الفصل الثاني

(١) في عُرْضِ الْحائِطِ

وبَعدَ أيَّامٍ قَليلةٍ استَيْقَظَتِ الْبِرَصَةُ مِنْ سُباتِها (نَوْمِها) الْعميقِ، وَذَهَبَتْ طَائِفةٌ مِنْها — معَ صَديقِها «أبي بُرَيْصٍ» النَّشيطِ — لِتَنعمَ بِحَرارةِ الشَّمْسِ، وَانْتَشَرَتْ عَلَى الْحائطِ الْقدِيمِ تَسْتقبِلُ الرَّبيعَ مُبْتهِجةً. وكانتْ تلك الطَّائفةُ تتألَّفُ من: آباءٍ بَدِينَةٍ (سَمينةٍ) مُمتلئةٍ، وأُمَّاتٍ نحيفةِ الْجِسمِ جَميلةِ المنظَر (أُمَّهات. والأُمَّاتُ لِلْحيوانِ كالأُمَّهات لِلإِنْسان)، وجَمْهرةٍ (جَماعةٍ) من الْأَبْناءِ يَتجَلَّى فيها النَّشاطُ والطَّيْشُ.

وكان «أبُو بُرَيْصٍ» النَّشيطُ جالِسًا عَلَى حَجَرٍ — بِالْقُرْبِ مِنْ رِفَاقِهِ — وَقَدْ شَغَلَهُ الْتَّفْكيرُ عنها فَلمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكانِه.

(٢) «دابَّةُ النَّهْرِ»

فَاقتَرَبَ مِنهُ أحدُ أصْحابِه، وسأَلهُ قائلًا: «هِيهِ يا صاحِ! ما بالُكَ مُستَسْلِمًا لِلتَّفكيرِ، مُبتَعِدًا عن رِفاقِكَ؟»

فَدَهِشَ «أبو بُرَيْصٍ» لِهذهِ المُفَاجأَةِ، وَقَفَزَ مِنَ الذُّعْرِ (نَطَّ مِن الْخَوْفِ)، ثُمَّ قالَ لِصاحبَتِه: «لَقدْ أَسَأْتِ إِلَيَّ — يا «أُمَّ سَلْمى» — وقَطعْتِ عَلَيَّ تَفْكيري في صَديقتيَ الْقَديمةِ: دابَّةِ النَّهْرِ!»

فقالتْ لهُ «أُمُّ سَلْمى»: «ماذا تقُولُ؟ «دابَّةُ النَّهْرِ»!

مَنْ هيَ؟ فَإِنِّي لا أكادُ أَذْكُرُها!»

فقالَ لها «أبو بُرَيْصٍ»: «كلَّا يا صاحبتِي، بلْ أَنْتَ تَعْرِفينها ولا تَجْهلينهَا. وما أَظُنُّكِ قدْ نَسِيتِ الضِّفدِعةَ الْخَضْراءَ الْجَميلةَ الَّتي كانتْ تَتحدَّثُ إِلَيَّ في الصَّيفِ المَاضِي، وقدْ كُنَّا ندعُوها: «دَابَّةَ النَّهْرِ».

ما كان أَجْملَ عينَيْها، وأبْدَعَ مَنظَرَها، وأشْهى حديثَها …! لقدْ نَعِمْنا بِلقائِها زَمَنًا، ثُمَّ تَفرَّقْنا في الْخَريفِ؛ فَذَهبَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» إلى حُفرتِها — في أَسفلِ هذا الْحَائِطِ — هرَبًا منَ البَرْدِ.

(٣) عَوْدَةُ الْحَزِين

وَإِنِّي لَأُسائِلُ نَفْسي: كيفَ حالُ هذه الصَّديقةِ الْعزيزةِ؟ وماذا آل إليهِ أمْرُها؟ فَهلْ تَتفضَّلينَ يا «أُمَّ سلْمى» فتُنادِيها، فإِنِّي لِلِقائِها لَعَلَى شَوْقٍ شَديدٍ.»

فصاحتْ «أُمُ سلْمى»، وَصَرَخَ «أبو بُرَيْصٍ» — في نَفَسٍ واحدٍ — يُنادِيانِ صاحبتَهما: «دابَّةَ النَّهْرِ». ولكنَّ «دابَّةَ النَّهْرِ» لَمْ تُجِبْ نِداءَهُما، وقدْ دَعَواها بأَعْلَى صَوْتيْهِما مَرَّاتٍ عِدَّةً.

فَعادَ «أبو بُرَيْصٍ» إلى مَخْبَئِهِ مَحزُونًا مُتأَلِّمًا، يُفكِّرُ في مَصيرِ صاحبتِه العزيزةِ، ويَخْشَى عَليْها أَحْداثَ الزَّمَنِ وخُطُوبَهُ (نَوائِبَهُ وَمَصائبَهُ).

(٤) بعد أُسبوعَين

ومَرَّ على هذا الْحادِثِ أُسبوعانِ كامِلانِ، فَدَبَّتِ الْخُضْرَةُ في الشَّجَراتِ الَّتي تَكْتنِفُ جُحْرَ الأبارصِ (تُحيطُ بهِ). واجْتمعتِ الْحَشراتُ أَسْرابًا (جَماعاتٍ)؛ فَغَصَّ بها (ضاقَ) الْفضاءُ على رُحْبِه، وَامْتلأَ الْجَوُّ بطنِينها وأهازيجِها (أغانيها) الْمَرِحَةِ. ولكنَّ «أبا بُرَيْصٍ» كان في شُغْلٍ شاغِلٍ — عَنْ ذلكَ الْعالَمِ الْبَهِيجِ — بِالتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ صاحِبَتِه: «دابَّةِ النَّهْرِ». فقدْ شَغلَهُ الأَلَمُ لِفِرَاقِ تلكَ الضِّفدِعةِ الصَّغيرةِ الْخَضْراءِ وأُدْخِلَ في رُوعِهِ (قلْبِهِ) أنَّها لَقِيَتْ حَتْفَها (هلاكَها).

(٥) فرْحَةُ اللِّقاء

وإنَّهُ لَغارِقٌ في تأَمُّلهِ — ذاتَ يوْمٍ — إِذْ رَأَى نَمْلَةً تَسْقُطُ في الْماءِ. واستَرْعَى بَصَرَهُ ما رآهُ على سَطْحِ الْماءِ مِنْ فَقاقيِع الْهواءِ الْمُتَصاعِدَةِ إِليْهِ. ولَمْ يَكَدْ يُنْعِمُ النَّظَرَ (يُدَقِّقُهُ) في مَصيرِ تلكَ النَّملةِ التَّاعِسةِ، حتَّى رَأَى فمًا عَريضًا يَظْهَرُ على سَطْحِ الْماءِ. فصاح «أبو بُرَيْصٍ»، وقدْ فاضَ قلْبُهُ سُرُورًا: «يا للسَّعادةِ! لقدْ ظَفِرْتُ بِصَديقتِي العزيزةِ: «دابَّةِ النَّهْرِ»، وقدْ عَرَفتُ جِلْبابَها الْأَخْضَرَ الَّذِي يَزْدانُ (يَتحلَّى) بتلكَ النُّقطِ السُّودِ. آهِ … لقدْ ظَهرَتْ عَيناها الْكبِيرَتَانِ، وظَهَرَتْ تلكَ الدَّائِرَةُ الذَّهَبيَّةُ الَّتي تُحيطُ بِهِمَا. إليَّ يَا «دابَّةَ النَّهْرِ»! تَعالَيْ، أَيَّتُها الْحَبِيبَةُ. عَجِيبٌ … إنها لا تُجِيبُ! فلْأَرْفَعْ صَوْتي لعَلَّها تَسْمَعُنِي …

عِمِي صَباحًا يا «دابَّةَ النَّهْرِ»، ولْيَكُنْ نَهَارُكِ طَيِّبًا!»

(٦) «أُمُّ هُبَيْرَةَ»

فَسَمِعَ «أبو بُرَيْصٍ» صَوْتًا أجَشَّ (غَليظًا)، هُو نَقيقُ صَاحِبَتِه. وقدْ أجابَهُ في بُحَّةٍ (غِلَظٍ وخُشُونَةٍ) طاَلما أَلِفَ سَماعَها منْها.

«مَنْ ذا الَّذِي يُناديني؟»

فقالَ لَها وقَدِ اشْتدَّ فَرَحُه: «هلُمِّ يا «دابَّةَ النَّهْرِ»! إِليَّ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ»! فأَنا صَديقُكِ الْقَدِيمُ «أبو بُرَيْصٍ» الصَّغيرُ الرَّماديُّ اللَّوْنِ.»

فأَجابتْهُ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «آه … أَأَنتَ صَاحِبِي الْعَزِيزُ: «أبو بُرَيْصٍ»؟ مَعْذِرَةً يا صَدِيقِي؛ فإِنَّني لَمْ أَسْتَطِعْ رُؤْيتَكَ — أَوَّلَ وَهْلةٍ (أوَّلَ شَيْءٍ أراهُ) — لِأَنَّني لا أزالُ عَاجِزَةً عَنِ التَّحْديقِ في الضَّوْءِ، وقدْ بهرَني نُورُ النَّهارِ، بَعدَ أنْ طالَ مُكْثي في ظَلام الْقاعِ.

والآنَ أَحْمَدُ الله على لِقائِكَ؛ فقدْ طالَ شَوْقي إليكَ.

فَخَبِّرْني: كيْفَ قَضَيْتَ فَصْلَ الشِّتاءِ، يا أبا بُرَيْصٍ؟»

فقالَ لَها: «لَقَدْ قَضَيْتُهُ نَائِمًا مَعَ رِفَاقي. فَكَيْفَ قَضَيْتِهِ أنْتِ، يا أُمَّ هُبَيْرَةَ؟»

فَقالتْ لَهُ: «لم يُصِبْنِي مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ غَمَسْتُ رَأْسِي في الطِّينِ — كَما فَعل رِفاقِي فِي الْخَريفِ الْماضِي — وأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ. ثُمَّ … ثُمَّ ماذا حَصَلَ؟ هذا ما لا أَذكُرُهُ. لَقدْ نَسِيتُ كُلَّ ما حَدَثَ لي بَعْدَ ذلِكَ.

لَعَلَّ أَجْسامَنا قَدْ جَمَدَتْ — حِينَ اشْتَدَّتْ وَطْأَةُ البَرْدِ — وَأَصْبَحَتْ كالْأَحْجارِ الصُّلْبَةِ؛ فَقدْ طالما سَمِعْتُ مِنْ جَدَّاتي أَنَّ ذلِكَ يَحْدُثُ لنا في كُلِّ شِتاءٍ.»

(٧) الثَّوْبُ الجَديدُ

فَقالَ لَها «أَبو بُرَيْصٍ»، وَقدْ داناها (اقْتَرَبَ مِنْها)، وَوَقَفَ أمامَها مَزْهُوًّا فَخُوَرًا: «أَنْعِمي النَّظَر في شَكْلِي، لَعَلَّكِ تَكْشِفِينَ عَمَّا جَدَّ مِنْ أَنْبائِي (أَخْبارِي). أَعِيدِي فِيَّ نَظْرةَ فاحِصٍ مُدَقِّقٍ. أَجِيليِ بَصَرَكِ.

أَلَا تَرَيْنَ شَيْئًا جَديدًا؟»

فَقالتْ لَهُ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «كَلَّا، لا أَرَى شَيْئًا جَديدًا، يا صاحِ!»

فَقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «أَلا تَرَيْنَ الثَّوْبَ الَّذِي ألبَسُه في هذا العامِ؟ ألا تُبْصِرينَ جِدَّتَه؟»

فَقالتْ لَهُ: «يا لَلْعَجَبِ أَأَنْتَ لَبسْتَ ثَوْبًا جَديدًا؟»

فَقالَ «أبُو بُرَيْصٍ»: «نَعَمْ يا صَديقَتِي الْعَزِيزَةَ، فَقَدْ رَأَيتُ ثَوْبِيَ القَدِيمَ يَخْلُقُ وَيَرِثُّ، وَلمْ نَفْتَرِقْ — قُبَيْلَ انتِهاءِ الْفَصْلِ الماضِي — حَتَّى بَلِيَ ذَلِكِ الثَّوْبُ، وَبَدَتْ فِيهِ شُقُوقٌ كَثيرَةٌ، فَضَجِرْتُ بِهِ (ضاقتْ نَفْسِي مِنْهُ وكَرِهَتْهُ)، وَاضْطُرِرْتُ إِلى تَرْكِه؛ فَحَكَكْتُ جَسَدي بِحَجَرٍ شَدِيدٍ صَلْدٍ؛ فَتَهَرَّأَ الرِّداءُ الخَلَقُ (تَقطَّع الثَّوْبُ الْبالِي) وَتمَزَّقَ، واستَبْدَلْتُ به — حينئذٍ — ثَوْبي الجَدِيدَ الذي تَرَيْنَهُ الآنَ. وقدِ ارتَدَيْتُهُ طُولَ فَصْلِ الشِّتَاءِ.»

(٨) «أَبُو سَلْمى»

فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «تَقَبَّلْ — يا «أبا بُرَيْصٍ» — تَهنِئاتي بهذا الثَّوبِ الأنِيقِ الَّذِي ارتَدَيْتَهُ. ولكنْ … خبِّرْني، يا صاحِ: كيْفَ حالُ عَشِيرَتِكَ وأَهلِكَ؛ فقدْ شَغَلَني حَديثُكَ الْمُمتِعُ عَنْ سُؤَالِكَ عن أَنباءِ أُسرتِك؟ كَيف تَجِدُ أَباكَ وإِخْوتَكَ وأَخَوَاتِكَ؟»

فقالَ لَها: «كُلُّهمْ بِخَيرٍ، ما عدا أَخي المِسْكِينَ: «أَبا سَلمى» التَّاعِسَ الحَزِينَ!»

فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «وَكَيفَ تَكْتُمُ عنِّي هذا النَّبَأَ الخَطِيرَ؟ كَيفَ يَمْرَضُ أخوكَ فلا تُخْبِرُني أنهُ مريضٌ؟»

فَقالَ «أَبو بُرَيْصٍ»: «صَدَقتِ — يا عَزِيزَتِي — فقَدْ نَسِيتُ أن أُخْبِرَكَ أن «أَبا سَلمى» يُعانِي أَلَمًا مُبَرِّحًا (مُتْعِبًا مُؤْذِيًا)، مُنذُ وَقعَ لهُ ذلكَ الحادِثُ الجَلَلُ (العظيمُ). وَلكلِّ مَخْلوقٍ حَظُّهُ مِنَ السَّعَادَةِ والشَّقاءِ جَمِيعًا.»

(٩) قاذفُ الحَصَى

فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»، وَقدْ تَمَلَّكَها الذُّعْرُ (الخَوْف): «تُرَى: أيُّ حادثٍ منْ أَحْداثِ الدَّهْر قد أَلَمَّ بـ«أَبي سَلمى» الظَّريفِ الطَّيِّبِ القَلْبِ؟»

فَقالَ «أبُو بُرَيْصٍ»: «لَقَدْ أَلَمَّ به حادثٌ خَطيرٌ في الخَريفِ المَاضِي … أَلَا تَذكُرينَ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ» — ذلكَ الطِّفْلَ الَّذِي كان يَمُرُّ بدارِنا كُلَّ يَوْمٍ؟»

فَقالتْ لهُ: «أتَعْنِي ذَلِكَ الفَتَى الصَّغِيرَ الَّذِي يُنادِيه رِفَاقُه بِاسْمِ «كَمَالٍ»، وَيُلَقِّبونَه (يُنادُونه) بَلَقَبِ «طَارِقٍ»؟

إِنْ كُنتَ تَعْنِيهِ، فَإِنِّي أذكُرُهُ، فقد طالَما صَفَّرَ وَغنَّى — بالقُرْبِ منَّا — صَفيرًا مُستَعذَبًا، وغِناءً مُطرِبًا.»

فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «هوَ بعَيْنِهِ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ». وَهوَ طفْلٌ ظَريفٌ، لا عَيْبَ فيهِ إِلَّا أنهُ كَانَ يَلْهُو — أَحْيانًا — بقَذْفِ الأحْجارِ. وما أَظنُّه يقْصِدُ بذلِكِ إِلى الإضْرارِ بكائنٍ كانَ؛ فهُوَ — فِيمَا أَعلمُ — طَيِّبُ القَلْبِ.

وَلكنْ: آهٍ من هؤُلاءِ الصِّبْيَةِ! وَواهٍ مِنْ ذَلِكِ الحَصَى الَّذِي يَقْذِفونَنَا بِهِ يَمْنةً وَيَسْرةً، دُونَ أن يَعْرِفوا مَدَى ما يُلْحِقونهُ بنا — مَعشرَ الحَشَراتِ والدَّوابِّ — مِنْ أَذًى!»

(١٠) قِصَّةٌ مُحْزِنَةٌ

فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «خبِّرْني: ماذا حَدثَ لِأَخِيكَ؟»

فَقالَ «أَبوْ بُرَيْصٍ»: «لقدْ كانَ «أبو سَلْمى» جاثِمًا (قاعِدًا) — في هذا المَكانِ — في الخَريفِ المَاضِي، يَتلَمَّسُ الدِّفءَ في حَرارةِ الشَّمسِ. وَإنهُ لَغارِقٌ في أَحْلامهِ اللَّذيذةِ، إِذْ رَماهُ «كَمَالٌ» بِحَجَرٍ صَغِيرٍ كَانَ يَلْهُو بهِ، فصاحَ «أبو سَلْمي» مُتَوَجِّعًا مِمَّا أصابَهُ، فأَسْرَعْتُ إلى نَجْدةِ شَقِيقِي، فرأَيْتُهُ يتقَلَّبُ عَلَى الْأرْضِ — ظَهْرًا لِبَطْنٍ — وَيَتَوَجَّعُ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ. واجتَمَعَتْ أُسْرَتُنا حَوْلَهُ تُؤَسِّيهِ، وَتُسَرِّي عنْهُ، وَهوَ يَبْكِي وَيَشْهَقُ — وما أَجْدَرَهُ بِذَلِكِ — فقدْ كادَ الحَجَرُ يَقتُلُه.

مَثَّليِ لِنفسِكِ (تصَوَّرِي) مِقْدَارَ ما يُعانِيهِ «أَبو سَلْمى»، بعدَ أن قَطَعَ الحَجَرُ ذَنَبَهُ، وَكادَ يُودِي بِه (يُهْلِكُه)، وَيَقْضِي عَلَى حَيَاتِهِ!»

فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «يا لَشَقائكَ، يا «أَبا سَلمى»! أَعْزِزْ عَلَيَّ ما كابَدْتَ من أَلمٍ! ما أَشدَّ حُزني لمُصابِكَ!

فَقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «لقدْ ظلَّ يُعاني الآلامَ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَانَ أَبَوايَ يَجيئانِهِ بالطَّعامِ لِعجْزِهِ عنِ الحَرَكةِ. وما زالَ إِلى اليَوْمِ مَحْزونًا، شارِدَ الفِكْرِ. وَقدْ آثَرَ العُزْلَةَ والوَحْدَةَ، فَما يَكادُ يَبْرَحُ (قَلَّما يَتركُ) رُكْنَ الْحائطِ.»

فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»، في لَهْجَةِ المُشْفِقَةِ الحانيَةِ: «لا بُدَّ لي أنْ أعُودَهُ (أَزُورَهُ) في بيْتِه، وَمَعي هَدِيَّةٌ فاخِرَةٌ. لقدِ اعْتَزَمْتُ أن أُهْدِيَ إليْهِ أَوَّلَ عَنْكَبٍ أو عَنْكَبةٍ أصْطادُ؛ لعلَّهُ يَرَى فِي هَذَا الطَّعَامِ شَيْئًا مِنَ السَّلْوَى (النِّسيانِ) والعَزاءِ (الصبرِ).»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤