فلما كانت الليلة ٣٢٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا قال للخليفة: يا مولاي، فاضرب عنقي لعله يزيل أرقك، ويُذهِب القلق عنك. فضحك الرشيد من قوله، وقال له: يا مسرور، انظر مَن بالباب من الندماء. فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاي، الذي على الباب علي بن منصور الخليعي الدمشقي. قال: عليَّ به. فذهب وأتى به، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فردَّ عليه السلام وقال: يا ابن منصور، حدِّثنا بشيء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين، هل أحدِّثك بشيء رأيته عيانًا أم بشيء سمعت به؟ فقال أمير المؤمنين: إن كنت عاينتَ شيئًا غريبًا فحدِّثنا به، فإنه ليس الخبر كالعيان. قال: يا أمير المؤمنين أخلِ لي سمعك وقلبك. قال: يا ابن منصور، ها أنا سامع لك بأذني، ناظر لك بعيني، مصغٍ لك بقلبي. قال: يا أمير المؤمنين، اعلم أن لي كل سنة رسمًا على محمد بن سليمان الهاشمي سلطان البصرة، فمضيت إليه على عادتي، فلما وصلت إليه وجدته متهيئًا للركوب إلى الصيد والقنص، فسلَّمت عليه وسلَّم عليَّ، وقال لي: يا ابن منصور، اركب معنا إلى الصيد. فقلت له: يا مولاي، ما لي قدرة على الركوب، فأجلسني في دار الضيافة، ووصِّ عليَّ الحجَّاب والنواب. ففعل، ثم توجَّه إلى الصيد، فأكرموني غاية الإكرام، وضيَّفوني أحسن الضيافة، فقلت في نفسي: بالله العجب، إن لي مدةً أقدمُ من بغداد إلى البصرة ولم أعرف في البصرة سوى من القصر إلى البستان، ومن البستان إلى القصر، ومتى يكون لي فرصة أنتهزها في الفرجة على جهات البصرة مثل هذه النوبة، فأنا أقوم في هذه الساعة وأتمشَّى وحدي لأتفرج، وينهضم عني الأكل. فلبست أفخر ثيابي وتمشيت في جانب البصرة، ومعلومك يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين دربًا، طول كل درب سبعون فرسخًا بالعراقي؛ فتهت في أزِقَّتها ولحقني العطش. فبينما أنا ماشٍ يا أمير المؤمنين، وإذا بباب كبير له حلقتان من النحاس الأصفر، ومرخيٌّ عليه ستور من الديباج الأحمر، وفي جانبيه مصطبتان، وفوقه مكعب لدوالي العنب، وقد ظللت على ذلك الباب فوقفت أتفرج على هذا المكان. فبينما أنا واقف إذ سمعت صوتَ أنينٍ ناشئ من قلب حزين يقلِّب النغمات، وينشد هذه الأبيات:

جِسْمِي غَدَا مَنْزِلَ الْأَسْقَامِ وَالْمِحَنِ
مِنْ أَجْلِ ظَبْيٍ بَعِيدِ الدَّارِ وَالْوَطَنِ
فَيَا نَسِيمَيْ زَرُودٍ هَيَّجَا شَجَنِي
بِاللهِ رَبِّكُمَا عُوجَا عَلَى سَكَنِي
وَعَاتِبَاهُ لَعَلَّ الْعَتْبَ يَعْطِفُهُ
فَذَوِّقَا الْقَوْلَ إِذْ يُصْغِي لِقَوْلِكُمَا
وَاسْتَدْرِجَا خَبَرَ الْعُشَّاقِ بَيْنَكُمَا
وَأَوْلِيَانِي جَمِيلًا مِنْ صَنِيعِكُمَا
وَعَرِّضَا بِي وَقُولَا فِي حَدِيثِكُمَا
مَا بَالُ عَبْدِكَ بِالْهِجْرَانِ تَتْلِفُهُ
مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَاهُ أَوْ مُخَالَفَةٍ
أَوْ مَيْلِ قَلْبٍ لِغَيْرٍ أَوْ مُحَارَفَةٍ
أَوْ نَقْضِ عَهْدٍ وَثِيقٍ أَوْ مُعَاسَفَةٍ
فَإِنْ تَبَسَّمَ قُولَا فِي مُلَاطَفَةٍ
مَا ضَرَّ لَوْ بِوِصَالٍ مِنْكَ تُسْعِفُهُ
فَإِنَّهُ بِكَ مَشْغُوفٌ كَمَا يَجِبُ
وَطَرْفُهُ سَاهِرٌ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ
فَإِنْ أَبَانَ الرِّضَا فَالْقَصْدُ وَالْأَدَبُ
وَإِنْ بَدَا لَكُمَا فِي وَجْهِهِ غَضَبُ
فَغَالِطَاهُ وَقُولَا لَيْسَ تَعْرِفُهُ
fig2
فجهَّزَت آلةَ السَّفَر من زادٍ وجِمالٍ وبِغال، وسافَرَت إلى أن وصلَت إلى بلد علي شار.

فقلت في نفسي: إن كان صاحب النغمة مليحًا، فقد جمع بين الملاحة والفصاحة وحسن الصوت. ثم دنوت من الباب، وجعلت أرفع الستر قليلًا قليلًا، وإذا أنا بجارية بيضاء كأنها البدر إذا بَدَرَ في ليلة أربعة عشر، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، ونهدين كرمانتين، ولها شفتان رقيقتان كأنهما أقحوانتان، وفم كأنه خاتم سليمان، ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر، كما قال فيه الشاعر:

يَا دُرَّ ثَغْرِ الْحَبِيبِ مَنْ نَظَمَكْ
وَأَوْدَعَ الرَّاحَ وَالْأَقَاحَ فَمَكْ
وَمَنْ أَعَارَ الصَّبَاحَ مُبْتَسَمَكْ
وَمَنْ بِفِعْلِ الْعَقِيقِ قَدْ خَتَمَكْ
فَأَصْبَحَ مَنْ رَآكَ مِنْ طَرَبٍ
يَتِيهُ عُجْبًا فَكَيْفَ مَنْ لَثَمَكْ

وقول الآخَر:

يَا دُرَّ ثَغْرِ حَبِيبِي
كُنْ بِالْعَقِيقِ رَحِيمَا
وَلَا تُعْالِ عَلَيْهِ
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا

وبالجملة فقد حازت أنواع الجمال، وصارت فتنة للنساء والرجال، لا يشبع من رؤية حسنها الناظر، وهي كما قال فيها الشاعر:

إِنْ أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ وَإِنْ هِيَ أَدْبَرَتْ
جَعَلَتْ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ عُشَّاقِهَا
شَمْسِيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ لَكِنَّهَا
لَيْسَ الْجَفَا وَالصَّدُّ مِنْ أَخْلَاقِهَا
جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَّحَتْ بِقَمِيصِهَا
وَالْبَدْرُ فِي فَلَكٍ عَلَى أَطْوَاقِهَا

فبينما أنا أنظر إليها من خلال الستارة، وإذا هي التفتت فرأتني واقفًا على الباب، فقالت لجاريتها: انظري مَن بالباب؟ فقامت الجارية وأتت إليَّ وقالت: يا شيخ، أليس عندك حياء؟ وهل شيب وعيب؟ فقلت لها: يا سيدتي، أمَّا الشيب فقد عرفناه، وأما العيب فما أظن أني أتيتُ بعيب. فقالت سيدتها: وأي عيب أكثر من تهجُّمِكَ على دارٍ غير دارك، ونظرك إلى حريمٍ غير حريمك؟ فقلت لها: يا سيدتي، إن لي عذرًا في ذلك. فقالت: وما عذرك؟ فقلتُ لها: إني رجل غريب عطشان، وقد قتلني العطش. فقالت: قبلنا عذرك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤