أشَقُّ المحادثات

محادثة الصُّم أشق شيء بعد محادثة النساء. إذا صح أن الرجل يتحدث أو تُتاح له فرصة الكلام وهناك امرأة. والفرق بين الحالتين — أعني بين محادثة الصم ومحادثة النساء — أن المرء في الحالة الثانية لا يزال يفتح فمه، كلما توهم أن الحظ قد أسعفه بفرصة، ولكنه — فيما أعلم — لا يجاوز التأتأة أو الفأفأة أو غير هذه وتلك مما هو منهما بسبيل، ولا يكاد يزيد على «أ أ أ»، ثم لا يرى معدًى عن إطباق فمه، وهكذا فلو أُتيح لك أن تراه وهو يفتح فمه ثم يطبقه مرة بعد أخرى — دون أن تعلم أن هناك امرأة تتحدر كالسيل — لظننته يتثاءب من فرط الملل والوحدة، وشر ما في الأمر أن المرأة لا تنفك تنكِر على الرجل صمته وتستهجنه منه أو تَعُده دليلًا على أن في نفسه شيئًا من ناحيتها. وليس من الميسور أن يقول الرجل منا لأمه أو زوجته أو أخته أو لأية سيدة محترمة: إن علة صمته أنها هي لا تكفُّ عن الثرثرة. كلَّا، هذا لا سبيل إليه فإن عاقبته أوخم، فهي ورطة كما ترى لا مخرج منها.

فرص الكلام معدومة أو هي في حكم المعدومة، والمصارحة مستحيلة والصبر على اللوم والتأنيب والاتهام عسير، فماذا يصنع المرء؟ توهمت مرة أني اهتديت إلى تعليل للصمت المفروض عليَّ والمستهجَن مني في وقت معًا. فقلت لمن كانت تلومني: «ألا تعلمين أني مدرس؟»

قالت: «وما دخل هذا؟»

قلت: «إذا أكثرتِ من العمل بيديك ألا تتعبان؟»

قالت: «نعم ذلك …»

قلت: «وإذا مشيتِ بضعة أميال ألا تتعب رجلاكِ؟»

قالت: «هذا صحيح ولكن …»

قلت: «تمهلي، وإذا تعبت يداك أو رجلاك فكيف تريحينهما؟»

قالت: «بالكف عن العمل أو المشي.»

قلت: «انتهينا. أنا مدرس وليس لي من عمل طول النهار إلا إدارة لساني في حلقي، فمن حق هذا اللسان أن يستريح بعد الجهد الشاق الذي بذله.»

فاقتنعت يومئذٍ، وبعد بضعة أيام كنت جالسًا معها، صامتًا كما هو مفهوم بالبداهة فدنت مني وقالت: «اللسان يتعب، أليس كذلك؟»

فأدركتُ أن وراء هذا السؤال أمرًا، وقلت: «نعم. شأنه شأن كل عضو آخر.»

قالت: «فما لفلانة المعلمة لا تكفُّ عن الكلام في ليل أو نهار؟»

والخلاصة: أنني أشك في أن آدم هو الذي سمَّى الأشياء. وما أظن إلا أن حواء هي التي يرجع إليها الفضل في ذلك، فما أحسبُها تركت له فرصة يفتح فيها فمه ولا سيما إذا ذكرنا أن آدم كان الإنسان الوحيد الذي كانت تستطيع أن تكلمه في الجنة، وأنه لم يكن معها سواه فكيف استطاع أن يجد الوقت اللازم للتفكير فيما يناسب الحيوان والنبات من الأسماء؟! بل ما أظن أن آدم قد أكل من الشجرة المحرمة؛ لأن حواء أغرته أو لأن الشيطان وسعه أن يزين ذلك له، بل لأن الأكل من هذه الشجرة له عواقبه، ومنها الموت وانتفاء الخلود، وتلك وسيلة للخلاص يمكن ارتقابُها مع الصبرِ. فما أعظمها من تضحية يجب أن نذكرها لأبينا الشيخ المسكين!

•••

أما محادثة الصم فشيء آخر مختلف جدًّا، هي صياح من جانب وبعثرة من الجانب الآخر، وأعني بعثرة المواضيع التي يمكن أن يدور عليها الحديث زمنًا معقولًا؛ إذ لا سبيل إلى حصر الذهنين في موضوع واحد وقتله — أعني قتل الموضوع — ولنضرب مثلًا: تضع يدك إلى جانب فمك وتصيح في أذن صاحبك: «متى اشتريت هذه النظارة؟»

فينظر إليك أولًا كأنما يريد أن يقرأ في عينك أو في وجهك كله ما سمع، ثم يقول بصوت لا تكاد تسمعه ولعله يحسب أنه يصيح مثلك: «أي نعم وزارة المعارف.»

فتصيح مرة أخرى وتصنع من كلتا يديك بوقًا لأذنه. «النظارة. النظارة. أنا أسأل عن النظارة.»

فيقول: «آه. ربما. ربما. فإن الأزمة حقيقة حادة.»

ويخطر لك أن تغيِّر الحديث فتصب هذه الصيحة في أذنه أو تطلقها في الهواء، سيان: «هل قرأت مقالتي الأخيرة؟»

فيقول: «لعنة الله عليها لقد كادت تخنقني. وقد غشني مَن مدحها لي.»

فتبدي أمارات الدهشة وتلعنه بصوت عادي فيقول: «لا تعجب فإنها جهة مشبعة بالرطوبة، والبعوض فيها كالنحل. كلَّا. لقد شبعت من المنيرة وسأنتقل إلى جهة أخرى.»

وهكذا. تنتقل من موضوع إلى موضوع بلا فائدة حتى يبح صوتك. والنساء شرٌّ لا بد منه، وكثيرًا ما تنسيك حلاوتُه مرارته ولكن المرأة الصماء … هنا يحسُن السكوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤