الفصل الثاني

طِبُّ المكتبات

معجزة البقاء

عندما يفكر المرءُ في الأمر، سيجد أنَّ بقاء أي شيء من العصور القديمة معجزة؛ فكيف لنا أن نطرَب بقصائد هوميروس الملْحَمِيَّة، أو نستمتع بأعمال أفلاطون وأرسطو أو المجلَّدات العشرين (في طبعتها الحديثة المنقوصة) التي ضَمَّت مؤلَّفات جالينوس؟ نُسِخَت المخطوطات بخط اليد بعد عناء — على رَقِّ الكتابة وغيره من الوسائط — وكانت تلك المخطوطات سلعة نادرة وغالية، وكانت عرضة لنوائب الدهر أو ويلات الحرب أو التحلل الطبيعي أو الإهمال ببساطة. وما بقي إلى يومنا هذا عادةً ما يكون نسخة لاحقة — تَلَت كتابة النص الأصلي بقرون — صَنَعَها شخص يريد الاحتفاظ بصورة من العمل لنفسه. وبصفة عامة، كلما زادت قيمة النص، زادت فُرَص بقائه؛ وذلك ببساطة لأنه كانت تُصنَع منه نُسَخ أكثر. ولكن ما وصلَنا من كلمات مكتوبة في العصور القديمة أقلُّ بكثير مما اندثر. كانت أكبر مكتبة ومتحف في العالم القديم تقع في الإسكندرية بمصر، وكانت تلك المكتبة تضم عشرات الآلاف من اللفائف ورقوق المخطوطات، ولكنها تعرَّضت لسلسلة من الدمار والانحلال المتواصل منذ القرن الثاني الميلادي حتى لم يعُد متبقِّيًا منها سوى حُطام بحلول القرن السابع الميلادي.

ومن ثَمَّ فإننا مدينون للنُّسَّاخ المجهولين من الأُسَر العريقة، والمؤسسات الدينية، والبلاطات الملكية بكثير مما نعرفه عن أفكار الناس الذين عاشوا منذ ألفَي عام وزيادة. وقد مثَّلت كتابات أبُقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء القدامى الأسسَ المنهجية للممارسة الطبية حتى القرن الثامن عشر؛ ومن ثَمَّ فإن فترة التقدير والحفظ والشروح لأعمالهم — التي تميزت بها الألفية الفاصلة بين سقوط روما في عام ٤٥٥ والحركة التي نسمِّيها «النهضة» — جديرةٌ بأن تَحتلَّ مكانها الخاص في تاريخ الطب. أُطلِق على تلك الفكرة فترة «طب المكتبات». وفي هذا الفصل، لن أميِّز كثيرًا بين الغرب اللاتيني والشرق المتعدد اللغات، الذي يشمل الدولة البيزنطية والدولة الإسلامية والإسهامات اليهودية والمسيحية في الحياة الطِّبِّية في المناطق التي انتشر فيها الإسلام؛ فالأطباء في هاتين الدائرتين اللتين فَصلت بينهما مسافات جغرافية وثقافية شاسعة، اشتركوا جميعًا في سمة واحدة؛ ألا وهي: توقير الحكمة الطبية للإغريق، والرغبة في بناء نظرياتهم وممارساتهم الطبية على تلك المبادئ والمفاهيم القديمة. ومما لا شك فيه أنهم أضافوا إليها الكثير أثناء عملهم.

إلى جانب هذا الإسهام الضروري الذي تَمَثَّل في الحفاظ على التراث الطبي الإغريقي والإضافة إليه، فقد أحدثت تلك الحقبة — من القرن الخامس الميلادي حتى اختراع آلة الطباعة — تغيُّرًا جوهريًّا في طبيعة الهياكل الطبية؛ فقد ورثنا عن تلك الحقبة ثلاثة أمور مهمة: المستشفيات، والتقسيم الهَرَمي لممارسي الطب، والجامعات حيث تتلقَّى النُّخَب الطبية تعليمها.

الحفظ والنقل والتعديل

في أواخر العصر القديم بأوروبا، كان معظم الرعاية الطبية المُقَدَّمة تقع مسئوليتها على عاتق أفرادٍ لا يوجد في متناولهم أيٌّ من مؤلَّفات الحقبة الكلاسيكية؛ فسادت التقاليد المحلية — من رعاية غير رسمية، وعلاجات قائمة على مزيج من الدِّين والسحر، وخرافات — إلا أنَّ الرؤية العالمية السائدة في العهد المسيحي شجَّعت الأفراد على ترقُّب نهاية العالم، أو على أيِّ حالٍ أن ينظروا إلى المرض بوصفه جزءًا من قَدَر أشمل، وشيئًا تافهًا مقارنةً بالمُتَع المحتمَلة للعالم الآخر. وكانت القلة التي تُجيد القراءة والكتابة بين الأطباء تطَّلِع على بعض كتابات القرنين الرابع والخامس الميلاديين ضمن التقاليد الكلاسيكية.

ألَّف كايليوس أورِليانوس (فترة ازدهاره في القرن الرابع الميلادي أو أوائل القرن الخامس الميلادي) مجموعة من المؤلَّفات عن الأمراض الحادة والمزمنة، تستند بالأساس إلى أعمال طبيب سابق، هو سورانوس. كان عمل كايليوس عقلانيًّا، مليئًا بالرؤى الطبية النافذة، وظلَّ طوال حقبة العصور الوسطى بمنزلة مُلخِّص للأمراض وعلاجاتها؛ فقد وصف، على سبيل المثال، الصداع النصفي وعِرق النَّسا وعددًا من الأمراض الشائعة. وكانت أساليبه العلاجية معتدِلَة في معظمها؛ إذ اقترح استخدام التدليك والراحة في الفراش والحرارة والتمارين باستخدام وسيط خارجي لمعالجة عرق النَّسا.

راجت بعض المؤلَّفات الطبية الأخرى في الغرب اللاتيني؛ منها بعض الأعمال الثانوِيَّة لجالينوس — تضمَّنت أطروحات زائفة منسوبة إليه — و«الأقوال» الأبُقراطية، فضلًا عن أجزاء من كتابات مؤلِّفين قدامى آخرين. إلا أن مركز الثِّقل كان قد تحوَّل إلى الشرق، إلى الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت عاصمتها القسطنطينية (إسطنبول حاليًّا). وكان كثير من المخطوطات القديمة قد وصل إلى الشرق بالفعل، وتولى الأطباء في الشرق المسيحي حفظه وترجمته وشرحه. ثم اقترن انتشار الإسلام وازدهاره بتراجع نفوذ الدولة البيزنطية ومساحتها الإقليمية، ولكنَّ تلك الأراضي ذاتها — التي أصبحت جزءًا من الدولة الإسلامية — اضطلعت بدور مهم أيضًا في نقل المتن الطبِّي الذي تكوَّن في العصور القديمة.

كانت الثقافة الإسلامية تتميَّز بتنوُّع رائع في لغاتها، وبعض المخطوطات الإغريقية لم يتبقَّ منها إلا الصِّيَغ المنقولة إلى لغات المنطقة التي شملتها الفتوحات الإسلامية، لا سيَّما العربية والفارسية والسريانية. وبحلول نهاية القرن الثامن الميلادي، كان ثمة حركةُ ترجمةٍ كبرى تشهدها المنطقة، استمرَّت ثلاثة قرون. وكثيرًا ما يُنظَر إلى الممارسة الطبية الإسلامية في العصور الوسطى باعتبارها قناةً لحفظ النصوص الإغريقية ونقْلها بالأساس، وهي النصوص التي تُرجِمَت إلى لغات الشرق الأوسط، ثم أُعيدت ترجمتها إلى اللاتينية، وأخيرًا إلى اللغات الأوروبِّيَّة الحديثة.

إلا أنَّ الطب الإسلامي في العصور الوسطى كان أكثر من مجرد مرحلة فاصلة؛ فقد انطوى أيضًا على ثقافة طبية مُطَّلِعة نشِطَة لم تكتفِ بإعادة صياغة الأفكار الطبية الإغريقية بما يتناسب مع سياقها المحلي، وإنما أضافت أيضًا ملاحظاتٍ وأدويةً وإجراءاتٍ جديدةً. ولثلاثٍ من الشخصيات الرئيسية البارزة في الطب الإسلامي — أبو بكر الرازي (نحو ٨٦٥–٩٢٥ / ٩٣٢)، وابن سينا (٩٨٠–١٠٣٧)، وابن رشد (١١٢٦–١١٩٨) — تأثيرٌ امتدَّ عبر ما يقرب من أربعة قرون، وأنتجت فيما بينها متنًا من المؤلَّفات جمَّع أفكار الإغريق ونقلها إلى الغرب مرةً أخرى، لكن بعد إدخال بعض التغييرات المناسبة عليها. كانوا كلهم رجالًا متعددي الاهتمامات؛ فالرازي — الذي تركَّز نشاطه فيما أصبح يُعرف في العصر الحديث بدولة إيران — له كتابات في مجالات الخيمياء والموسيقى والفلسفة، ولكن ممارسته الطبِّيَّة الفعلية كانت واسعة النطاق، وفَراسته في التشخيص كانت محل إعجاب لدى الكثيرين في حياته. وكان هو أول مَنْ ميَّز بين الجُدَري والحَصْبة (واعتبر الحَصْبة أخطرهما)، وقدَّم نصائح طبية حصيفة للمسافرين.

وعلى غرار الرازي، كان لابن سينا اهتمامات متعددة بخلاف الطب، ومثَّل أرسطو أكبر تأثير فلسفي عليه، واستلهم منه مؤلَّفاته الطبية. أنتج ذلك الشاب السابق لعصره أكثر من ٢٥٠ مؤلَّفًا على مدار حياته الحافلة. وقد وُصِفَ مؤلَّفه «القانون في الطب» بأنه الأطروحة الطبية التي نالت أكبر حظ من الدراسة على مَرِّ العصور، وتغطِّي كتبه الخمسةُ موضوعاتِ النظرية الطبية والعلاج والصحة بأكملها، بالإضافة إلى الأبعاد الجراحية والدوائية ذات الصلة للممارسة الطبية. وعلى غرار جالينوس، كان ابن سينا رجلًا ذكيًّا لم يتردَّد في إخبار قُرَّائه بمواهبه، ولكن كتاب «القانون» دمج الحكمة الطبية الإغريقية والخبرة الطبية الإسلامية وجمعهما في إطار رائع، على نحو منطقي ومنظَّم؛ فكان مثاليًّا بوصفه كتابًا دراسيًّا متكاملًا في الطب، وهو السبب الذي استُخدِم من أجله طويلًا في أوروبا — بالترجمة اللاتينية — ولا يزال يُدرَّس لطلاب الطب اليوناني (الطب الإسلامي القديم) حتى الآن.

نشطَ ابن رشد — الذي كان ضليعًا في الفلسفة الأرسطية مثل ابن سينا — في إسبانيا الإسلامية ومراكش. وكان أكبر أعماله في مجال الطب موسوعيًّا، على غرار كتاب «القانون» لابن سينا (كما نُشِرَت له مؤلَّفات في الفلسفة والفلك والفقه). وقد غطى كتابه «الكُلِّيات في الطب» — الذي تُرجِم بعناوين متعددة في اللغة الإنجليزية والمكوَّن من سبعة أجزاء — موضوعات الطب كلها، بدءًا من التشريح إلى العلاج، وقَدَّمَت تراجمه اللاتينية توليفةً من أعمال جالينوس وأرسطو إلى أجيال من أطباء أوروبا في أواخر العصور الوسطى.

ومثلما أنشأَ الأطباء المسلمون برنامجًا لترجمة النصوص القديمة إلى اللغات الشرق أوسطية، أرسى قسطنطين الأفريقي (تُوفي قبل عام ١٠٩٨) دعائم إعادة ترجمة تلك التراجم إلى اللاتينية، وواصل باحثون آخرون كُثُر المسيرة. مثَّلت تلك النصوص اللاتينية الحديثةُ الوصولِ أساسَ المنهج الذي دُرِّس في مدارس الطب الأوروبية الأولى، بدءًا بالمدرسة الشهيرة في مدينة ساليرنو جنوبيَّ إيطاليا — التي أُنشِئت عام ١٠٨٠ تقريبًا — واعتمدتها كليات الطب في جامعات العصور الوسطى خلال القرون التي أعقبت ذلك.

المستشفيات والجامعات والأطباء

حسب تعريفنا لمفهوم «مستشفى»، يمكن إرجاع تلك المؤسسة المِحوَريَّة في العصر الحديث لأصول عدَّة؛ فقد كان الرومان يستخدمون بنايات من نوع خاص تُدعَى Valetudinaria (مشتَقَّة من نفس جذر الكلمة الإنجليزية valetudinarian التي تُستخدَم لوصف الشخص المفرط في القلق على صحته) لإيواء الجنود المصابين والمرضى ورعايتهم، وأحد تلك المباني معروف بأنه قائم منذ نحو العام التاسع الميلادي. وقبل ذلك بفترة قليلة، كان العبيد يُسَكَّنون معًا أيضًا حين يمرضون، وهو ما يعكس قيمتهم آنذاك. كان لتلك الهياكل تصميم عملي يتيح لها أن تحوي عددًا من الأَسِرَّة والمرافق ذات الصلة، ولكنها أيضًا كانت مرتبطة عادةً بالحاجة إلى تنظيم حملة بعينها أو بتفشِّي مرضٍ ما، ولم تكن تُعتَبَر مؤسسات دائمة بالمعنى الحديث.
إنَّ كلمة Hospital (المرادف الإنجليزي لكلمة «مستشفى») مُشتَقَّة من الجذر نفسه الذي اشتُقَّت منه الكلمات الإنجليزية Hospitality (حسن الضيافة) وHostel (نُزُل) وHotel (فندق). وفي الدولة المسيحية، كان «المستشفى» بمعناه آنذاك منشأة دينية، يقوم على رعايتها أعضاء الكهنوت، وتوفِّر مكانًا لإيواء الحجيج أو استضافتهم، وكذلك للفقراء المحتاجين. لم تكن وظيفتها طبية صراحةً، وإن كانت (مثلها في ذلك مثل الأديرة) تتضمن نوعًا من المشافي (مكان يقصده المريض أو العليل بغرض الشفاء)، يمكن فيها تلبية تلك الاحتياجات الطبية. وتلك المنشآت — التي كانت أكثر شيوعًا وأكبر حجمًا في الشرق الأدنى من الغرب اللاتيني (كان بيت المقدس يضم واحدة من تلك المنشآت تحوي ٢٠٠ سرير بحلول عام ٥٥٠) — بدأت تنتشر تدريجيًّا على ساحة أوروبا الحالية. وكثير من المستشفيات الأوروبية الشهيرة القائمة في وقتنا الحالي ترجع نشأتها إلى العصور الوسطى وتشهد أسماؤها على أصولها الدينية؛ مثل: مستشفى أوتيل ديو (فندق الرَّب) في باريس، ومستشفى سانت بارثولوميو في لندن، ومستشفى سانتا ماريا نوفا في فلورنسا.

وفي أراضي الدولة الإسلامية، بلغت المستشفيات حجمًا وأهمية لا بأس بهما أيضًا بحلول القرن الحادي عشر الميلادي. وأحيانًا كانت تتضمن أقسامًا خاصة، مثل عنابر للمرضى الذين يعانون أمراض العيون أو المختَلِّين عقلِيًّا، واجتذبت الطلاب الراغبين في تعلُّم كيفية ممارسة الطب. وكانت السمة «الطبية» أكثر وضوحًا في تلك المنشآت على الأرجح من نظيراتها المسيحية، لكنها اشتركت معها في الطائفة نفسها من مصادر التمويل الخيرية، وفي أوقات انتشار الأوبئة، اشتركتا في وظيفة العزل والفصل نفسها. وقد استخدم الزعماء المحليون المستشفيات لمرضَيْن على وجه التحديد: الطاعون والجُذام. مستشفيات العزل تلك — التي كانت تُدعى في أغلب الأحيان «لازاريتو» نسبةً إلى لازاروس (لعازر) الرجل الفقير الذي لعقت الكلاب قروحه في أمثال يسوع الواردة في إنجيل لوقا — هُيِّئت لمرض الطاعون عقِب تفشي وباء الموت الأسود، بعد أن كانت تُستَخدَم سابقًا للأفراد المُشَخَّصين بالجُذام. وليس ثمة مرض يعبِّر عن مزيج القسوة والمحبة الذي اصطبغت به الدولة المسيحية في العصور الوسطى أفضل مما عبَّر عنه الجُذام؛ فالتشخيص ذاته — الذي كان يُنسَب في كثير من الأحيان لحالاتٍ كان أطباء العصر الحديث يعطونها اسمًا آخر — اقترن بحالة كاملة من النبذ الاجتماعي والموت القانوني، مع السماح بالطلاق من المجذوم. وكان ذلك التشخيص يحكم على ضحيته بحياة من العزل والعَوَز، وعادةً ما كانت تُحدَّد إقامته في مستشفى العزل، وفي حالة خروجه كان يضطر إلى حمل جرس المجذومين المألوف، حتى ينتبه المارَّة إلى مصدر العدوى الجسدية (والأخلاقية) القادم نحوهم. وفي الوقت نفسه، عاش بعض الرهبان والراهبات وأفراد آخرون مدفوعون بالوازع الديني بين هؤلاء المنبوذين بحُرِّية وكرَّسوا لهم حياتهم.

كان التشخيص بالجُذام شائعًا ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، في معظم أنحاء أوروبا، وربما كان ما حفَّز انحسار الجُذام هو حقيقة أنَّ الأشخاص المقيمين معًا في أماكن مغلقة ضيقة يزداد تعرُّضهم على وجه الخصوص لخطر الموت الأسود ونوبات الطاعون الوبائية المتكرِّرة التي تبعته. ولا شك أنَّ بعض مستشفيات الجُذام حُوِّلت إلى مستشفيات للطاعون، لكثير من الأسباب ذاتها، فيما عدا أن الطاعون كان مرضًا حادًّا يتعافى منه البعض، بينما كان الجذام مرضًا مزمنًا وعادةً ما يلازم المريض طوال حياته. وقد حُوِّلت مستشفيات الطاعون — لا سيَّما في جنوب أوروبا — إلى استخدامات طبية أخرى بعدما اختفى ذلك المرض في القرن السابع عشر الميلادي، أما في الشرق الأوسط — حيث استمرَّ الوباء — ظلت المستشفيات مكانًا لإجراء الحجر الصحي للمسافرين وغيرهم من الأشخاص الذين يتنقَّلون حين يكون الطاعون قريبًا.

fig3
شكل ٢-١: الشخصيات الطبية الكلاسيكية. تصوِّر هذه الصورة — الكلاسيكية الطراز — التي تعود إلى أوائل العصر الحديث أسكليبيوس إلى اليسار حاملًا صولجان هِرْمِس، وجالينوس يفحص هيكلًا عظميًّا.

كانت الجامعة أيضًا من مؤسَّسات الطب المُهِمَّة في العصور الوسطى؛ فقد مثَّلت كُلِّيَّة الطب في ساليرنو، التي يعود إنشاؤها إلى أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، ما يظهر من اسمها دون زيادة أو نقصان؛ أي كُلِّيَّة لتدريب الأطباء. وتبعتها جامعة هناك بعد قرنين من الزمان. وفي الوقت نفسه، أُنشئت جامعات كثيرة أخرى في جميع أنحاء أوروبا، بدءًا بجامعة بولونيا (تأسَّست عام ١١٨٠ تقريبًا)، مرورًا بجامعات في باريس (عام ١٢٠٠)، وجامعة أكسفورد (عام ١٢٠٠)، وجامعة سَلامنكا (عام ١٢١٨ تقريبًا). وبحلول القرن الخامس عشر الميلادي، كان ثمة ٥٠ جامعة في أوروبا، منتشرة في الشمال والجنوب والشرق والغرب. وكانت الجامعات تضم كُلِّيات مختلفة، ومعظمها كان يحتوي على كليات طب منذ البداية أو أُنشئت فيما بعد، لتكمِّل كليات الآداب والفلسفة (التي تتضمَّن ما من شأننا أن نسمِّيَها علومًا) وعلوم الدين والقانون. وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من كليات الطب كان صغيرًا جدًّا — وعدد الخريجين فيها ضئيل — فقد تمخَّضت تلك الحركة عن طِب مكتسب بالتعلُّم، وأطباء حاصلين على تعليم جامعي. لقد مثَّلت تلك الكُلِّيات العنصر الخامس من «طب المكتبات»، نظرًا لأنَّ التدريس كان قائمًا في البداية على نصوص المؤلِّفين الكلاسيكيين والمسلمين، وكانت المناظرات هي الأساس وليس التدريب العملي أو التجربة.

كانت إحدى النتائج المترتِّبة على تخرُّج الأطباء الجُدد في الجامعة هي إضفاء الصبغة الرسمية على الهيكل الهَرَميِّ المِهَني الذي ظل قائمًا في الأوساط الطِّبية حتى القرن التاسع عشر الميلادي. وقد اقترن التعليم المكلِّف والطويل الأمد الذي قدَّمته الجامعات بالمكانة المرموقة التي طالما اعتزَّ بها الأطباء. (حتى عقدٍ مَضَى، لم يكن بإمكان الحاصلين على زمالة الكُلية الملكية للأطباء في لندن أن يلجَئُوا إلى القضاء للحصول على أتعابهم.) ونظرًا لمكانتهم تلك، كانوا يستنكفون عن العمل اليدوي؛ فقد كانت تلك مُهِمَّة الجرَّاحين والصيادلة، وهما تخصُّصان مِهَنيَّان كانا موجودَيْن بالفعل، ولكنَّ وجودهما تأكَّد بصورة أكثر رسمية مع مجيء الجامعات. كان الجرَّاحون والصيادلة يتلقَّون تدريبًا حِرَفيًّا، أو يتعلَّمون حِرفتهم بطريقة غير رسمية عن طريق مرافقة أحد ممارسيها الأكبر سِنًّا. وكان ذلك هو النهج الأبُقراطي، لكنه بدأ يكتسب مرتبة اجتماعية (واقتصادية عادةً) أدنى مقارنةً بالأطباء القادرين على قراءة اللاتينية وإجراء المناظرات بشأن التفاصيل الدقيقة في كتابات جالينوس وابن سينا.

لا شكَّ أن بعض الجراحين كان لديهم خلفية جامعية، ومن بين الجراحين والصيادلة، كان ثمة بعض أفراد على جانب من التعليم والثراء. ولم تكن الحدود الفاصلة بين الأطباء والجرَّاحين والصيادلة ثابتة دائمًا؛ ففي الريف كان كثيرٌ من الأطباء يركِّبون عقاقيرهم بأنفسهم ويُجْرُون عمليات جراحية؛ أي إنهم قاموا مقام الممارس العام. إلا أنَّه في المناطق الحضرية كانت الكليات ورابطات الأطباء أو هيئات التدريس في الجامعات هي التي تحافظ على الفوارق وتنظِّمها. وفي كثير من الأحيان كان الجرَّاحون في المناطق الحضرية يُنشئُون طوائف مهنية تضاهي الطوائف المنظِّمة للحِرَف اليدوية الأخرى، مثل الجِزارة أو الخِبازة أو صنع الشموع. ولم تكن عملية تنظيم الطب تتَّسم بالاتساق، ولكنَّ صورة المستويات الهَرَمِيَّة المِهَنيَّة الثلاثة ظَلَّت جزءًا من التصوُّر الشعبي حتى غيَّرت التطورات اللاحقة في المعرفة الطِّبِّية مما في مقدور الأطباء أن يقدموه أيضًا.

اكتشاف التشريح

كتب جالينوس وبعض المؤلِّفين القدامى الآخرين والمؤلِّفين العرب الكثيرَ عن الهياكل والوظائف الداخلية لجسم الإنسان. ومنذ ذلك الحين، كشفت عمليات التشريح التي كانت تُجرى من حين لآخر — على الأغلب عند وفاة شخصية مُهِمَّة فجأة أو في ظروف مريبة — المزيد عمَّا يبدو عليه الجسد عند فتحه. إلا أنَّها كانت خطوة جريئة أنْ بدأت كليات الطب تقدِّم تدريجيًّا عروضًا علنية لأجساد مُشَرَّحة في القرن الرابع عشر الميلادي. وفي كثير من الأحيان، كان مشرِّحٌ من منزلةٍ أدنى يفتح الجثة (تكون في كثير من الأحيان جثة مُجرِم نُفِّذ فيه حكم الإعدام) بينما يقرأ الأستاذ الفقرات ذات الصلة من كُتُب جالينوس أو غيره من الخبراء في هذا المجال. وكانت عمليات التشريح تلك تُجرَى في شهور الشتاء؛ إذْ يقلِّل الطقس البارد سرعة انحلال الجسد وتفسُّخه. وكذلك كان ترتيب كشف أعضاء الجسد يتحدَّد بسرعة تحلُّلها؛ فكانوا يبدءون بالمعدة، ثم محتويات الصدر، ثم الدماغ، وأخيرًا الأطراف.

fig4
شكل ٢-٢: جالينوس أثناء العمل. يعضِّد هذا الرسم التوضيحي المطبوع عام ١٥٦٥ لأعمال جالينوس حقيقةَ أنَّ جزءًا من معرفة جالينوس جاء من تشريح الخنازير. وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من الشخصِيَّات الكلاسيكِيَّة تبدو غير مبالية بالمَرَّة، فإنَّ ذلك العمل يعبِّر عن النموذج النمطي لعملية تشريح علنية في عصر النهضة.

سُجِّلَت أول عملية تشريح علنية في بولونيا نحو عام ١٣١٥، بقيادة موندينو دي لوتزي (١٢٧٠–١٣٢٦ تقريبًا)، الذي ألَّف أيضًا أول كتاب حديث مخصَّص لعلم التشريح، في عام ١٣١٦ تقريبًا. واستلزم الأمر نحو قرن من الزمان حتى تصبح عمليات التشريح أمرًا شائعًا نسبيًّا؛ نظرًا لصعوبة الحصول على الجثث، وتحيُّز معظم التعليم الطبي إلى الجانب النظري. إلا أن الوتيرة تسارعت منذ القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذِ ازدادت عملِيَّات التشريح وكذلك المؤلَّفات المخصَّصة لعلم التشريح البشري؛ فقد كان فنَّانو عصر النهضة يريدون أنْ يتعرَّفوا على شكل جسم الإنسان من الخارج والداخل على حدٍّ سواء، وإنَّ رسوم ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩) التشريحيَّة من أشهَر الرسومات التشريحية لتلك الفترة، وإن كانت قد ظلت غير معروفة تقريبًا؛ ومن ثَمَّ لم تخلِّف أثرًا.

كان من أعظم علماء التشريح الأوائل أندرياس فيزاليوس (١٥١٤–١٥٦٤)، الذي وُلِد في بلجيكا ولكنَّه شغل منصب أستاذ التشريح والجراحة في بادوا، ومؤلَّفه العظيم «بنية جسم الإنسان» (١٥٤٣) هو أول كتاب طبي تَفُوق أهمية الصور التوضيحية فيه أهمية النص.

لاحظَ فيزاليوس — الذي كان هو نفسه مشرِّحًا متحمِّسًا وليس مجرد قارئ لمؤلَّفات جالينوس — أنَّ الجسد البشري لم يكن دائمًا مثلما وصفه جالينوس. وفي حينِ سبقه أشخاصٌ آخرون إلى تلك الملاحظة، فإنَّ فيزاليوس لم يكتفِ بقول ذلك — على استحياءٍ في البداية، ثم بمزيد من القوة عندما ازدادت ثقته — وإنما وضَّحه عبر الصفائح الرائعة التي ألحقها بكتابه الضخم. فعلى سبيل المثال، أظهر أنَّ الجدران العضلية بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر من القلب سميكة؛ بحيث لا يمكن للدم أن يمر من خلالها حسبما اقتضت الفسيولوجيا الجالينوسية، وأنَّ كبد الإنسان لا يتألَّف من الفصوص الأربعة أو الخمسة التي نسبها جالينوس إليه (بتشريح الخنازير وغيرها من الحيوانات). وقد قدَّم فيزاليوس لأول مرة وصفًا دقيقًا لعظم القَصِّ، والرَّحِم، وبِنًى تشريحية أخرى كثيرة.

fig5
شكل ٢-٣: بالإضافة إلى الرسوم الشهيرة للرجال المفتولي العضلات، صوَّر كتاب فيزاليوس «بنية جسم الإنسان» الذي صدر عام ١٥٤٣ أجزاءً أخرى أيضًا من الجسد البشري، وكان دائمًا ما يمثِّلها تمثيلًا نابضًا بالحياة.

إننا نقسِّم تاريخ التشريح إلى ما قبل فيزاليوس وما بعده؛ حيث يمثِّل فيزاليوس نقطة الارتكاز. من المرجَّح أن تكون هذه مبالغة في وصف التأثير المباشر لكتاب فيزاليوس؛ إذْ إنَّه هجر بادوا وعِلمَ التشريح بُعَيْد نشر كتابه من أجل وظيفةٍ مُربِحة في البلاط الإسباني. إلا أنَّه بحلول القرن السادس عشر الميلادي، كانت ثورة التشريح قد قطعت شوطًا كبيرًا، وسادت لدى الناس رغبةٌ في اكتشاف الأمور بأنفسهم، عِوضًا عن الثقة العمياء في القدامى.

ظلَّ علم التشريح متربِّعًا على عرش العلوم الطبية نحو ثلاثة قرون من الزمان، ولم يستفِد فرعٌ من فروع المعرفة الطبية من آلة الطباعة — التي مثَّلت العامل المحفِّز للتغيير الاجتماعي والثقافي — أكثر مما استفاد علم التشريح؛ فقد أدخل حِرَفيٌّ ألماني يُدعَى يوهان جوتنبرج (١٤٠٠–١٤٦٨ تقريبًا) آلة الطباعة بالحروف المتحركة إلى أوروبا نحو عام ١٤٣٩ (كان الصينيُّون يمتلكونها بالفعل آنذاك)؛ مما أحدث تأثيرًا هائلًا في جميع أوجُه الحياة الإنسانية. ومثَّلت الكتب الطبية جزءًا لا بأس به من المطبوعات التي ظهرت في المراحل الأولى لفن الطباعة (السابقة لعام ١٥٠١)، وإن كان الإنجيل والمؤلَّفات المتعلقة بعلوم الدين، والطبعات الجديدة من أعمال المؤلِّفين القُدامى والتراجم الخاصة بها احتلَّت موقع الصدارة. وتسنَّى آنذاك إنتاج الكتب على نطاق ضخم، وحتى الأطباء العاديون صار بإمكانهم اقتناء بعضها.

وإلى جانب النصوص، أتاحت القوالب الخشبية والنقوش إرفاق رسوم توضيحية بالكتب؛ بحيث لم يصبح بإمكان الناس القراءة عن جسم الإنسان فحسب، وإنما رؤية أجزائه معروضة على الصفحة أيضًا. ولم يكن كتاب «بنية جسم الإنسان» لفيزاليوس أول نصٍّ تشريحي مقترن برسومات توضيحيَّة، إلا أنه أرسى معايير التمثيل الفني النابض بالحياة، فضلًا عن معايير الدقة التشريحية. وفي القرون التي أعقبت ذلك، بلوَرَت كتب التشريح مفارقة عميقة انطوى عليها الطب في أوائل العصر الحديث؛ فقد كان التشريح جانبًا من النشاط الطبي يثير اشمئزاز فئات كثيرة من جمهور الناس؛ إذ كان يُعتبَر مُهينًا من الناحية الأخلاقية ومقزِّزًا ووحشيًّا. وأدَّى ذلك في نهاية المطاف إلى نشأة تجارة سِرِّيَّة لتوفير إمداد من الجثث بسُبُل غير قانونية، تضمَّنت عادةً سرقة القبور وإنِ اشتملت أحيانًا على القتل. ولا شكَّ أنَّ عملية التشريح كانت مقترنة بروائح كريهة قبل تطوير أساليب الحفظ، وإن كانت رائحة الفورمالدهايد النفَّاذة المثيرة للغثيان يَسَّرَت تمييز طلاب الطب في العصر الحديث أثناء سيرهم في الشارع؛ إذ إنَّها تخترق ملابسهم وجلدهم.

ومن ثَمَّ كان التشريح ضارًّا بالصورة العامة للطب، كذلك فقد كان موضوعَ كتبٍ مفصَّلةٍ جميلةٍ عاليةِ التكلفة مُرفَقةٍ بها رسومٌ توضيحية؛ حيث استهدفت السوقُ الراقية الخبراءَ. أما طلاب الطب، فطُبِعَت لهم كتب دراسية صغيرة برسومات بسيطة وأسعار متماشية مع بساطتها، فلم يمزج فرعٌ آخر من فروع الطب بين الفن والعلم أو المعرفة والعرض مثل التشريح. وحتى الأطباء في طور الإعداد ازداد لجوءُهم إلى تشريح الجثث بأنفسهم، بعد أن طغى فضولهم على مزاعم الرُّقِيِّ. وكثير من الأسماء الكبيرة في مجال التشريح في أوائل العصر الحديث — جابرييل فالوبيو (١٥٣٢–١٥٦٢) وفابريكيوس آب أكوابندِنتي (١٥٣٣–١٦١٩) وفريدريك رويش (١٦٣٨–١٧٣١) وويليام تشيسلدِن (١٦٨٨–١٧٥٢) وويليام هانتر (١٧١٨–١٧٨٣) — كانوا على صلة بالجراحة أو طب التوليد، ولكنَّ الأطباء النهِمين للمعرفة، مثل ويليام هارفي (١٥٧٨–١٦٥٧)، كانوا يضطلعون بالعمل اليدوي في أبحاثهم أيضًا. وإن أُطروحة هارفي العظيمة التي أعلنت اكتشافه الدورة الدموية (١٦٢٨) تحمل في الواقع العنوان «تمرين تشريحي» في حركة القلب.

fig6
شكل ٢-٤: يُظهر هذا النقش الفيكتوري — الذي يعود إلى عام ١٥٨٠ تقريبًا — لسترادانوس مراحل متعددة من عملية إنتاج الكتب، تتضمن وضع قوالب الطباعة ومَلْأَها بالحبر وطباعة الأوراق والتدقيق بتصحيح تجارب الطباعة.

نظرًا لطبيعة الممارسة الطبية (أو حتى الجراحية) في تلك الحقبة، كان الأطباء يكتسبون معرفةً بالتشريح تفوق ما يمكنهم توظيفه فعليًّا، ولكنَّ أجزاء الجسد كانت ملموسة، وكان الاتفاق على هيكل تشريحي أسهل من الاتفاق على تفاصيل نظرية. وقد كان التشريح من المجالات التي شهدت تقدُّمًا ملحوظًا؛ حيث كان علماؤه يصِفون أجزاءً جديدة في الجسد بانتظام، مثل الأوعية اللَّبنية وصمامات الأوردة أو «دائرة ويليس»؛ وهي مفاغرة الشرايين عند قاعدة الدماغ، التي سُمِّيت هكذا تيمُّنًا بتوماس ويليس (١٦٢١–١٦٧٥). وبحلول أوائل القرن السابع عشر الميلادي لم يعد كثير من علماء التشريح يسلِّمون بآراء جالينوس، وفي «معركة الكتب» — ذلك النقاش الموسَّع الذي غطَّى جميع جوانب المعرفة الطبيعية، بشأن ما إذا كان القدامى أم المُحْدَثون أكثر درايةً بالعالم الذي نعيش فيه — كان علم التشريح أحد المجالات التي أحرز المُحْدَثون فيها نصرًا محقَّقًا.

بين الكيميائي والفيزيائي والسريري

إنَّ التحرُّر الناتج عن توجُّه الباحثين إلى تقصِّي الأمور بأنفسهم طال جوانبَ عديدة من الطب بالإضافة إلى الفلسفة الطبيعية. وقد تزامن عصر النهضة مع الحقبة التي أَطلَق عليها المؤرِّخون اللاحقون حقبة «الثورة العلمية»، التي أثَّرت في الطب وكذلك الفلك وعلم الكَوْنِيَّات والفيزياء وغير ذلك من العلوم. وكان العِلمان الطبيعيَّان الأقوى تأثيرًا في الطب هما الكيمياء والفيزياء.

نشأت الحركة الكيميائية في الطب على يد عبقري سويسري غريب الأطوار يُدعى باراسيلسوس (١٤٩٣–١٥٤١ تقريبًا)، وكان ذلك هو الاسم المعروف به لدى أتباعه؛ إذْ كان اسمه الكامل — ثيوفراستوس فيليبوس أوريولوس بومباستوس فون هوهنهايم — أطول من اللازم. وثمة رواية تقول إنه قصد باتِّخاذ ذلك الاسم معنى «أعظم من سيلسوس» — وهو مؤلِّف روماني صاحب كتاب جامع مُهِمٍّ في الطب — وهي رواية أسطورِيَّة على الأرجح، لكنها تجسِّد إحدى سِمَتين لافتتين للانتباه أثَّرتا على وجه الخصوص في مشواره المهني المتذبذب؛ فقد كان شغوفًا بحقيقة أنَّ المُحْدَثين لا بد أنْ يعيدوا تأسيس الطب (والعلم) انطلاقًا من المبادئ الأولى. فهو لم يجد نفعًا يُذكَر لحكمة أبُقراط أو جالينوس، وأحرق أحد كتب جالينوس على الملأ في بادرة تحدٍّ أثناء فترة (قصيرة) شَغَلَ خلالها منصبَ الأستاذية في جامعة بازل. وعلى الرغم من أنَّه من المُستبعَد أن يكون باراسيلسوس اعتنق المذهَب البروتستانتي الجديد في أيِّ مرحلة من مراحل حياته، فقد كان من الجليِّ أنه تأثَّر بالثورة الفكرية والعاطفية التي أشعلت حركةُ مارتن لوثر فتيلها رسميًّا في مرحلة مبكرة من حياته؛ إذ قال باراسيلسوس أكثر من مرة إنَّ التعلُّم مصدره الطبيعة وليس الكتب، وإنْ لم يمنعه ذلك من تأليف عشرات الكتب بنفسه، كثير منها طُبِع في حياته. ولعله كان يقصد في الحقيقة أنَّ التعلُّم مصدره كتبه «هو»، وليس كتب أسلافه.

تمثَّل إسهامه الثاني ذو الأثر الباقي في اهتمامه بالكيمياء، باعتبارها طريقة لفهم كيفية عمل جسم الإنسان، ومصدرًا للعقاقير اللازمة لمعالجة الأمراض، فكان يستخدم المعادن مثل الزئبق والزرنيخ بقدر استخدامه المستحضرات النباتية التقليدية في علاجاته، وسار أتباعه — اختصاصيو الطب الكيميائي — على نهجه. وأحيانًا ما توصَف فكرته عن الأمراض — باعتبارها تنشأ خارج الجسد — خطأً بأنها باكورة نظرية جرثومية المرض، ولكنَّ فكرته تلك كانت ناشئة في الواقع عن أفكاره الخيميائية الغامضة بشأن مسار الطبيعة. والمسألة لا تنتهي عند ذلك الحد فيما يتعلق بفِكر ذلك الرجل الغريب الذي أثار الجدل في حياته وبعد مماته؛ فقد حاول أتباعه — وقد كانوا كُثُرًا طوال ما يربو على قرن من الزمان — إعادة كتابة نظرية الطب والممارسة الطبية بلُغة كيميائية.

ثم ظهرت مجموعة أخرى بعد المجموعة الأولى بفترة قصيرة ومثَّلها اختصاصيو الطب الفيزيائي الذين رأوا الجسد أداةً ميكانيكية، مستندين في ذلك إلى الانتصارات التي حقَّقها علم الفلك وعلم الفيزياء. وفي حين اعتبر اختصاصيو الطب الكيميائي عمليةَ الهضم عمليةً كيميائية، رآها اختصاصيو الطب الفيزيائي عمليةَ طحنٍ ميكانيكية. وقد حلَّلَ أنصارهم اللاحقون حركة العضلات؛ حيث حسبوا القوة المتولِّدة عن انقباض العضلات، وسَعَوا إلى تمثيل الفسيولوجيا البشرية رياضيًّا متى أمكن ذلك. وكان من أعلام ذلك المذهب جاليليو، ونيوتن فيما بعد، اللذان استعاضا عن رؤية أرسطو للكون بنموذج أقوى بكثير، كانت المادة والقوة هما العاملين الفاعلين الخاضعين للقياس فيه. وخلال القرن الثامن عشر الميلادي، مثَّلت فكرة نيوتن عن الجاذبية، باعتبارها قوة تمدَّدت عبر الكون وفسَّرت أمورًا كثيرة، حافزًا أمام الأطباء الباحثين عن مبادئ مماثلة في الطب.

استهلَّ الارتباطُ الجديد بالبحث فترةَ نشاطٍ عظيمٍ في مجال الطب (والعلم)؛ فكثُرَت النظريات وساد التفاؤل، وحدث تغيُّر جذري في النهج المتَّبَع في فهم الصحة والمرض، ولكن التغيُّرات التي حدثت في كيفية معالجة الأطباء مرضاهم فعليًّا كانت أقل أثرًا. لا شك أنَّ المواد الكيميائية التي أدخلها باراسيلسوس وأتباعه كانت مستحدثة في معظمها، وقد استتبع انتشار الزُّهْرِي احتلال الزئبق مكانة طبية بارزة؛ فقد اجتاح الزُّهْرِي أوروبا في تسعينيات القرن الخامس عشر. وإذ كان أول ظهور له في نابولي — حيث ذهب بعض المرتزقة الإسبان إلى العالم الجديد بصحبة كولومبوس — كانت النتيجة الطبيعية هي افتراض أنه مرض جديد جلبه كولومبوس معه من أسفاره. لا يزال هذا الاحتمال قيد نقاش بين المؤرِّخين، إلا أنَّ الحقيقة المؤكدة هي أنَّ الزُّهْرِي في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر سلك منحَى الأمراض الجديدة، من حيث شراسته وسرعة انتشاره. ونظرًا للطفح الجلدي الذي يتسبب فيه ذلك المرض، استُخدِم الزئبق — الذي كان من العلاجات الثابتة للأمراض الجلدية — وبدا فعَّالًا في تهدئة الأعراض، حتى وإن كان سامًّا للمريض، ويَنتج عنه فرط إفراز اللُّعاب وتساقط الأسنان وغير ذلك من الأعراض الجانبية. كانت الرائحة المعدنية لأنفاس المريض يصعب إخفاؤها، وعلى الرغم من أن باباوات وفنانين وأطباءَ عانَوْا ذلك المرض، فقد ساد شكٌّ في انتقاله عبر الاتصال الجنسي منذ البداية (كانت الآفات التي تصيب الأعضاء التناسلية أُولى علامات المرض عادةً)، وسرعان ما أصبح استعمالُ لحاء شجرة الغويقم — من أمريكا الجنوبية — العلاجَ المفضَّل لدى من استطاع تحمُّل تكلفته. وقد أكَّد ذلك فكرةَ أن مرض الزُّهْرِي جاء من العالم الجديد، استنادًا إلى الافتراض القائل بأنَّ الله يضع العلاج إلى جوار منشأ المرض، حتى يحثَّنا على البحث عنه.

fig7
شكل ٢-٥: يظهَر الاختلاف بين المكانة الاجتماعية والوظيفة الطبية لكلٍّ من الطبيب والجرَّاح في هذا النقش من عام ١٦٤٦. في هذين المنظرين، يقدِّم الطبيبُ بزيه الرسمي على اليسار دواءً لمريضٍ طريح الفراش، وعلى اليمين نجده يُشْرف على عمل جرَّاح أقل هندامًا منه يعمل على بَتر ساق رجل.

على الرغم من تلك الأمراض الجديدة والعلاجات الجديدة، لم يكن معظم الأساليب الطبية لعلاج المرضى لِيثيرَ دهشة أبُقراط؛ فالفَصد والمقيِّئات والمليِّنات وطائفة العلاجات المرتبطة بمذهب الأخلاط ظلَّت هي الركيزة الأساسية التي يستند إليها الأطباء. والحقيقة أنَّه رغم أفول نجم جالينوس، ظلَّ نجم أبقراط ساطعًا. من بين الاختصاصيين السريريِّين في القرن السابع عشر، لا يزال توماس سيدنهام (١٦٢٤–١٦٨٩) محل احترام، وأُطلق عليه لقب «أبُقراط الإنجليزي»؛ إذ سعى إلى إعادة الطب إلى الفن التجريبي الذي ارتبط لديه بأبي الطب. وكتب أنَّ الطب ينبغي أن يُعنَى بالوصف السريري المتأنِّي للمرض (تركَ أوصافًا تفصيلية لأمراض من بينها النقرس والهستيريا والجدري). وبفضل ما يوفره التشخيص السليم للمرض من حماية، يمكن البحث عن العلاج بإجراء التجارب. وكان لسيدنهام دور محوري في الدعوة إلى استخدام علاج آخر من العالم الجديد — الكينين (يحمل أسماءً أخرى تعكس نشأته: لحاء بيرو أو لحاء اليسوعيين) — في علاج الحمى المتقطِّعة.

أحدثت تجربة سيدنهام مع لحاء بيرو تغيُّرًا جوهريًّا في مفهومه الشامل عن المرض؛ فعلى الرغم من أنه ظلَّ متقبِّلًا لفكرة الأخلاط الأبُقراطية، فقد بدا أنَّ الكينين يقضي على نوبات الحُمَّى المتقطعة كليًّا؛ فقد بدا هذا اللحاء علاجًا «متخصِّصًا»، يتميز بفاعلية مذهلة في مواجهة ذلك الاضطراب على وجه التحديد لدى المرضى جميعًا. وشجَّعه ذلك على الاعتقاد في إمكانية تصنيف الأمراض — مثلما يُصنِّف علماء النبات نباتاتهم — وأنَّ اختلاف المرض وأعراضه بين الأفراد حَدَثٌ عَرَضي، مثل الاختلاف فيما بين أزهار البنفسج أو غيرها من الأزهار. وقد كتب في مقولته الشهيرة:

تتسم الطبيعة — في إتيانها بالمرض — بالانتظام والاتِّساق؛ حتى إنَّ أعراض المرض الواحد لدى أشخاص مختلفين تكون واحدة في معظمها، والظواهر نفسها التي تشهدها في مريضٍ في منزلة سقراط تشهدها في مريض ساذج.

يمكن النظر إلى أفكار سيدنهام على أنها نقطة تحوُّل نوعًا ما في مسار الفِكر السريري؛ فقد شجَّعت الأطباءَ في الأجيال اللاحقة على تصنيف الأمراض. وأهم من ذلك أنه استهلَّ بذلك العمليةَ الحديثةَ المتمثلةَ في استخلاص الفَرق بين المرض والشخص الذي يعانيه من ناحية، والتعرُّف — من ناحية أخرى — على السمات العامة لكل نوع من المرض التي يصير معها تخصيصُ علاج بعينه له تصرُّفًا منطقيًّا. وتكمن المفارقة في أنَّ سيدنهام لم يرَ نفسه قط سوى أبُقراطي ماهر، إلا أنَّ فِكرَه طرح المُعضِلة الطبية الحديثة الآتية: كيف يمكن التمسُّك باعتقاد التفرُّد المميَّز لكل مريض، وفي الوقت نفسه تطبيق النتائج الأكثر عمومية المترتبة على تشخيصٍ وعلاج قائميْن على أساس علمي؟

هل كان طبًّا مستنيرًا؟

احتلَّ سيدنهام مكانة مرموقة في القرن التالي لوفاته؛ فقد نُشِرَت أعماله في البداية باللاتينية — التي كانت لا تزال هي اللغة السائدة — وظهرت أيضًا في طبعاتٍ مترجمَة كثيرة؛ إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرها من اللغات الأوروبية. ويقال إنَّ أشهر معلِّم في الطب في القرن الثامن عشر — هِرمان بورهاف (١٦٦٨–١٧٣٨) — لم يأتِ على ذكر سيدنهام في محاضراته قَطُّ دون أن يرفع قبعته تحيةً له. كان بورهاف عَلَمًا بارزًا في جامعة ليدن طوال أكثر من ٤٠ عامًا، وتوافد إليه الطلاب من جميع أنحاء أوروبا، وتأثَّرت به مبادرات تعليمية في إدنبرة وفيينا وجوتنجن وجينيف وغيرها.

كان فِكر بورهاف مستقًى من مصادر شتى؛ إذ استَمَدَّ أفكاره الطِّبية من مجالات الكيمياء والفيزياء وعلم النبات وغيرها من المجالات، وإنْ كان تحلَّى أيضًا بحَدْس ممتاز ودِقَّة تشخيصية. وقد اشتهر كلٌّ من محاضراته وتعاليمه الصادرة عند فراش المريض، وكان يملك عيادة خاصة كبيرة تضمَّنت — كما كان لا يزال شائعًا آنذاك — كثيرًا من الاستشارات البريدية، قدَّمها لأطباء حائرين وكذلك مرضى قلِقين. ومن الجدير بالاهتمام أيضًا أن بورهاف ألَّف سلسلة من الكتب الدراسية في الكيمياء والمواد الطبية والطب، إضافةً إلى مطبوعات عدَّة في التشريح وعلم النبات وأمراض الجهاز التناسلي. وقد امتدَّ أثره إلى جيلين أو ثلاثة من الأطباء، وإنْ كان أساس عمله هو التجميع وليس الاكتشاف الأوَّلي. وعلى الرغم من انبهاره بالعالَم الطبيعي (لا سيَّما حديقة النباتات المحبَّبة إلى نفسه)، فإنَّه لا يزال جزءًا من التقاليد المتوارثة عن طب المكتبات؛ فقد كان أبُقراط لا يزال شخصية حيوية بالنسبة إليه، وقد ظلَّ يرجع إلى الماضي بحثًا عن الحقائق والنُّهُج الطبية، رغم تمسُّكه بثقته في التقدُّم المُحرَز في القرن السابق.

fig8
شكل ٢-٦: كان هِرمان بورهاف أشهر معلِّمِ طب في عهده، وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من الأطباء الشباب تدرَّبوا على يديه، فلم يكن جمهور محاضراته على الأرجح كبيرًا إلى هذا الحد.

كان من تلامذة بورهاف أشهرُ أنصار المذهب الطبيعي في القرن الثامن عشر، وهو: كارل لينيوس (١٧٠٧–١٧٧٨)، الذي حوَّل التصنيف إلى علم رائد؛ إذ أنشأ نظام التسمية الثنائية، الذي تُعرَف بموجبه الكائناتُ الحيةُ بجنسها ونوعها. كرَّس لينيوس حياته لتصنيف كائنات العالَم الطبيعي، لا سيَّما النباتات، وكان يَعتبر نفسه آدم ثانيًا؛ إذ كُلِّف الأول بمهمة تسمية الحيوانات والنباتات في جنة عدن. لم تكن أوبسالا — حيث عمل لينيوس أستاذًا في الطب — بمنزلة جنة عدن، لكنه نظَّم سلسلة من الرحلات الاستكشافية لطلابه إلى العديد من أماكن العالم الغريبة، وقد كانوا يحرصون بإخلاصٍ (إنْ بَقُوا على قيد الحياة) على العودة منها بعيِّنات طبيعية من كل نوع حتى يصنِّفها هو. كذلك قدَّم لينيوس تصنيفًا للأمراض، إلا أن تصنيفه كان أقلَّ تأثيرًا من تصنيفات أخرى أُجرِيَت في عصر التنوير؛ منها التصنيفات التي أجراها كلٌّ من فرانسوا بواسييه دو لا كروا دو سوفاج (١٧٠٦–١٧٦٧) من جامعة مونبلييه، وويليام كالِن (١٧١٠–١٧٩٠) من جامعة إدنبرة، وإراسموس داروين (١٧٣١–١٨٠٢) الشاعر وعالِم النبات والمخترِع وممارس الطب في ليتشفيلد وأماكن أخرى من منطقة المقاطعات الوسطى في إنجلترا. كانت تصنيفات الأمراض تلك كلُّها مفصَّلة، وقائمة بالأساس على ما يمكن أن نسمِّيَه أعراضًا، وليس علامات المرض أو مسبباته، فكانت الحمى مرضًا في حد ذاتها. ومن أكثر الأمور ذات الدلالة أنَّ الألَم أُدرِج في التصنيف بتفصيل دقيق، حسب خصائصه وشِدَّته وموضعه.

كشفت خرائط الأمراض تلك سمةً بارزةً في ممارسة الطب إبَّان عصر التنوير؛ وهي أنَّه كان موجَّهًا نحو المريض؛ ومن ثَمَّ مثَّل استئنافًا للتقليد الأبُقراطي، فكان الأطباء يعتمدون في تشخيصهم على وصف المرضى لِمَا يشعرون به والأعراض التي يعانونها، وفي إطار ذلك السيناريو، عادةً ما يصف المؤرِّخون المرضى بأنهم كانوا يتسوَّدون اللقاء مع الأطباء. ومن المحتمَل أن يكون ذلك وصفًا مبالَغًا فيه، تمامًا مثلما أنَّ وصْفَ الطب خلال القرن التاسع عشر وما بعده بأنَّ السيادة فيه للطبيب بلا استثناء من المحتمَل أن يكون وصفًا مبالغًا فيه. إلا أنَّه قبل ظهور أساليب التشخيص الحديثة لم يكن المريض لِيَخرجَ من لقائه بالطبيب بنبأ مؤسِف مثل أنَّ ضغط دمه أو نسبة السكر فيه أعلى من اللازم (أو أدنى من اللازم)، أو أنَّه ثمة ظِل مريب ظاهر في صُوَر الأشعة السينية على الصدر؛ ففي ظل «النظام القديم»، كان الطبيب والمريض يتحدَّثان لغة واحدة ويمتلكان تصوُّرات مشابهة بخصوص المرض وأسبابه. وقد يخرج المريض من زيارة الطبيب بتوقُّعات خطيرة أو مُبشِّرة لسير المرض، ولكنْ كان ثمة ارتباط مباشر بينها وبين الأعراض التي دفعته إلى استشارة الطبيب من الأساس.

ثمة جانبان آخران جديران بالذكر من جوانب ممارسة الطب في عصر التنوير؛ أولًا: كان ذلك زمن المشروعات الطبية المبهرة؛ فقد كانت الصحة مهمة، وكان الناس مستعدين للإنفاق في سبيلها، استتبع ذلك فتح المجال أمام المعالجين الطموحين (أو المحتالين) على مختلف ضروبهم حتى يجدوا لأنفسهم مكانًا في السوق الطبية. ولم يكن التمييز بين الطبيب «المُدَّعي» والطبيب «النظامي» بالأمر الهيِّن دائمًا؛ إذ إن كثيرًا من المُدَّعين المزعومين كانوا عادةً ما يدورون أيضًا في الفلك الثقافي للطب، بينما كان من الممكن أن يلجأ «النظاميُّون» إلى الدعاية لأساليبهم العلاجية واستخدام وصفات سِرِّيَّة للعلاج، والتشجيع على التشهير بسُمعتهم كوسيلة لجذب الانتباه؛ ومن ثَمَّ اجتذاب المرضى. أما الطب التكميلي الذي يُمارَس في العصر الحاضر — ويستند عادةً إلى مجموعة بديلة من التفسيرات السببيَّة للصحة والمرض — فلم يكن له صدًى كبير في القرون الماضية. ربما كان للمحتالين المدَّعين — كلٌّ على حدة — أفكارهم الخاصة عن سبب المرض، أو السبيل الأفضل إلى علاجه، ولكنَّهم كثيرًا ما كانوا يستعينون في علاجاتهم بالشخصيات التاريخية المهمة في مجال الطب؛ فقد تَصدَّر أبُقراط وجالينوس إعلانات المعالجين غير النظاميين الدِّعائيَّة في تلك الحقبة، ولكن باراسيلسوس كان استثناءً جديرًا بالذكر؛ إذ إنَّه لم يكتفِ بنبذ النظريات فحسب، وإنما التقاليد الطبية بأكملها؛ فقد كان يملك عقلية لا تاريخية بامتياز. أمَّا معظم «المدَّعين» فكانوا يستندون عوضًا عن ذلك إلى المألوف والتقليدي، ويحوِّلونه بمهارة إلى صالحهم، في وعودهم أو في كيفية تطويعهم لأدواتهم وخدماتهم.

كانت السمة الملحوظة الثانية للطب في عصر التنوير هي التفاؤل المقترن بالعمل الدءوب؛ فقد كان ذلك عصر المشروعات والمؤسسات؛ فكانت المُستشفَيات تُنشأ بصفة منتظمة إلى حدٍّ كبير، وجرت محاولات في أوروبا قاطبةً لإصلاح الخدمات الطبية العسكرية، وشاعت الأعمال الخيرية الموجَّهة إزاء الطب. وكانت فكرة التقدُّم — بما في ذلك التقدُّم الطبي — مُسَلَّمًا بها، وقد آمنَ الأطباء والمرضى على حدٍّ سواء بأنَّ الطب ستزداد إمكاناته في المستقبل عن إمكانات الطب في الماضي والحاضر. وفي الوقت نفسه، ظلَّ الأطباء والجرَّاحون المثقَّفون يتطلَّعون إما إلى أبُقراط أو سيدنهام؛ ليس للإلهام فحسب، وإنما التماسًا للمعلومات والقُدوة. أمَّا بالنسبة إلى بورهاف أو كالِن، فلم يقتصر تاريخ الطب في أهميته على قيمته الأثرية، وإنما كان منبعًا للحكمة الحَيَّة. وفي القرن التاسع عشر، صار الأطباء القُدامى جزءًا من التاريخ، فيما أخذ جيل جديد من الأطباء يزداد تطلُّعًا إلى المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤