الاستكشاف الآليِّ للكواكب، وفي شبكة العلماء المُهتمِّين بالبحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض، فقد قدَّم رحلات الفضاء في سياقٍ مختلف تمامًا عما قدَّمه دُعاة المستقبلية الفلكية من الجيل الأول؛ فقد أرادوا الدعوة إلى السفر إلى الفضاء باعتباره المستقبلَ الفوري والمرغوب للبشرية. أما ساجان فقد برز كمُروِّج للسفر إلى الفضاء بعد أن فقد سباقُ الفضاء زخَمَه وفقدت رحلات الفضاء المأهولة بعضَ بريقها. كان ساجان مهووسًا منذ الطفولة بالحياة خارج كوكب الأرض، كما بحث في الأصول الكيميائية والبيولوجية للحياة، وأيضًا في علوم الكواكب السائدة، ومن ثَم فقد قدَّم الإنجاز البشري لرحلات الفضاء في سياق مليارات السنين من «التطور الكوني». وقد نشأ هذا المفهوم في منتصف القرن العشرين عندما ربط العلماء والفلاسفة نظرية نشأة الكون من خلال الانفجار العظيم (الذي أثبتت الأدلَّة الفلكية التجريبية صحَّته في الستينيات) بنظريات السدم التي كوَّنَت النجوم والكواكب، ونظرية أصول الحياة، ونظرية التطوُّر الدارويني، في تفسيرٍ واحدٍ ضخم وطبيعي (وإلحادي ضمنيًّا) لتاريخ كلِّ شيء. وقد نجح ساجان في إقناع ملايين القرَّاء ومشاهدي التليفزيون بهذا المنظور الكبير في الولايات المتحدة، وفي العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وما وراء ذلك.22

هل هذا يعني أن التطوُّر الكوني أصبح عاملًا مؤثرًا في كيفية تخيل معظم الناس لمكانهم في الكون؟ بالنظر إلى الفهم الضعيف للعِلم حتى في الأجزاء المتميزة من العالم، وأيضًا بالوضع في الاعتبار استمرارية ورسوخ الديانات التقليدية في كل مكان، يبدو ذلك غيرَ مُحتمَل على الإطلاق، وعلى أي حال، ليس ثمَّة دراسات علمية تُثبت مثل هذه الفرضية بطريقةٍ أو بأخرى. ومع ذلك، لا يمكن الاستهانة بتأثير ساجان على الثقافة الفلكية وإدراك الإنسان لذاته، نظرًا إلى شعبيته، ولا بتأثير كتاب العلوم والعلماء الآخرين الذين تبِعوه، مثل نيل ديجراس تايسون.

بمجرد إصلاح تليسكوب هابل الفضائي في عام ١٩٩٣، أضافت صوره بُعدًا آخر لتخيُّل الجماهير للكون. واستجاب العلماء في معهد علوم تليسكوب الفضاء المموَّل من وكالة ناسا إلى الاهتمام الجماهيري المكثَّف من خلال تأسيس مشروع تراث هابل، لمعالجة الصور التي من المُحتمَل أن تكون ذات أهمية خاصة للجمهور غير المتخصص. واستخدم الفريق تقنيات مثل الألوان الزائفة والاعتبارات الجمالية لاتخاذ خياراتٍ حول كيفية عرض البيانات الرقمية. ويبدو أنَّ تأثيرها هو إنتاج لوحاتٍ رومانسية وصور فوتوغرافية للمناظر الطبيعية، لا سيما في الغرب الأمريكي.23 عالج المشروع الصور لإبراز نقاطٍ علمية مُعينة بينما أثار إعجاب الجمهور بجمال الكون. وقد وسَّعت وكالة ناسا هذه العملية من خلال الجمع بين الصور من المراصد الكبرى المختلفة، وتراكُب بيانات الأشعة السينية أو الأشعة تحت الحمراء لنفس الأجسام من أجل جعل المحتوى العلمي أكثر جاذبية ومفهومًا بدرجة أكبر. ويبدو أن الرغبة في مثل هذه الصور، كما يتَّضح من شعبية صور التليسكوب الفضائي في وسائل الإعلام، وعلى الإنترنت، وفي الكتُب، تُشير إلى أن هذه الجهود قد وصلت إلى جمهورٍ مُرحِّب، وتجاوزت الهدف المرجوَّ منها، وهو بيع برامج وكالة ناسا.

هل هذه الأمثلة المعزولة إلى حدٍّ ما، والأمريكية في أغلبها، تُظهر أن البشرية قد تمَّت «كوكبتها» وحقَّقت وعيًا بالتطور الكوني؟ بصعوبة. ومع ذلك فإنها تُظهِر أن صور الفضاء قد شكَّلَت الثقافة الفلكية وخيال الجمهور على الأقل في العالَم الناطق باللغة الإنجليزية، وربما أيضًا في معظم أنحاء العالم. ولكن إثبات ما هو أبعد من ذلك، يحتاج إلى المزيد والمزيد من الدراسة.

عولمة الثقافة الفلكية

إنَّ وصف الانتشار العالمي للثقافة الفلكية غير المُتجانِسة والمتعددة الأوجه لهوَ أمر شديد الصعوبة، بالنظر إلى قلة ما كُتِب عن أي شيءٍ سوى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وأوروبا. ومع ذلك، يُمكننا أن نُناقش بإيجازٍ شديد الانتشارَ العالمي لدعوة الفضاء، وصور رحلات الفضاء، والخيال العلمي.

كان الخيال العلمي والمُستقبلية الفلكية في البداية ظاهرة شِبه أوروبية–أمريكية ذكورية تقريبًا، اعتُبِر فيها التسلسُل الهرَمي الاجتماعي والعِرقي والجنساني أمرًا مُسلَّمًا به في أغلب الأحيان. وكان «غزو الفضاء» في المستقبل يُوضَع في سياق تاريخ متصوَّر تقليديًّا من الاستكشاف العالمي الأوروبي والاستيطان الغربي والتفوُّق التكنولوجي. تركَّزَت حركة الفضاء المبكِّرة بشكل كبير في روسيا/الاتحاد السوفييتي، والنمسا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، نظَّمت مجتمعات أوروبا الغربية أول مؤتمرٍ دولي للملاحة الفضائية (١٩٥٠) والاتحاد الدولي للملاحة الفضائية (١٩٥١)، ثُم سرعان ما دمجت التمثيل الأمريكي والسوفييتي. ولكن في أعقاب «سبوتنيك»، ظهرت المجتمعات المؤيِّدة في جميع أنحاء العالم، بالتزامن مع برامج فضاء مُتواضِعة ومُوسَّعة في بعض الأحيان. وأرسلت القوى العظمى مركبات الفضاء وروَّاد الفضاء، بالإضافة إلى المنشورات والأفلام والمَعارض، إلى القارات كافة، كجزءٍ من صراعها العالمي من أجل التأثير. وخرج مواطنو أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بأعدادٍ غفيرة لجولات المركبات الفضائية وروَّاد الفضاء؛ وكثيرًا ما كانوا يرون إنجازات الفضاء على أنها ملك للإنسانية بأسْرِها، وليست فقط ملكًا لدولة واحدة أو كتلة من كُتلتَي الحرب الباردة.24
وما يَعنيه ذلك للثقافة الفلكية في تلك البلدان والقارات يحتاج إلى دراسة. كتمرين فكري، أودُّ أن أُقارن بين الظروف المُحيطة بنشر أفكار وصور رحلات الفضاء في اليابان والصين، وهما دولتان آسيَويَّتان سرعان ما أصبحتا قوَّتَين مهمتَين في مجال الفضاء. اندمجت اليابان الرأسمالية الديمقراطية في فترة ما بعد الحرب في الغرب وبَنَت برنامجها الفضائي بالتعاون مع الولايات المتحدة وجزئيًّا من خلال مؤسَّساتها الخاصة، مما أدَّى إلى برنامج فضائي مأهول استخدَمَ الصواريخ الأمريكية والروسية لنقل روَّاد الفضاء اليابانيين. استوردت ثقافة اليابان المفتوحة أدبًا وقصص خيالٍ علمي وبرامج تليفزيونية وأفلامًا عن الفضاء من أوروبا وأمريكا، كما أنتجت أخرى خاصَّة بها. وعلى النقيض من ذلك، طوَّرت الصين الشيوعية برنامجًا فضائيًّا عسكريًّا سِرِّيًّا على النموذج السوفييتي، لكنها فتحت مجتمعها بعد الثمانينيات من القرن الماضي أمام اقتصادٍ رأسمالي جزئي وتدفُّق خاضع للسيطرة، ولكنه لا يزال أكثر حرية، للمعلومات والسياحة والترفيه عبر حدودها. ومن أجل بناء القدرة العلمية والتكنولوجية والتدليل على تلك القدرة على النطاق الدولي، أنشأت الحكومة برنامجًا مأهولًا للفضاء ثم برنامجًا آليًّا للقمر والمريخ. وظلَّت الدعاية والمعلومات الحكومية حول الفضاء محوريةً بالنسبة إلى الثقافة الفلكية الصينية في مجتمعٍ لا يزال يسيطر عليه الحزب سيطرةً مُحكَمة. ولكن بعد أنْ أطلقت الصين أول رائد فضاءٍ في أكتوبر ٢٠٠٣، أصبح مشهورًا على النطاق الوطني في ظلِّ ثقافةٍ إعلامية جديدة حطَّمت حدود نموذج البطل الشيوعي القديم.25 سمح الانفتاح الاقتصادي والثقافي أيضًا بدخول الخيال العلمي الفضائي الغربي، ولا سيما أفلام مثل سلسلة «رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») إلى السوق الصينية، تمامًا كما دخلت إلى السوق اليابانية في وقتٍ سابق. وعلى الرغم من اختلاف المُجتمَعَين حتى الآن، فإنَّ أمركة وعولمة الترفيه والثقافة الشعبية قد أنتجت درجةً من التقارب في أنواع صور رحلات الفضاء التي تصِل إلى جمهورها.

يُشير الانتشار العالمي للأفلام والحلقات التليفزيونية الهوليوودية التي تتضمَّن موضوعاتٍ عن الفضاء إلى أنها أصبحت الآن واحدةً من أهم الوسائل التي تصل بها صور رحلات الفضاء إلى جمهور العالم بأسره، تليها الأخبار والتغطية الإعلامية الشائعة للأحداث أو إنتاج صور البعثات الفضائية الحقيقية. وهذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أنَّ الثقافة الفلكية قد أصبحت موحَّدة عالميًّا. وبالنظر إلى أنه حتى في نطاق البلد الواحد، فهي «مجموعة غير مُتجانِسة من الصور والأعمال الفنية ووسائل الإعلام والمُمارَسات التي تهدُف جميعها إلى إسباغ معنًى على الفضاء الخارجي.» على حدِّ تعبير جيبرت مرة أخرى، فإن مثل هذه النتيجة يمكن تخيُّلها بصعوبة. ما يمكن للمرء أن يقوله هو أنه في حين أنَّ التمثيلات الثقافية لرحلات الفضاء، الواقعية والخيالية، كانت في يومٍ من الأيام تقتصر تقريبًا على المجتمعات الأوروبية الأمريكية المُتقدِّمة، إلا أنها أصبحت الآن ظاهرة عالمية.

الخلاصة

مِن أصولها في الخيال العلمي والدعوة المُبكِّرة إلى الفضاء، نمت الثقافة الفلكية لتُصبح ترسانة كاملة من المنتَجات والخطابات والأجناس الأدبية الوطنية وعبر الوطنية (ربما يجِب أن نتحدَّث عنها بصيغة الجمع وليس المفرد: الثقافات الفلكية). من بين أكثر سِماتها الجديرة بالاهتمام اعتقاد مؤيدي المُستقبلية الفلكية أنَّ رحلات الفضاء تُمثِّل مستقبل الجنس البشري (وقد قلَّ هذا التفاؤل ولكنه لم يَختفِ بعد سباق القمر)، وأنها سوف تؤدي إلى لقاءاتٍ مع كائناتٍ فضائية خارج الأرض (وهو اعتقاد يبدو أنه لم يُحبَط رغم الفشل في إيجاد أيِّ حياةٍ خارج كوكب الأرض)، وأنَّ رواد الفضاء هم أبطال (على الرغم من تزايد روتين رحلاتهم الفضائية). وأصبحت الصور الفضائية، ولا سيما صور الأرض، جزءًا لا يتجزَّأ من الثقافة العالمية بطريقةٍ قد تكون أسهمت في كوكبة الهوية البشرية وفَهم مكانة جنسنا البشري في التطوُّر الكوني.

وقد أسهمت كلُّ هذه العوامل في الحفاظ على الدعم العام لاستكشاف الفضاء الحكومي والخاص واستغلاله بعد نهاية الحرب الباردة، لا سيما في رحلات الفضاء المأهولة. لكن تراجُع التنافُس الدولي باعتباره القوة الدافعة لرحلات الفضاء قد أوضح حدود تأثير الثقافة الفلكية. لقد عجزْنا عن تحقيق حلم السيطرة على النظام الشمسي الذي كان دُعاة المستقبلية الفلكية وكُتَّاب الخيال العلمي يتوقَّعون تحقيقه، حتى مع وصول الروبوتات إلى كلِّ كوكب. ومع ذلك، يبدو أنَّ هذا الحلم لم يَمُت، وربما يساعد هذا على تفسير سبب بقاء الرحلات المأهولة للفضاء على جدول أعمال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وما بعده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤