الباب الثالث

فيما كان عند العرب من الفلسفة والإلهيات والفقه والمعارف الأدبية ومخترعاتهم، وفيه سبعة عشر مبحثًا

المبحث الأول: في عدم اقتصار العرب على شرحهم فلسفة أرسطاطاليس

زعم الفرنج أنه لم يكن فلسفة عربية، وما ذاك إلا لجهلهم بأشغال العرب؛ فإن جميع الدروس بمدارس أوروبا في القرون المتوسطة مستمَدة من تآليف العرب الفلسفية، وكانت ترجمة حسين الطبيب ويحيى النحوي كتب أرسطاطاليس مبدأ لاشتغال العرب بالمعلومات الفلسفية التي كان من رجالها الكندي ومحمد بن مسعود وأبو تمَّام النيسابوري وأبو سهل البلخي والإسفرايني والعميري، ثم ظهر الفارابي وابن سينا، فكانا أشهر رجال الفلسفة لتدوينهما لها على الصورة المذهبية التي نقلها عنهما ابن باجه وأثير الدين الأبهري وعلي الخونجي وابن رشد وأبو الصلت ونصير الدين الطوسي، ثم جالوا في مدارس المغرب، ولا تظن أن العرب اقتصروا على تفسير كتب أرسطو، بل كانوا يعرفون تأليف أفلاطون لا سيما كتابه الأكبر المؤلَّف في الشرائع وعدة كتب منسوبة إلى فيثاغورس، وكانوا يذكرون من قدماء اليونان كثيرين أورفيه وأوميروس المحتوية أشعاره على الفلسفة الدينية والفلاسفة السبعة، وأنكزاغورس وإيراقليط وديمقراط والألياطية وسقراط وتلامذته وإقليدس والفلاسفة الأسطوانية، وكان عندهم في الجزء الثاني من تاريخ علم الفلسفة مسائل فيمن كمَّل فلسفة أرسطو ومن شرحها، وفيما يخص مدرسة الإسكندرية، وكانوا يعتمدون أقوال بلوتين وبرقلوس ويلهجون كثيرًا بالقضايا العلمية، وكانوا واسطة بين زمن الفلسفة القديمة والفلسفة المدرسة في أوروبا، وكانت المجادلة بين أهل الظاهر منهم والباطن عدة قرون فضَّل فيها بعض أهل المدارس المشرقية على بعض، وكان منهم معتزِلة بصرية ومعتزلة بغدادية وحكماؤهم الفلاسفة الذين ظهرت فلسفتُهم على علماء الفرنج في القرون المتوسطة، بل وعلى أرباب الأسرار الرُّوحانية مثل ماري بونافنطور.

المبحث الثاني: في المعتزلة والمتكلمين والصوفية

المعلومات المستفادة بطريق النظر أو الرياضة، إن لم تُقَيَّدْ بموافقة الدين الإسلامي؛ فحكمة مشائية أو إشراقية، وإن قيدت بذلك واستفيدت بالنظر فكلام أو الرياضة فتصوف، وعلماء الكلام قسمان: معتزلة يجعلون التعقل أساسًا للدين، بمعنى أنهم يوجهون عقولهم نحو المطلوب فيحصلونه ثم يؤَوِّلون الشرع إلى ما أدركه العقل، وسُنِّيَّة يجعلون الدين أساسًا للتعقُّل وهم أشاعرة وماتريدية. وأما الفلاسفة فمُعرِضون عن الدين رأسًا، ومن رجال أهل السنة فخر الدين الرازي محمد بن عمر المتوفى سنة ١٢٠٩ ميلادية، وأبو سعيد عبد الله بن محمد بن علي البيضاوي المتوفى سنة ١٢٨٦، أو سنة ١٣١٦ ميلادية، وأبو البركات عبد الله أحمد بن محمد النسفي المتوفى سنة ١٣١٠ ميلادية، وشمس الدين الأصفهاني المتوفى سنة ١٣٤٨ ميلادية.

ومن رجال التصوف أبو حامد محمد بن محمد الغزالي وُلِدَ سنة ١٠٥٨ ميلادية بطوس التي اتَّجَرَ فيها والده في القطن المغزول، تعلَّم العلوم في مدينتي جرجان ونيسابور، ثم درس الإلهيات في بغداد، ثم سكن دمشق وانقطع عشر سنين يتأمل في مصنوعات الله، ثم عاد إلى التعليم في نيسابور، ألَّف أكثر من مائة كتاب قصد في جميعها رفع شأن الدين، وأهمها الإحياء الذي كان سببًا في تلقيبه بحجة الإسلام، واشتهر ولهج كثيرون بأن جميع الكتب الإسلامية لو ضاع لكان شيئًا قليلًا ما بقي هذا الكتاب، وكان عظيم الحب للآداب التهذيبية؛ ولذا شحن كتبه بالحث على فعل الخير واجتناب الشر والتظاهر بأخلاق التورُّع وقمع الشهوة النفسية، ومن رجال المعتزلة أبو حذيفة واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، ثم أبو علي الجِبَائي وأبو هاشم عبد السلام، وأبو القاسم البلخي، وابن عياش، وأبو يعقوب السَّهَّام (بشد الهاء)، وإبراهيم بن سيار وآخرون.

المبحث الثالث: في علم الفقه والحديث وفرق المسلمين الأربع صحيحة العقيدة والدين

علم الفقه أحكام استمدها من الكتاب والسُّنَّة الأئمة الأربعة وهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالكوفة سنة ٦٩٩ ميلادية المتوفَّى ببغداد وله سبعون سنة، والإمام الشافعي المتوفَّى بمصر سنة ٨١٩ ميلادية، والإمام مالك بن أنس المولود في المدينة المنورة سنة ٧١٢ ميلادية المتوفى بها سنة ٧٩٥ ميلادية، والإمام أحمد بن حنبل المتوفى ببغداد سنة ٨٥٥ ميلادية وله ثمانون سنة.

وأول من ألَّف في هذا الفن أبو حنيفة الذي ولَّى الرشيد تلميذه أبا يوسف القضاء سنة ٧٨٦ ميلادية، ولم يأمن على القيام بوظيفة القضاء في جميع مملكته المتسعة إلا من يعينه أبو يوسف فانتشر مذهب أبي حنيفة بالعراق والهند والصين وخراسان وما وراء النهر وسائر بلاد العجم، وأما مالك فانتشر مذهبه بإسبانيا؛ فإن الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم قام بالحكم بعد أبيه، وتلقَّب بالمنتصر سنة ١٨٠ هجرية، وانتقل من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب مالك؛ فاختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسي الذي حج وسمع الموطأ من مالك إلا أبوابًا، وأخذ عن ابن وهب وابن القاسم وغيرهما، وعاد إلى الأندلس فولاه المنتصر القضاء، ولم يُوَلِّ قاضيًا في الأندلس إلا بإشارته فاتبع أهل الأندلس رأي مالك بعد أن كانوا على رأي الأوزاعي شيخ أبي حنيفة، توفي يحيى سنة ٨٠٦ ميلادية.

وكان الغالب على أهل المغرب السنن والآثار حتى قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسي بمذهب أبي حنيفة الذي أظهره بعد ذلك أسد بن الفرات بن سنان قاضي إفريقية، ثم تولى قضاء إفريقية سحنون بن سعيد التنوخي المولود سنة ٧٧٦ المتوفَّى سنة ٨٥٤ ميلادية فنشر مذهب مالك فتداول أصحابه القضاء حتى تولاه بنو هاشم وكانوا مالكية فتوارثوه كتوارُث الضِّيَاع، ثم أمر المعز بن باديس أن لا يتولى القضاء أو الإفتاء بسائر المدن والقرى إلا مالكي.

ولم يزل مذهب مالك منذ تولى سحنون مُتَّبَعًا في بلاد المغرب والسودان وسائر أهل إفريقية إلا مصر؛ فإن الشافعي أتى إليها سنة ١٩٧ هجرية، ونزل على بني عبد الحكم فأخذ عنه جمع من بني عبد الحكم والربيع بن سليمان وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي وأشهب وابن القاسم وابن الموَّاز وغيرهم، ثم الحارث بن مسكين وبنوه، وكتبوا عنه ما ألفه وانتشر مذهبه بالديار المصرية؛ فكان مقلدوه بها أكثر من غيرهم وفوض صلاح الدين الأيوبي القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي فلم يُوَلِّ القضاء بالديار المصرية إلا شافعيًّا، ثم ولى الظاهر بيبرس البندقداري سنة ٦٦٥ هجرية أربعة قضاة من المذاهب الأربعة، ثم اختص القضاء بالحنفية تبعًا لقاضي القاهرة الآتي من القسطنطينية.

وتفرقت تلامذة مالك إلى العراق ومصر؛ فكان منهم بالعراق القاضي إسماعيل وطبقته كابن خويز منداد، وابن اللبان، والقاضي أبي بكر الأبهري، وبمصر جمع منهم ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم والحارث بن مسكين، رحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبَثَّ مذهب مالك في الأندلس، ودوَّن فيه كتاب «الواضحة»، ثم دوَّن تلميذه العتبي كتاب «العتبية»، فعكف أهل الأندلس على «الواضحة» و«العتبية». ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، وكتب عن أصحاب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مذهب مالك وكتب عن ابن القاسم في سائر أبواب الفقه كتابًا سَمَّاه الأسدية، وذهب إلى القيروان فقرأها عليه سحنون، ثم ارتحل إلى المشرق، ولقي ابن القاسم فأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسدية، ورجع عن كثير منها فدون سحنون مسائلها، وبيَّن ما رجع عنه ابن القاسم، وكتب إلى أسد أن يأخذ بذلك فأنِف فترك أهل القيروان مدوَّنته، وعكفوا على مدونة سحنون على ما فيها من اختلاط المسائل بالأبواب؛ فلذلك سميت المدونة والمختلطة.

ومن كتب الفن المعتبرة «الموضحة» لأبي مروان عبد الملك القرطبي المتوفَّى سنة ٨٥٢ ميلادية، و«المجموعة» لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم مفتي قيروان المتوفى سنة ٨٧٣ ميلادية، و«المعزية» لمحمد بن المعز المتوفى سنة ٨٩٤ ميلادية، و«المبسوط» لإسماعيل بن إسحاق قاضي بغداد المتوفى سنة ٨٩٥. ومن رجال هذا المذهب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفَّى سنة ٩٧٠ ميلادية، وابن يونس أبو بكر محمد بن عبد الله الصقلي المتوفى سنة ١٠٥٩، وأبو الحسن علي بن محمد الربيعي المتوفى سنة ١٠٨٥، وابن رشد أبو الوليد محمد بن أحمد المتوفى سنة ١١٢٦، والمازري أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي وُلِدَ في مدينة مازارة بجزيرة صقلية، وتوفي سنة ١١٤١ ميلادية، وابن الحاجب المتوفى بالقاهرة سنة ١٢٤٨، وابن فرحون المدني المتوفى سنة ١٣٧٧ ميلادية، وقد جمع المؤلفات العديدة مختصر خليل بن إسحاق بن يعقوب المتوفى سنة ١٤٢٢ ميلادية، فكان أحسن كتب المالكية ترجمَه برون إلى اللغة الفرنساوية بأمر دولته حين نفذ حكمها على عرب الغرب وترجم إلى اللغة الإنكليزية كتابان: «الهداية في فروع الحنفية» ألفها برهان الدين سنة ١١٨٠ ميلادية، و«مشكاة المصابيح» جمع فيه أصح الروايات أبو عبد الله محمود سنة ١٣٣٦ ميلادية على حسب ما اعتمده الإمام حسين الذي اشتهر في بغداد سنة ١٢٢٠ ميلادية، ومن هذين الكتابين استمد الخواجه ميلس في كتابه المسمى تاريخ دين الإسلام.

وقد اعتنى بجمع الأحاديث النبوية جمع من العلماء أولهم محمد بن شهاب الزهري، وأما أول من بوَّبها فسعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريج بمكة، ثم سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالري، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف، وألَّف مالك الموطأ مرتبًا على أبواب الفقه، وأتى البخاري في صحيحه بسبعة آلاف ومائتين وخمسة وسبعين حديثًا من مائة ألف حديث مشكوك فيه، ومن أكثر من مائتي ألف حديث موضوع، والمكرر من أحاديثه ثلاثة آلاف لذكرها في كل باب اشتملت على معنى يليق به، وقد اتفق أهل السنة على صحة هذا الكتاب؛ فكان وما شابهه من الينابيع الأربعة للتوحيد والفقه، وهي: القرآن والسنة والإجماع وكذا القياس الجاري فيما لم يرد فيه نص عن الشارع، وكان مشابهًا لما نص عليه في أمر هو منشأ الحكم.

المبحث الرابع: في الفصاحة العربية وحفظ القرآن وحدة اللسان العربي

كان للعرب مزيد اهتمام بتحسين الكلام؛ ولذا افتخروا به وتغالَبُوا فيه، فأتى إليهم النبي بالقرآن الذي أثبت لسانهم وبادرت الأمم الإسلامية إلى التكلُّم به، فكان مستمِدًّا للقواعد النحوية وقواعد أساليب التأليف واختيار المحسنات والجناسات البيانية وغير ذلك مما يزيد على مائة فن؛ ولذا استمد منه أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٨٨ ميلادية قواعد نحوية كانت بابًا للتوضيحات الكثيرة النحوية، واتسع هذا اللسان العربي لمطالعة أهله الكتب اليونانية المشتملة على العبارات الجديدة حتى صارت اللغة العلمية لأهل المشرق والأدب الفارسي قسمًا من علم الأدب العربي؛ فإن الكتب العلمية باقية إذ ذاك لدى الفرس والترك على التأليف العربي، كما أن الكتب العلمية كانت ببلاد ألمانيا باقية في القرون المتوسطة على التأليف باللغة اللاتينية حين اخترع المنسنجير نظم الشعر بالألمانية.

ومع تباين الأمم الإسلامية ببلاد آسيا إلى داخل بلاد الهند وإفريقية إلى داخل بلاد السودان في الأخلاق والعوائد واللغات أتى القرآن حافظًا للوحدة اللغوية والإحساسات النفسية فعلموا منه الأطفال في المكاتب كلمات من قبيل: إن شاء الله، وما شاء الله، والله أكبر، والله كريم؛ تمرينًا لهم، ثم الفاتحة، ثم يعلمونهم في المدارس الآجروميةَ لمحمد بن داود الصنهاجي، والخلاصة المشهورة بالألفية لجمال الدين محمد بن مالك، ومصباح المطرزي في النحو، وكتاب ابن هشام، وأخذ الفرنساوية يعلمون كتاب دروس في النحو وغيره مشتمل على مراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود، وتصريف العزى لعز الدين أبي الفضل عبد الوهاب عماد الدين بن إبراهيم السنجاني، وكتاب المقصود المشتمل على طريقة تصريف الأسماء والأفعال ليوسف الحنيفي، وكتاب البناء المفيد طريقة أحكام أجزاء الكلام التي لا تتصرف، وكتاب الأمثال المشتمل على جداول تصريف الأفعال.

وقد أوضح الخواجه دساسي الاصطلاحات النحوية ناظرًا للقواعد المبني عليها لسان العرب ومضاهيًا ألفاظ الطريقتين المشرقية والإفرنجية، وأطال فيمن ترجموا الكتب اليونانية إلى العربية، ومَن دوَّنوا النحو من العرب بما يغني عن تلخيص مناقبهم ومآثرهم.

المبحث الخامس: في علماء النحو والبيان والشارحين

فتح العرب البلادواشتغلوا بالملك عن العلوم التي أقبلت عليها الأمم المنقادة لهم؛ ولذا كان أعظم علماء التوحيد وأقدم النحويين كسيبويه والفارسي والزَّجَّاج من الأمة الفارسية، وظهر على علماء اللغة الذين كانوا أشهر من غيرهم إسماعيل بن محمد الجوهري الملقب بإمام اللغة العربية المولود وسط القرن الرابع من الهجرة بمدينة فاراب فيما وراء نهر جيحون، ألَّف كتاب الصحاح مُرَتَّبًا على حروف المعجم باعتبار الحرف الأخير لاحتياج الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، جاب بلاد الفرس والعراق العربي والشام ومصر، ثم رجع إلى خراسان، وأقام في نيسابور التي اشتهر فيها سنة ٩٩٩ ميلادية، هذا الكتاب الذي شرحه كثيرون، واستمد منه الخواجه غوليوس والخواجه ميتسكي، وكانا يعتبرانه أعظم القواميس التي منها المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل الملقب بابن سِيدَه المتوفى سنة ١٠٦٥ ميلادية، والعباب وهو عشرون مجلدًا للإمام حسن بن محمد الصاغاني المتوفى سنة ١٦٥٦ ميلادية، ثم ظهر الفيروزآبادي مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب المولود في قنسرين بضواحي شيراز سنة ١٣٢٨ ميلادية، فألَّف من العباب وغيره زمن انحطاط تقدُّم العرب كتابًا في جميع ألفاظ اللغة العربية، وهو ستون مجلدًا كل منها في ضخامة صحاح الجوهري اختصر منه ما بين أيدينا من القاموس المحيط، وهو بالنسبة له كواحد من ثلاثين تقريبًا ألَّف أكثر من أربعين كتابًا، وأغدق عليه ملك اليمن إسماعيل بن عباس الملقب بالأشرف، وتعجب السلطان بايزيد العثماني وتيمورلنك من عظيم اعتبار الناس له فبعثا له هدايا، ساح في الآفاق، ثم أقام بزبيد حتى توفي فيها سنة ١٤١٥ ميلادية، وله ثمانون سنة، وممَّن استفاد عظيم الشهرة بمؤلَّفاته أبو القاسم محمود الزمخشري المتوفَّى سنة ١١٤٣ ميلادية ألَّف المفصل ومقدمة لمطالعة النحو وقاموسًا فارسيًّا وعربيًا والكشاف المشتمل على معاني القرآن، وما يتعلق به من اللغة والإعراب والبلاغة المتعلقة بتأدية المعاني حسب المقاصد المتوقفة على علمي المعاني والبيان المعتبَرَيْن في الأدبيات المشرقية المستفادَيْن من مثل الكشاف والجرجاني، وشرح التفتازاني على تلخيص المفتاح لجلال الدين محمود بن عبد الرحمن القزويني وحدائق البلاغة في البلاغة، وضبط نطق اللغة الفارسية تأليف الأمير شمس الدين وأدب الكاتب المشتمل على كيفية أساليب التعبير وأنواع الفصاحة لابن قتيبة المتوفى سنة ٨٩٠ ميلادية، ومن أشهر علماء البيان ابن السكاكي الفارسي المشبه لدى بعض الفرنج بالخواجه قنتيليان في الاعتناء بوضع القواعد البيانية وصحتها، وبالخطيب سيسيرون (قيقرون الرومي) في الفصاحة وغزارة المحاسن، وأتى العلامة الجزري في كتابه المسمى المنهج الكلي بأنواع المعارف اللازمة للخطيب، وألَّف السيوطي في هذا الموضوع كتابًا تكلم فيه على صحيح اللغة العربية وجودتها، وأيد كل قاعدة بعبارات ثقات المؤلفين، وأما الخليل بن أحمد، فأول من ألَّف في العَرُوض الذي استمده من كلام قدماء الشعراء.

المبحث السادس: في علم تحرير الأدبيات وتحبير المؤلفات وفي الحكايات والخرافات المسلية والقصص الغريبة

كان العلَّامة الحريري المولود سنة ١٠٥٤ ميلادية المتوفَّى بالبصرة سنة ١١٢١ ميلادية أول علماء تحرير الأدبيات وتحبير المؤلفات فضلًا ورتبة، ألَّف المقامة الحرمية فوقعت في يد شريف الدين أبي نصر أنوشروان بن خالد بن محمد الكاشاني وزير الخليفة المسترشد بالله، ووجدها مستوفاة التحرير والتحبير، فأمر الحريري أن يؤلِّف مقامات أخرى على نسقها فأتت خمسين مقامة مكونة من منثور ومنظوم على لسان إنسان مفروض الوجود، مشتملة على مقدار عظيم من محاسن اللغة العربية التي لو أتقن معرفتها إنسان لعرف غزارة اطِّلاع صاحبها الذي أودعها مجازات وألغازًا قليلة الاستعمال، ورموزًا وأمثالًا أبانت صعوبتها؛ ولذا شرحها كثيرون، ومن مؤلفاته المنظومة المسماة ملحة الإعراب وشرحها، وسبقه إلى ذلك النوع من التأليف أبو الفضل أحمد بن حسين الهمذاني المتوفى سنة ١٠٠٧ ميلادية وله أربعون سنة، كان يسمع القصيدة مرة فيُنشِدها بلا تردد كما هي، وكان يرتجل الشعر بغاية السهولة مع صحة الألفاظ وحُسن التعبير، افتخر بابتكاره أربعمائة مقامة.

ومن الأدبيات: الخرافات، والأمثال الحكمية المنسوبة إلى لقمان، وحكايات ابن عرب شاه وابتكاراته المستورة الحقائق بالكنايات والرموز، وكتاب ابن المقفع المسمى كليلة ودمنة، وكتاب ألف ليلة وليلة الرابط للحقائق التاريخية بمناسبات مبتَكَرة، ربما كانت لطيفة دقيقة، ولا يُعرف له مؤلف.

المبحث السابع: في الأمثال السائرة ومجاميع الأغاني وهو الجزء الأول من الينابيع التاريخية

لا خفاء أن مجاميع الأغاني والأمثال ينبوع للفوائد التاريخية؛ فمن الأول كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن حسين الأصفهاني المتوفَّى سنة ٣٥٦ هجرية، بناه على مائة منظوم نظمها لهارون الرشيد إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامي وفليح بن عورة، ثم زاد إسحاق بن إبراهيم على ذلك بإذن الواثق أغاني معبد وابن سريج ويونس ومجموعات أغانٍ لجمع من الخلفاء أو أبنائهم، ثم بعض مقطعات مفيدة للقارئ، ثم جاء الأصفهاني فزاد على ما اختاره من تلك الأغاني ما يوضحها من الأخبار والنكت وترجم الشعراء الناظمين، وأبان تواريخ جزيرة العرب السنوية القديمة؛ فإنه كان متبحرًا في الأنساب وسَيَّرَ مشاهير الرجال والمقاتلات الشهيرة والحوادث التي تخص أجداده الأوائل، ولم يلتزم فيه ترتيبًا منتظمًا ترغيبًا للقارئ، ولا تظن أن موضوعه مبتذل أخذًا من اسمه؛ فإنه يشتمل على فوائد نفيسة في تاريخ العرب المدني والأدبي مع غزارة نوادِرِه المتنوعة المؤثرة في النفس، ولم يُعرف هذا الكتاب في أوروبا إلا عند استيلاء الفرنساوية على الديار المصرية.

وممن نقل هذا الفن إلى مكة النضر بن الحارث، ساح في البلاد فتعلم لغات أجنبية وطالع الكتب الأدبية التي عند الفرس واليونان ونقلها إلى مكة وأحدث بين أهلها حب المويسيقى، ولغزارة علومه كان عنده أنفة وتكبُّر، فظاهر بالعداوة رسول الله ، حتى انهزم حزبه في غزوة بدر، فأراق دمه رسولُ الله فرثته بنته قتيلة بقولها:

يا راكبًا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتًا بأن تحية
ما إن تزال بها النجائب تعنق
مني إليك وعبرة مسفوحة
جادت بواكفها وأخرى تخفق
هل يسمعني النضر إن ناديته
أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضن كريمة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن
بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تَشَقَّقُ
صبرًا يقاد إلى المنية متعبًا
رسف المقيد وهو عانٍ موثق

وبلغ ذلك رسول الله فقال: «لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته.»

ومن الثاني أمثال الميداني الذي تعلَّم فيه أشهر العلماء الباحثين عن الأمور المشرقية أكثر فيه من نوادر منها ما هو غريب، كقوله في مثل: «إن من البيان لسحرًا.» نطق بهذا المثل النبي حين وفد عليه سنة ٦٣٠ ميلادية السفراء الذين أسلموا، وهم: عمرو بن أحطم والزبرقان بن بدر، وكذا قيس بن عاصم الذي أرى أولاده حين حضرته الوفاة حزمة سهام ليفهمهم فوائد الاتحاد. وقال في تفسير هذا المثل وهو — راجع أمثال الميداني — يعني أن الشيء العظيم قد يكون ناشئًا من شيء حقير، وأتى في مناسبة هذا المثل بتفاصيل استمد منها بعض المؤلفين موضوع ما اشتهر من أن أولاد نزار الأربعة مضر وإياد وربيعة وأنمار لم يتفقوا على تقسيم أموال أبيهم بينهم؛ فذهبوا إلى الأفعى الجرمي قاضي العرب، فوجدوا في طريقهم رجلًا يطلب جملًا، فقالوا له: هل كان أعور أعرج مقطوع الذنب نَفُورًا؟ فقال: نعم. وظن أنهم أخذوه، فقالوا: لم نره. وسألهم القاضي الأفعى عن مقالتهم إلى ذلك الرجل، فقال: مضر ظننت عور الجمل من أكله الحشائش من جانب دون آخر، وقال ربيعة: رأيت شدة انطباع أحد خفيه في الأرض بخلاف الآخر؛ فليس بواضح الصورة، فعلمت عرجه. وقال إياد: رأيت روثه غير منتشر في الأرض فعلمت أنه أبتر. وقال أنمار: ظننت نفوره من تركه الكلأ الغزير وذهابه إلى أقل منه.

المبحث الثامن: في أشعار العرب والمعلقات السبع، وهذا القسم هو الجزء الثاني من الينابيع التاريخية

لهجت العرب بالشعر وجعلوه ديوانًا لأخبارهم وشرفهم ومحكًّا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب؛ فكانوا أول المؤرِّخين لحوادث بلادهم؛ فإنهم كانوا يقفون كل سنة بسوق عكاظ فينشد الشاعر ما فعله من معالي الأمور وما لقبيلته من الشرف والشهرة أمام الفحول لانتقاد ما يقول؛ فإن استحسنوه كتبوه بمحلول الذهب وعلقوه على الكعبة، كما وقع لامرئ القيس بن حجر وزهير بن أبي سُلمى وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد والحارث بن علقمة بن عبدة وباقي أصحاب المعلقات السبع المشتملة على أنواع التشبيه المبتكرة والاستعارات والجناسات التي اقتفاها المنشئون في الأعصُر التالية.

ولد امرؤ القيس سنة ٥٠٠ ميلادية، وعاش في حط وترحال، مات والده شيخ قبيلة بني أسد قتيلًا؛ فأراد الأخذ بثأره وسأل عرب البادية أن يساعدوه فأبَوْا فسأل ملوك اليمن والإمبراطور بوسطينان عاهل القسطنطينية، ثم مات بقرب أنقرة مسمومًا، وغضب ملك الحيرة عمرو بن هند والملك المنذر الثالث على طرفة بن العبد فدُفِنَ حيًّا وله عشرون سنة تقريبًا، وكان عنترة بن شداد رقيقًا تبعًا لأمه حتى أُعْلِنَ عتقه في معركة، وهو من قبيلة نبهان مشتهر بجودة القريحة في قرض الشعر، وكذا بعجائب الفروسية والغزوات التي ألَّف فيها بعض المتأخرين الحكاية المشهورة بين أهل المشرق، وكان من الوفد الذي بعثه بنو طيئ إلى النبي سنة ٦٢٩ ميلادية، ثم مات كبيرًا، ومعلقات هؤلاء الثلاث مع معلقة لبيد تتضمن صورًا فكرية. وأما معلقة الحارث ففي المخاصمة بين آل بكر وبني تغلب والمقاتلات التي انهزم فيها أخصام قبيلته بلا أخذ بالثأر، ومعلقة زهير في صلح عبس وذبيان، ومعلقة ابن كلثوم في مدح التغلَبيين عامة وجُرْهُمَ خاصة، وممن كان ذا قدم في قرض الشعر عمر بن أبي ربيعة كبير قريش الذي كان كثيرًا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجَبًا به، والشنفرى الأزدي وتأبط شرًّا والنابغة الذبياني الذي نال الرفد من ملوك الحيرة، ثم من أمراء غسان، وعاش إلى غُرة القرن السابع من الميلاد، ودريد بن الصمة المتوفى في واقعة حنين وهو هرم.

•••

وقد بدأ يهجو الإسلام شعراء مكة كعبد الله بن زياد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاص بن أمية؛ فأمر النبي حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك بالرد عليهم؛ فاشتدت بين الفريقين العداوة التي انقطعت بانتصاره على كفار قريش، وممن هجا النبيَّ كعب بن زهير، فحكم بإهدار دمه وقتله أينما وُجِدَ فأسلم ونظم قصيدة بانت سعاد، وقرأها أمامه حتى بلغ:

إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الهند مسلول

فقال : «قل من سيوف الله.» ثم خلع بردته الشريفة جائزة على المدح وعلامة على الصفح والقبول؛ ولذا عرفت بقصيدة البُردة، ويقال: إن العباسيين اشتروا هذه البردة، ثم حُفِظَتْ في القسطنطينية.

وكان رثاء العرب عظيم الشجو، وتنكيتهم قوي الموقع والتأثير، وامتداحهم جيد التعبير، وأقوالهم في الرياض والأزهار معروفة باللطافة والصدق؛ لأنهم لم يتكلَّفوا شيئًا، بل وصفوا المظاهر التي رأوها بأعيُنِهم مع ما لهم من البراعة في الأشعار المويسيقية على الأعواد والأوتار، وكانوا يسمون كل مجموع أشعار قديمة لشاعر أو قبيلة ديوانًا، ويعتبرون هذه الدواوين فرعًا من الدروس التاريخية، ودام القريض على البلاغة الأصلية في بلادهم دون ما عداها؛ فَقَدْ فَقَدَ فيها بلاغته وعلو رتبته، واستعمل في الكلام والحكمة والجبر والنحو وسائر الفنون.

وقد ألَّف أبو الطيب المتنبي في القرن التاسع من الميلاد عدة قصائد في مدح الأمير سيف الدولة أبي الحسن علي بن حمدان، وحرر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي ديوان الحماسة، ثم استحسن الناس شعر أبي نواس المتوفَّى سنة ٨١٥ ميلادية، وابن دريد المتوفى سنة ٩٣٣ ميلادية، وأبي العلاء المعري المتوفى سنة ١٠٥٧ ميلادية، وابن الفارض المتوفى سنة ١٢٣٥ ميلادية، ونظم الطنطراني سنة ١٠٩٢ ميلادية رسالة الغزالي في الفقه ونظم قصيدة أخرى في التصوف، وألَّف كثيرًا ظهر عند المشرقيين وجمعه عليٌّ تلميذه في ديوان.

ولم تزل العرب تتقرب إلى الخلفاء بالشعر المشتمل على الأخبار واللغة وشرف اللسان، فيجازون بأعظم الجوائز على جودة شعرهم ومكانهم من قومهم حتى انحطت السلطة العربية فغلب قبح الذوق على الأدبيات وعيبت بقلة حُسن ترتيبها وعدم ارتباط بعضها ببعض، وعاب الفرنج الشعر الإسلامي بعدم التطويل إلا قليلًا كألف ليلة وليلة، وقصائد أبي تمام التاريخية، وقصائد جمال الدين، وحكايتي المهدار والرجل الذي يخفت صوته تأليف أبي يعلى بن الحبارية، ومحاورات محمد بن محمد الذي أدخل في ميدان التحاور خمسين صناعة يتكلم المتحاورون فيها بلغة أربابها.

وكان أدباء الأندلس يمرنون أذهانهم في القصص والحكايات المتخيلة التي كانوا يجتمعون كل ليلة لاستماعها وضَمَّ أهل غرناطة إلى ذلك الآلات المويسيقية والغناء، وكانوا يمارسون ضروب الشعر خصوصًا نظم الحكايات المشتملة على نكت مشوقة حتى اشتهر كثير من الرجال وبعض نساء، ونظم أعظم شعرائهم أبو عمر أحمد بن محمد المتوفى سنة ٩٧٠ ميلادية تاريخ الحوادث السنوية الأندلسية المتعلقة بخلفائها الأموية، واستفاد إقليم بروانسه من دواوين هؤلاء قافية الشعر التي استعملتها العرب منذ أحقاب، وقد أعرب الكتاب المسمَّى رومنسرو عن أعياد تلك الأزمان، ولعب أهل مراغة ومرماح الأثوار وحروب النصارى والمسلمين والرقص الذي عرفت به فداوية الأندلس المعروفون بالشوالية، وعن الرقة التي اشتهر بها مغاربة الأندلس في جميع أوروبا.

المبحث التاسع: في مؤرخي العرب لا سيما أبو الفداء وأبو الفرج وبهاء الدين

ليس ما أسلفناه من أشعار العرب ومجموعات الأمثال والأغاني مختصًّا بإفادة التاريخ العربي؛ فقد سرد حاجي قلفه ألفًا وثلاثمائة مصنف في التاريخ، وقال يحيى أفندي في كتابه المسمى بالنتائج إن منها خمسة عشر مصنفًا حسنة الترتيب قليلة الكلام على الحوادث التاريخية القديمة ينبغي أن تُدَرَّسَ في المداس، لكنها خلت عَمَّا يلزم في التاريخ من الربط المعنوي بين الحوادث.

وُعدَّ في الطبقة الأولى من مؤرخي العرب أبو الفداء وأبو الفرج وبهاء الدين، وإن كان ابن خلدون والمقريزي وشمس الدين والسيوطي والنويري وأمثالهم ليسوا أقل من هؤلاء في الاعتبار، كان أبو الفداء شجاعًا في الحرب ذكيًّا في المشورة مولعًا بمحاسن الفنون الأدبية والعلوم ذا شوكة سلطانية بحماة في ابتداء القرن الرابع عشر من الميلاد، ألَّف في التاريخ العام مختصرًا استمده من تواريخ متوسطة الاعتبار، لكن لا بأس بمراجعته للحصول على ثمرة التاريخ السياسي والأدبي الإسلاميين، وتاريخ إمبراطرة اليونان أهل القرن الثامن والتاسع والعاشر بعد الميلاد، قسم هذا المختصر خمسة أجزاء ذكر في الأول قصص الرسل والأنبياء والقضاة والملوك من بني إسرائيل، وفي الثاني العائلات الأربع التي منها ملوك الفرس، وفي الثالث فراعنة مصر وملوك اليونان وإمبراطورة الرومان، وفي الرابع ملوك العرب قبل الإسلام، وفي الخامس تاريخ أمم مختلفة كالصابئة والقبط والفرس وغيرهم، ثم الحوادث التي من مولد النبي إلى سنة ١٣٢٨ ميلادية، ثم توفي بعد ثلاث سنين.

وولد أبو الفرج بمدينة ملطية سنة ١٢٢٦ ميلادية، وهو من الطائفة النصرانية المعروفة باليعاقبة، تولى أسقفية جوبة فحلب فرياسة النصارى اليعقوبية بالمشرق، ألَّف عدة كتب في الإلهيات والفلسفة، وألَّف بالسريانية تاريخًا عامًّا، ثم ترجمه بالعربية إجابة لرجا أحبابه، وهو من ابتداء خلق الدنيا مشتمل على نفائس متعلقة بالعرب والمغول وجنكزخان، توفي سنة ١٢٨٦ ميلادية.

وولد بهاء الدين في الموصل سنة ١١٤٥ ميلادية، واجتهد في الحديث والفقه ودرس في بغداد بالمدرسة النظامية، ثم في الموصل بمدرسة القاضي كمال الدين محمد الشهرزُوري، وألَّف تاريخ السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبي الذي تَقَرَّبَ إليه؛ فولاه قضاء الجيش، ثم قضاء بيت المقدس، وكان له التحكُّم العظيم في أيام أولاد صلاح الدين، وتولى قضاء حلب فبنى مدرسة لتدريس العلماء وأخرى للشبان، ثم ترك القضاء سنة ١٢٣١ ميلادية، واشتغل بالتدريس حتى تُوُفِّي سنة ١٢٣٥ ميلادية.

المبحث العاشر: في ابن خلدون والمقريزي والسيوطي وأمثالهم

لم يكن لدى مؤرخي العرب الحرية في الإفصاح عن حقائق الوقائع التاريخية؛ خوفًا من الملوك والحكام المشرقيين، فإن كلًا منهم كان يحذر من كتابة الأحوال السنوية زمن سلطنته، ويحذر من يخالف بالقتل؛ فلذا احترس المؤرخون واقتصروا على ذكر ما يرفع شأن الحاكم، إلا ابن خلدون المولود بتونس سنة ١٣٣٢ ميلادية لم يحذر بطش الظَّلَمَة على ما يظهر، حل وهو شاب وسط انقلابات بلاد المغرب في القرن الرابع عشر من الميلاد فخدم يسيرًا في دولة ملوك فاس، ثم قدم القاهرة ودرس لسائر الناس، وتولى قضاء المالكية بالديار المصرية وعُزِلَ، فطلبه سلاطين المغرب لعلمهم بجلالة قدره، ألَّف تاريخه السِّيَر والعبر، فبدأ في مقدمته بالانتقاد التاريخي، ثم بحث عن حال الجمعية التأنسية البشرية في بداية أمرها، وخطط الكرة الأرضية بإيجاز، وبحث عن عظمة تأثير تنوُّعات الأقاليم في النوع الإنساني، وعن الأسباب الموجِبة لعلو شأن الممالك وانحطاطها وعن الشغل من حيث هو وعدد الصنائع العقلية والعملية، وعن ترتيب العلوم حسب موضوعاتها وأيَّد قوله بأمثلة غريبة استمدَّها من التواريخ السنوية التي عند الأمم، ترجمها إلى التركية محمد بيرايزاده في عهد السلطان أحمد الثالث، وتكلم في التاريخ على أحوال البربر، وكذا العرب إلى آخر القرن الرابع عشر من الميلاد، تُوُفِّيَ سنة ١٤٠٦ ميلادية وله سِتُّ وسبعون سنة.

وكانت عائلة تقي الدين أحمد المعروف بالمقريزي من أصول سكان بعلبك، ووُلِدَ هو سنة ١٣٦٤ ميلادية بالقاهرة فتعلَّم فيها العلوم ولاحت عليه بوارق النجابة والذكاء؛ فتولى نيابة القضاء بالمحكمة الكبرى تحت نِظَارة القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمري، وولي الحسبة مرات ووظائف أخرى دينية، وكان حنفيًّا فتشفَّع وذم أتباع أبي حنيفة فلامه العلماء، ألَّف تاريخ السلاطين المماليك الذي ترجمه الخواجه كترمير إلى الفرنساوية، وكذا الخطط المُبِينَة عن الوقائع التاريخية الإسلامية بوادي مصر وعن سياسة ملوكه وإدارة حكامه وحركة تجارته منذ فتحه الصحابة — رضي الله عنهم — وشرع في تدوين تاريخ عام مشتمل على أحوال سائر من ملك وادي مصر ومن اشتهر به، ومن سكنه من الغرباء أو زاره من السياحين مرتَّبة أسماؤهم على حروف المعجم، وكان يبلغ لو كمل ثلاثين مجلدًا، وهو في كتبخانة باريس الكبرى بخط منبئ عن كليات وجزئيات الطريق الذي سلكه مؤلفه المتوفَّى سنة ١٤٤٢ ميلادية.

ومن المصريين المؤرخين جمال الدين بن واصل الموجود سنة ١٢٥٠ ميلادية، استمد المقريزي كثيرًا من كلامه، وأبو المحاسن بن تغري بردي صاحب التواريخ السنوية المصرية من منذ الفتح إلى سنة ١٤٥٣ ميلادية، وابن إياس محمد بن أحمد الذي تمم تاريخ أبي المحاسن حتى أوصله إلى سنة ١٥٢٢ ميلادية؛ فخَلَفَهُ شمس الدين بن سرور، فأوصل هذا التاريخ إلى سنة ١٦٥٢ ميلادية.

وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي قرين عبد اللطيف البغدادي في الشهرة بتدوينه تاريخ مصر الممتد من خلق الدنيا إلى سلطنة الملك الأشرف قايتباي، وُلِدَ بأسيوط سنة ١٤٤٥ ميلادية، وألَّف كثيرًا، ذكر منه الخواجه أوديفريت في شرحه على السيوطي نحو ستة وخمسين مصنفًا، توفي سنة ١٥٠٥ ميلادية، ولا يخفى عظيم الخدم للمعارف المشرقية الذي أداه الخواجه دساسي المترجم إلى الفرنساوية الخطط المصرية لعبد اللطيف البغدادي المعاصر لصلاح الدين الأيوبي المولود ببغداد سنة ١١٦١ ميلادية، المتوفَّى سنة ١٢٣١ ميلادية.

المبحث الحادي عشر: في المسعودي والطبري وابن الأثير والنويري وأمثالهم

من مؤرخي العرب في أعصُر عز الإسلام المسعودي الموجود في القرن العاشر من الميلاد أولع منذ شبيبته بحوز العلوم فتبحَّر فيها، ثم في الفلسفة، ثم الأدبيات، ثم الجغرافيا والتاريخ وسائر الكتب المختصَّة بالعرب، وطالع تاريخ اليونان والرومان وجميع الأمم المشرقية متقدمة أو متأخرة، مع كمال معرفته بعقائد اليهود والنصارى والهراطقة والمسلمين والمجوس والوثنيين؛ فعرف بين الخاص والعام بسعة الاطِّلاع في سائر العلوم التي لم يَنَلْهَا أحد من مؤرخي العرب، ألَّف كتابًا كبيرًا يسمى أخبار الزمان، وكتابًا أوسط يبلغ مجموعهما أكثر من عشرين مجلدًا في الربع لأعلم أهل أوروبا بهما، وأما كتابه الأصغر المسمى مروج الذهب ومعادن الجواهر فوصل إليهم وهو مائة وستة وعشرون بابًا منها خمسة وستون في التاريخ القديم للعرب والعجم وواحد وستون في النبي وخلفائه، وليس ما في تلك الأبواب تاريخًا متسلسلًا، بل أخبار متفرِّقة، ولرغبته في الاطِّلاع على المَحالِّ التي يريد تدوين تاريخها قد لا يلتفت إلى الانتقاد التاريخي، وكثيرًا ما كتب حكايات في بيان الأصول المِلِّيَّة، لكن مؤلفاته على ما قال الخواجه كترمير: لا يكاد القارئ يفهم منها شيئًا لتنوُّع موضوعاتها وكثرة حلها لكثير من المسائل الصعبة بتقييدات متنوعة لم يرجع إلى وطنه بالعراق، وتُوُفِّيَ بالقاهرة سنة ٩٥٦ ميلادية، وكان قبل المسعودي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى ببغداد سنة ٩٦٦ ميلادية وله ثلاث وثمانون سنة، أصله من أهل أمول تخت طبرستان، تبحَّر في الحديث والفقه وعُدَّ من أئمة المسلمين، ألَّف قبل المسعودي بقرن تاريخه الممتد من خلق الدنيا إلى سنة ٣٠٢ هجرية الموافقة سنة ٩١٤ ميلادية، وزعم بعض الناس أن مؤلِّفه اختصره من كتاب له أضخم منه وهو جليل القدر مشهور بالصحة عند المشرقيين الذين ترجموه إلى التركية والفارسية، لخَّصَه وذيَّله الخواجه جرجس بن أميد القبطي الأصل المعروف بالماسين المولود سنة ١٢٢٣ ميلادية، المتوفى بدمشق سنة ١٢٧٣ ميلادية، وترجم جزءًا من هذا الملخص الخواجه أربينيوس إلى اللاتينية، والخواجه واتيرا إلى الفرنساوية فاستفيد من هاتين الترجمتين أخبار مهمة، وإن شُحِنَتَا بالأغاليط.

وولد ابن الأثير الملقَّب بعز الدين في جزيرة ابن عمر من جزيرة النهرين المعروفة بالعراق العربي، ثم توطن الموصل؛ فكان منزله بها مجمع أهل المعارف، وفيها ألَّف كتابه المسمى بكمال التواريخ الممتد من نشأة الدنيا إلى سنة ١٣٢١ ميلادية، وذيَّله أبو طالب علي فأوصله إلى سنة ١٢٥٨ ميلادية، وترجمه إلى الفارسية نجم الدين النزاري في سلطنة ميرزاميران شاه بن تيمور لنك، ومن مؤلفات ابن الأثير تاريخ الأتابكة أصحاب الشام، وتاريخ الصحابة — رضي الله عنهم — ومختصر من رسالة الأنساب لأبي الكريم السمان.

وكان العلَّامة النويري شافعيًّا من مؤلفاته تاريخ في عشر مجلدات تشتمل على نفائس في أخبار قدماء العرب، اشتهر بحسن الخط كشهرة ابن البواب ببغداد في غاية القرن العاشر من الميلاد نسخ صحيح البخاري ثماني مرات، وباع كل نسخة بألف درهم، وتوفي سنة ١٣٣١ ميلادية، وله خمسون سنة تقريبًا فخلفه ابن الفرات المولود سنة ١٣٣٥ ميلادية، ألَّف تاريخًا خمسة وعشرين مجلدًا مبدؤه الهجرة المحمدية الموافقة سنة ٦٢٢ ميلادية، تُوُفِّيَ سنة ١٤٠٥ ميلادية فخلفه أحمد بن عرب شاه الذي كان يدوِّن سنة ١٤٣٠ ميلادية أخبار تيمورلنك.

واشتهر في القرن الثالث عشر كل من ابن واصل محمد بن سالم المظنون فيه أنه مؤلف التاريخ القديم المنسوب إلى الطبري زورًا، وابن الجوزي المنسوب إليه كتاب مرآة الزمان، اشتهر سنة ١١١٧ إلى سنة ١٢٠١ ميلادية بالفقيه المفتي والمؤرخ والخطيب الفصيح، وهو غير رجل آخر معروف بابن الجوزي، وولد العتبي فيما وراء نهر جيحون، وألَّف سنة ١٠٥٠ ميلادية تاريخًا في أخبار الأعصر القديمة وسيرة محمود الغزنوي، وقد جمع ابن قتيبة البغدادي قبل هؤلاء المؤرخين بكثير مواد مهمة تتعلق بأنساب العرب، وتاريخًا في أخبار الشعراء وسيرهم.

المبحث الثاني عشر: في أعظم مؤرخي إسبانيا

كان بإسبانيا مؤرخون كثيرون ذوو فضل منهم ابن الكوتياح المتكلم في فتح العرب بحيث جزيرة إسبانيا، المتوفَّى بقرطبة سنة ٩٧٨ ميلادية، والشاعر أحمد بن محمد المدوِّن أخبار إسبانيا وأحوال خلفائها الأموية، وابن الفرضي المتوفى سنة ١٠١٢ ميلادية حين أخذ البربر قرطبة ألَّف تاريخًا في سير الشعراء والعلماء، وابن الخطيب المولود بغرناطة سنة ١٣١٣ ميلادية، المتوفَّى سنة ١٣٧٤ ميلادية، جمع من كلام سلفه أنفس ما يتعلق بخلفاء المغرب وإسبانيا وملوكهما، وأحمد بن محمد المقري المولود بتلمسان المنسوب إلى قبيلة قديمة في ضواحي هذه المدينة ذهب إلى فاس سنة ١٦٠٠ ميلادية؛ فتخرَّج على من فيها من العلماء، وعزم على الحج سنة ١٦١٨ ميلادية، وتوطن القاهرة، ثم كمل بعد عشر سنين وهو بدمشق تاريخ عائلات السلاطين الإسلامية التي في إسبانيا، وأملى شرحًا على مقدمة ابن خلدون، واستعد لتدوين السيرة النبوية، واستمد من تاريخ ابن الخطيب في تاريخه الذي ترجمه وطبعه الخواجه دوجينجوس في القرن الثالث عشر من الهجرة، والقيسي المدون سنة ١١٢٥ ميلادية في سير شعراء وعلماء القرن الحادي عشر، وابن حيان المؤلف في مسلمي إسبانيا تاريخًا اختصره الأزدي الحميدي سنة ١٠٩٥ ميلادية، وابن صبيح المؤلف في القرن الثالث عشر من الميلاد تاريخ إسبانيا زمن المراونية والموحدين، وابن حبيب السلمي الذي شهر تاريخًا قديمًا في الخلفاء السبعة الأولى من بني أمية، وابن الحارث الخشني ملخص تاريخ قضاة قرطبة إلى آخر القرن العاشر، وشهاب الدين أحمد الفارسي المدون في جميع الممالك تاريخًا اختصره الحاج عاشر الشاذلي.

المبحث الثالث عشر: في مؤرخي الفرس

هم كثيرون من أشهرهم ميرخند المسمى همام الدين خاوند محمد المولود سنة ١١٣٣ ميلادية، المتوفى سنة ١٤٩٨ ميلادية دَوَّنَ تاريخًا عامًّا ينتهي إلى سلطنة شاه رخ بمساعدة علي شير وزير السلطان التيمورلنكي أبي الغازي حسين بهادر وخندمير الذي اختصر تاريخ أبيه ميرخند، وألَّف تحرير خلاصة الأخبار، وانتهى فيه إلى سنة ١٤٩٩ ميلادية، وكتاب حبيب السير المشتمل على حوادث سنة ١٥٢٥ ميلادية أبدى فيه برهانًا على استعمال الورق المصكوك بدل نقود الذهب والفضة من ابتداء غاية القرن الثالث عشر من الميلاد، ولو تكلمنا على تاريخ سير الشعراء لدولة شاه والتاريخ القديم لفرشتاه وسيرة تيمورلنك لشريف الدين علي، وتاريخ المغول الذي ألَّفه رشيد الدين وترجمه الخواجه كترمير إلى الفرنساوية لكان ذيلًا ضروريًّا لسير مؤرخي العرب، لكنه يؤدي إلى الخروج عمَّا التزمناه من الاختصار.

المبحث الرابع عشر: في قواميس سير مشاهير العرب

منها كتبخانة الحكماء للزوزني، وعيون الأنباء تاريخ الأطباء لابن عصيبة المتوفَّى سنة ١٢٦٩ ميلادية، ووفيات الأعيان المشتمل على ثمانمائة وسِتٍّ وأربعين ترجمة لابن خلكان شمس الدين أبي العباس أحمد المولود في أربل سنة ١٢١١ ميلادية، وهو برمكي وَلِيَ قضاء القاهرة، ثم قضاء دمشق المتوفَّى بها سنة ١٢٨١ ميلادية، والكتبخانة المشرقية لمصطفى بن عبد الله المشهور بحاجي قلفه الملقَّب بخطيب جلبي رئيس كتبة أسرار السلطان مراد الرابع ووزير المالية في سلطنته، وهذه الكتبخانة المشرقية مجموع يشتمل على ثمانية عشر ألفًا وخمسمائة وخمسين اسمًا من أسماء الكتب المشرقية مع أسماء مؤلفيها ونبذة في سيرهم، ورسالة في الجغرافيا سماها جهان نامه مرآة الدنيا، والتاريخ الكبير الممتد من خلق الدنيا إلى سنة ١٦٥٤ ميلادية، توفي بالقسطنطينية مسقط رأسه سنة ١٦٥٨ ميلادية.

وقد حفظ العرب مؤلفات اليونان واستعدُّوا لتجديد المعارف في أوروبا؛ فكانوا رابطة بين هذين الزمنين؛ وبذا يثبت فضل العرب على الفرنج الذين حاول بعضهم خفضَ فضائل العرب الواضحة كالشمس في رابعة النهار، ويعلم أن لا موقع لافتخار المتأخِّرِين من أهل أوروبا بتصورات أكثرها للعرب، وسبق لك ما كان لعلماء المدرسة البغدادية من التحكُّم النافذ بالمشرق والمغرب.

المبحث الخامس عشر: في اشتغال العرب بتقدُّم الفنون والصنائع

زعم بعض الفرنج أن لاجتهاد للعرب في تقدم الصنائع، مع أنهم على ما قال الخواجه هيرودوط: برعوا في جميع الفنون الصناعية واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دبَّاغون سبَّاكون جلَّاءون للأسلحة، نسَّاجون أصناف الأقمشة، ماهرون في الأشغال التي تصنع بنحو المنقار والمقص، ويؤيد فوقانهم في هذه الفنون تلك السيوف الباترة والدروع الخفيفة المانعة لمروق أي شيء منها، والبسط ذات الوبرة والمنسوجات الرفيعة المتَّخَذَة من الصوف والحرير والكَتَّان التي كشامير هذه الأزمان الأخيرة كالنموذج الدال عليها.

وقد زالت ساذجية الخلفاء الأُوَل بحب التجمُّل والفخامة لدى الأموية، وكذا العباسية التارك لهم المنصور ثمانية ملايين فرنك أو دينار ظهرت بها جلالة المهدي والرشيد والمأمون، وانظر إلى ما كان في زواج المعتضد ببوران من البهجة العجيبة واللآلئ المنتثرة، وما كان زمن المقتدر من تفخيم التعظيمات الديوانية.

وأما عرب إسبانيا فقد أفرطوا في التنعُّم والفخامة، وكان لنساء غرناطة من الحزم والأوشحة والطواقي المنسوجة بالذهب والفضة وبلوغ الغاية في حُسن ملابسهن ما يدل على ثروة الآحاد، وكان خلفاء قرطبة إذ ذاك يصرفون خزائن أموال وافرة في تشييد أبنية عظيمة كمسجد قرطبة الذي بني على شكل مسجد دمشق وفاقه في الفخامة.

وقد بذل همته الخواجه جيرولت دوبرنجه في البحث عن بناء العرب والمضاهاة بين ما بقي من الأبنية الإسبانية والمشرقية، وقسم زمان أبنية إسبانيا ثلاثة أعصر؛ أولها: القرن الثامن إلى العاشر، وهو عصر تقليد العرب النصارى والرومان في أبنيتهم إلا أن مسجد قرطبة بُنِيَ على شكل مسجد دمشق، كما أن مساجد الشام وفلسطين ومصر مبنية على شكل الكنائس التي قال المؤرخ أوزيبوس أحد أهالي قيصرة في سيرة السلطان قسطنطين إنها ذوات أحواش وأواوين وفَسَاقٍ ومساكن للقسس؛ بدليل أن في تلك المساجد ما كان يضعه البناءون من الخافقي المزوَّق بأشكال من حصى متنوع الألوان، وكانت طريقة التزويق اليوناني زائدة عن غيرها من التزويقات القديمة، ثم رغبت العرب في التزويقات الباهرة وتكثير التفاصيل وتجميل شكل الأقواس بصور باقات الزهور والمنحنيات المتنوعة فصار التزويق اليوناني من سنة ٩٦٥ ميلادية غير كافٍ في تأدية مطالبهم على ما يظهر.

والعصر الثاني من القرن العاشر إلى الثاني عشر، وفيه اجتهد الملوك المراونية والموحدون في تقدم البنيان المغربي الدالِّ على تنحي العرب عن طريقة البناء المتبعة قبلُ؛ فقد جرت عادتهم باستعمال الأقواس الستينية والأشكال المتَّخَذَة من قطع القيشاني، وأغرب المخترعات من مخيشات الذهب والفضة وأشكال الزينة المصنوعة من الأخلاط المركبة لتقليد الرخام، وأكثروا من النقوش؛ فباينوا أسلوب البنيان القديم، خصوصًا بمدينة إشبيلية في عمارة تسمى جيرلده، وأخرى تسمى القصر والمسجد القديم الذي بنيت في مكانه الكنيسة الكبرى الموجودة الآن.

والعصر الثالث بلغ فيه فن البناء أوج التقدم، كما يشهد بذلك عمارة القصر المسمى الحمراء المصنوع ظاهره على أسلوب أهل المغرب، وبابه قوس كبير مزين بعلامات رمزية وعنوان اسم بانيه وحيطانه مبنية بخافقي مخلوط بأحجار دِقَاقٍ تلونها أشعة الشمس بألوان مختلفة، وبداخل تلك العمارة قيعان واسعة مذهبة ومزيَّنة بقواصر على صور باقات الزهور، وصور مراشح المياه من قباب الكهوف، ومجملة بصور المجدولات المسماة بالشبكية من أخلاط مركبة تقليدًا للرخام، وبها ديوان لجلوس سفراء الملوك وآخر لجلوس الأختين، ومكتبة بنات الخلفاء وبرج قومارس وحوش السباع وفسقيته وحوش البركة الذي تحته حمامات على نسق حمامات الأحقاب الخالية، وفيها ماء ينبع من أعمدة منعزلة عن بعضها أو مجتمعة ينتشر منها الماء بعيدًا في جداول رخام صغيرة، وينصب تارة على هيئة شلالات وطورًا على هيئة فوارات في حياض مصنوعة في الباطيوس محاطة بالأدواح والزهور، وبسائر ذلك القصر خطوط ونقوش تدل على مهارة صانعيها، وقد هدم ملوك النصارى جانبًا من هذا القصر، إلا أن النقوش والتصاوير بجهاته باقية إلى الآن على ما كانت أيام بني سراج من الإتقان الصناعي والحماية من التلف، وأما التزويقات الداخلية بالدواوين الأصلية من تلك الدار القديمة التي كانت محل إقامة الملوك المغربيين فمتَّخذة من الجبس ورسوم مجسمة بأشكال هندسية تعادل محسنات القصر، ويشاهد ببعض الدواوين المحيطة بحوش السباع ما صنعه العرب في الحقبة الخالية من اللون المركب من الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر الباقي على لَمَعانه إلى الآن، وحلل بعض الفرنج هذا اللون؛ فرأى أن مواده الزرقاء والحمراء الغالبة عليها مصنوعة من اللازورد والزنجفر.

ويتعذر علينا الآن مضاهاة أبنية بالرمة وزيزة وكوبة وتونس والقيروان والجزائر؛ لقلة ما بها من العمارات المبنية في أعصُر تقدُّم فن البناء، وأما القاهرة فيُعلم من مساجدها أن أهلها كانوا أعلم من أهل المغرب في الأعمال الميكانيكية وأذكى منهم في انتخاب مهمات البنيان، لكن ليس بتلك المساجد من التزويق ما يقرب من الرسوم التي بقصر ملوك إسبانيا المسمَّى بالحمراء، وأما أبنية العرب بالشام والعراق العربي والفرس والهندستان زمن تحكُّمِهم عليها فلم يعرف الفرنج حقائقها إلى الآن، ولعل أناسًا علماء بفن العمارة يشتغلون بذلك تحقيقًا لما خلا عنه إلى الآن تاريخ العرب.

ولِمَا في ممالك الخلفاء من السعة وغزارة المحصول وتنوُّع الأقطار، توجَّه النظر إلى رواج التجارة تتميمًا للتمدن وامتثالًا لأمر الشارع بالتكسُّب، فاجتهدوا في أمن الطرق وحفروا آبارًا وصهاريج في محطات القوافل؛ فانتشرت التجارة، وكان غلات إسبانيا وبربر ومصر والحبشة وبلاد العرب والفرس والروسيا والهند والصين والممالك التي على بحر جرجان تأتي إلى مكة والمدينة والكوفة والبصرة ودمشق وبغداد والموصل والمدائن، وكان بين إسبانيا وآسيا من جهة الشرق علائق تعارُف وتجارة، واجتازت سفينة عربية بوغاز جبل طارق فخرجت عليها رياح عاصفة طرحتها على ساحل المحيط الغربي فمنعتها من استكشاف جزيرة أسورة وأمريكا، ولما انحصر المسلمون في القارة القديمة نشروا الصنائع البشرية بجميع البقاع، وكانت مملكة إسبانيا تتحصَّل على غلات البلاد الآخر بواسطة ما ينتج لها من معاملها وأرضها من قصب السكر والأرز والقطن والزعفران والزنجبيل والمر والعنبر الأزرق والفستق والموز والتوت والحناء والمحلب، مع ما تستخرجه من معادن الكبريت والزئبق والنحاس والحديد، رغب الناس في شراء خوذ ومغافر إسبانيا وأيسطة قرطبة المتخذة من الجلود ونصال أسلحة طليطلة وجوخ مرسية والحرير المنسوج في غرناطة والمرية وإشبيلية والورق المصنوع من القطن في بلدة الصليبة، وكانت ضواحي إشبيلية المستورة بأشجار الزيتون تشتمل على مائة ألف مزرعة كبيرة أو معصرة زيت، وكان إقليم ولنطية يؤدي إلى أوروبا فواكه ممالكها الجنوبية، وكان أهل إسبانيا يوجهون إلى البلاد الأجنبية متاجر من مينيات ملاغة وقرطاجنة وبرسلونة وقادس، وكانت النصارى تستعير من العرب قوانين الحقوق البحرية.

وكان سكان طليطلة مائتي ألف نفس وإشبيلية ثلاثمائة ألف في عصر ملوكهما المغربيين، وأما الآن فلا يزيد أهل الأولى عن خمسة وعشرين ألفًا، وأهل الثانية عن ستة وتسعين ألفًا، وكان محيط قرطبة ثمانية فراسخ، وفيها ستون ألف قصر ومائتان وثلاثة وثمانون ألف بيت ولا يبلغ سكانها الآن ستة وخمسين ألفًا، وكانت «أبرشية سلامنقه Le Diocése de Salamanque» تشتمل إذ ذاك على مائة وخمسة وعشرين مدينة أو قرية، والآن على ثلاث عشرة، وكان في إشبيلية ستة آلاف نول لنسيج الحرير وحده، ولم يوجد سنة ١٧٤٢ ميلادية في جميع بحيث جزيرة إسبانيا إلا عشرة آلاف نول لنسيج الحرير والصوف، وكان في مملكة يعان وحدها أكثر من ستمائة مدينة وكفر تتجر في الحرير على ما أخبر به الإدريسي الجغرافي الذي ساح وسط القرن الحادي عشر من الميلاد في إسبانيا التي كان طَردُ المغاربة عنها موجبًا لتأخرها كتأخر مدينة ننتة بطرد مخالفي ديانة الكاتوليك؛ فإن ذلك أضر بالصنائع الفرنساوية، وتمكَّن به الكردنيال «كيمينيس Ximenés» من إعدام جميع آثار المسلمين، وأمر بإحراق ثمانين ألف كتاب عربي بخط اليد في الميادين والرحبات العامة بمدينة غرناطة.

وكذلك اتسعت بالسواحل الشمالية من إفريقية دائرة التجارة؛ فقد كان بها معامل كثيرة وأخذت بلاد موريتانية الطنجيطانية تسابق بحيث جزيرة إسبانيا في الصنائع وفن الزراعة، وكانت بلاد سوس تماثل الأندلس في خصب الأرض وذكاء السكان، واقتدى المشرقيون بالمغاربة في الاشتغال بالصنائع، وأخذوا يستبدلون في مدينتي سيراف وعدن بضائعهم بالبضائع الآتية من بلاد الفرس، وكذا من النوبة والحبشة كالعبيد وجلود الأنمار والحرير والقطن والعاج والتبر والآتية من الهند والصين كالأقمشة ومخيشات الذهب والفضة، والأواني الصينية والأسلحة والوهابيات والصندل والأبنوس والبهارات العطرية واللؤلؤ والجواهر والرصاص والقصدير، وكانت تلك التجارات تنقل من عدن إلى جدة، ثم إلى السويس فتُفَرَّق على مينيات وادي مصر والمدن التي على البحر الأبيض المتوسط من بر الشام. وأما أهل البلاد المجاورة لبحر جرجان فكانوا يتحصلون على لوازمهم من سوق مدينة قبول الدوري، وكانت قوافل التجارة المسافرة من سمرقند إلى حلب توزع على ما تمر به من البلاد مصنوعات الديباج الصينية والكشامير والمسك والعقاقير الطبية الآتية من بلاد توخارستان.

المبحث السادس عشر: في العلائق التجارية بين العرب وأهل المغرب وسكان الممالك الغربية من آسيا

ترك مسلمو المشرق لمسلمي المغرب التجارة في البحر الأبيض المتوسط فوجهوا تجارتهم إلى بوغاز باب المندب، ثم إلى بلاد زنجبار، ثم بلاد الكفرة. وبلغت سفنهم مينا كلكتة وجزيرة سوماطرة والجزائر الكبيرة في الأقيانوس الهندي، وأنشئوا سبع مدائن براوة وممبازة وكلوة وموزنبيق وصوفالة وميلندة وماجادكسو، وتوطنوا جزيرة مدغشقر والجزائر المجاورة للسواحل الإفريقية، وذهبوا إلى داخل الهند والصين، وكثر عددهم سريعًا بشرائهم العبيد والتقاطهم أبناء الزناء وإدخال سائرهم في دين الإسلام؛ فكان في ابتداء سنة ٨٥٠ ميلادية بإقليم قور ومندل في الهند ثمانمائة ألف بعضهم من المغاربة وبعضهم من العرب، وذهب ملك من ملوك جزائر مالابار إلى مكة فأقام بها حتى مات، وسار من سمرقند جمع من الصحابة جالوا من ابتداء سنة ٦٥١ ميلادية في شمال مملكة الصين فقطعوها بعد شهرين ثم توطنوها، وأذن لهم سلطان الصين في انتخابهم بمدينة قنتون قاضيًا وأسلم أكثر سكان جزائر ماليزيا حتى كان المتوطنون فيما بين ابتداء الخليج الفارسي إلى نهاية حدود آسيا الشرقية يفهمون اللغة العربية ويتكلمون بها، وظهرت شوكة العرب في الصين من سنة ٧٥٨ ميلادية؛ فنهبوا مخازن قنتون بلا ممانع.

وقد أنشأ العرب في سواحل إفريقية الشرقية غارات دخلوا بها إلى الأقطار الوسطى، وطافو ببلاد السومولية المعروفين بلطف الطبع والكرم، والمنشئين مع أهل سوقطرة مخزن تجارة عام، وطافوا أيضًا ببلاد الحبشة وسنار وكردفان ذوات العلائق التجارية بمصر والمفتاح إلى بلاد درفور وبلاد الوادي، وكانوا يسافرون من طرابلس إلى فزان وقوافلهم التجارية تسير من المغرب إلى الأقيانوس الأطلنطيقي فتقطع مائتي ألف فرسخ فرنساوي مربع غير خاشية من سيرها وسط الصحراء الكبرى، أو من انتشارها داخل بلاد الزنج، وكان هؤلاء العرب أثبتوا مرورهم من وسط الأمم الأفريقية بعلامات لا يُستطاع محوُها، وقد أجمع السياحون على الاعتراف بالإصلاحات الناتجة من مرور العرب بين تلك الأمم فيما يخص ظاهرها وباطنها وعقولها.

المبحث السابع عشر: في اختراعات العرب واستكشافاتهم وفي بيت الإبرة وصناعة الورق والبارود والأسلحة النارية

أسلفنا لك وصف الأسباب والمسببات المتعلقة بالتمدن المنتشر في الدنيا بانتشار العرب من ابتداء بوغاز جبل طارق إلى نهاية حدود آسيا، وبقي علينا التكلم على ما تغيرت بها الحالة الأدبية والسياسية والعسكرية في جميع الدنيا من اختراع العرب الورق وبيت الإبرة وبارود المدافع، ولا عبرة ببعض الفرنج الذي سلب عن العرب شرف اختراعها وتعليمها لأهل أوروبا، زاعمًا أن أهل الصين عرفوا تلك الأشياء منذ زمان قديم عملًا بما اطَّلع عليه من نسبتها إلى غيرهم في بعض متون موهومة العز وإلى من نسبت إليه، كما زعم أن المطبعة موجودة لدى أهل الصين منذ القرن الثامن من الميلاد، نعم استفاد العرب عمل الورق من الحرير من أهل الصين الذين لو كانوا يعرفون صناعة الطبع قبل غيرهم لاستفادها العرب منهم، وكيف يظن أنهم استعملوا بيت الإبرة، مع أنهم لم يزالوا إلى سنة ١٨٥٠ ميلادية يعتقدون أن القطب الجنوبي من الكرة الأرضية سعير تتلظى، وهل عرفوا استعمال البارود تلك الاستعمالات المتنوعة الباقي أثرها لدى العرب المشهود لهم باستعمالهم أصنافًا من القلل في حصارهم مكة سنة ٦٩٠ ميلادية، وباستعمالهم بمصر في القرن الثالث عشر البارود المتخذ من ملح السبخات ليرمى به نحو قلل ذات صوت كالرعد، وذكر استعماله أيضًا في معرض وصف البحرية التي عقدها ملك تونس مع أمير إشبيلية في القرن الحادي عشر، كما استعمل في حصار جبل طارق سنة ١٣٠٨ ميلادية، وحصار إسماعيل ملك غرناطة لمدينة بائظة سنة ١٣٢٤ ميلادية، وحصار طريفه سنة ١٣٤٠ ميلادية، وحصار مدينة الجزيرة سنة ١٣٤٢ ميلادية، وحكى المؤرخ «فراراس Ferréras» أن الرصاص رُمِي بالبارود في تلك الحصارات، فابتدأ نصارى إسبانيا من ذلك الوقت باستعماله.

وقد استعمل العرب بيت الإبرة من ابتداء القرن الحادي عشر في سفر البحر والبر وضبط محاريب الصلاة وصنع الورق من الحرير سنة ٦٥٠ ميلادية في سمرقند وبخارى، ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة ٧٠٦ ميلادية الحرير بالقطن الذي منه الورق الدمشقي المتكلِّم عليه مؤرخو اليونان، وأنشئ في إسبانيا معامل ورق من الأقمشة البالية وسابق أهل ولنطية وقطالونية في هذه الصناعة أهل كزاطيوة، واستعمل ورق العرب في القرن الثالث عشر بقسطيلة التي شاع منها استعماله في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا، لكن ورق الكتب العربية المكتوبة بخط اليد يفوق ورق الفرنج لطافة ولمعانًا، كما فاقه بما كان العرب تختاره من تزويقها بأبهج الألوان والأحبار والأزهار.

وما أسلفناه هو كيفية ظهور تحكم العرب على جميع فروع تمدُّن أوروبا الحديث، ومنه يعلم أنه من القرن التاسع إلى الخامس عشر كان عند العرب أوسع ما سمح به الدهر من الأدبيات، وأن نتائج أفكارهم الغزيرة واختراعاتهم النفيسة تشهد أنهم أساتذة أهل أوروبا في جميع الأشياء كالمواد المختصة بتاريخ القرون المتوسطة وأخبار السياحات والأسفار وقواميس سير الرجال المشهورين والصنائع العديمة المثال والأبنية الدَّالَّة على عظمة أفكارهم واستكشافاتهم المهمة؛ ولهذا كله وجب الاعتراف برفعة شأن هذه الأمة المحمدية التي تحتقرها الفرنج منذ أزمان عديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤