فلما كانت الليلة ٥٠٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه رأى في تلك المقصورة شيئًا كثيرًا، فتعجَّبَ منه، ثم تمشَّى حتى دخل القصر الذي في تلك المقصورة، وطلع على التخت المنصوب على الليوان بجانب الفسقية، ودخل الخيمة المنصوبة فوقه، ونام في تلك الخيمة مدة من الزمان، ثم أفاق وقام يتمشى حتى خرج من باب القصر، وجلس على كرسي قدام باب القصر وهو يتعجَّب من حُسْن ذلك المكان.

فبينما هو جالس إذ أقبل عليه من الجوِّ ثلاثة طيور في صفة الحمام، ثم إن الطيور حطوا بجانب البحيرة، ولعبوا ساعة، وبعد ذلك نزعوا ما عليهم من الريش، فصاروا ثلاث بنات كأنهن الأقمار، ليس لهن في الدنيا شبيه، ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها، ولعبن وضحكن، فلما رآهن جانشاه تعجَّبَ من حُسْنهن وجمالهن واعتدال قدودهن، ثم طلعن إلى البر ودُرْنَ يتفرَّجْنَ في البستان، فلما رآهن جانشاه طلعن إلى البر كاد عقله أن يذهب، وقام على قدمَيْه وتمشى حتى وصل إليهن، فلما قرب منهن سلَّم عليهن، فردَدْنَ عليه السلام، ثم إنه سألهن وقال لهن: مَن أنتن أيتها السيدات الفاخرات؟ ومن أين أقبلتن؟ فقالت له الصغيرة: نحن أتينا من ملكوت الله تعالى؛ لنتفرج في هذا المكان. فتعجَّبَ من حُسْنهن، ثم قال للصغيرة: ارحميني وتعطَّفِي عليَّ وارثي لحالي، وما جرى لي في عمري. فقالت له: دَعْ عنك هذا الكلام. فلما سمع جانشاه منها هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا، واشتدت به الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

بَدَتْ لِي فِي الْبُسْتَانِ بِالْحُلَلِ الْخُضْرِ
مُفَكَّكَةَ الْأَزْرَارِ مَحْلُولَةَ الشَّعْرِ
فَقُلْتُ لَهَا: مَا الِاسْمُ؟ قَالَتْ: أَنَا الَّتِي
كَوَيْتُ قُلُوبَ الْعَاشِقِينَ عَلَى حِجْرِي
شَكَوْتُ إِلَيْهَا مَا لَقِيتُ مِنَ الْهَوَى
فَقَالَتْ: إِلَى صَخْرٍ شَكَوْتَ وَلَمْ تَدْرِ
فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ كَانَ قَلْبُكِ صَخْرَةً
فَقَدْ أَنْبَعَ اللهُ الزُّلَالَ مِنَ الصَّخْرِ

فلما سمع البنات هذا الشعر من جانشاه، ضحكن ولعبن وغنين وطربن، ثم إن جانشاه أتى إليهن بشيء من الفواكه، فأكلن وشربن، ونمن مع جانشاه تلك الليلة إلى الصباح، فلما أصبح الصباح لبسن البنات ثيابهن الريش، وصرن في هيئة الحمام، وطرن ذاهبات إلى حال سبيلهن؛ فلما رآهن جانشاه طائرات، وقد غبن عن عيونه، كاد عقله أن يطير معهن، وزعق زعقة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، ومكث في غشيته طول ذلك اليوم. فبينما هو طريح على الأرض، وإذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور، وفتَّشَ على جانشاه ليُرسِله مع الطيور ويروح إلى بلاده، فلم يَرَه، فعلم الشيخ نصر أنه دخل المقصورة، وقد كان الشيخ نصر قال للطيور: إن عندي ولدًا صغيرًا جاءت به المقادير من بلاد بعيدة إلى هذه الأرض، وأريد منكم أن تحملوه وتوصلوه إلى بلاده. فقالوا له: سمعًا وطاعةً. ولم يزل الشيخ نصر يفتِّش على جانشاه حتى أتى إلى باب المقصورة التي نهاه عن فتحها، فوجده مفتوحًا، فدخل فرأى جانشاه مرميًّا تحت شجرة وهو مغشي عليه، فأتاه بشيء من المياه العطرية، ورشَّه على وجهه، فأفاق من غشيته، وصار يلتفت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤