الباب الرابع

في انحطاط دولة العرب بإسبانيا وطردهم منها، وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول: في وقوع عدة ممالك إسلامية (من إسبانيا) تحت حكم ملوك النصارى

نعود الآن إلى ما سلف من تاريخ عرب إسبانيا، فنقول: لما أغارت الأهالي على عساكر الموحدين المحافظين بإسبانيا أوقعوا بهم أول نكبة وأخطبها، لكنهم أماطوا عنهم جورًا يلزمهم أن يستعدُّوا عقبه لصَدِّ النصارى بتجديدهم للحكومة مركزًا عموميًّا تنبني عليه المصالح العامة، لكنهم عدلوا عن ذلك وأخذ كُلٌّ ينظر في مصالحه الخاصة؛ ولذا انقسمت الحكومة الإسلامية إلى عدة دول صغيرة مستقلَّة عن بعضها لم يَكُنْ منها ذات شوكة في الجملة إلا مملكتا والنسة والجرو ومملكتا ابن هود ومحمد الحمار، وكان ذلك التفرُّق مساعدًا للفرنج على أخذهم عدة ممالك واحدة بعد أخرى، فقد فتح جاك (يعقوب) الأول جزائر بليارة، ثم شرع في فتح مملكة والنسة الذي اشتغل به سنة ١٢٣٤ عن تخليصه من تيبوط المنسوب إلى مدينة شمبانية (بأرض فرنسا) سلطنة بلاد نوارة التي يستحقها بطريق الوراثة، وقد اتخذ ملك والنسة المسلم أعظم ما يكون من العزائم لحفظ مملكته، التي أخذ ولاتها بعد ذلك يبحثون عن استقلالهم، ويبيعون البلاد للنصارى ببعض إقطاعات، فسلموا للأراغونيين من سنة ١٢٣٢ إلى سنة ١٢٣٨ المدائن التي بضواحي والنسة التي حاصرها جاك الأول برًّا وبحرًا حين لم يبقَ بها سوى الجنود، وأخذ يُشَدِّدُ في حصارها حتى بايعوه سنة ١٢٣٨ على أن لا يضر بأنفسهم ولا أموالهم، ورخَّص لهم في الارتحال بالأموال، وألزم من أقام أن يؤدوا له من الخراج مثل ما كان يأخذه ملك أراغون من رعاياه، وهَمَّ بأخذ مدائن ويلنة ودنيا وكزاتيوة ليأخذ بعد ذلك مملكة مرسية، فسبقه إلى تلك الجهات فرينند الثالث ملك قسطيلة سنة ١٢٤١، وأقام بين الأراغونيين والمسلمين الذين بمملكة مرسية المنقسمة بين ولاة أقاليم مرسية واليقنطة وأوريهويلة وشنشلة والجامة، مع انتشار الغيرة والعداوة بين هؤلاء الولاة؛ ولذا بادروا بالانقياد لهذا الملك، مؤمِّلِين أن ينالوا منه أحسن ما يكون من المعاهدات، نعم أبى الانقياد لهذا الملك وإلى لرقة الحاكم على مدينتي مولة وقرطاجنة، ثم أخذ فرينند هذه المدائن سنة ١٢٤٣، وضمها إلى مملكة قسطيلة التي أوسعها سنة ١٢٣٣ بأخذه من حدود الوادي اليانع إلى الوادي الكبير بعد أن أبدى رئيس عسكره المسمَّى «ألواربريز Avar Brez» بشواطئ الوادي اليانع البسالة التامة والهمة العالية، ثم أخذ مدينتي عبدة وإندوجار من ابن هود الذي كان يدهم بلاده محمد الحمار من ناحية وملك الجرو من أخرى، مع أنه كان محفوفًا بجنود كثيرة من الموحِّدين الذين لم يقوَ بهم على منع هاتين المدينتين من فرينند، بل لم يقدر على ضرب الحصار على قرطبة التي أغار عليها الأراغونيون زمن إغارتهم على مدينة والنسة سنة ١٢٣٨، وقتل ابن هود وسط تجاهيزه الحربية، فسلم المسلمون قرطبة معدن الفنون والزخارف الإسلامية إلى فرينند الذي نصب الصليب على مآذن مسجدها الأعظم، وبعث إلى «قمبستيل Compostelle» واقيس كنيسة ماري جاك التي افتتحها الحاجب المنصور، وأخذ النصارى ينجسون محاريب المساجد بلا ظهور حَمِيَّةٍ إسلامية تصدهم عن ذلك، ثم أخذ فرينند مدائن بايزة واستيبة واسيجة والمودوفار، وحاصر مدينة جان أو ياعان سنة ١٢٤٥، وهزم محمد الحمار أمام مدينة القالة أو القلعة في واقعة أظهر فيها المسلمون أعظم الشجاعة.

وسلك فرينند مسلك السياسة بتوليته محمدًا الحمار على جميع بلاده الرحبة الممتدة من حدود الجزيرة إلى المرية بين جبل طارق وهويسقة، بشرط أن يؤدي له جزية كل سنة وجنودًا زمن الحرب، ويذهب إلى المشورة التي تنعقد في قسطيلة، ثم حاصر فرينند ومعه محمد الحمار مدينة إشبيلية التي كانت كرسي سلطنة المراوية والموحدين، فقاومه أهلُها زمنًا طويلًا لورود مدد إليهم من الوادي الكبير وعبورهم قنطرة من سفن على هذا النهر إلى مدينة تريانة المشتملة على لوازمهم، فجَهَّزَ فرينند في جون بسقاية ومينيات إقليم جاليسة سفنًا صغيرة استولى بها على مَصَبِّ نهر الوادي الكبير، ثم ألقى سفنًا كبيرة كسرت تلك القنطرة بشراعها، فكان لأهل إشبيلية مجاعة سلموا بها المدينة إلى فرينند سنة ١٢٤٨ بشروط توافقهم، وأخذوا منه ليبيع أملاكهم ميعادًا أطول من ميعاد أهل والنسة، وقد تَيَسَّرَ لهم بأخذ مدينة إشبيلية سرعة انقياد جميع البلاد التي على ميمنة نهر الوادي الكبير، وجالوا حين استيلاء البرتغال على مدينتي لولة وأيامنتة سنة ١٢٤٩ بسواحل البحر التي بين نهر الوادي الكبير والوادي اليانع جولة منتصر مؤيَّد، فأخذوا مدنًا بعضها للمسلمين.

المبحث الثاني: في مقاومة محمد الحمار أفخر مقاومة وفي عظمة شأن غرناطة

ظَنَّ النصارى قرب زوال مملكة العرب من إسبانيا، وإذا محمد الحمار أبدى من الفضائل مثل ما كان للوزير المنصور بتأسيسه مملكة أعدم ولاتها الاستبداد، وأفهم رعاياها ضرورية الاتحاد، ورَدَّ إليها من الغنى والثروة ما يشبه العرب في بحيث جزيرة إسبانيا بحسن إدارة الفلاحة والصنائع التي سلك فيها مسلك الملك لويز الرابع عشر والملك قلبرت؛ حيث أخذ يثير الغَيْرَةَ والتنافس بين أهل الصناعات ويُشَوِّقُهُمْ إلى اختراع لطائف بدفع مكافآت لمن أتى بشيء من ذلك، مع ترك تكاليف واجبة له عليهم؛ فنجحوا في تلك الصناعات، وبرعوا في نسج أقمشة الحرير وغيره، وكذا في البنيان براعة أهل قرطبة، وكفى بقصر السباع المعروف بالحمراء شاهدًا على ما كان لأهل غرناطة من الغنى والمهارة في فن البناء، مع ما لهم من الاجتهاد التام بعلوم الفلك والطب والكيمياء والرياضة والنحو والمنطق.

وأخذ هذا الملك يعمل بغرناطة أعيادًا لتمثيل الوقائع الحربية وأعيادًا لمناضلة الفرسان، ومواسم لمقاتلة الأثوار، وأخرى للتسابق ولعب أخذ الخاتم، ويدعو أعيان الرعية إلى الأعياد والولائم العظيمة، ولم يكُن ذلك نتيجة جوره بل رفاهية المعيشة في سائر الرعية؛ ولذا كانت مدينة غرناطة كرسيَّ مملكته مأوى المسلمين المتشتتين لكثرة خيراتها الجاذبة جميع من لم يُرِدِ الإقامة تحت حكم نصارى إسبانيا، وكثرت المهاجرة إليها حين أخذ الملك جاك يطرد المسلمين من مدينة والنسة سنة ١٢٤٩.

ولم يزل ملوك غرناطة متولِّين الحكم بها من سنة ١٢٣٨ إلى سنة ١٤٥٢ ميلادية مُحْسِنِينَ ترتيبهم السياسي؛ فقد رتبوا في كل بلدة خفراء منها، وأعطوا جميع سكانها سلاحًا يستعملونه حالة هجوم العدو، فرفعوه مرات على ملوكهم الممتنعين من أداء واجباتهم الملوكية أو الذين لا يعبَئون بمشاورة الأمة، وجعلوا للعساكر المحافظين بالثغور إقطاعات من الأرض تكفيهم وعائلاتهم لتبعثهم على الوقاية من الأعداء، وألزموا أنفسهم مثل ملوك الأقاليم المغربية بالقيام بما يلزم طوائف الفقراء من نحو المأكل والمشرب، وأكثروا في الأسواق المبيع الضروري، ورتَّبُوا في غرناطة التي دائرها أكثر من ثلاثة فراسخ ضبطية، وفي كل ثمن منها ضابطًا، ورتبوا عساكر تدور ليلًا في الأماكن لم يكثر طروقها، وعملوا قوانين لزمن إغلاق المحالِّ العامة كالأسواق، وخصصوا كل حرفة بطائفة وعاقب كثير منهم من أفرط في شرب الخمر، وأمروا اليهود أن يتميزوا بعلامة من غير إساءة معاملتهم، ومنعوا الربا في النقود وابتكروا في كتابة الحجج والصكوك طرائق واضحة تمنع المنازعة، وشغلوا العلماء بتأليف رسائل في الصنائع العملية وإنفاذ الأئمة والفقهاء لقوانينهم النظامية بعد أن كانوا إلى زمن هذه السلطنة مُطْلَقِي التصرف يفعلون ما شاءوا، وأحدثوا لتأدية العبادة قوانين تنبئ عن كمال إيمانهم، وعُلُوِّ أفكارهم وشرف التأديب والتهذيب الديني، منها انعزال النساء عن الرجال في المساجد، وخروجهن قبل الرجال، وإكثار الطاعة في رمضان، وتوزيع الزكاة والصدقات على الفقراء وأهلها أو إبقاؤها لتُنْفَقَ في عمارات عامة النفع، ومنع اجتماع الناس ليلًا، وإبطال الندب على الأموات عند دفنهم بقراءة أدعية على قبورهم، ودفن الموتى عارين عن التمائم وباقات الأزهار المعتادة قبل هؤلاء الملوك، وكان المستعمَل في قوانين العقوبات على الجنح والجنايات الضرب بالسوط والنفي عن الأوطان، وإشهار المُذْنِبِ بوضعه على خشبة، فاستبدل هؤلاء الملوك ذلك بحبس المذنبين في مكان يشتغلون فيه، وأبطلوا رَجْمَ المذنبين، وأمروا بدفن من يقتص منه بالقتل مثل دفن سائر المسلمين.

وبما سلف يعلم أن مملكة غرناطة — نظرًا لما كانت عليه من الأمور الجليلة — تستحق أن تعتبر في التاريخ من الممالك الشريفة، لكن ساء حَظُّهَا؛ حيث لم يَكُنْ توارث سلطنتها مُقَرَّرًا على قواعد متينة، فتولاها بعد الملوك الجديرين بتعجب الأجيال المستقبلة من عدلهم وحسن سياستهم ملوك جبابرة ليسوا بكفؤ للسلطنة التي عجلوا زوالها من بحيث جزيرة إسبانيا.

ولنذكر سلسلة هؤلاء الملوك مع الإيجاز، فنقول تولى محمد الأول المعروف بالحمار من سنة ١٢٣٨ إلى سنة ١٢٧٣ التي تولى فيها محمد الثاني إلى سنة ١٣٠٢ التي تولى فيها محمد الثالث إلى سنة ١٣٠٩، منع الأولان بحسن تدبيرهما مطلق التجارؤ على ما يُخِلُّ بالنظام العام مع سعد جَدِّهما، بخلاف الثالث فكان دونهما في ذلك؛ حيث أثار عليه أخوه نصار أبو الجيوش ساكني غرناطة، وتولى بدله من سنة ١٣٠٩ إلى سنة ١٣١٣، فجبره إسماعيل بن عمه فرج من ذرية السلطان محمد الحمار على التخلي عن السلطنة، وتولاها من سنة ١٣١٣ إلى سنة ١٣٢٥، وخلفه ولداه محمد الرابع إلى سنة ١٣٣٣ ويوسف الأول إلى سنة ١٣٥٤.

وكان السلطان يوسف هو المُحْدِثُ لترتيب المملكة وقوانينها القديمة، فكان أجل الملوك الغرناطية مع انهزامه في حرب نصارى إسبانيا بواقعة ريوصالادو، وخلفه ابنه محمد الخامس الملقب بجاديس، فعزله أخوه إسماعيل ورجل من أقاربه يقال له أبو سعيد، واستعان كل من أبي سعيد ومحمد الخامس بملك قسطيلة فقتل أبا سعيد ليأخذ ماله وأنجد محمدًا فعاد إلى السلطنة سنة ١٣٦٣ إلى سنة ١٣٩٠، فخلفه يوسف الثاني إلى سنة ١٣٩٦ المتولي فيها محمد السادس الذي حكم على يوسف أخيه الأكبر بالحبس المؤبد، ثم أحس هو بقرب وفاته، فأمر بقتل أخيه المحبوس ووجَّه له جلادًا يقتله، فوافاه وهو يلعب بالشطرنج، فاستمهله حتى يتم لعبه فأمهله، وإذا برجال من الديوان يبشرون المحبوس بموت أخيه وتوليه السلطنة بدله، فتولى يوسف الثالث سنة ١٤٠٩ إلى أثناء سنة ١٤٢٣، ثم بدت الفتن الداخلية منذ تسلطن هذه السنة إلى سنة ١٤٢٨ محمد السابع الملقب بالميسر؛ حيث سلك برعيته مسلك الجور، فولوا بدله محمدًا الصغير من أقاربه، وعزل بعد سنة بمحمد السابع المعزول، فألبس ملك قسطيلة الذي أغار على غرناطة يوسف الرابع الملقب بالحمار تاج السلطنة الغرناطية، وأغرى سنة ١٤٣٢ جمعًا شهروا يوسف الرابع الملقب بالحمار سلطانًا، ثم عاد محمد المعزول إلى السلطنة في هذه السنة حتى طمِع في السلطنة سنة ١٤٤٥ من أقاربه محمد التاسع الملقب بعثمان أو السمين وإسماعيل الثالث، فعزلاه وتنازعا في السلطنة فنصر محمد وتولاها سنة ١٤٥٤، ثم غلبه إسماعيل الثالث فتولاها حتى مات، فانتقلت لولده حسن سنة ١٤٦٥.

المبحث الثالث: في اضطرابات قسطيلة وغارة بني مرين وواقعة ريوصالادو

نعود الآن إلى تكمِلة ما أسلفناه قبل المبحث السابق، فنقول إن ملوك غرناطة كانوا لا يخشون إلا بأس أهل قسطيلة منذ فتح ملكها فرينند الثالث مدينتي مرسية وإشبيلية، فكانوا يستميلون وزراء وجلساء هذا الملك بنحو العطاء وقبول كلامهم في دعاوى المخاصمة بديوان غرناطة، إلا أن اختلاف أهل هاتين المدينتين جنسًا ودينًا أحال اتحادهم؛ ولذا كان هذا الملك متشوقًا للغارة على غرناطة، فلم يمكنه أهل قسطيلة من ذلك لوقوعهم في فتن داخلية، منها أن ألفنس ولد فرينند الثالث الناشر أزياجه ومعلومات عرب إسبانيا في أوروبا صرف نصف عمره في تطلُّبه إمبراطورية ممالك ألمانيا، ثم صرف النصف الآخر في قتال ولده الثاني المسمى سنش؛ حيث اختارته الدول ملكًا على قسطيلة مع حياة والده، فتطلب سلطنة قسطيلة أولاد الأميرة بلنشة بنت الملك ماري لويز الفرنساوي، وأرادوا إقامة حقوقهم الوراثية بمساعدة فرنسا وإنكلترة، فأوقدوا لذلك نيران حروب أشرفت على الانتهاء، وإذا جور بطرس أثار من سنة ١٣٥٤ إلى سنة ١٣٧٠ حزب ترنسطامار، وأوقع إسبانيا في بلايا العدوان عليها من عصابات دوجكلان والأمير نوار، ثم كان بقسطيلة في القرن الخامس عشر حنا الثاني قبل بلوغه وهنري الرابع سخيف الرأي الملقَّب بالعاجز القوة، فاقتضى قصور الأول وسخافة تدبير الثاني أن لا تحارب مملكة قسطيلة في هذا القرن مملكة أخرى.

وكان محمد الثاني ملك غرناطة زمن اضطراب قسطيلة مشتغلًا بالهجوم على مدينة جبل طارق، ومدائن الجزيرة، وطارقة من جهة، وعلى مدائن هويسقة وبائظة، وقادس، والمرية من جهة أخرى، مُعْرِضًا عن انتهاز الفرصة بالغارة على إسبانيا حين اضطراب مملكة قسطيلة، ثم همَّ مع أبي يوسف ملك بني مرين في أواخر القرن الثالث عشر بالغارة على إسبانيا، وأخذا منها مدينتي طاريفة والجزيرة، وأعدما سفن قسطيلة قرب مدينة الجزيرة، وأغارا على بلاد الجرو، فلم يجبُن سنش عن صدهما بإعدامهما السفن السابقة، بل أغار على داخل بلادهما سنة ١٢٨٠ ونُصِرَ، ووَلَّت الدول ألفنس العاشر السلطنة سنة ١٢٨٣ ميلادية مكافأة له على شهامته، ثم قام عليه أحد أولاده فاستعان بأبي يوسف المريني على قمع هذا الولد فقبِل، ثم عكس أمره؛ حيث أُحْرِقَتْ سفنه الحربية، وأخذ منه أهل قسطيلة مدينة طاريفة، وأخذ منه محمد الثاني مدينة الجزيرة سنة ١٢٩٦ وجعل فيها محافظين.

واشتهر النصف الأول من القرن الرابع عشر بحروب؛ فإن أهل قسطيلة أخذوا سنة ١٣٠٩ مدينة جبل طارق، وحاصروا مدينة الجزيرة فأعطاهم المسلمون عدة مدن أقل أهمية منها لإبعادهم عن البلاد الإسلامية، وأسس إسماعيل بن فرج بين أولاد ملوك نصارى إسبانيا البالغين عداوة ينتهز بها الفرصة زمن قصور ألفنس الحادي عشر عن البلوغ، فتيقظ منهم اثنان لذلك، وأزالا ما بينهما من المنافسة في السلطنة، وحاربا غرناطة بلا تدبُّر، فمزق المسلمون عساكرهما وقتلوهما ١٣١٩ بالموضع المعروف بسياراد ولوص أنفته، فقوي عزم المسلمين، وأخذوا سنة ١٣٢٩ مدائن بائظة ومرطوس وعبدة حتى مدينة جبل طارق، وأمكن الملك محمدًا الخامس أن يأخذ من النصارى سوى ذلك لو ساعده أهل إفريقية الذين لم ينتظموا معه، وأخذوا منه الجزيرة ومربلة ووندة، ولم ينتظم المسلمون تحت لواء واحد إلا في عهد الملك يوسف الثاني؛ فإن الملك أبا الحسن المريني نزل بإسبانيا، وأخذت سفنه الحربية تطرد من بوغاز جبل طارق سفن أهل البرتغال وقسطيلة، فلحقه الملك يوسف، وحاصرا جيوش البرتغال وقسطيلة في مدينة طاريفة زمنًا طويلًا هَمَّ فيه تلك الجيوش بالخروج من المدينة، ثم كان بين الفريقين بشواطئ نهر ريوصالادو واقعة هي الثانية من واقعتي طولوزة انهزم فيها أبو الحسن المريني، فعاد إلى فاس سنة ١٣٤٠، وترك لأهل غرناطة جميع ما يملكه في إسبانيا ليستر عار هزيمته، ثم أعدمت سفنه الحربية سفن جنويرة والبرتغال وأراغون المجتمعة لتحقيق السلطنة على البحر الملح للنصارى الذين أخذوا مدينة الجزائر سنة ١٣٤٢، فتجددت لهم مينا حسنة لملاحظتهم جميع السواحل الإفريقية، واستقلُّوا من ذلك الوقت بجيوشهم بلا احتياج إلى مساعدة، وأخذوا يتفكَّرون فيما يُنْسِي الأمم فتوحاتهم ومفاخرهم العظيمة، واشتغل القسطيليون بفتنهم الداخلية عن أخذ مدينتي جبل طارق والمرية، ثم ساعدهم البرتغال الفاتحون عدة مدن من إفريقية، ومنعوا مخالطة مسلمي إسبانيا بمسلمي إفريقية.

المبحث الرابع: في إعدام النصارى سلطنة غرناطة من بحيث جزيرة إسبانيا

تنازع السلطنة يوسف الرابع الحمار ومحمد السابع، فاستمد أحدهما دولة قسطيلة الإسلامية، فأمدته بجنود نُصِرُوا على خصمه في صحاري غرناطة سنة ١٤٣٢، فكان ذلك الاتِّقاد الثاني للحروب بين مسلمي إسبانيا ومراكش، وأما ما كان من سادات أهل قسطيلة ومشايخ العرب الذين يَوَدُّونَ إظهار البأس والشهامة الحربية من الغارات على بلاد الأعداء، فكانت منازلات لم تستدعِ حربًا عامة بين هاتين الأمتين.

وتولى سلطنة غرناطة سنة ١٤٦٥ السلطان حسن المعروف بالشجاعة وحب الوطن، لكن رماه أهل غرناطة بالتكبُّر والقسوة، وتغلَّب حب جارية نصرانية على عقله مع اختياره ولدها أن يكون خليفته دون ولده أبي عبد الله ابن السلطانة زوريا، فكان بينهما عداوة ازداد به ضعف هذه المملكة سنة ١٤٧٦ بخلاف مملكة قسطيلة؛ فإن عظماءها وإن أوصلوا هنري الرابع إلى أقصى درجات الحطة والمذلة، لكنهم انقادوا بعد وفاته سنة ١٤٧٤ لابنته إيزابلة المتزوجة فرينند ملك مم لكة نوارة والوارث لملك مملكة أراغون، ثم كان لهذين الزوجين سنة ١٤٧٩ التصرُّف في الممالك الثلاث كيف شاءا، طلبا من السلطان حسن الجزية التي كان والده يؤديها، فأبى قائلًا للسفراء: اذهبوا فقولوا لأسيادكم إن غرناطة ليس لديها ذهب، ولكن حديد لأعدائها، ثم دهم مدينة زهرة وأخذها سنة ١٤٨٠، فأخذ أهل قسطيلة مدينة الحما المعضدة لغرناطة التي سار عقب ذلك لأخذها، فالتهبت نيران الحرب الداخلية.

وعزل أصحاب الأمير أبي عبد الله أباه حسنًا عن السلطنة ووَلَّوُا ابنه، فأظهر للناس نصرته على نصارى قسطيلة في واقعة لقصة المقتضية أنه أولى بالسلطنة من ولده، ولم يُجْدِ ذلك نفعًا، فأقام بريف غرناطة، ثم عاد إلى السلطنة يسيرًا، ووقع ابنه عبد الله الجبان في أيدي نصارى قسطيلة وهم يحاربون مع فتور همتهم، وأطلقوه سنة ١٤٨٤ لعلمهم أن عزله أباه يساعدهم على بلوغ مآربهم أكثر من النصر على أبيه الذي ألزم بخلع السلطنة على عمه المعروف بالزجال، واحتقر أبناء الوطن أبا عبد الله، فترجى فرينند أن ينصره، فأجابه وأغار حالًا على مملكة غرناطة؛ فأخذ مدائن الويجا وهزم الرجال أمام مدينة لورقة، فتنازل عبد الله عن غرناطة سنة ١٤٨٦ لفرينند الذي رخص لأبي عبد الله أن يدهم جميع مملكة الزجال؛ فحاصر أبو عبد الله ملاغة وأخذها، ثم وجَّه عساكره إلى مدائن المرية وبازه وورا، فبذل الزجال وسعه في القتال حتى يئس، فأمر الناس أن يسلموا إلى نصارى إسبانيا، وسلم هو مملكته إلى فرينند الذي أعطاه بدل ذلك إقطاعات واسعة بسائر مملكته سنة ١٤٩٠، وألحق أهل غرناطة برعاياه في الاعتبار، وحفظ الحرية والأموال والإعلان بشعائر الدين والخراج الذي كان يُؤْخَذُ منهم سابقًا، ورأوا من سلوكه دلائل الهُدُوِّ الدائم، فانقاد لحكمه من حلفوا أن يدافعوا عن أنفسهم حتى تنفذ وسائلهم الحربية، لكن بعض المسلمين حرض على الغدر بالنصارى، وشهروا السلاح، وحصنوا غرناطة مُصِرِّينَ أن يموتوا تحت أطلالها فهرب الملك الزجال إلى إفريقية، فتمثل فرينند في تاسع مايو سنة ١٤٩١ بثمانين ألفًا أمام أسوارها، ووكل عبد الله رؤساء رجاله في المُدافعة عن تلك المدينة التي قاسى الأهوال في حصارها نساؤها وأطفالها وشيوخها، وتنافس جميع أهلها في صَدِّ العدو، وبنت الملكة إيزابلة هناك مدينة سنتافية إعلانًا بأنها لا ترحل قبل فتح غرناطة، وقطع فرينند اختلاط أهل غرناطة بغيرهم حتى ضاق بهم الأمر، فخرجوا على النصارى مخاطرين بأنفسهم، فهزمهم النصارى بجوار أسوار المدينة، وطلب فرينند من أبي عبد الله أن يسلمه المدينة بعد شهرين إن لم يأتِ إليها مدد في بر أو بحر، ووضع إمضاءه على شروط بذلك، فاستنجد أهلها سلاطين إفريقية والقسطنطينية، فبعث ملوك القسطنطينية دون غيرهم سنة ١٤٨٦ سفنًا اقتصرت على تخريب سواحل بحيث جزيرة إسبانيا، فخاف أبو عبد الله من قيام أهلها عليه، وسلَّمها قبل الميعاد إلى فرينند الذي رتب له إقطاعات كافية في أرض البوقسارة، ثم أقام أبو عبد الله في صحاري إفريقية لما ركبه من العار والذلة، ونصب النصارى على ذروة قلعتي الحمراء ولابابسين أعلام سلطنة قسطيلة وأعلام سنجاق «ماري يعقوب»، وزينوا مسجدها الأعظم بحلية العبادة النصرانية القاثوليقية، وأمر القائد «كزمينيس Ximénés» بإحراق الكتب العربية المحفوظة منذ قرون، ووضع فرينند يده بلا ممانع على المحطات المهمة في الجبال وعلى مملكة غرناطة، فانقضى من إسبانيا حكم العرب الممتد من سنة ٧١٠ إلى سنة ١٤٩٣ ميلادية.

وكأن زوال سلطنة غرناطة إعلام بموتهم؛ فإنهم لم يسألوا بعد أخذها عن شروط التسليم المشتملة على تمتُّعهم بالحرية والمال والسلاح والدين والمساجد والعوائد، وبقاء ترتيب القائدين للجنود والقضاة المكلَّفين بالحكم في الدعاوى على مقتضى الشريعة الإسلامية، وعدم الجبر على تأدية شيء سوى الخراج والتكاليف التي كانوا يؤدونها لملوكهم المسلمين.

المبحث الخامس: في السياسة التي سلكها ملوك إسبانيا مع المسلمين المطرودين عنها سنة ١٦٠٩ ميلادية

لم يقصد فرينند بشروط تسلُّمه غرناطة إلا الحصول عليها لا إجراء تلك الشروط التي منها التمتع بالدين؛ فإنه رأى أن المسلمين بكثرتهم وغناهم وحبهم للاستقلال ربما كانوا مانعين نفوذ حكمه، فصمم رأيه على أن يسلبهم العبادة الإسلامية والأخلاق العربية شيئًا فشيئًا، ولم يبدل ذلك أول وهلة خشية أن لا ينجح مقصده، فاتَّخَذَ متجسسين على التدين بدءوا بمدح أهل قسطيلة وما هم عليه من الصلاح والاستقامة ليأمنهم المسلمون، وينسوا ما كانوا عليه من سوء المعاملة، وأوهموهم أنه يحب عليهم العمل بشروط التسليم بغاية الدقة، وأنهم لا يؤذون إلا اليهود والمالكين لحصة عظيمة من أموال البلاد أو الذين رحلوا من وطنهم «غرناطة» أو تركوا دين آبائهم ودخلوا في دين النصرانية، وأوقعوا سنة ١٤٩٢ بهؤلاء من العذاب أنواعًا أفزعت المسلمين، والمتجسسون إذ ذاك يدعون إلى النصرانية المسلمين الخائفين أن يحل بهم ما حل باليهود من سوء العذاب، ثم أعلنت النصارى بمنع التدين بالإسلام، وأغدقوا بالذهب على من استنصر، ثم حكم فرينند سنة ١٤٩٩ بطرد من لم يستنصر من جميع إسبانيا، فانقاد ظاهرًا للذهاب إلى الكنائس لعبادة المسيح المسلمون بسائر المدن إلا سكان جبال البوقسارة، فلم يمتثلوا وشهروا السلاح فهزمهم هذا الملك، وأتلف مزارعهم، وأخذ أموالهم، وطردهم من البلاد، نعم تحمَّل النصارى أن يتدين بدين الإسلام أهل والنسة التي صنائعها أحد الينابيع الأصلية لرفاهية إسبانيا حتى ولي السلطنة شرلكان كرلوس الخامس سنة ١٥٢٤، فألزم أعيان النصارى المسلمين بالتنصُّر، فاشتبكوا ذلك إلى شرلكان فلم يُصْغِ لهم وأحالهم على محكمة تحقيق الدين وعقوبة المعتزلة عن طريقة القاثوليقية، فحكم أرباب المحكمة بإكراه المسلمين على التنصر، وسعى رئيس أساقفة إشبيلية لدى هذا الملك حتى حكم سنة ١٥٥٢ بمنع مسلمي غرناطة في يوم واحد من عوائدهم القديمة ولباسهم والتكلُّم بلغتهم، ورتب لتحقيق دعاوى المخالفين لذلك الأمر محكمة مخصوصة، ودفع المسلمون سنة ١٥٩٢ إلى الملك فيلبش الثاني ثمانمائة ألف دوقية (دينار) ليخفف عنهم ذلك، فكفت عنهم أرباب الحكومة، إلا أن الرعية ما زالوا يتمادون في عدم التحمل للتدين بالإسلام، شاهرين السيف باليمين والصليب باليسار، مقتفين أثر المسلمين في كل جهة حتى الجبال.

وبالجملة أخذ رئيس أساقفة غرناطة أمرًا من الملك فيلبش الثاني بمنع اغتسال المسلمين من الحدثين، والرقص المغربي، واستعمال اللسان العربي، وخروج النساء مبرقعات، فأبى المسلمون وشهروا السلاح، وعقدوا مودة مع مغاربة إفريقية، فتبعهم المركيز «منديار Mondejar» القائد النصراني؛ فالتجئوا إلى جبال تابعين قائدهم محمد بن أمية المدعي أنه من نسل بني أمية خلفاء قرطبة الأُوَل، واستمرت الحرب بينهما سنين حتى بدا الشِّقَاق بين المسلمين، وذُبِحَ محمد بن أمية، فخلفه عبد الله، فأخذ منه «دون حنا وتريش Don juau’ dAutriche» سنة ١٥٧٠ معظم عساكره الذين انقاد بعضهم للنصارى وبعض ذهب إلى إفريقية، ووزع النصارى الساكنين بجبال البوقسارة على استورية وغاليسة وقسطيلة تحت الملاحظة الشديدة، وأمر الملك فيلبش الثالث سنة ١٦٠٩ بطرد مسلمي والنسة ومرسية، فنقلتهم سفن إلى سواحل إفريقية، وأجاز منهم كثيرون جبال برينة، فقبل نزولهم في فرنسا ملكها هنري الرابع، وجاد على بعضهم بالمسكن والمزرعة وعلى بعض آخر بوسائل السفر في البحر إلى مينا غينة ومينا لنجدوق.

ووجد بعض المؤرخين المسلمين المطرودين من إسبانيا منذ فتح النصارى غرناطة إلى سنة ١٦٠٩ ثلاثة ملايين كانوا نخبة المسلمين وأعظمهم صناعة، فدرست معالم عز إسبانيا وكذا فرنسا بطردهم من مدينة ننتس سنة ١٦٨٩ المعتزلين مذهب القاثوليقية ذوي الصنائع العظيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤