فلما كانت الليلة ٤١٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية مشت كأنها غزال شارد وهي تفتن العابد، ولم تزل ماشية حتى جلست على الكرسي، فلما رآها المأمون تعجَّبَ من حُسْنها وجمالها، وجعل أبو عيسى يتوجَّع من فؤاده، واصفرَّ لونه وتغيَّرَ حاله، فقال له المأمون: ما لك يا أبا عيسى قد تغيَّرَ حالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بسبب علَّةٍ تعتريني في بعض الأوقات. فقال له الخليفة: أتعرف هذه الجارية قبل اليوم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وهل يخفى القمر؟ ثم قال لها المأمون: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي قرَّة العين يا أمير المؤمنين. قال لها: غنِّي لنا يا قرَّةَ العين. فغَنَّتْ بهذين البيتين:

ظَعَنَ الْأَحِبَّةُ عَنْكَ بِالْإِدْلَاجِ
وَلَقَدْ سَرَوْا سَحَرًا مَعَ الْحُجَّاجِ
ضَرَبُوا خِيَامَ الْعِزِّ حَوْلَ قِبَابِهِمْ
وَتَسَتَّرُوا بِأَكِلَّةِ الدِّيبَاجِ

فقال لها الخليفة: لله درك! لمَن هذا الشعر؟ قالت: لدعبل الخزاعي، والطريقة لزرزور الصغير. فنظر إليها أبو عيسى وخنقته العَبْرة حتى تعجَّبَ منه أهلُ المجلس، فالتفتت الجارية إلى المأمون وقالت له: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في أن أغيِّر الكلام. فقال لها: غنِّي بما شئتِ. فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

إِذَا كُنْتَ تُرْضِيهِ وَيُرْضِيكَ صَاحِبٌ
جِهَارًا فَكُنْ فِي الْغَيْبِ أَحْفَظَ لِلْوُدِّ
وَالْغِ أَحَادِيثَ الْوُشَاةِ فَقَلَّمَا
يُحَاوِلُ وَاشٍ غَيْرَ هِجْرَانِ ذِي وُدِّ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَا
يَمَلُّ وَأَنَّ الْبُعْدَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ
بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ

فلما فرغت من شعرها قال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤