بين الأدب والدين والعلم

أقرأ كتابًا لأستاذنا توفيق الحكيم. ولي مع أستاذنا الكبير ذكرياتٌ وذكريات؛ فقد نشأ جيلُنا كلُّه على أدبه. وأذكُر أنَّ قوة الأَسْر التي يُسيطِر بها على قارئه لا يُدانيه فيها كاتبٌ آخر، حتى إنني كنتُ لا أُطيق أن أترك الكتاب الذي أقرؤه له فترةَ ارتدائي ملابسي، فكنتُ أسند الكتاب إلى ما يجعلُني أقرؤه في الدقائق التي أرتدي فيها هذه الملابس.

وربما ظن البَعضُ أنَّ هذا الأَسْر الذي يقع فيه قارئ توفيق الحكيم لا يكون إلا في المسرحيات والروايات التي كتبَها، ولكن العجيب أنَّ هذا الظن غير صحيح؛ فهو قادر أن يُحيط بقارئه بنفس القوة في كُتب المقالات؛ فالقارئ لها يجتذبه ذات التشويق الذي تجتذبه به المسرحية أو الرواية.

ولكن أعظم ما في توفيق الحكيم أنَّه قادر أن يقدح الشرارة في ذهن الكُتاب. والكتاب الذي أقرؤه هذه الأيام لأستاذنا الكبير هو «نظرات في الدين والثقافة والمجتمع».

وقد وجدتُني وأنا أقرأ له في الدين أفكِّر في ظاهرة لم أفكِّر فيها من قبلُ أبدًا.

فأولئك الذين يقولون إن الطبيعة هي الخالق، قومٌ فاتهم أن يتعمَّقوا بنظرهم بعض الشيء؛ فإنهم إذا فعلوا لوجدوا أنَّ هذه الطبيعة محكومةٌ بيدٍ عُليا لا تستطيع منها فكاكًا؛ فالطبيعة لا مشيئة لها، وهيهات لمن لا مشيئة له أن يكون خالقًا، وإنما قُصارى ما يصبو إليه أن يكون مخلوقًا.

فالطبيعة تقول إن الأيدروجين والأكسجين يكوِّنان ماء، وهكذا تجري جميع المعادلات الكيميائية. وهذه المعادلات جميعًا لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجةٍ أخرى غير ما أراد لها الخالق أن تؤدي إليه؛ فلا يمكن أن يُنتِج الأكسجين والأيدروجين ذهبًا أو نحاسًا. وهيهات أيضًا ألا يخرج الماء من العنصرَين.

ولكن الله حين يقول إنه يجعل من يشاء عقيمًا هنا نجد المشيئة، ونجد أنها وحدها القادرة على أن تجعل من تشاء عقيمًا، فيجتمع الزوجان ولا ينجبان، ويذهبان إلى الأطباء في شرق العالم وغربه، ويقول الطب كلمته، وهي كلمةٌ متواضعة تعرف قَدْر العلم: ليس هناك ما يمنع من الإنجاب. إذن فلماذا لا يحدث الإنجاب؟ لأنَّ هناك مشيئةً عُليا تقدرُ ولا تُسأل عما تفعل، فإذا مَرَّت سنون أنجب الزَّوجان، نفس الزوجَين، دون أن يتغيَّر في بنائهما شيء، إلا أنَّ مشيئة الله — وهو الله وإن رغمَت كل الأنوف — أرادت، فإذا ما كان ممتنعًا يُتاح، ومن كان عقيمًا يُنجِب.

وقِس على ذلك في المطر؛ فقد قامت دولٌ على أساس المطر ينزل في مكانٍ معيَّن في موسمٍ معيَّن، فيكون الزرع والنَّماء وتكون الحياة. ولو أنَّ الطبيعة هي صاحبة الأمر لتحتَّم نزول المطر في مواقيته لا يختلف موعدٌ عن موعدٍ هنيهةً من دقيقة، ولكن المشيئة العليا هنا تريد شيئًا آخر، ويمتنع المطر عن النزول عامًا، ثم قد يليه عامٌ آخر، ثم قد تليه أعوام. ولو كانت الطبيعة هي صاحبة الأمر لنزل المطر؛ لأنها هي نفسها محكومة وليست حاكمة، يُراد لها ولا تستطيع أن تريد.

وأقرأ في كتاب أستاذنا الحكيم ما نقله عن ألفريد كاستلر عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل عن بحوثه في المادة، ومؤلِّف كتابٍ عنوانه «المادة هذا المجهول». وهو مثل أينشتين من العلماء المؤمنين. وقد قطع في أبحاث المادة شوطًا أبعدَ مما وصل إليه أينشتين؛ لأنه انطلق في مساره بعد المرحلة التي وقف عندها سَلفُه العظيم؛ يقول العالم العظيم العالمي: «إننا كلما أوغلنا في دراسة المادة أدركنا أننا لم نعرف عنها شيئًا؛ فهناك دائمًا وسوف يكون وإلى الأبد .. ما هو مخفيٌّ عنا.» ويُجيب أستاذَنا الحكيم حين يسألُه عن الصلة بين العلم والدين، فيقول: «إنَّ العلم ينتمي إلى منطقة المعرفة التي تُفسِّر الكون على أساس مبدأ السببية، في حين أنَّ الدين يعتمد في إدراك الكون على مبدأ الغاية، وهذان المبدآن يُكمِل أحدهما الآخر، ولا يُعارِضه.» وبذلك يرى كاستلر أنه لا تعارُض بين العلم والدين؛ فهما طريقان لصلاح البشرية وتقدُّم الإنسان، ولكن لكلٍّ منهما طريقه الخاص. والخطأ في التوفيق بينهما إنما يأتي من مطالبة الاثنَين بالسير في نفس الطريق واستخدام نفس الطريق؛ فالطريقان مختلفان والغاية واحدة .. طريق العلم تمتد فيه قضبانٌ حديدية تسير عليها قاطرة العقل البشري، وتظل هذه القاطرة تسير حتى تجد أمامها سدًّا منيعًا من بحارٍ لا نهاية لها، وجبالٍ لا نفاذ خلالها، فتقف القاطرة العقلية عاجزةً أمام طريق الدين؛ فليس فيه قضبان ولا قاطرة، إنما هو نورٌ يملأ النفس ويُشعِرها بالوصول في حضرة الله دون أن تراه.

أقرأ هذا جميعًا، وتأخُذني روعة الفكر المتَّسِق عند عالِم المادة العالمي، وروعة التلقي عن أديبنا المفكِّر العملاق، وتمتلئ نفسي خشوعًا أمام جلال العلم، وجلال الفكر، وأفكِّر في خالق هذا جميعه، فأُصبِح وكل ما فكَّرتُ فيه، وكل ما قرأتُه هباءةٌ هائمة في نورٍ إلهي لا يشبهه شيء .. فما نحن .. وما الحياة .. وما القمر الذي بلغوه ومشَوا عليه .. وما الزهرة وما المريخ .. وما الأرض .. إلا هباءاتٌ جميعها في ملكوته .. وإن كانت هذه الأجرام الكبرى هباءات .. فما الإنسان .. ما ذلك الإنسان الذي يظُن أنه شيء، ولو اجتمع هو والجن ليخلقوا جناح ذبابة لعجزوا؟ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ كم هو هيِّن .. حتى لا يستطيع أن يستردَّ ما اغتصَبَته منه ذبابة! وأَعجَب فما هذا الكبر يُلِم ببعضهم حتى كأنهم خَرقوا الأرض أو بلغوا الجبال طولًا؟! بل وأَعجَب ما الأرض حتى وإن خرقوها، وما الجبال حتى وإن بلغوها طولًا؟! هباءٌ كله في هباء.

وأَرثي للملحدين وأَرثي لمن سيَّدوا المادة وغفلوا الله. إنهم وحقِّ الله هم المغفَّلون الغافلون، وهم الأخسرون في الدنيا والآخرة، وهم لا يعلمون أو هم يعلمون. لا يهم.

أرأيتَ كيف استطاع أستاذُ أجيالنا أن يُومِض إليَّ وإليكَ بكثيرٍ من الأفكار .. ذلك هو الكاتب المتفرد العملاق المتعمِّق الأصيل، وإن لم يكن هكذا توفيق الحكيم فمن يكون؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤