فلما كانت الليلة ٣٣٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل اليمني قالت له جواريه: سمعًا وطاعة. ثم قامت أولاهنَّ، وهي البيضاء، وأشارت إلى السوداء وقالت لها: ويحك يا سوداء، قد ورد أن البياض قال: أنا النور اللامع، أنا البدر الطالع، لوني ظاهر، وجبيني زاهر في حسن، قال الشاعر:

بَيْضَاءُ مَصْقُولَةُ الْخَدَّيْنِ نَاعِمَةٌ
كَأَنَّها لُؤْلُؤٌ فِي الْحُسْنِ مَكْنُونُ
فَقَدُّهَا أَلِفٌ يَزْهُو وَمَبْسِمُهَا
مِيمٌ وَحَاجِبُهَا مِنْ فَوْقِهِ نُونُ
كَأَنَّ أَلْحَاظَهَا نَبْلٌ وَحَاجِبَهَا
قَوْسٌ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَوْتِ مَقْرُونُ
الْخَدُّ وَالْقَدُّ وَالْجِيدُ وَوَجْنَتُهَا
وَرْدٌ وَآسٌ وَرَيْحَانٌ وَنِسْرِينُ
وَالْغُصْنُ يُعْهَدُ فِي الْبُسْتَانِ مَغْرِسُهُ
وَغُصْنَ قَدِّكِ لَمْ تَشْهَدْ بَسَاتِينُ

فلوني مثل النهار الهنيِّ، والزهر الجَنيِّ، والكوكب الدريِّ، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز لنبيه موسى — عليه السلام: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وقال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فلوني آية، وجمالي غاية، وحسني نهاية، وعلى مثلي يحسُن الملبوس، وإليه تميل النفوس، وفي البياض فضائل كثيرة؛ منها: أن الثلج ينزل من السماء أبيض، وقد ورد أن أحسن الألوان البياض، ويفتخر المسلمون بالعمائم البيض، ولو ذهبت أذكر ما فيه من المدح لطال الشرح، ولكن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وما وفى، وسوف أبتدي بذمِّك يا سوداء، يا لون المداد، وهباب الحداد، ووجه الغراب المفرِّق بين الأحباب، وقد قال الشاعر يمدح البياض ويذمُّ السواد:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدُّرَّ يَغْلُو بِلَوْنِهِ
وَأَنَّ سَوَادَ الْفَحْمِ حِمْلٌ بِدِرْهَمِ
وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْبِيضَ تَدْخُلُ جَنَّةً
وَأَنَّ الْوُجُوهَ السُّودَ حَشْوُ جَهَنَّمِ

وقد ورد في بعض الأخبار المروية عن الأخبار أن نوحًا — عليه السلام — نام في بعض الأيام وولداه سام وحام جالسان عند رأسه، فجاءت ريح فرفعت أثوابه وانكشفت عورته، فنظر إليه حام وضحك ولم يغطِّه، فقام سام وغطَّاه؛ فانتبه أبوهما من منامه وقد علم بما جرى من ولديه، فدعا لسام ودعا على حام؛ فابيضَّ وجه سام وجاءت الأنبياء والخلفاء الراشدون والملوك من أولاده، واسودَّ وجه حام وخرج هاربًا إلى بلاد الحبشة، وجاءت السودان من نسله، وقد أجمعت الناس على قلة عقل السودان. وفي المثل يقول القائل: كيف يوجد أسود عاقل؟ فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، فقد أسرفتِ. ثم أشار إلى السوداء؛ فقامت وأشارت بيدها إلى البيضاء وقالت: أَمَا علمتِ أنه ورد في القرآن المنزَّل على نبيه المرسل قولُ الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ، ولولا أن الليل أجَلُّ لَمَا أقسم الله به وقدَّمه على النهار، وقبلته ألوف البصائر والأبصار، أَمَا علمتِ أن السواد زينة الشباب، فإذا نزل المشيب ذهبت اللذات، ودنَتْ أوقات الممات، ولو لم يكن أجلَّ الأشياء ما جعله الله في حبة القلب والناظر، وما أحسن قول الشاعر:

لَمْ أَعْشَقِ السُّمْرَ إِلَّا مِنْ حِيَازَتِهِمْ
لَوْنَ الشَّبَابِ وَحَبَّ الْقَلْبِ وَالْحَدَقِ
لَا مَا سَلَوْتُ بَيَاضَ الْبِيضِ عَنْ غَلَطٍ
إِنِّي مِنَ الشَّيْبِ وَالْأَكْفَانِ فِي فَرَقِ

وقول الآخَر:

السُّمْرُ دُونَ الْبِيضِ هُمْ
أَوْلَى بِعِشْقِي وَأَحَقْ
السُّمْرُ فِي لَوْنِ اللَّمَى
وَالْبِيضُ فِي لَوْنِ الْبَهَقْ

وقول الآخَر:

سَوْدَاءُ بَيْضَاءُ الْفِعَالِ كَأَنَّهَا
مِثْلُ الْعُيُونِ تُخَصُّ بِالْأَضْوَاءِ
أَنَا إِنْ جُنِنْتُ بِحُبِّهَا لَا تَعْجَبُوا
أَصْلُ الْجُنُونِ يَكُونُ بِالسَّوْدَاءِ
فَكَأَنَّ لَوْنِي فِي الدَّيَاجِي غَيْهَبٌ
لَوْلَاهُ مَا قَمَرٌ أَتَى بِضِيَاءِ

وأيضًا فهل يحسُن اجتماع الأحباب إلا في الليل؟ فيكفيك هذا الفضل والنبل، فما ستر الأحباب عن الواشين واللوَّام مثل سواد الظلام، ولا خوَّفهم من الافتضاح مثل بياض الصباح، فكم للسواد من مآثر! وما أحسن قول الشاعر:

أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي
وَأَنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغْرِي بِي

وقول الآخر:

وَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَ الْحَبِيبُ مُؤَانِسِي
وَقَدْ سَتَرَتْنَا مِنْ دُجَاهَا ذَوَائِبُ
فَلَمَّا بَدَا نُورُ الصَّبَاحِ أَرَاعَنِي
فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْمَجُوسَ كَوَاذِبُ

وقول الآخر:

وَزَارَنِي فِي قَمِيصِ اللَّيْلِ مُسْتَتِرًا
يَسْتَعْجِلُ الْخَطْوَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ حَذَرِ
وَقُمْتُ أَفْرِشُ خَدِّي فِي الطَّرِيقِ لَهُ
ذُلًّا وَأَسْحَبُ أَذْيَالِي عَلَى أَثَرِي
وَلَاحَ ضَوْءُ هِلَالٍ كَادَ يَفْضَحُنَا
مِثْلُ الْقُلَامَةِ قَدْ قُدَّتْ مِنَ الظُّفُرِ
وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْتُ أَذْكُرُهُ
فَظُنَّ خَيْرًا وَلَا تَسْأَلْ عَنِ الْخَبَرِ

وقول الآخر:

لَا تَلْقَ إِلَّا بِلَيْلٍ مَنْ تُوَاصِلُهُ
فَالشَّمْسُ نَمَّامَةٌ وَاللَّيْلُ قَوَّادُ

وقول الآخر:

لَا أَعْشَقُ الْأَبْيَضَ الْمَنْفُوخَ مِنْ سِمَنٍ
لَكِنَّنِي أَعْشَقُ السُّمْرَ الْمَهَازِيلَا
إِنِّي امْرُؤٌ أَرْكَبُ الْمُهْرَ الْمُضَمَّرَ فِي
يَوْمِ الرِّهَانِ وَغَيْرِي يَرْكَبُ الْفِيلَا

وقول الآخر:

زَارَنِي الْمَحْبُوبُ لَيْلًا
فَتَعَانَقْنَا جَمِيعَا
ثُمَّ بِتْنَا وَإِذَا قَدْ
طَلَعَ الصُّبْحُ سَرِيعَا
أَسْأَلُ اللهَ إِلَهِي
يَجْمَعُ الشَّمْلَ رُجُوعَا
وَيُدِيمُ اللَّيْلَ لِي مَا
دَامَ لِي الْإِلْفُ ضَجِيعَا

ولو ذهبتُ أذكر ما في السواد من المدح لَطالَ الشرح، ولكن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وما وفى. وأما أنت يا بيضاء فلونك لون البَرَص، ووصالك من الغصص، وقد ورد أن البرد والزمهرير في جهنم لعذاب أهل النكير. ومن فضيلة السواد أن منه المِداد الذي يُكتَب به كلام الله، ولولا سواد المسك والعنبر ما كان الطيب يُحمَل للملوك ولا يُذكَر، وكم للسواد من مفاخر! وما أحسن قول الشاعر:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمِسْكَ يَعْظُمُ قَدْرُهُ
وَأَنَّ بَيَاضَ الْجِيرِ حِمْلٌ بِدِرْهَمِ
وَأَنَّ بَيَاضَ الْعَيْنِ يَقْبَحُ بِالْفَتَى
وَأَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ يَرْمِي بِأَسْهُمِ

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى السمينة فقامت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤