الليلة الحادية عشرة

الأخوات الثلاث

زارني الروح الحائر وأنا أقرأ ديوان شعر، قال: أتقرأ الشعر؟ إنك إذن لا تزال مُتعلقًا بالخيال. قلت: كيف ذلك؟ قال: إن الشعر صُنْع الغاوين وفتنة أرباب النفوس الخفيفة؛ لأنه لا يكون خاليًا من ذِكر الحُب، والحُب حُلم فارغ مُزعج. قلت: كيف تقول هذا وأنت في عالَم الأرواح، عالم الحُب والهناء الأبدي؟ قال: بل كيف تقول إنني في عالَم الحُب والصفاء الأبدي وأنت تعلَم أنني رُوح حائر أنشُد الحقيقة بعد الموت كما كنتُ أنشدها قبله؟ قلت: وهلا تلتمِس الحُبَّ أيضًا؟ قال: كلَّا، إنني عرفتُ ثلاث أخوات فلمَّا رأيتُ طبائعهن وبانت لي حقيقة المرأة أعرضتُ عن الخيال وهِمتُ بالحقيقة. قلت: حدِّثني حديث الأخوات الثلاث.

قال: الأخت الكبرى امرأة متزوجة وليس للحُسن في خُلقها حسنة إلا أنَّ مجموعها لا يُنفِّر النظر، وتقاطيع وجهها إذا أُخِذَتْ جُملة قد تخدع المشاهد عند الوهلة الأولى، ولها من حين إلى حين نظرة حسنة يُسميها العرب نظرة غنج ويصِفها الإفرنج باللِّين، فيقولون إنها ذات نظرة «لينة»؛ لأنهم يرون انكِسار العين فيفهمونه، ولكنهم لا يتصبَّبون فيه، إنني لم أرها بكرًا، ولكنني أظنُّ الزواج قد خلع عليها حلَّةً لا يمنحها إلا من يدخُلنَ فناءه.

أبو الثلاث إيطالي المَولد، وأمهنَّ فرنسوية من صميم فرنسا، فأخذتْها جدتها إلى إيطاليا في صباها وحبَّبتْ إليها السياحة، فانتبهت في نفس البنت عواطفُ كانت خامدة، وتحرَّك فيها العِرق الدساس، ففطنتْ إلى ما حولها من جمال الطبيعة، وقضت أيامًا طوالًا في كنائس بدوا وفلورنسا ومعابد جنوة ومقابرها، كانت خجولًا فتعلَّمَتِ الإقدام، ومُحبة لبيت أمها فمالت إلى الأسفار، وهُيِّئ لها أن تُسافر إلى بلاد الإنكليز فلم تتردَّد، واخترقت بحر المانش، وقضتْ بينهم ثلاث سنين، تعلَّمَت خلالها لُغتهم، وخالطتْ رجالهم ونساءهم، واطَّلعَت على كثيرٍ من دخائلهم، واستفادت من عشرتهم. ثم عادت إلى فرنسا، فتزوَّجَت من طالبٍ لم ينتَهِ بعدُ من دراسته، اكتسب حديثها طلاوة المنطق فهي ليست كغيرها من الفرنسويات، لا تأخذ القول على علَّاته، إنما تُمحِّص الآراء، ولا تُكثِر من الحديث، وهذه من نِعَم الإنكليز عليها. تعلَّمَت الرزانة في الأخلاق ونسيت الطيش والحدَّة، لا أظنُّها كانت طائشة في صباها، ولكن لم تكن لتصِل إلى الأناة والتؤدة التي بلغتْها في العشرين إلَّا نحو الأربعين.

تعلَّمَت أن الإنكليز يعملون ولا يقولون، وأن بعض الناس يستبيحون الخُبث للتستُّر، وأن ما يقترفونه في الخفاء تقشعِرُّ الأبدان من ذِكره في العلانية، فرأت أنَّ هذه وسيلة لا بأس بها وأنها تُنيل الغرَض وتحمي من المَلام. عرفتُ ذلك من حديثها، ولكنني لم أعلَم إلى أي مقدارٍ بلغ تطبيق العِلم على العمل في شئونها، إنما أعلم أنها قادرة على اللعب بزوجها كما يلعَب الإنكليز بكرة القدَم، وهي تُعامله كالطفل، وقد تجده أبسط من أطفال الإنكليز الذين كانت تتعهَّدهم؛ لأنها كانت مُربِّية. رأيتُ من حديثها أنها تعتبر ذاتها زوجةً إنكليزية لزوج فرنسوي — هي العقل المدبر وهو اليد العاملة.

قرأتْ معظم مؤلَّفات إميل زولا وهي تُلخِّصها كتابًا كتابًا أمام أُختَيها الصُّغرَيين بلا حياء، ولا تُخفي استحسانها لأبشع ما كتب الأستاذ الجليل، فيُخَيَّل لمُحدِّثها أنها رجل لا امرأة، وقد يكون زوجها جالسًا فلا يفهم أكثر ما تقول، وإذا تكلَّم المسكين أشفع كلَّ جملةٍ من حديثه بنظرةٍ إليها وبقوله: أليس كذلك يا زوجتي؟ فتجيبه: بلى، يا زوجي الصغير. إنها تتكلَّم الإنكليزية بتردُّد كما يسير الطفل في شهوره الأولى، ولكنها تُعير تلك اللغة الصُّلبة مرونةَ لسانها الجميل، إنها لم تقرأ كثيرًا من الكتُب، ولكنها قرأت لكثيرين من الإنكليز، رأيتُها يومًا وحيدةً ولم يكن معها زوجُها فلم تترك لحظة تمرُّ بدون ذِكر كلمة تخرج عن سياج الآداب من اللغة المحلية بين الطبقات الدنيا «أرجو»، فإذا سألتُها معنى ما تقول أطنبتْ في التفسير ولم تترك مجالًا لقائل، فكنتُ أشعر بأنها من النوع الذي يمرح في الأقذار ويستبيح ما لا يُستباح باسم الحرية، لقد أنقذَها الله بالزواج الذي منحها الصَّون المُصطنع والعفة المُفتعلة، ولستُ أدري ماذا كانت تكون حالها لو بقيت بدونه، وقد جمعت في طبيعتها مُيول الفرنسويات وخُبث جيرانهم؟

أظنها تعيش سعيدة وتُسعد زوجها إذا لم يمُت قبل الأوان، وإذا لم تَلْقَ في طريق الحياة من هو أجمع للصفات التي تستهويها. إنَّ زوجها يعيش معها على سفح بركان، ولكن كثيرًا ما تنمو على تلك السفوح جنَّات خُضر وحدائق.

الأخت الثانية لا تزال في عُرف الناس عذراء، وعُرف الناس أمر لا يُعَوَّل عليه كثيرًا، ولولا ذلك ما كتب مارسيل بريفو كتاب «أنصاف العذارى». إنها لا شكَّ فتاة جميلة ناضجة ذات شعرٍ أسود وعينين دعجاوين ووجهٍ مقسَّم وصوت رخيم وقوام جميل، هي سمراء كأنها من أهل صقلية، وفتَّانة كأنها من سكان نابولي الجميلة، ولها نظرة ساحرة كأنها من بنات البندقية، وقد دلَّني حديث أُمِّها أن أباها إيطالي المولد؛ فلا غرابة إذا جمعتْ تلك الصفات.

إن تلك البُنيَّة بقيَتْ في نظري لغزًا لا يُحَل ومعجزة لا يُعْرَف كُنهها إلى حين، ثم رفعتِ العشرة الطويلة لي الستار عن حقيقة خُلقها رويدًا رويدًا، في بداية الأمر لم يُمكنِّي الحُكم عليها؛ لأن نظرةً واحدة منِّي إلى رأسها وصدرِها كانت تُحدِث في نفسي اضطرابًا؛ لأنني لم أكن أرى بشرًا إنما أرى تمثالًا من التماثيل البديعة الصُّنع التي أودع أساتذة النحت فيها نفوسهم وعقولهم وملئوها بأسنى المعاني التي تجُول في صدورهم وزيَّنوها بأجمل ما يُستطاع التزيين به، غير أن هذا التمثال يتكلَّم ويروح ويغدو وله صوت ذو أنغامٍ موزونة تُطرب الأذن والنفس، إنك يا فالنتين آية العاشقين!

ولكن النفس أو الروح أو العقل أو الفؤاد أو القلب أو بعبارة أخرى الموجود المعنوي الذي يستره ذلك الرداء المادي ما هو؟ ما لونه؟ ما صفاته؟ هنا معجزة المعجزات وعقدة العقد، إنني لم أخْلُ بالفتاة إلا دقائق معدودة، فلم أتمكن من النظر في البئر العميقة المُختفية وراء تَينك العينين السوداوين، ولكنها لحُسن الحظ كثيرة الكلام على المائدة، لا تمضي لحظةً إلا وتُبدي ملحوظة، ولا يرِدُ ذكر أمرٍ ما إلا ولها فيه رأي، حتى إذا كانت في غرفة مجاورة وسمِعَت حديثنا عادت إلينا وقالت كلمتها، إنها حادة الشعور جدًّا، ولكنها كثيرة الكتمان، إنها لتجلس لحظة فتلعب بعقد الزبرجد الذي يُحيط بنحرِها الجميل، وتضع قطعةً من الياقوت معلقة في طرفِهِ إلى ثغرِها كأنها طفلة تلهو، فأفطن لساعتي إلى الفرق الشديد بين لؤلؤ ثناياها وياقوت عقدها، ثم إذا هي تُمعن النظر في الأشياء بدقَّةٍ كأنها تُدبِّر مكيدة أو تستخرج سرًّا، ليس أعظم من الفرق بين الطفلة اللاعبة والمرأة المُفكِّرة إلا اجتماعهما في شخصٍ واحد.

إنها تُحب نفسها كثيرًا، وإذا أبغضت حقدت، وإذا حقدت انتقمت، وإنها لتُودي بمن تنتقِم منه. لو كانت ملكةً لكانت إليزابث، كلَّا! إنها أقرب إلى كاترين دي مديتشي، ولو كانت رجلًا لكانت ماكيافيلي، ولو كانت حيوانًا لكانت فهدًا أسود، ولكن أليست إيطالية؟ قد تكون في دمائها قطرة من دم بورجيا وأُخرى من دم مديتشي، إنها لم تُخلق لتعيش عيشةً هادئة في بيتٍ صغير في شارع سولي بمدينة ﻟ … إنما خُلقت لتُشرق شمسها في بلاط مملكةٍ من ممالك إيطاليا في القرن الخامس عشر حيث يجد رُوحها الشرير مجالًا للدسائس وميدانًا للإيقاع بأعدائها. إنَّ كلمة «فنديتا» مكتوبة على جبينها، ولو عادت إلى سهول كورسيكا أو وديان صقلية حيث كان يمرَح جدُّها في الناس قتلًا وسلبًا لرأتْ نفسها حيث تطمئن؛ لأنها لا ينقُص جمالها الفتان وعضلها المفتول وذكاءها الخارق وإرادتها القوية لتكون رئيسة عُصبة إلَّا ثياب الجبل وسلاحه.

ليس في اللغة الفرنسوية كتاب تجهله العذارى إلَّا قرأتْهُ، أطلقت لها أُمُّها العنان، فجرعت هنيئًا مريئًا من عينِ زولا الصافية، ثم أشبعت نفسها من مؤلفات بريفو، وغذَّت ذهنها بأغاني مونتمارتر، وشاهدت رواية سالوميه ولم يفتِنْها سواها. خلقها في هذا الجيل فلتة من فلتات الطبيعة، إنها خُلِقَتْ لتلبس تاجًا ولتُخرِج من كيسها حُقًّا صغيرًا فيه سُمٌّ زعاف تقتُل به عدوَّها أو تشربه هي إذا وقعتْ في يدِه وضاقت بها الحِيَل.

مستقبل الفتاة يصعُب عليَّ الحُكم عليه، ولكنَّني أكاد أراها تُمثِّل في دائرتها الحقيرة أدوارًا تُلائمها، وتتحسَّر على أنها لا تستطيع اقتراف الجرائم وتشرَب الدم وتَصلُب الأعداء.

أما الأخت الثالثة فمخلوق لا معنى لوجوده، لا ينفع ولا يضر، لا يُحيى ولا يُميت، قيمتُه في الحياة كقيمة الصفر على يسار الأرقام المعدودة، مسكينة هي، حتى اسمُها نسيته، لا! هو جوليت، ما أغرب هذا الاسم على هذا المُسمَّى!

جوليت بُنيَّة في العشرين من عُمرها، ولكن الناظر إليها يحكُم عليها بأنها من بنات الثلاثين، وجهُها لا وصف له، ليس جميلًا وليس قبيحًا، ولكنه وجهٌ مبتذَل دنيء، تقاطيعه جافية كأنها مصنوعة من خشب لا من لحمٍ ودم كأنها صنعة النجَّار، كذلك جِسمها قطعة واحدة لا تقسيم فيه، إذا سارت سارت كلُّها، وإذا جلست جلست كلها، وإذا وقفتْ وقفت كلها. إنَّ أعضاء بدنها نموذج في التضامُن، والتضامُن صفة محبوبة في أعمال الرجال، ولكنه مَبغوض جدًّا في أجسام النساء.

قيل لي إنها تعيش في بيتٍ غير بيت أمها. ولستُ أدري ماذا تصنع، وأظنُّها شِبه خادمة أو نصف مُربية، عيشتها بين الأجانب، واعتمادها منذ فتوتها على عَرَق جبينها، وتعويلها على تعَبِها، علَّمتها أمُّها الذل والاستكانة، فهي المسكينة تجد نفسها غريبةً في بيت مَخدوميها وغريبة بين أُمِّها وأختَيها؛ لأنها تشعر بأن أمَّها لا تُحبها ولو أحبَّتها لأبقت عليها، كذلك تشعُر بقُبحها وجهلها بالنسبة لأختَيها فلا تقرَب من إحداهما، وإذا تكلَّمت همسَتْ كأنها طفل يتيم، وإذا جلست على مقعدٍ يبدو عليها من المسكنة كالعبد بين أيدي أسياده؛ لا يكاد جسمُه يلمس طرفَ المقعد ويداه مُضطربتان في حجرِه ورأسه مُطرق وعيناه مُغضيتان، كذلك إذا تحدَّثَت قالت قليلًا مُبهمًا وسكتت بخوفٍ ووجل كأنها تلميذ يخشى عقاب الأستاذ إذا رآه يتكلَّم في المكتب، أو مُجرم شاعر بذنبه ويحاول عبثًا الدفاع عن نفسه والتبرؤ من جنايته.

أمها لا تُعيرها التفاتًا، ونادرًا ما تدعوها إلى الغذاء، وأُختها الكُبرى إذا رأتها تُشفِق عليها وتدعوها إلى بيتها بعد مشاجرةٍ عنيفة بينها وبين زوجها. أما الأخت الصغرى فالنتين فتهزأ بجوليت المسكينة وتصرَعُها بنظراتها كما يصرع الأخ القوي إخوته الضِّعاف بذراعَيه، وتتيه عليها بجمالها وتُعاكسها بعُنفٍ كما يعاكس الأطفال بعض الوحوش المسجونة في حديقة الحيوانات. إن تلك الوحوش وراء قضبان من الحديد يمكن كسرُها، ولكن جوليت في سجن أضيقَ وأشدَّ ولا يمكن كسرُه، هو سجن الفقر والقبح والذل!

رأيت هذه المسكينة ثلاث مرات، فكنتُ أتقرَّب إليها تعزيةً لها وسلوى، وكنتُ أرى في عينَيها عرفان الجميل يكاد يسيل دموعًا، قد يكون قُبح الوجه من دواعي حُسن الطباع والأخلاق. إن نفسي تُحدثني بأن جوليت كريمة النفس طيبة القلب؛ لقلَّة ذكائها وجمالها. إن تلك المسكينة عاجزة عن إتيان الشر، وتلك الخشونة الظاهرة دليل على الرقَّة الباطنة، لا بدَّ أن تكون جوليت قبيحة الوجه جميلة النفس عكس أُختها الصغرى.

أما عن مستقبلها فهو واضح جَلي، إنها ستبقى من راهبات القديسة كاترين إلى أن تلقى شريرًا ذكيًّا.

•••

هذه تصاوير الأخوات الثلاث، رسمتُها بما في وسعي من الإتقان، وقد قالت لي أُمُّهنَّ إنهنَّ شقيقات وإنها لم تتزوَّج إلا من رجلٍ واحد، ولكنَّ ابنتها الكبرى نظرت إليها نظرةً ودَّت أن تقول بها: إنني — يا أُمَّاه — أستبعِدُ تلك النظرية، ولو قبلتُها فليس ضروريًّا جدًّا أن نكون نحن الثلاث ثمراتِ هذا الزواج.

قال الروح الحائر: «هذه ثلاث نموذجات للمرأة لا تخرج أنثى عن أحدِها؛ فإما كالأخت الكبرى امرأة لا تمتاز بحُسنها، ولكنها تُرضي زوجَها فتكون عفَّتُها عفَّةَ ضرورة، وهي بؤرة فساد كامن دعَتْ إلى كتمانه الأكاذيب والنظامات المُتَّفَق عليها، وإما جميلة شريرة تنال بأذاها القريب منها والبعيد عنها كالأُخت الصغرى، وهي نذير خراب البيوت تحفر طول حياتها قبورًا للرجال، ومن لا تُواريه التراب أوقعتْ به في حبالة، والثالثة كائن لا معنى له لا يضرُّ ولا ينفع، جعلتْهُ الطبيعة صدقةً على من لم يقَعْ فريسة إحدى المرأتين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤