الفصل العاشر

الاحتكام إلى القوة (منطق العصا، اللجوء إلى التهديد)

ad baculum; appeal to force

جلوا صارمًا وتلوا باطلًا
وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم
المعري

ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي على الكائن العاقل أن يعتنق بها الحقيقة، ليس هذا عرفانًا بالحقيقة، وما الحقيقةُ التي يُعتقَد بها على هذا النحو سوى خرافةٍ كبيرةٍ التصقَتْ بالمصادفة بالألفاظ التي تُشير إلى حقيقة.

جون ستيوارت مِل، عن الحرية
إلى أوكسفورد أرسل الملك فرقةً من الفرسان؛
لأن التوريين لا يعرفون الحجةَ بل القوة،
وإلى كمبردج أرسل نفس القدر كتبًا؛
لأن الهوجيين لا يُسَلِّمون بالقوة بل بالحجة.
وليم براون

حين يقول ستالين: «ارقُص» فإن الرجلَ الحكيمَ يرقص.

خروتشوف

***

ليست الحرية شيئًا «يُضاف» إلى الفكر، فيكون لدينا فكرٌ حرٌّ بعد أن كان لدينا فكرٌ غير حر، فالفكر الحقيقي لا يكون إلا حرًّا، الفكر حرٌّ بحُكم ماهيته وحكم تعريفه، الحرية ليست «محمولًا» predicate للفكر بل «كيفية وجود» أو «أسلوب كينونة»، الحرية ليست شيئًا «يَعرِض» للفكر بل هي شيءٌ «يَكُونه»! بدون حرية أنت لا تفكر … بل تُردِّد وتُكرِّر … وتصفر كجنادب الليل … وتبيع إحدى جوارحك كالبغيِّ لتشتري السلامةَ، والفكر غير الحر ليس فكرًا، وإنما هو ﮐ «النقطة الممتدة» و«المربع المستدير» … تناقضٌ ذاتي.١
تعني كلمة baculum باللاتينية: العصا، ومن ثم تعني هذه المغالطة اللجوء إلى التهديد والوعيد من أجل إثبات دعوى لا تتصل منطقيًّا بانفعال الخشية والرعب الذي تهيب به، تقبع في صميم هذه المغالطة فكرة «القوة تصنع الحق» might makes right، وهي مغالطة لأن التهديد يعمل على مستوى دافعي مغاير لمستوى القناعة الفكرية، بوسعك أن تفرض السلوك القويم بالقوة، ولكن ليس بوسع أحد قط أن يفرض الرأي العقلي بالقوة، وإن ألف سيفٍ مُصْلَتٍ على رقبتك لن تنهض لك دليلًا على أن اثنين واثنين تساوي خمسة مثلًا! قد تشتري رقبتَكَ بالطبع وتُسَلِّم للمأفونين بأنها لكذلك، ولكن الانصياع لا يعني الاقتناع.
هكذا فَعَل جاليليو حين أذعن للتفتيش وآثَرَ السلامة، وبقيت الأرض تدور في مِلَّته واعتقاده حيث لا تفتيش ثم ولا محاكم، وهذا ما لم يفعله جيوردانو برونو G. Bruno (١٥٤٨–١٦٠٠) من قبله، فقد ذهب برونو إلى أن هناك أنظمةً شمسية عديدة تسبح في فضاء لا نهائي، وهَدَّدته الكنيسةُ بالموت ما لم يغير آراءه، إلا أنه لم يرضخ لمنطق العصا، وآثر الموت حرقًا على الخازوق عام ١٦٠٠.

أمثلة

  • (١)

    ينبغي أن توافق على السياسة الجديدة للشركة، هذا إذا كنت تريد أن تحتفظ بوظيفتك.

  • (٢)

    هناك براهين وفيرةٌ على صدق الكتاب المقدس، وكل من يرفض التسليم بهذا الصدق سيكون مصيره العذاب.

  • (٣)

    أتعرف يا دكتور أدهم أني بحاجة إلى تقدير «ممتاز» في هذه المادة؟ يسرني أن أمُرَّ عليك فيما بعد لنتحدث في ذلك، إنني سأكون بجوار مكتبك على أيِّ حال أزور والدي، إنه عميدُ كليتك بالمناسبة، مع السلامة، أراك بخير.

يمكن تجريد مغالطة العصا في الصورة التالية:

اقبل الحجةَ «أ» وإلا فإن الحدث «س» سوف يحدث
الحدث «س» مؤذٍ أو مدمِّر أو مهدِّد
إذن الحجة «أ» حجة سديدة.
غنيٌّ عن البيان هنا أن القياس خاطئ بل عابِث، وأن انفعال الخوف أو الرعب الذي يثيره ليس من جنس الحجة ولا من عنصر البرهان، ومِن ثَمَّ فإنه لا يمس القضية التي يريد دَحضَها ولا تتقابل قرونهما في نِطاح،٢ لا معنى على الإطلاق لأن تفرض رأيًا بالقوة؛ لأن بين القوة والرأي فجوةً لا تُعبر، تُذكِّرنا ﺑ «فجوة هيوم» بين عالم القيمة وعالم الوقائع من حيث تَبايُنُ العالمين واستحالة العبور من أحدهما إلى الآخر.

(١) متى تكون العصا صائبةً منطقيًّا؟

قد يكون التهديد، أو التذكير بالخطر، صائبًا منطقيًّا، وذلك حين يكون ذا صلة مباشرة بنتيجة الحجة، أو حين يكون الخطرُ هو نفسه موضوع الحجة:

مثال ١: «توقفوا عن التجارب النووية في هذه المنطقة القريبة من القطب؛ لأنها ربما تُعقِبُ زلازلَ وفيضاناتٍ وإشعاعات.»

في هذا المثال يناهض أنصارُ البيئة إجراء التجارب النووية، وفيه نجد أن الخطر متصل منطقيًّا بالحجة؛ لأن احتمال حدوث النتائج الخطرة هنا مترتبٌ سببيًّا وليس صادرًا عن قرار أو توجيه.

مثال ٢: «ذاكر جيدًا وإلا انخفضت درجاتُك.»

•••

من المؤسف حقًّا أن شطرًا كبيرًا من الحوار عندما لم يَعُد محتكمًا إلى العقل بل إلى العصا، إنه أقرب إلى لعبة «التحطيب» منه إلى لعبة الجدل، فنحن لا ننظر إلى الاختلاف في الرأي على أنه ثراءٌ وخصب، بل على أنه انحرافٌ وخيانة، وما نزال نُلوِّح بالعصا كلما أعوَزَتنا الحجة، ومن المؤسف في أمر العصا أن التهديدات، الصريحة أو المستترة، الظاهرة أو المقدَّرة، بوسعها أن تخلق وهمًا بأن امرءًا ما قد تم إقناعُه أو إفحامُه، وبوسعها أن تُخرِس الخصمَ فعلًا وتَثنيه عن المضي في الجدال، وتترك انطباعًا زائفًا بأنه قد خسر المناظرة.

العصا أفشلُ أداةٍ للإقناع، وأفشل مفتاحٍ للعقل والقلب.

واللجوء إلى العنف لدعم قضيةٍ كاللجوء إلى المِمحاة لإزالة الظل!

يوشك العنفُ أن يكون اعترافًا بغياب أي منطق وانعدام أي دليل.

بوسع العصا أن تشج الرأس وبوسعها أن تزهق الروح، ولكن هيهات لها أن تُقيم برهانًا أو تثبت حجة، وقلَّما يكون التلويح بالعصا سببًا لاعتقاد أيِّ شيء، فهو في أمثل الأحوال «وازع» أو «دافع» لتغيير السلوك لا لتغيير الرأي، وكثيرًا ما يدفع الناس إلى التظاهر باعتقاد ما لا يعتقدونه، فالتهديد، كما أسلفنا، ليس من فصيلة الحجة، ومِن ثَمَّ فهو لا يُخلف الاعتقاد بل النفاق، ولا يؤتي من الثمار إلا أنكدَها، هكذا تتجلَّى لنا روعةُ الآية الكريمة التي تحسم أمرَ التهديد حسمًا منطقيًّا سديدًا، ولا توليه إلا استفهامًا «إنكاريًّا» ساخرًا: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: ٩٩).

١  مع الاعتذار لأساطين مدرسة الارتياب في الهرمنيوطيقا: ماركس ونيتشه وفرويد، الذين أعلنوا زيفَ الوعي نفسه، وفضحوا حيلَ الوعي المباشر وأزالوا عنها القناع، والاعتذار ليورجين هابرماس الذي يذهب إلى أن اللغة كيانٌ أيديولوجي يختزن في قلبه الزيف والخرافة والاستلاب، وأن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير متفطنين إليه، الأمر إذن ينطوي على تشويه منظم للفهم وليس مجرد سوء فهم.
فالحق أن ليس ثمة تناقض بين هذا الحديث وبين ما قلناه هنا عن الصبغة الأنطولوجية للحرية بالنسبة للفكر، ذلك أن حديث هؤلاء يجول في مستوًى آخر لا يصطدم ولا يتقاطع مع حديثنا (انظر في ذلك وفي غيره، كتابنا «فهم الفهم»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٣، ص٢٨٧–٣٤٨).
٢  الحق أن بعض المناطقة قد ذهب إلى أنه ما دام ضرب الخصم بالعصا ليس «حجة» أصلًا، فضلًا عن أن يكون «حجة مغالِطة»، فلا ينبغي أن تُدْرَجَ اﻟ ad baculum بين المغالطات المنطقية، انظر في ذلك: John Woods and Douglas Walton: “ad baculum”, Grazer Philosophical Studies, 2 (1976), pp. 133–140.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤