الفصل الثالث والثلاثون

الخطأ المقولي (خلط المقولات، خلط الأوراق)

category mistake

تريد أن تقطع الجبال بموسى الحلاقة؟
أن تتخذ تلسكوبًا لقراءة الجريدة؟
أن تتخذ ممحاةً لإزالة الظل؟
أفِق لقد أطبَقَ عليك عَمَهُ المقولة.

***

المقولة category تعني: فئة، جنس، عائلة، نمط، نوع … إلخ، وهو مصطلح يستخدم ليدل على شريحة أساسية في تصنيف الواقع.١

والخطأ المقولي هو أن تضع الشيء في الفئة الخطأ، أو أن تعرض أشياء أو وقائع من نوع ما كما لو كانت تنتمي إلى نوع آخر، أو أن تنسب لشيء ما خاصية لا يمكن أن تخص هذا الشيء.

أن ترتكب خطأ مقوليًّا هو أن تقرن أشياء من تصنيفات مختلفة لا يجوز عقلًا أن تجتمع، كأن تقول: أعداد حمراء، فضائل بدينة، قضايا غير قابلة للأكل،٢ أو أن ترى الاعتقادات على أنها أشياء تشغل حيزًا مكانيًّا في الرأس، أو ترى الأعداد كأشياء مكانية كبيرة، أو الزمن كشيء يتدفق … إلخ.

ولما كانت جميع الأخطاء القضوية تتضمن ضربًا ما من الإسناد الخاطئ للخصائص، فإن بإمكاننا القول بأن أي خطأ هو، بمعنى ما، «خطأ مقولي»: وضع شيء ما في فئة غير فئته الصحيحة، أو إدراجه في تصنيف أو شريحة لا تخصه، على أن مصطلح «خطأ مقولي» في الاستخدام الفلسفي الدارج يبدو أسوأ أنواع الإسناد الخاطئ، إذ يتضمن التصديق على ما هو في الحقيقة «محال منطقيًّا».

أن تقول «هذه الذاكرة بنفسجية» فأنت تضفي على كيانٍ معين خاصةً «لا يمكن» أن يمتلكها هذا الكيان، لا مجرد أنه «تصادف» ألا يمتلكها، أما حين تقول «معظم الأمريكيين سود» فأنت رغم خطأ عبارتك لا ترتكب «خطأ مقوليًّا»: ذلك أن كون معظم الأمريكيين بيضًا هو صدق «عَرَضي» (طارئ، حادث) contingent فحسب، وليس ثمة استحالة منطقية في أن تنتظم الوقائع وتنصرف الأمور بحيث يكون معظمهم سودًا، لكي يكشف المرء خطأ مقوليًّا يتعين أن يبين أنه ما إن يفهم الظاهرة المعنية فهمًا صحيحًا حتى يتجلى لعقله أن الدعوى المطروحة لا يمكن «من حيث المبدأ» in principle أن تكون حقًّا.

تلتقي جميع ضروب الخطأ المقولي في أنها تتضمن إساءة فهم لطبائع الأشياء التي تتحدث عنها، فهي تتجاوز الأخطاء العادية والبسيطة كالتي تحدث حين ننسب لشيءٍ صفةً لا يتصف بها ولكن كان من الجائز أن يتصف بها: الخطأ المقولي هو أن ننسب للشيء صفةً من المحال منطقيًّا، وفي جميع الأحوال الممكنة، أن يتصف بها.

(١) جلبرت رايل والخطأ الديكارتي

كان جلبرت رايل G. Ryle (١٨٤٨م) هو مَن أدخل فكرة «الخطأ المقولي» كطريقةٍ لتبديد الخلط المتفشي في نظرية ديكارت في العقل، وتبديد الكثير من المشكلات الظاهرة في فلسفة العقل، افترض ديكارت أن العقل «شيءٌ» بنفس الطريقة التي يكون بها الجسد شيئًا، ثم طفق يتساءل: كيف يتفاعل هذان الشيئان؟

ذهب رايل إلى أن من الخطأ أن نعامل العقل على أنه شيء مكون من جوهر لا مادي؛ لأن محمولات الجوهر غير ذات معنى إذا كنا بإزاء مجموعة من الاستعدادات والميول والقدرات (أي العقل)، إن ديكارت «يُشَيِّئ» الأحداث العقلية بدلًا من أن ينظر إلى الأوصاف العقلية على أنها مجرد نوعٍ واحد من وصف الأشخاص واستعداداتهم.

يضرب رايل ثلاثة أمثلة للخطأ المقولي:
  • (١)

    فهذا زائر غريب لجامعة أكسفورد، اطَّلع على مختلف المدرجات والمكتبات والمعامل والملاعب والمكاتب الإدارية … إلخ، وإذا به يسأل بعد كل ذلك: «حسن، ولكن أين الجامعة؟» لقد أخطأ الزائر إذ افترض أن الجامعة شيء آخر يُضاف إلى ما رآه، إنما الجامعة اسم كلي ينتمي لنمط منطقي أعلى من نمط المكاتب والملاعب والمكتبات والمعامل والمدرجات، الجامعة هي الطريقة التي تنتظم بها كل تلك الأشياء التي شهدها الزائر، وليست شيئًا من بينها.

  • (٢)
    وهذا طفل يشاهد عرضًا عسكريًّا لفرقة من الجيش، وبعد أن شهد الكتائب وبطاريات المدفعية وأسراب الطائرات … إلخ، إذا به يسأل: «ومتى ستظهر الفرقة؟» إن العرض لم يكن عرضًا لكتائب وبطاريات وأسراب «و» فرقة and a division، بل كان عرضًا لكتائب وبطاريات وأسراب فرقة of a division.
  • (٣)

    وهذا زائر غريب يشاهد مباراة كريكت، وبعد أن أطلعناه على الضاربين والرماة والممسكين والملعبيين … إلخ، إذا به يسأل: «ولكن مَن ذا الذي، بَعد، سيجَسِّد روحَ الفريق؟» لقد أخطأ الغريب خطأ مقوليًّا حين وضع نشاط «تجسيد روح الفريق» في نفس النمط أو الفئة الخاصة بالرمي والضرب والإمساك، ذلك أن تجسيد روح الفريق ليس وظيفة خاصة مثل الضرب والرمي والإمساك، وإنما هو طريقة تُؤدَّي بها هذه الوظائف الخاصة.

    ويقترح رايل محكًّا لكشف «الفروق المقولية» category differences، وهو أن نرى ما إذا كان استبدال تعبير مكان آخر في نفس الجملة يؤدي إلى نوع من اللامعقولية يُطلق عليه absurdity (محال، باطل، خُلف، سخف).٣
من المعلوم أن ديكارت قال بمذهب «الثنائية» dualism ومفاده أن الإنسان مكوَّن من جوهرين متمايزين: النفس (وهي فكر)، والجسم (وهو امتداد)، وأن بين هذين الجوهرين المختلفين «تفاعلًا» interaction (متبادلًا)، لم ينجح ديكارت بعد أن أكد ثنائية الجوهر في أن يُفسر كيف يحدث هذا التفاعل الثابت والمشهود بين النفس والجسد، وقد تناول رايل هذه الثنائية الديكارتية بالنقد الشديد وأسماها عقيدة «العفريت في الآلة» the ghost in the machine، يقول رايل: «إن هذه العقيدة تؤكد على وجود أجسام وعقول معًا، وتؤكد على وجود عمليات فيزيائية وعمليات عقلية، وأن هناك أسبابًا آلية للحركات الجسدية وأسبابًا عقلية للحركات الجسدية، وسوف أثبت أن هذه العبارات العطفية محالة، ولكن يجب أن نلاحظ أن الحُجة لن تثبت أن أية قضية من القضايا المعطوفة على نحو غير منطقي محالة في ذاتها، فأنا لا أنكر، مثلًا، وجود عمليات عقلية (فإجراء عملية القسمة الطويلة في الحساب هي عملية عقلية) ولكنني أقول إن عبارة «توجد عمليات عقلية» لا تعني نوع الشيء الذي تعنيه عبارة «توجد عمليات فيزيائية»، ومن ثم لا يكون معقولًا أن نربط بينهما أو نفصلهما.»٤
لقد أخطأ ديكارت عندما زعم أن العقل جوهر وشيء، ووضعه في نفس مقولة الجسم، ولكنه أضفى عليه مجموعة مركبة من السمات غير الفيزيائية، أما رايل ﻓ «العقل» عنده لا يدل على شيء من أي نوع، سواء كان فيزيائيًّا أو غير فيزيائي، إنه اسم جمعي نستعمله للدلالة على نماذج من السلوك patterns of behavior، واللغة تخدعنا أحيانًا فنظن أن كل اسم لا بُدَّ من أن يدل على شيء ما … فالعقل اسم، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون اسمًا لشيء ما، العقل لا يُسمِّي شيئًا على الإطلاق، وإنما هو كلمة عامة نستعملها للدلالة على نماذج السلوك، والميول، والاستعدادات للسلوك بطرق معينة، عندما نقول إن الناس لهم أجسام وعقول، فمن الخطأ أن نُفسر ذلك على أنه يشبه القول إن الطيور لها مناقير وريش أو إن القطط لها أرجل وذيول.٥

(٢) خطأ مقولي في الميثودولوجيا (المنهج العلمي)

بعد أن بيَّن بوبر أن الملاحظات في العلم «محملة بالنظرية» theory-laden، وأنها سليلة النظرية وليست محايدة، وأنها مِن ثم جديرة أن تبدو مدعمة للنظرية ما لم نفطن لذلك ونعتصم بالملاحظات التفنيدية القاسية والمناوِئة وبغير ذلك من عناصر منطق التكذيب ومنهجه — بعد أن أسهب في تبيان ذلك طفق يرسم طريقًا لتقدم العلم في مراحل أربع، يعنينا منها في هذا المقام المرحلة الثانية: بعد التثبت من الاتساق الداخلي (الصوري) للنظرية والتأكد من غياب أي تناقض منطقي بين فروضها الأساسية، تبدأ مرحلة ثانية «شبه صورية» semiformal يتم فيها التمييز بين العناصر الإمبيريقية والعناصر المنطقية، أي فصل القضايا التي لها نتائج أو مترتبات إمبيريقية عن القضايا التي ليس لها، ذلك أن معظم النظريات تشتمل على عناصر «تحليلية» analytic  «قبلية» a priori وأخرى «تركيبية» synthetic  «بعدية» a posteriori، وبهذه الخطوة التمييزية يُبرز العالِم الصورةَ المنطقية للنظرية ويجعلها صريحة معلنة، ومن شأن التهرب من هذه الخطوة أن يؤدي إلى «أخطاء مقولية» category mistakes تؤدي بالعالِم إلى أن يسأل السؤال الخطأ، ويفتش عن معطيات إمبيريقية حيث لا توجد معطيات (فلعل النظرية كلها من قبيل «تحصيل الحاصل» tautology)، افترض ديكارت، على سبيل المثال، أن «النفس» جوهر بسيط مفكر (والجسم امتداد قابل للقسمة)، وأنها رغم اختلافها الجوهري عن الجسم فهي ليست حالَّة فيه حلول النوتي في السفينة بل متحدة به اتحادًا جوهريًّا، غير أنه في مواضع أخرى من كتبه يتحدث عن النفس كأنها حالَّة في الجسم مجرد حلول، واختار لها الغدة الصنوبرية مقامًا أو «قمرة قيادة» يحدث عبرها التأثير المتبادل interaction بين النفس والجسم، لقد سأل ديكارت السؤال الخطأ، وفتش في المكان الخطأ (الغدة الصنوبرية) عن شيء لا وجود له في هذا المكان!

(٣) الخطأ المقولي في فهم الفن

(٣-١) الفن والحياة

ليس الفن هو الحياة، وإلا لكان إضافةً عديمة النفع ولكان عبثًا لا حاجة لنا به.

سترثرزبيرت، زيف الواقعية
مهما تكن علاقته بالحياة فالفن غير الحياة! صحيح أنه ينبثق عن الإنسان ويشطأ من تربة الحياة، إلا أنه شأنه شأن كل كيان «انبثاقي» emergent — مستقلٌّ عن منشئه مغاير لأصله ولا يمكن «رده» إلى عناصره الأولى، الفن فن والحياة حياة، ومن يتعامل مع الفن بمنطق الحياة أو يقيسه بمعايير الحياة يقع في «خطأ مقولي» ذريع، وقوله خطلٌ لا تجدر مناقشته، إنه، على حد تعبير كلايف بِل، «يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، أو يستخدم تلسكوبًا لقراءة جريدة.»٦
الفن عالمٌ قائم بنفسه شأن عالَم الرياضيات أو عالم الوجد الصوفي … من الخطأ الفادح أن نحاول فهم الموضوع الإستطيقي بإدخاله في إطاراتنا الذهنية المعتادة، فالعمل الفني هو من نفسه بمثابة عالمه الخاص! ولا سبيل إلى فهمه إلا على أرضه، وبلوائحه وشروطه، «ومن شاء أن يحس دلالة الفن فعليه أن يتَّضع أمامه، أما الذين يرون أن الأهمية الرئيسية للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو النفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغاياتٍ في ذاتها، أو كسبيلٍ مباشر إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أيِّ شيءٍ بخير ما يمكن أن يَمنحه، وأيًّا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فهو ليس عالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالم لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدًى لتوافقٍ آخر أكثر جوهرية.»٧

(٣-٢) الفن والأخلاق

الشعر نكدٌ بابُه الشر، فإذا دخله الخيرُ ضعف.

الأصمعي
بين الفن والأخلاق علاقة منطقية دقيقة حتى المفارقة، وتحتاج منذ البداية إلى حنكةٍ كبيرةٍ في ترسيم الحدود وفض الاشتباك، وإلا فهي تفضي إلى جدل عقيم لا يثمر، ونزاع طويل لا ينتهي، فالفن مُوكَّل بمقولة «الإستطيقي»، والأخلاق موكلة بمقولة «الخير»، وبديه أن مقولة «الإستطيقي» مختلفة عن مقولة «الخير»، وأن الفن يوصف بالجودة أو الرداءة (الفنية)، ولا يصح أن يوصف بالشر أو الخير (الأخلاقي)، ومن يفعل ذلك يقع في «خطأ مقولي» category mistake، «إن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليُقم الداعية الأخلاقي حكمًا على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقامُ مقامَ أحكام إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة، أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالًا فنية، فليُمسك هذا الداعيةُ لسانه.»٨

(٣-٣) الفن والصدق

جماعةُ القاهرة يظنون أن الصدق في الفن معناه قول الحقيقة!

أمين نخلة
إن في بُرديَّ جسمًا ناحلًا
لو توكَّأت عليه لانهدم
بشار (وكان ضخم الجثة!)
كَلَّفتمونا حدودَ منطقكم
والشعرُ يُغني عن صدقه كذبه
البحتري
يعلم دارسو الجماليات أن للفن صدقه، وأن الفن يوصف بالصدق والكذب، وأن الصنف الرفيع من الفن صادقٌ بالضرورة، ولكن «الصدق الفني» غير الصدق الوقائعي factual، ومن يخلط بينهما يقع في «خطأ مقولي» ثقيل، ثمة «حقيقة» يعبر عنها العمل الفني، غير أنها ليست من صنف الحقيقة التي نجدها في العلم أو الفلسفة، وإذا لم يتم التخلص من الخلط بين الحقيقة الفنية والحقيقة العلمية «ضاع الوضوح وأصبح الحديث أو النقاش عقيمًا لأن المتحدثين، ببساطة، لا يتحدثون عن شيء واحد.»٩ قد يُخطئ الشاعر خطأً علميًّا جسيمًا وتبقى قصيدته مثالًا للصدق الفني.
الصدق صفةٌ للقضايا، فتوصف القضية بالصدق إذا كان ما تقرره مطابقًا للوقائع التي يُفترض أنها تصفها، وتوصَف بالكذب إذا كان غير مطابق، بيد أن هناك قطاعات عريضة من التعبير البشري لا تتحدث عن وقائع موضوعية، وبالتالي لا تحتمل الصدق والكذب بالمعنى الدارج، تلك هي الأحكام التقويمية وعبارات الأمر والتمني وغيرها من الصِّيغ التي تُضمِر مشاعر ووجدانات ذاتية تَنِد بطبعها عن التحقق الموضوعي، ومنها بيت بشار السابق الذي يصف نفسه فيه بالنحافة والضعف بينما كان هائل الجِرم كأنه جاموس،١٠ إنه تقريرٌ عن مواجيدَ نفسية وليس تقريرًا طبيًّا يتضمن بنودًا عن الوزن والضغط والنبض وسرعة الترسيب … إنه رقعةٌ فنية، تستعصي بطبعِها على التحقق الموضوعي، غير أن هذا لا يحرمها من أن تتمتع بصدقٍ من صنفٍ آخر، وحقيقةٍ من نوعٍ مختلف.

تلك هي «الحقيقة الفنية» في مقابل «الحقيقة الواقعية»، وهي حقيقة تتحد بمَدَى جودة التعبير وتوفيقه في نقل التجارب التي انبرى لنقلها ومعادلة المشاعر التي اضطلع بمعادلتها، وقديمًا قال أرسطو: «إذا أسهمت الكذبةُ في التأثير الجمالي للعمل فينبغي أن نقبلها.»

نعم … حين يكون الأمرُ أمر تجارب وجدانية ومشاعر ذاتيةٍ يخف وزن الجزئيات الموضوعية بعض الشيء ويتضاءل شأنها، وهل كان لغلطة كيتس الواقعية خطرٌ يُذكر على سونيتته «عند القراءة الأولى لترجمة تشابمان لهوميروس» التي يقول فيها:
عندها شعرتُ بأني أشبَه بكورتيز الفتي،
وهو يحدِّق إلى المحيط الهادي بعيون النسر بينما كل رجاله
يتطلع بعضهم إلى بعضٍ في دهشة بالغة،
وهو واقفٌ في صمتٍ فوق قمة جبل دارين.

كورتيز مكتشف المحيط الهادي! خطأٌ جسيمٌ إذا كان المقام مقام تاريخ بحري، ولكن سيان ان يكون المكتشِف هو كورتيز أو غيره داخل هذا «التكوين الفني» أو هذه «البنية الرمزية» المستقلة التي تتحدد مهمتها في نقل أو معادلة شعور كيتس لحظةَ بَهَرَته قراءة هومر بترجمة تشابمان الإليزابيثي للمرة الأولى، فسونتة كيتس — وهي من عيون الشعر الإنجليزي — لم تُكتب لتُلقي علينا درسًا في التاريخ أو الجغرافيا، ولكن كُتِبَت لتنقل لنا شعورًا بمتعة التذوق ودهشة الفن.

هي «حقيقة ﻟ» truth-to١١ أكثر مما هي «حقيقة عن» truth-about.
وهي «فعل» action١٢ أكثر منها «مقالًا عن فعل».
وهي صادقةٌ إذا ما احترمنا انطواءَها واكتفاءها الذاتي واستقلالها الجمالي، واتخذنا، ولو إلى حين، إطارها الإشاري الخاص، ثم لجأنا بها إلى معيار «التطابق» correspondence،١٣ مع الواقع النفسي لا الواقع العيني، وطبَّقناه فانطبق.١٤

(٤) مغالطة التركيب والتقسيم خطأٌ مقولي نموذجي

في حديثنا عن مغالطة التركيب composition والتقسيم division قلنا إن الانتقال من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المُكوِّنة (تقسيم division)، أو الانتقال — على العكس — من خصائص المكونات إلى خصائص الكل (تركيب composition) هو انتقالٌ غير مشروع؛ وذلك لأن الكل ينتمي إلى نمط منطقي (أو مقولة) أعلى من النمط الذي تنتمي إليه أجزاؤه، إن خصائص الكل وخصائص الجزء ليست دائمًا بالشيء الواحد، ولا ينبغي أن نتوقع تطابقها في جميع الأحوال.١٥

(٥) المغالطة الوجدانية خطأ مقولي

المغالطة الوجدانية pathetic fallacy هي إضفاء الخصائص الإنسانية، المشاعر بخاصة، على الطبيعة والجمادات، من مثل قولنا: الأغصان الراقصة، الأمواج القاسية، الهواء الساخن «يريد» أن يصعد لأعلى … إلخ، ويلحق بذلك كل ما هو «أنسنة» (أنثروبومورفيزم) أي إضفاء الصبغة الإنسانية على ما ليس بشريًّا، إن في ذلك خلطًا للمقولات، وفيه مصادرة لا دليل عليها: هي أن الطبيعة (أو الكائنات الأخرى) تحاكي في مسلكها سلوكَ الإنسان! انظر تفاصيل ذلك في موضعها.

أمثلة أخرى

  • هأنذا قد اطَّلعت على غرفة الجلوس وغرفة النوم والبهو والشرفة والحمام والمطبخ، حسنٌ فأين البيت؟

  • أين اﻟ ١٥٫٥ طفل الذين هم «معدل المواليد» في هذا المستشفَى؟

  • عدد سكان الصين برتقالي (الحقائق المتعلقة بعدد السكان تنتمي إلى مقولة مختلفة عن الحقائق المتعلقة بالألوان).

  • هذا دافع ضرائب، وهذا دافع ضرائب، وهذا وهذا … حسن فأين «الدافع المتوسط» average taxpayer؟
  • مَن سيحلب هذا الثور؟

  • «قيصر عددٌ أصم» (المثال الذي قدَّمه كارنَب).

  • ما هي رائحة اللون البنفسجي؟

  • إن ألمي أخضر.

  • أين زوجة هذا الأعزب؟

  • أيهما أكبر: المتر أم اللتر؟

١  تعني لفظة «قاطيغورياس» عند أرسطو الإضافة أو الإسناد، وعليه فإن المقولات هي أمور مضافة أو مسندة أو «مقولة»، أي محمولات، أو بتعريف أدق: المقولة معنى كلي يمكن أن يدخل محمولًا في قضية.
و«المقولة» بوجهٍ عامٍّ تطلق على كلِّ تصور ذي مفهوم واسع تندرج تحته الأفكار (المعجم الفلسفي، المعجم اللغوي، القاهرة، ص١٩٠)؛ وعليه فالمقولات هي أبنية فئوية أو تصنيفات لأحوال الوجود أو شروطه، وتدل بمعنى لغوي أعم على مختلف الفئات الكبرى والأساسية والشاملة التي يمكن أن تُرد إليها الأشياء أو الخبرات، وتدل بمعنى فلسفي خاص على تصنيفات أساسية داخل المعرفة.
والمقولة عند أرسطو، كما أسلفنا، هي ما يُحمَل على غيره: وهي أحد الأجناس العشرة التي تُكَوِّن مقولات الوجود: وهي «الجوهر» substance وأعراضه التسعة: الكيف، والكم، والإضافة، والزمان، والمكان، والوضع، والفعل، والانفعال، والملك، ومن ثم فإن منظومة المقولات المعتمدة بهذه الروح «الواقعية» realistic يُرتجَى منها في أمثل الأحوال أن تزودنا بقائمة لكل ما هو موجود.
غير أن الشك في إمكان إدراكنا هذه الغاية (أي حصر فئات «الواقع نفسه») قد دفع فلاسفة آخرين إلى مقاربة منظومات المقولات لا بغرض استخلاص قائمة الأجناس العليا في العالم نفسه، بل بغرض تبيان مقولات منظوماتنا التصورية (المفاهيمية)، وهكذا أحدث إيمانويل كانت نقلةً إلى مقاربةٍ تصورية باستخلاص المقولات التي هي ضرورية قبليًّا (سابقة على التجربة) لأي معرفة ممكنة بالأشياء، ومن ثم فالمقولات عند كانت هي المعاني الكلية الأساسية للعقل الخالص، وترجع إلى طبيعة «الحكم» في مختلف صوره، فتنحصر في أربعة أنواع من حيث الكم، والكيف، والإضافة، والجهة، وكل منها تحتوي على ثلاث مقولات، فيكون مجموعها اثنتي عشرة مقولة، فإذا كان أرسطو قد نظر إلى المقولات من ناحية «الوجود»، فإن كانت نظر إليها من زاوية «المعرفة».
صفوة القول إن المقولات هي فئات أساسية سواء لأشياء العالم أو لصور الفكر.
٢  وليم جيمس إيرل: مدخل إلى الفلسفة، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. يمنى طريف الخولي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٥، ص٣٧٦.
٣  من الواضح أن هذا الاختبار لا يُقدم طريقة لحسم أن تعبيرين هما من نفس المقولة، بل فقط لحسم أنهما ليسا كذلك، كما أنه يترك فكرة «الخلف» absurdity ذاتها مفتوحةً وحدسيةً صرفًا، والحق أن رايل يختتم ورقته «المقولات» بالسؤال: «ولكن ما هي اختبارات الخُلف؟» وجدير بالذكر أن فريد سومرز Fred Sommers قد طوَّر مقاربة رايل بشكلٍ أكثر صورية، انظر في ذلك «موسوعة ستانفورد للفلسفة»، مادة «المقولات» categories.
٤  د. صلاح إسماعيل: فلسفة العقل-دراسة في فلسفة جون سيرل، دار قباء الحديثة، القاهرة، ٢٠٠٧، ص٢١-٢٢.
٥  المرجع السابق، ص٢٢.
٦  د. عادل مصطفى: دلالة الشكل، دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠١، ص٤٤-٤٥.
٧  المرجع السابق، ص٤٥.
٨  المرجع السابق، ص١١١.
٩  جيروم ستولنيتز: النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٨١، ص٤٦٠.
١٠  يقول جان كوكتو: «أنا كذبةٌ تقول الحقيقة دائمًا.» وهو قولٌ صادق، وأصدق منه قول فيلهلم دلتاي: «حقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك … حقًّا في ذاته … نابتًا … مشهودًا … باقيًا.»
١١  بلغة هوسبرز.
١٢  بلغة بروكس.
١٣  «التناظر» بحسب المعجم الفلسفي للمجمع اللغوي.
١٤  عادل مصطفى: «الغياب والكلمة»، مجلة «الإنسان والتطور»، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد ١٢، أكتوبر/نوفمبر/ديسمبر ١٩٨٢.
١٥  انظر فصل «مغالطة التركيب والتقسيم» لمزيد من الإيضاح والتبيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤