حلم بالآخرة

(١) وادي الأشباح

عدتُ من هياكل «الكرنك»١ مكدودًا معفَّرًا، وكان الجو دافئًا والسماء صافية لا أعرف لزرقتها في غير «الأقصر» مشبهًا، فغيَّرت ثيابي وبدا لي أن خير ما أصنع — لأريح جسمي التَّعِبَ وذهني المكظوظَ — أن أركب زورقًا أسبح به على النيل. ولما استويتُ فيه دلَّيت يدي إلى الماء وانثنيت أفكر فيما رأيت وأستعيد ما شهدت، ولكن صورة «سخت» في حجرتها المظلمة أفسدت عليَّ هذه الفكرة التي كنت أرجو أن أستمتع بها في زورق على النيل، ومن ذا الذي يراها ولا تعود أبرز ما يطيف برأسه، رأس لبؤة وجسم امرأة، وعينان ليستا بعين امرأة ولا عين سبع، تحدقان في الظلام وتبحثان عن الفريسة، وذلك أنها هي الموكلة بالْتِهام الأرواح المذنبة في الآخرة.
وأغفيت وأنا أفكر فيها، ورأيت وأنا نائم على النيل حُلمًا مضطربًا كله تخليط على عادة الأحلام. وانقلب النيل نهرًا آخر — ستيكس — نهر الأغارقة الذي تقول أساطيرهم إن الموتى يعبرونه إلى وادي الأشباح، وآض الملاح الذي يجدف به على النيل «شارون»٢ وإذا على الشاطئ حشد عظيم من الأموات يسوقهم «هرمز» بالعصا وهم يبكون ويولولون ويندبون الحياة التي خلعوا ثوبها ويبغون الرجعى إليها، ولا يطيقون الحقيقة العارية الباقية التي صاروا إليها، ولا يتعزون عن أحلام الدنيا التي كانت تفيض لهم على الوجود بريقًا مستعارًا خادعًا؟ آه لقد ذهب سماؤهم كلها مع تلك الأحلام!

وحُشروا جميعًا في الزورق الذي اتسع لهم جميعًا، الأطفال حزمة واحدة بلا سؤال أو مراجعة، ثم الشيوخ والعجائز الذين لم يُبكِهم أحدٌ، ثم قتلى بعض المعارك في جهات من الأرض لم أسمع بها في حياتي — فما أحوج علم الجغرافيا إلى بعثة تذهب إلى هناك — ثم رجل قتلته امرأة وعشيقها، ثم الذين أفنتهم الحُميات ومعهم طبيب هَرِم، ودفع شارون الزورق على اللُّجة، وتركني على الشاطئ فأحسست بالوحشة وخِفتُ أن أتعفن إذا بقيت وحدي إلى الغد، فصحت بشارون أن يحملني معه فأبى وقال: إن الزورق غاصٌّ وليس فيه موضع لقدم، فيئست غير أن واحدًا من الركاب أهاب بي أن أُلقي بنفسي في الماء وأسبح فقلت له: إني لا أحسن السباحة وقد … أغرق.

فقهقه وقال: ماذا تخشى من الغرق وقد مُتَّ؟

فرميت بنفسي في الماء وعُمتُ إليه، ومد يده فجذبني ودار بعينه فلم يرَ لي مكانًا فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه وقال وهو يبتسم: أنا — أيضًا — قلق في موضعي هذا، فتعالَ بنا ننتقي لنا اثنين من هؤلاء المعولين المنتحبين نجلس على أكتافهما!

وفعلنا ودار شارون بالركاب يتقاضى أجرة النقل، وتنبهت إلى ذلك فقلت لصاحبي: «ولكني مُعدِم وقد جردوني من كل شيء لما مِتُّ فماذا أصنع؟»

قال: «لا بأس عليك! فما أنا بخير منك، فاسكت أنت ودعِ الأمرَ لي.»

وجاء شارون يطلب الأجر، فقال له زميلي: «ماذا تنتظر ممن ليس معه شيء؟»

قال شارون: «كيف؟ أهناك أحد ليس معه أجرة النقل إلى الوادي؟»

قال: «لا أعلم، ولكنَّا هنا اثنان لا نملك مِلِّيمًا، فأشرِ ماذا تأمر؟»

قال شارون: «واثنان أيضًا؟ وحقِّ بلوتو أخنقكما!»

قال زميلي: «خذ الأجرة ممن بعثوا بنا إليك!»

قال شارون: «ولكنك كنت تعرف أن عليك أن تؤدي لي هذا الحق، فلماذا لم تستعدَّ قبل هذا المجيء؟»

قال: «لم يكن معي شيء، فهل كان ينبغي أن نظل أحياء وألا نموت من أجل ذلك؟»

قال شارون: «أتريد أن تكون الوحيد الذي يُحمل إلى الوادي بلا مقابل؟»

قال: «كلا! لست الوحيد، فإن لي رفيقًا ومؤنسًا إلى جانبي كما بينتُ لك، وعلى أنَّا لا نُحمل مجانًا، فإنَّا وحدنا دون جمعك هذا لا نبكي ولا نَندُب، ثم إنَّا خفيفان لا نثقل زورقك، وإذا شئتَ عاوناك ولم نقاسمك الربح ولم نطلب منك الأجر.»

قال شارون: «ولكن هذا لم يحدث قطُّ من قبلُ فهو غير جائز!»

قال: «إذن ردَّنا إلى الحياة.»

فالتفت شارون إلى هرمز٣ وقال: «من أين جئت بهذين الحمارين؟ وانظر كيف يضحكان، على حين يبكي كل إنسان؟ لقد كان أولى أن يبقيا هناك على ظهر الأرض، فما هما بجديرين بالموت.»

ومضى عنا وهو يسُبُّنا ويتوعدنا بقبضة يده، فأُسِرُّ إلى زميلي: «ما أسخف وعيده! أيموت المرء مرتين ويُحمل إلى الزورق مرتين؟»

ثم قال لي بعد برهة: «لقد هبطتْ أنغام العويل والنحيب، فما قولك؟ أليس من الواجب أن نضطرهم إلى رفع طبقتها؟»

قلت: «ولكن كيف يسعك ذلك؟»

قال: «انتظر.»

وتنحنح ثم انطلق يغني:

أقبلَ الليلُ علينا بِدُجَاه
فاسقِنا، فالعمرُ آياتُ الشبابْ
غنِّنا صوتًا كأمواج الحياه
بين لينٍ واعتلاجٍ واصطخابْ

•••

ولم يكد يفرُغ من هذه المقطوعة حتى علا الصياح والنشيج. فواحد يقول: «وا أسفاه على ما خلفت!» وثانٍ يصرخ: «ويحي! سيبدد أخي ما ورث عني»، وثالث يصيح: «ألا مَن لصغاري!» وهكذا.

ومضى صاحبي في غنائه:

أقبلَ الليلُ فهاتِ القدحا
أَوَليس العمرُ أيامَ الصِّبا؟
غنِّنا لحنًا نديًّا فرِحا
يُطلق الأوصال من قيد الحِجى

•••

وارقصوا بين المنايا واطرَبوا
أوليس العمرُ أيامَ النعيم؟
وإذا ما لامكم مستغرِب
فدعوا اللائم يذهب للجحيم

فدنا «هرمز» منه وأومأ إليه أن كفَّ ثم قال: «إن هذا لا يليق، ومن واجبك أن تندب كالباقين.»

قال مستغربًا: «أندُبُ؟ أأندُب الحظَّ الذي أتاح لي هذه النزهة الظريفة؟»

قال هرمز: «إن سلوكك شائن. فأرسل عولة أو اثنتين على الأقل فما يجوز أن تشُذَّ عن المألوف.»

قال زميلي: «حسن. سأفعل.»

ثم وضع كفَّه على خدِّه وانطلق يصيح: «وا أسفاه على ثوبي المرقع الذي لا يقي في شتاء ولا ينفع في صيف! وا حزاناه على الحفا! لن أجوب الطرقات بعد اليوم متضورًا من الصباح إلى المغيب، ولن أنام على الأفاريز وأتوسَّد الحجارة وأسناني تصطك من البرد، مَن تُرى سيرث عكازتي التي كنت أتوكَّأ عليها؟ ويختال في مرقعتي التي كنت أخطر في هلاهيلها!»

فمضى هرمز عنه ساخطًا لاعنًا ورحنا نحن نضحك.

وإنَّا لكذلك وإذا «بشارون» ينادي هرمز ويصيح به: إن الزورق يوشك أن يغرق من ثقل ما يحمل. فماذا يفعل؟

فوقف هرمز كالأبله حائرًا، ثم وثب رفيقي وقال: «تعالَ ننقذ شارون فإنا مدينون له.»

قلت: «إن الغرق شيء أفهمه وقد أحسُّه. أما ما عداه فلا علم لي به يا صاحبي.»

قال: «ولكنك تستطيع أن تشاركني على الرغم من ذلك»، ثم قال لشارون: «اسمع. جرِّد هؤلاء الموتى مما يحملون وألقِ به في الماء. انزع هذه الحُلي عن أصحابها. لقد كانت تنفعهم في الدنيا أما هنا فهي مثقلة بالغش والتضليل. ودعاوى التقوى والوقار والحشمة.»

قال شارون: «صدقت.» ونزعها جميعًا ورمى بها، «وماذا أيضًا؟»

– ألا ترى هذا الرجل الذي يبكي ويختلس النظر إلى مَن حوله؟ قال شارون: «نعم. ما له؟»

قال: «أخرِج من تحت إبطيه الكذب والنفاق والدهان تتخلص من خمسة قناطير على الأقل. وهذه المرأة الجميلة، عرِّ وجهها وجرِّده من المساحيق فإن وزنها يجاوز الطن، افعل وعجِّل.» ففعل.

«وهذا الغُرور الذي تنطق به عينا هذا الرجل، ألا تحُس ثقله؟ إنه يكفي شعبًا بأسره!»

«والفلسفة التي في رأس هذا إنها أثقل من الحديد. ألقِ بها في الماء. أسرع.»

فأطارها شارون عن رأسه.

وهذا الأديب هناك. ماذا يصنع بكل هذه الألفاظ والمجازات والاستعارات والخيالات والسخافات؟ إنها كافية وحدها لإغراق زورقك يا شارون.

قال شارون: «نعم والله! أين كنت مخبِّئًا كل هذه الأثقال؟»

ثم التفت إلى زميلي وقال: «كفى كفى يا صاحبي! إن الزورق الآن أخفُّ من الريشة. وأحسبني مدينًا لك بإنقاذ سفينتي.»

قال زميلي مقاطعًا: «أمسك، لا ثقلها مرة أخرى بشكرك إياي.» وعُدْنا إلى مكاننا وانطلق الزورق خفيفًا يشق النهر ويفرُق أمواجه الراكدة، ودنونا من الشاطئ عند الفجر وحاذيناه فوثب صاحبي إلى الأرض وأنا وراءه.

ثم أهوى على الباب العتيق بحجر ضخم وراح يدقه كالذي يريد أن يحطِّمه فهب «أتروب»٤ وقد طار كراه وأقبل على الباب يتعثر في مشيته، ورمى مصراعيه وسأل: مَن الطارق؟

قال زميلي: «أنا.»

قال «أتروب»: «أنت؟ أنت ماذا؟ ما شأنك هنا؟ ما اسمك؟» فمال إلى زميلي وقال: «كأنما كنت شيئًا في الدنيا فيعنيه أن يعرف مَن أكون.» ثم التفت إلى الحارس وقال: «ومَن عسى أن أكون؟ أتُراك تتوهمني بروميثيوس قد فكَّ أصفاده وجاء يعتِق البشرَ من أسرِ الموت؟»

ثم لوَّح بيده مشيرًا إلى الرَّكْب الذي في الزورق ورفع صوته مغنيًا:

حيِّ يا أتروبُ ألوانَ الصباح
طلع الفجر عليكم بالرَّمَمِ
بين نَدْبٍ وعويل وصياح
جاء وفدُ الموت من كل الأممِ

•••

جاء وفد الموت يحدوه الدليل
ويغنِّي سوطُه فوق الظهورِ
ويميل الصفَّ في كل مميل
وهو خلف الصفِّ وثَّاب يدور

•••

لستُ خيرًا منهمو وا أسفاه
أَوَكَان «الخيرُ» إلا شططا
غلطٌ جاد به، ثم أباه
دهر سوء لا يُعِيد الغلطا

•••

بل يعيد الغلط المترذِّلَا!
أَوَلَيس الناس أغلاطًا تُعاد؟
ولو أن الدهر شاء إلا مثلا
لخِلتُ منهم قُراهم والبلاد

وكان هرمز وشارون في خلال ذلك قد أفرغا حمولة الزورق، فلما سمع الموتى هذه الأغنية تصايحوا وضجُّوا وهمُّوا بزميلي ولكنه تلقاهم بابتسامة استخفاف وقال لهم: أيسوءكم أن يلحق بكم مَن خلفتم فوقها؟

فارتدوا ساكنين، وتقدَّم هرمز بورقة فيها بيان مُجمَل بعَدَد الموتى، فتسلَّمها أتروب وبدأ يَعُد ثم كفَّ وهو يقول: ما أظن ميتًا يفلت أو حيًّا يجيء قبل الأوان. امضِ بهم يا هرمز إلى ساحة رادا مانتيس.٥

فساقنا هرمز أمامه، وتقدم صاحبي الصفوف وسِرتُ معه في طليعتها وانطلق يغني:

دارنا مغرب أنوار الحياة
مَن رآها لم يرَ الضوء الطليق
ما لِمَن يهوى إليها من نجاه
ما لِما يغرُب فيها من شروق

•••

وهي في الأكوان دنيا عافر
كل زخار له فيها ركود!
ضرب السحر عليها ساحر
فهي عنوان على عقم الوجود!

وطال بنا الانتظار على باب رادامانتيس إلى أن جاء دوري فتقدمتُ، وزاحم زميلي فدخل معي ولما صرتُ أمام القاضي سألني: ما اسمك؟

قلت: «المازني.»

قال: «ماذا؟ اﻟ … اﻟ … ماذا؟»

فلو كنت حيًّا لاحمرَّ وجهي وقلت: «المازني. لقد كنت أحسب شهرتي قد سبقتني.»

قال: دع هذا المزاح. من أين جئت؟

قلت: «من مصر.»

قال: «مصر؟ ولماذا جئت إلينا؟»

قلت: «وأين كان ينبغي أن أذهب؟»

قال: «إنك من أفريقية فاذهب إلى قِسْمك.»

قلت: من أين؟! عهدي حديث بهذا الوادي.

قال: «لا بأس، سيدلونك عليه. يا هرمز، أرشِد هذا التائه إلى سومبور.»

فألقيتُ إلى صاحبي نظرة أسف على فراقه، فجذبني إلى الوراء وأسرَّ إليَّ: «سأذهب معك.»

قلت: «ولكنك لستَ من مصر.»

قال: «ماذا يهم؟ مَن أنا حتى يعرفوا أَمِن مصر أنا أم مِن غيرها! هيَّا بنا.»

(٢) بين أيدي القضاة

انصرفنا من ساحة رادامانتيس، وثنَّينا الخطا إلى الشاطئ — وكان هرمز قد سبقنا — وفي مرجونا أن يحملنا شارون إلى القسم الأفريقي، فألفينا هرمز وشارون مختلفَين. يقول هرمز: «لقد آن جدًّا يا شارون أن تؤدي إليَّ ذلك الدين القديم فما بقي لك عذر.»

فيقول شارون: «ما أحسبني أنكرت قط يا صديقي أني مدين لك.» فيهز هرمز كتفيه ويمط شفتيه ويقول: «لشد ما نفعني أنك لا تقصِّر في الاعتراف! هذه عُملة لا أعرف أحدًا سواي يقبلها، فهاتِ ما عليك وأنكِر إذا شئت أنك مدين لي.»

فيبتسم شارون ويفرك كفيه ويقول: ولكنك لم تبيِّن لي قط مقدار هذا الدَّين، فيُقبِل عليه هرمز ويقول: «إن البيان حاضر فليتك مثلي استعدادًا لتقديم الحساب. المرسى والحبل بسبعين قرشًا.» فيقاطعه شارون: «سبعون قرشًا. وحقِّ بلوتو لقد خدعك! أو أنت تضحك على شيبتي!»

فينتفض هرمز واقفًا ويقول بصوت عالٍ: «أضحك عليك! أنا؟ أهذا جزائي منك؟ لا مال ولا شكر؟»

شارون : هوِّن عليك يا صاحبي فما إلى هذا قصدت. سبعون قرشًا إذن وماذا أيضًا؟
هرمز : وإبر لترقيع القلع، وشمع لسد الخروق، ومسامير، وجِلد للمجاديف بعشرين قرشًا.
شارون : صفقة حسنة. وماذا؟
هرمز : هذا كل ما أذكر، تسعون قرشًا. وبسط يده.
شارون : الآن يا صديقي يتعذر عليَّ أنْ أنقدك هذا القدر، فإن العمل قليل والربح ضئيل. لا وباء يفتك بالناس، ولا حرب تحصدهم، ولكني أعدك أن أؤدي إليك دَينك إذا نشطت الحركة.
هرمز (ممتعضًا) : الأفضل عندي أن يظل دينك مطولًا.

ثم نظر إلينا وقال: «هيا بنا.»

فقال شارون: هذان المفلسان لا عجب أن يعودا وأن ترفضهما حتى الجحيم.

فقال صاحبي: «ألا تنقلنا إلى …»

فقاطعه شارون ولم يمهله ريثما يتم كلامه: «أنا؟ أتُراني جُننت؟ اذهب أنت وصاحبك فما فيكما خير.»

وهكذا رددنا، وذهبنا سيرًا على الأقدام، وجعل هرمز يشكو في الطريق ويتسخط ويُعرب عن تبرُّمه بحياته وكثرة الواجبات الموكولة إليه. فهو يقوم في الفجر ويُعِدُّ المائدة السماوية ويرتِّب حجرتها، ثم يقف بجانب زيوس ليتلقى أوامره وليؤدي رسائله إلى أصحابها النهار كله، وفي الليل لا ينام بل يذهب بالموتى إلى بلوتو ويقف في ساحة القضاء حاجبًا، ثم إنه يدرِّب الخطباء ويشهد الاجتماعات ويفعل غير ذلك أشياء يخطئها الحصر. حتى لقد كان يؤدي وظيفة الساقي لزيوس قبل أن يتزيَّا «زيوس» في زي نسر ويخطف الغلام «جانيميد» ويتخذه ساقيًا له يأخذ من كأسه رشفة، ومن شفتيه البضتين أخرى، ويكايد به زوجته «هيرا».

وأخيرًا بلغنا سهلًا فسيحًا أمام «الكرنك»، وسِرْنا مسافة في ظل أشجار الليمون، حتى خرجنا من تحتها، ووقفنا مع آلاف الموتى من أمثالنا، وكان القضاة خمسة وقد جلسوا صفًّا واحدًا، فأسرَّ إليَّ صاحبي أن تعالَ نشهد الرواية من أولها، وجذبني وزاحم بي حتى صرنا إلى الصف الأول، فسمعنا مَن عرفنا ممن حولنا أنَّة «سومبور»، وهو رجل نحيل هزيل الجسم متهضم الوجه أسود العينين برَّاقهما وفي يده زهرة من زهرات البردي يقول: «أيها الزملاء، إن «سخت» تنتظر!»

فسَرَتْ في أجسامنا رِعدة، ونُودي الأولُ فتقدَّم وسمعنا كلامًا كهذا. سومبور — وهو يعبث بزهرة البردي — قلِ الحق الذي تعرفه ولا تحاول أن تكذب. أهي الخمر؟

قال الرجل: نعم.

ديارناك (وهو مديد القامة معتدلها كالجندي لا يلتفت يُمنة أو يُسرة، وحول وجهه لحيةٌ كثة) : هل حُوكِمت من قبلُ على الشراب؟
الرجل : لا يا سيدي.
ممبرون (وهو عريض الوجه لمَّاع الجِلد كأنما كان قد دهنه بالليل، يبتسم تارة ويتجهَّم أخرى، وفي إحدى كفيه قطعة من الذهب وفي الأخرى صرة صغيرة) : كيف تقول؟ مِن أي بلد أنت؟
الرجل : من قرية اسمها …
بوتا (وهو بَدينٌ قصيرٌ أحمرُ الوجه أبيضُ الشعر، له عينان كعيني الخنزير وأمامه ختم ذهبي كبير) : دع هذا، وقل لنا: لماذا أُولعت بالشراب؟
الرجل : لأنه مرض.
بوتا : لستُ أفهم. إني أُحب الكأس أو الاثنتين من الويسكي مُشَعَّثًا بالصودا ولكن الإفراط … هذه هي المسألة.
الرجل : إن المسألة هكذا، كلما ألحَّ عليَّ الإحساس بالشقاء أفرطت في الشراب، وكلما أفرطتُ في الشراب زاد إلحاح الإحساس بالشقاء …
ممبرون : الحلقة المفرغة مرة أخرى.
موروسكن (رَجلٌ مثقف مغضن الوجه على ذراعه قِطةٌ يمسح لها شعرها بيده الأخرى) : وماذا عندك غير هذا على سبيل الدفاع عن نفسك؟
الرجل : لا شيء. ولقد يُخيل إليَّ الآن بعد أن مِتُّ، أني كنت أستطيع أن أنقذ نفسي لو أني اشتغلت في الدنيا بوصف السعادة للناس حين أحسُّ أنا بالشقاء.
موروسكن : أتقصد أنك كنت تريد أن تكون روائيًّا؟ هذا جميل الحق أقول يا سومبور. إني أعتقد أن التفاؤل لا يزال يقوم في الدنيا على قاعدة من مرض الفنان أو شفائه. أليس كذلك؟
سومبور : قد يحلو لك هذا البحث. أما أنا فأطلب أصواتكم.
ديارناك : إن الشرب أفقد الدنيا جنديًّا. فليقذف به إلى «سخت».
ممبرون : سخت.
موروسكن : ولكن الرجل يكاد يكون فنانًا، إنَّ التماس السعادة …
سومبور : ليس عندنا وقت لهذا. هاتوا بقية الأصوات.
بوتا : سخت.
سومبور : خذوه إليها — بأربعة أصوات.

•••

وجرُّوه إلى شجرة ليمون وهمس صاحبي في أذني: «جاروا ولم يعدلوا.»

قلت: «ولكن موروسكن.»

فقاطعني صاحبي: «إنه مغفَّل.»

ونُودي الثاني، فتقدمت فتاة وسيمة شاحبة اللون مقدودة قَدَّ السيف، ولكن عينيها، على جمالهما، كالكهفين.

وقال سومبور: كم سِنُّكِ يا هذه؟

الفتاة : اثنتان وعشرون سنة.
موروسكن : قبل الأوان. قبل الأوان.
بوتا : لماذا مُتِّ؟
الفتاة : فزعًا.
موروسكن : فزعًا؟ ما أقسى هذا!
سومبور : من أي شيء؟
الفتاة : من الشرطة.
ممبرون : آه، أمنهن أنت؟
الفتاة : نعم يا سيدي، ولكن مهما يكن ذنبي فقد شاركني في إثمه رجل.
موروسكن (متأثرًا) : هذا حق، وإنها لمن الفظائع الكُبَرِ، أن يضع الرجال الشرائع وأن يتحيزوا فيها لأنفسهم.
بوتا : ولكن ماذا دفعكِ إلى هذا؟
الفتاة : تزوجتُ رجلًا كانت حياتي معه جحيمًا، ثم أحبني آخرُ وظننته «الرجل الموافَقَ» ولكن الغريزة خانتني، ولقيت ثالثًا قلت لعله هو الموافق ولكنه لم يكن، وهكذا حتى لم أعد أعبأ مَن يجيء ومَن يروح وإن كنت لم أزل أرجو أن أفوز «بالرَّجلِ».
موروسكن : آه! طلبُ الكمال والسعيُ إلى المثل الأعلى …
بوتا : ماذا تقول امرأتي لو سمعتْها؟ إن لي فتيات … دعوها، أخلوا سبيلها.
ممبرون : إن روابط المجتمع تتفكك إذا أطلقناها. فلنذهب إلى «سخت».
ديارناك : سخت.
سومبور : صوتان يطلبان لها الخلاص، وآخران يبعثان بها إلى سخت، فعليَّ أن أوازن وأن أرجِّح أحد الرأيَين. إذا أطلقناها فكأننا أبحنا الخطيئة، فبأي وجه بعد ذلك ننهى الناسَ عنها ونزجرهم عن مواقعتها وننذرهم سوء المصير؟ إن هذا يكون خطرًا بينًا، نعم إن الرحمة والعطف يدركان النفس على مثل هذه المسكينة، غير أنَّا خلقاء ألا نطمئن إلى الصوت الذي يدعونا إلى الشفقة ويغرينا بالرحمة، ولا أكتمكم، إن نفسي لا تطاوعني على الحكم عليها، ولكني على الرغم من ذلك أحس أني أكون منكرًا لنفسي ومعطلًا لسلطاني ومبطلًا لوجودي إذا أعفيتها من العقاب، ونحن هنا قضاة الآداب فياصلة الأخلاق، أفننكر أنفسنا ونعطل وظائفنا؟ كلا! فبكرهي أقول «سخت»، فلتُؤخَذ إليها بثلاثة أصوات.

•••

فسارعت باسمة وإن ظلت عيناها زائغتين، وحطَّت على كتفها وهي سائرة حمامةٌ بيضاء فأمالت إليها خدها.

وقال صاحبي: «جاروا للمرة الثانية، والحمامة شاهدي.»

ونُودي الثالث، وكان إلى جانبي. فرفعتُ إليه عيني وعجبت كيف يكون صاحب مثل هذا الوجه شريرًا؟

وسأله سومبور: ماذا جاء بك إلينا؟

الرجل : طُردتُ عن كل باب؟
موروسكن : يوشك أن يكون هذا ممتعًا، فماذا أنت؟
الرجل : أنا كالريح تَهُب بشجرة بعد شجرة.
ديارناك : قلْ وأوجر لماذا طُردت؟
الرجل : لأنه لا خير فيَّ؛ لأني جاهل ولا مزية لي إلا حب كل ما هو حي؛ لأن كل مَن يلقاني يقول: إذا تقبلناه فقدنا القوة والمال ولم يبقَ لنا سوى الحُب، وما جدوى الحب؟
ممبرون : إنك عامل من عوامل الانحلال والتفكك.
الرجل : كالريح أيضًا، هي التي تحلل وهي كذلك التي تؤلِّف وتُجمِّع.
سومبور : وهل في وجودك ما يعارض وجود القضاء؟
الرجل : إن مَن يتقبلونني، لا يعودون يَعنون بالحكم على شيء؛ لأن قلوبهم تكون أحفل بالحب من أن تفكر في سواه.
ديارناك : أنت متمرد.
الرجل : كلَّا، ولكن حيث أكون لا يبقى محل للأمر والنهي؛ لأن كل شيء يكون في خدمة الحب.
بوتا : هذه فوضى.
موروسكن : إني معجب بك، ولكني أحب أن أطمئن، فقل لي: هل وجودك يضر براحة الحياة ونعيم العيش؟
الرجل : ما هي الراحة؟ وأي شيء هذا النعيم؟ أهما شيء غير الإيثار وكف الأذى، وأن يخفق القلب بالغبطة وأن …
موروسكن : دعني من فضلك.
بوتا : ماذا يكون مصيري لو أشركت الناس في مالي؟ وآثرتهم على نفسي؟
– كلا! يا سيدي، إن خير الدنيا أن تفتح سخت فمها لتبتلعك.
سومبور: إذا بقيتَ أنت فلن يبقى محل لي ولا لقضائي.
ديارناك: ولا لجنودي.
ممبرون: ولا لشرائعي.
موروسكن: ولا لراحتي، فأنا آسف.

واجتمع الخمسة على أن يُلقِموا سختَ هذا المسكينَ.

قال صاحبي: «لقد أصابوا.»

قلت: «ماذا تعني؟ بأي حق يرسلونه إلى سخت؟»

فقال: «ليس هذا وقت الجدال، فإنهم يشيرون إليك.»

قلت: «إليَّ أنا؟»

والتفتُّ إلى الخمسة فوجدت عيونهم عليَّ، فتقدمت في اضطراب ووجل.

قال سومبور: مَن أنت؟

أنا: أنا المازني.
بوتا: أنت ماذا؟
أنا: أقول إني المازني.
ديارناك: بأي لغة تتكلم؟ أسرع.
أنا: إنه اسمي.
موروسكن: مسكين إنَّ صبرَك على حمل هذا الاسم يرفع عنك أوزارك.
أنا: ليس هذا ذنبي.
موروسكن: قد غفرناه لك، فماذا أنت؟
أنا: أديب.
بوتا: أديب؟ إذن فأنت عاطل وطفيلي.
أنا: كلَّا، لقد قتلني العمل وما كانت شكواي إلا قلة الراحة.
موروسكن: اسمعوا. سمعوا!
سومبور: مهلًا. أتيحوا له فرصة. بأي شيء كنت تشتغل؟
أنا: بالصحافة.
الجميع: الصحافة؟!

وانتفضوا جميعًا واقفين يشيرون إلى شجرة الليمون حيث وقف الثلاثة المُقضى عليهم.

وقال سومبور: سخت بالإجماع.

ثم التفت إلى زملائه وقال: وحسبُنا اليوم هذا، وأعفوني من شهود التنفيذ، فلن أقوى عليه بعد هذه الصدمة.

•••

ووقفت تحت الشجرة مع رفاقي الثلاثة أنتظر «سخت»، وإذا بصاحبي يجذبني ويقول: «تعالَ يا أبله.»

قلت: «إلى أين؟»

قال: «ماذا يعنيك وقد نجوتَ من سخت؟»

قلت: «نجوت؟ كيف كان ذلك؟»

قال: «لقد عزَّ عليَّ أن تكون بين الفرائس فذهبت إلى حيث قيدوا «سخت»، فلما صار القضاة عندها سبقت الحارس فأطلقتُها عليهم فالتهمتهم بدلًا منكم، ولكني والله آسف على نجاة جارك! على أني — على العموم — أراني أعدَلَ من هؤلاء القضاة يرحمهم الله.»

فأرسلتُها صيحةَ فرحٍ عالمية فتحت عيني على النيل وحقائق الدنيا على شاطئيه.

١  في سنة ١٩٢٤.
٢  الملاح الذي ينقل الموتى على زورقه إلى وادي الأشباح.
٣  هو الذي يتلقى الموتى ويذهب بهم إلى شارون لينقلهم.
٤  أتروب حارس الباب بوادي الأشباح.
٥  قاضي الآخرة في أساطير الإغريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤