البرتقال والتفاح

قال والد موراي: «عينت امرأة فاتنة من خارج شوتاون … تنتمي إلى عائلة ديلاني، لكن حتى الآن لا يبدو أن لديها أي عادات سيئة. وضعتها في قسم ملابس الرجال.»

كان ذلك في ربيع عام ١٩٥٥. كان موراي قد تخرَّج لتوِّه في الجامعة. عاد إلى دياره ورأى في الحال أي قَدَر كان في انتظاره. كان يستطيع أي شخص معرفة هذا القدر؛ كان باديًا على وجه أبيه الداكن، الأجوف، والذي ينمو يوميًّا تقريبًا في معدته الورمُ الذي سيؤدي إلى حتفه قبل الشتاء. خلال ستة أشهر سيتولى موراي المسئولية، سيجلس في مكتب الإدارة الصغير المُعلَّق مثل قفص في الجانب الخلفي للمتجر، والذي كانت أرضيته مصنوعة من المشمع.

كان متجر زيجلرز آنذاك لا يزال يُسمَّى زيجلرز ديبارتمنت ستور. كان عمر المتجر من عمر المدينة نفسها. المبنى الحالي — المكوَّن من ثلاثة طوابق، المشيَّد من الطوب الأحمر، المكتوب اسمه بأحرف طوبية رمادية مائلة بدت دومًا، بالنسبة إلى موراي، أنيقةً وشرقيةَ الطابع على نحوٍ مدهش — كان قد أقيم في عام ١٨٨٠، مكان مبنى آخَر من الخشب. بينما لم يَعُدِ المتجر يبيع البقالة أو الأدوات المعدنية، كان لا يزال يبيع ملابس الرجال، والسيدات، والأطفال، والبضائع الجافة، والأحذية الطويلة العنق والعادية، والستائر، والأدوات المنزلية، والأثاث.

كان موراي يختلس النظر ليلقي نظرةً على الموظفة الجديدة الفاتنة. وجدها مسمَّرة خلف صفوف القمصان المغلَّفة بالسلوفان. كان اسمها باربرا. كانت طويلة وجسدها ممشوق، مثلما قال والده في صوت خفيض آسف. لم يكن شعرها الأسود الكثيف ملفوفًا أو مفرودًا، كان منبثقًا مثل قمة من جبهتها البيضاء العريضة. كان حاجباها كثَّين وأسودين أيضًا، ولامعين. اكتشف موراي بعد ذلك أنها كانت تضع فازلين عليهما، وكانت تنتزع الشعر الذي كان يتلاقى أعلى أنفها.

كانت أم باربرا بمثابة عمود الخيمة في مزرعة ريفية قصية. عندما ماتت، هاجرت العائلة إلى شوتاون، التي كانت مستعمرة مزدحمة، نصف ريفية على حافة مدينة والي. كان والد باربرا يعمل في وظائف غريبة، وكان أخواها قد وقعا في مشكلات مع القانون، بسبب سرقة السيارات وبيعها. اختفى أحدهما لاحقًا. وتزوَّجَ الآخَر فتاة متسلطة إلى حدٍّ ما واستقر. كان هذا هو الأخ الذي كان يأتي إلى المتجر في هذا الوقت ويتجوَّل فيه، بحجة زيارة باربرا.

كانت باربرا تقول للموظفين الآخَرين: «راقبوه … هو أبله، لكنه يعرف كيف يسرق الأشياء بخفة شديدة.»

عند سماعه ذلك، دُهِش موراي لانعدام الشعور العائلي لديها. كان موراي ابنًا وحيدًا، ليس ابنًا مدلَّلًا بل مفضَّلًا، وكان يشعر بأنه مقيَّد من خلال قيود الالتزام، والتأدُّب، والحب. بمجرد عودته إلى الديار من الجامعة، كان عليه أن يتجوَّل محييًا جميع الأشخاص الذين كانوا يعملون في المتجر، كان يعرف معظمهم منذ الطفولة. كان عليه أن يتبادل أطراف الحديث والابتسام في شوارع والي، في دماثة مثل ولي عهد.

كان أخو باربرا قد أُمسِك به ومعه زوجٌ من الجوارب في أحد الجيوب، ولفافة من مشابك الستائر في الجيب الآخَر.

سأل موراي باربرا قائلًا: «ماذا تظنين أراد أن يصنع بمشابك الستائر؟» كان قلقًا أن يمزح معها حول هذا الأمر، محاولًا أن يُظهِر لها كيف أن لا غبار عليها بسبب أخيها.

قالت باربرا: «كيف لي أن أعرف؟»

قال موراي: «ربما يحتاج إلى علاج نفسي.» كان موراي قد تلقَّى بعض الدورات في علم الاجتماع؛ حيث كان يأمل أن يصبح في وقت ما قسًّا في الكنيسة المتحدة.

قالت باربرا: «ربما يجب شنقه.»

وقع موراي في حبِّها آنذاك، إذا لم يكن قد وقع في حبها قبل ذلك بالفعل. إنها فتاة نبيلة، هكذا حدَّث نفسه. زنبقة سوداء الشعر وبيضاء البشرة، جريئة خارجة من رَحِم مستنقع أيرلندي — مثل الشخصية الروائية المعروفة لورنا دون، لكن بلسان ألذع وعود أصلب. لن تحبها أمي، هكذا حدَّث نفسه. (كان محقًّا في ذلك تمامًا.) كان أكثر سعادةً مما كان في أي وقت آخَر منذ تخلِّيه عن دينه. (كانت تلك طريقة غير مرضية للتعبير عن الأمر. كان الأمر كما لو كان قد ولج إلى غرفة محكَمَة الغلق، أو فتح درجًا ووجد أن إيمانه قد نضب، وتحوَّل إلى كومة من التراب في أحد الأركان.)

كان يقول دومًا إنه قرَّر على الفور أن تكون باربرا له، لكنه لم يستخدم أي أساليب بخلاف إظهار تقديسه الشديد لها. كانت تتوفر لديه قدرة على تقدير الآخَرين إلى حدِّ التقديس خلال فترة دراسته كلها، فضلًا عن طبيعته الطيبة وميله إلى مصادقة الأشخاص الأقل حظًّا، لكنه كان حازمًا بما يكفي — كانت تتوفر لديه ميزات خاصة — بحيث لا يقع في شَرَك مشكلات خطيرة. كان يستطيع تجاوز المشكلات الصغيرة.

رفضت باربرا أن تركب كممثِّلَةٍ لتجارِ وسط المدينة في عربة بموكب مسابقة ملكة الجمال، ضمن احتفالات يوم السيادة.

قال موراي: «أتفق معك تمامًا … مسابقات الجمال أمر مهين.»

قالت باربرا: «السبب هو تلك الزهور الورقية، فهي تجعلني أعطس.»

•••

يعيش موراي وباربرا الآن في منتجع زيجلرز، على بعد خمسة وعشرين ميلًا أو نحو ذلك شمال غرب والي. الأرض هنا غير ممهَّدَة ومنحدرة. ترك المزارعون الأراضي هنا في مطلع القرن وتركوها تتحوَّل مجدَّدًا إلى أدغال. اشترى والد موراي مائتي فدان منها وشيَّد كوخًا بدائيًّا وأطلق على المكان معسكر الصيد. عندما فقد موراي المتجر في والي، والمنزل الكبير والمنزل الصغير الموجودين على قطعة الأرض خلف المتجر، قَدِم إلى هنا بصحبة باربرا وطفليهما الصغيرين. كان يقود حافلةً مدرسيةً للحصول على دخل نقدي، وكان يعمل طوال الوقت المتبقي في بناء ثمانية أكواخ جديدة وتجديد الكوخ الذي كان موجودًا هناك، لتكون بمثابة منتجع ومقرِّ سكنٍ لعائلته. تعلَّم أعمال النجارة، والبناء، والأعمال الكهربية، والسباكة. كان يقطع الأشجار ويقيم السدود على الجدول وينظِّف قاع الجدول وينقل الرمال في شاحنات، لصنع حوض سباحة وشاطئ. لأسباب واضحة (مثلما يقول) كانت باربرا تتولى الأمور المالية.

يقول موراي إن قصته قصة شائعة. هل تستحق أن يُطلَق عليها قصة كلاسيكية؟ «بدأ جدي الأكبر المتجر. وضع حجر الأساس له كأحد أهم المتاجر في المنطقة. حافَظَ أبي على ذلك، وأضَعْتُ أنا كل شيء.»

لا يجد موراي حرجًا في إخبار الآخَرين بقصته، وإن كان لا يتحين الفرصة دومًا للحديث عن الأمر بحيث يزيح عبء الأمر برمته عن كاهله. يعتاد الضيوف مشاهدة موراي يعمل دومًا؛ إصلاح حوض الزوارق، طلاء الزوارق، نقل البقالة، شق المصارف. يبدو موراي كفئًا ورزينًا، وملتزمًا جدًّا في سعة صدر بأي عمل يقوم به، حتى إن الآخرين يظنون أنه مزارع تحوَّل إلى مدير منتجع. يحظى موراي بنوع الصبر والود غير الفضولي، والجسد غير الرياضي لكِنْ القويِّ الذي لا يخذله، والوجه الذي لفحته الشمس، والهيئة الصبيانية الآخِذة في الهرم، التي يجدها الآخرون في رجل ريفي. يأتي الضيوف أنفسهم لزيارة المنتجع عامًا بعد عام، وفي بعض الأحيان يصبحون أصدقاء تجري دعوتهم في الليلة الأخيرة لإقامتهم لتناول العشاء على مائدة العائلة. (يُعتبَر من قبيل الإنجاز، بين المترددين بانتظام على المنتجع، مصادقةُ باربرا الأبية. لا يستطيع البعض مصادقتها على الإطلاق.) ثم إنهم ربما يستمعون إلى موراي يروي حكايته.

يقول موراي: «كان جدي معتادًا على الصعود إلى سطح مبنانا في والي … كان يصعد إلى السطح ويلقي بالمال إلى الأسفل، عصر كل أيام السبت. عملات معدنية فئة ربع دولار، فئة عشرة سنتات، ونكلات — عملات فئة خمسة سنتات، أعتقد كان يُطلَق عليها هذا آنذاك. كان ذلك يجتذب جموع الناس. كان الرجال الذين أنشئوا مدينة والي رجالًا يميلون إلى الاستعراض. لم يتلقَّوا تعليمًا جيدًا. لم يكونوا راقين. كانوا يظنون أنهم يبنون مدينة مثل مدينة شيكاجو.»

يقول موراي إن الأمر اختلف بعد ذلك. جاءت السيدات الأرستقراطيات وأصحاب المدارس والمدرسة الثانوية. انتهى عصر الصالونات وبدأ عصر إقامة الحفلات في الحدائق. كان والد موراي أحد أكابر كنيسة سانت أندروز؛ كان يمثِّل حزب المحافظين.

«هذا أمر مضحك، كنَّا معتادين على قول «يمثِّل» بدلًا من «يترشح عن». كان المتجر بمثابة مؤسسة في ذلك الوقت. لم يتغير شيء لعقود طويلة. واجهات العرض القديمة ذات الغطاء الزجاجي المقوس، والعملات المعدنية تتساقط في حيوية فوق الرءوس في تلك الحاويات المعدنية. كانت المدينة بأسرها مثل ذلك، حتى الخمسينيات. لم تكن أشجار الدردار قد ماتت بعدُ. كانت قد بدأت تموت. في الصيف، كانت المظلات القماشية القديمة توجد في جميع أنحاء الميدان.»

عندما قرَّر موراي أن يحدِّث المتجر، قام بذلك على خير وجه. كان ذلك في عام ١٩٦٥. غطَّى المبنى بأسره بالجص الأبيض، مع تغيير واجهات العرض القديمة. جلب واجهات عرض صغيرة، راقية المظهر، وُضِعت في مستوى العين، بطول الشارع، كما لو كانت مخصَّصَة لعرض مجوهرات التاج الملكي. كان الاسم زيجلرز — كتب هذا الاسم فقط — مكتوبًا عبر الجص في خط متدفق، ونيون وردي. تخلَّى عن الطاولات التي تصل إلى الوسط، وفرَشَ البُسُطَ على الأرضيات الملمَّعة، وزوَّد المتجر بمصادر إضاءة غير مباشرة ومرايا كثيرة. وضع مصدر إضاءة كبيرًا فوق الدَّرَج. (كان هناك تسرُّب منه، وكان لا بد من تصليحه، وجرى تفكيكه قبل الشتاء الثاني.) أشجار في الداخل وأحواض مائية صغيرة، وشيء يشبه النافورة في قسم ملابس السيدات.

ضرب من الجنون.

في الوقت ذاته، كان المركز التجاري قد فتح أبوابه جنوب المدينة. هل كان يجب على موراي الانتقال إلى هناك؟ كان موراي غارقًا حتى أذنيه في الديون ما لم يمكِّنْه من الانتقال. أيضًا، صار مروجًا لمنطقة وسط المدينة. فهو لم يكتفِ بتغيير صورة متجر زيجلرز، بل غيَّر نفسه أيضًا وصار مشاركًا دائمًا وصاخبًا في المجلس المحلي. كان عضوًا في لجان كثيرة. كان عضوًا في لجنة التشييد. هكذا اكتشف أن رجلًا من لوجان، يعمل وسيطًا ومطوِّرًا عقاريًّا، كان يحصل على تمويل حكومي لترميم المباني القديمة لكنه كان في حقيقة الأمر يهدم المباني القديمة، ويحافظ على جزء فقط من أساسها ليصبح بعد ذلك جزءًا من وحداته السكنية الجديدة القبيحة، المشيَّدة تشييدًا سيئًا، والتي كانت تدرُّ عليه أرباحًا كبيرة.

يقول موراي عندما يتذكر ذلك: «يا له من فساد! … قررتُ أن يعرف الناس بالأمر. كنتُ أكتب عنه بحماس شديد في الصحيفة المحلية، وأتحدث عنه في واقع الأمر مع المارة. ماذا كنتُ أظن حينها؟ هل كنت أظن أن الناس «لم تكن» تعرف؟ لا بد أن ذلك كان بمثابة تهوُّرٍ واضح معلوم العواقب. كان كذلك في حقيقة الأمر. صرتُ شخصًا مهاجمًا ومصدرًا للنميمة العامة، حتى جرى استبعادي من لجنة التشييد. فقدت المصداقية. هكذا قالوا. خسرت المتجر أيضًا. انتقلت ملكية المتجر للمصرف. فقدت أيضًا المنزل الكبير الذي بناه جدي، والمنزل الصغير الذي يوجد على قطعة الأرض نفسها؛ حيث كانت باربرا وأنا والأطفال نعيش. لم يستطع المصرف مصادرتهما، لكنني قمت ببيعهما، حتى أسدِّد ديوني، هكذا كنت أريد أن يكون الأمر. لحسن الحظ أن أمي ماتت قبل أن تحل هذه الكارثة.»

في بعض الأحيان، تترك باربرا الجمع أثناء حديث موراي. يمكن أن تذهب لجلب المزيد من القهوة، وربما تعود بسرعة، أو ربما تصطحب الكلب سادي في نزهة إلى حوض السباحة، وسط جذوع أشجار البتولا والحور الشاحبة، تحت أشجار الشوكران المتهدلة. لا يجد موراي حرَجًا في تفسير سبب غيابها، على الرغم من أنه يترقب، دون أن يبدو عليه ذلك، حتى تعود مجدَّدًا. كل مَن يصادقهما يجب أن يفهم كيف توازِن باربرا بين التواصل مع الآخَرين والانقطاع عنهم، مثلما يجب أن يفهم أن باربرا لا تريد أن «تفعل» أي شيء. بالطبع تقوم باربرا بالكثير من الأشياء؛ تطهو، تدير المنتجع، لكن عندما يكتشف الناس كم قرأَتْ، وأنها لم تذهب إلى الجامعة قط، يشيرون عليها في بعض الأحيان بأنها يجب أن تذهب إلى الجامعة، وأنها يجب أن تحصل على درجة علمية.

تسأل باربرا: «لِمَ؟»

ثم يتضح أنها لا ترغب في أن تكون مدرِّسة، أو أكاديميةً، أو أمينةَ مكتبةٍ، أو محرِّرَةً، كما أنها لا تريد أن تصنع برامج وأفلامًا وثائقية تليفزيونية، أو تُقدِّم مراجعات للكتب، أو تكتب مقالات. إن قائمة الأشياء التي لا ترغب في أن تفعلها طويلة جدًّا. ظاهريًّا، هي ترغب في عمل ما تقوم به؛ تقرأ، تذهب في نزهات سير، تأكل وتشرب في متعة، ترافق صحبةً ما. وما لم يقدِّر الآخَرون ذلك فيها — أوقات انطوائها، كسلها الشديد (تساوِرها حالةٌ من الكسل حتى حين تكون بصدد طهو وجبة رائعة لثلاثين شخصًا) — لا يظلون ضمن الصحبة التي تسمح بمرافقتها.

عندما كان موراي مشغولًا بعمليات التجديد واقتراض المال والانخراط في أنشطة المجلس المحلي، كانت باربرا تقرأ. إنها كانت تقرأ دومًا، لكنها جعلت القراءة تأخذ قدرًا أطول من وقتها. بدأ الأطفال في الذهاب إلى المدرسة. في بعض الأيام، لم تكن باربرا حتى تبرح المنزل. كان هناك فنجان قهوة دومًا إلى جانب مقعدها، وكومة من الكتب المُتربة الضخمة من المكتبة؛ «تذكر أشياء فائتة»، «يوسف وإخوته»، كتب ألَّفَها كتَّاب روس أقل شهرةً لم يسمع موراي عنهم من قبلُ قطُّ. إن باربرا مهووسة بالقراءة، مثلما كانت أمه تقول — أَلَا تقلق من جلب كل هذه الكتب من المكتبة إلى المنزل؟ لا تستطيع أن تعرف أبدًا مَن أمسك بهذه الكتب قبلها.

بقراءة هذه الكتب الثقيلة، صارت باربرا أثقل وزنًا. ورغم أنها لم تصبح بدينة في حقيقة الأمر، زاد وزنها بمقدار عشرين أو خمسة وعشرين رطلًا، كانَتْ موزَّعة جيدًا على قوامها الطويل، الذي لم يكن رقيقًا قط. تغيَّر وجهها أيضًا — غشي اللحم معالمه الواضحة، ما جعلها تبدو أكثر نعومةً وأصغر سنًّا. انتفخت وجنتاها وصار فمها أكثر غموضًا. في بعض الأحيان، كان لديها — ولا تزال — تعبير الفتاة الصغيرة المستغرقة في أفكارها والعنيدة بعض الشيء. حاليًّا، تقرأ كتبًا قصيرة لكتَّاب تشيكيين، أو يابانيين، أو رومانيين، لكنها لا تزال ثقيلة الوزن. لا يزال شعرها طويلًا أيضًا، وأسود، فيما عدا المنطقة حول الوجه، التي صارت بيضاء، كما لو كانت يلفها وشاح أبيض.

•••

يقود موراي وباربرا السيارة خارج منطقة التلال، من الطرق المتعرجة التلية، إلى الطرق المستوية والمستقيمة للأراضي الزراعية. هما ذاهبان إلى والي لسبب محدَّد. قبل أسبوعين اكتشفت باربرا وجود ورم في أحد ردفيها. كانت تجفِّف نفسها بعد خروجها من بركة السباحة — كانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسبح فيها، الدفقة الأخيرة من الطقس الدفيء خلال العام. كان الورم في حجم البلية. قالت دون أي شعور بالندم أو الذعر: «إذا لم أكن بدينةً جدًّا، كنتُ سأكتشف هذا الورم على الأرجح قبل ذلك.» كانت وموراي يتحدثان عن الورم كما لو أنه سنٌّ نخرها السوس؛ مصدر إزعاج يجب التعامل معه. أزالت الورم في المستشفى في والي، ثم كان لا بد من أخذ عينة منه.

سألت الطبيب: «هل يمكن أن يكون هناك سرطان في الأرداف؟ يا له من أمر مهين!»

قال الطبيب إن الورم ربما لا يكون سوى مؤشر لشيء ما أكبر؛ مجموعة من الخلايا الخبيثة مصدرها مكان ما في الجسد. رسالة خفية. وربما تبقى مجرد سرٍّ غامض — خلايا خبيثة قد لا يمكن اكتشاف مصدرها قطُّ. هذا إذا ثبت أنها خلايا خبيثة من الأساس. قال الطبيب: «سيظل المستقبل غامضًا حتى نعرف كنه الأمر.»

هاتفتهما بالأمس موظفة الاستقبال لدى الطبيب وقالت إن النتائج ظهرت، حدَّدَتْ موعدًا لباربرا لرؤية الطبيب في عيادته في والي في ذلك اليوم.

قال موراي: «هل هذا هو كل ما في الأمر؟»

«كل ماذا؟»

«هل هذا هو كل ما قالته؟»

«كانت هذه هي موظفة الاستقبال، كان ذلك هو كل ما يُفترَض أن تقول.»

يقودان بين جدران من الذرة. تبلغ السيقان ثمانية أو تسعة أقدام ارتفاعًا. سيقوم المزارعون بقطعها في أي وقت خلال الفترة القادمة. كانت الشمس منخفضة بحلول منتصف ما بعد الظهيرة بما يكفي لتتخلل أشعتها سيقان الذرة وتحوِّلها إلى اللون الذهبي النحاسي. يقودان عبر تألُّقٍ منتظمٍ من الضياء، ميلًا بعد ميل.

ظلَّا مستيقظين إلى وقت متأخر في الليلة الماضية. شاهَدَا فيلمًا قديمًا جدًّا؛ «أثر شجرة الصنوبر الوحيدة». كان موراي قد شاهَدَ الفيلم عندما كان طفلًا، في سينما روكسي، في والي. كل ما كان يتذكره من الفيلم هو مقتل بادي وتكسير هنري فوندا التابوت المصنوع من شجر الصنوبر.

عند تفكيره في ذلك بدأ في الغناء. «أوه، قطعوا شجرة الصنوبر القديمة، ونقلوها إلى مصنع الأخشاب.» ثم يقول مقاطعًا نفسه: «كنتُ أظن دومًا … أن تلك الأغنية كانت في ذلك الفيلم.»

تواصِل باربرا الغناء: «لصنع تابوت من خشب الصنوبر، لحبيبتي.» ثم تقول: «لا تكن دقيقًا هكذا.»

يقول موراي: «لم أكن كذلك … نسيت ما جاء بعد ذلك.»

«لا تأتِ وتجلسْ في غرفة الانتظار. إنها مريعة. اذهب إلى الشاطئ وانتظرني. سأنزل عبر درجات غروب الشمس.»

كان عليهما أن يقودَا مرورًا بالمزرعة حيث اعتادت بياتريس سويكي تربية الخيول. كانت لديها مدرسة للتدريب على امتطاء الخيول، لكنها لم تستمر طويلًا. كانت تستضيف الجياد آنذاك، ولا بد أنها كانت تدرُّ دخلًا من وراء ذلك؛ نظرًا لأنها كانت تواظب على عمل ذلك، كانت تقيم هناك حتى أربع أو خمس سنوات مضت، وعندما باعت المزرعة كما يبدو، انتقلت إلى مكان آخَر. لم يعلَمَا إلى أي مكان رحلت، كانا قد رأياها مرات قليلة في المدينة، لكنهما لم يتحدَّثَا إليها قطُّ. عندما كانا يمران على المزرعة، وكانا يريان الجياد في الحقول، كان يقول أحدهما: «تُرَى ماذا حدث لفيكتور؟» لم يكن ذلك في كل مرة كانا يمران فيها على المزرعة، بل مرةً سنويًّا، كان أحدهما يقول ذلك، وكان الآخَر يجيب قائلًا: «الرب أعلم.» أو شيئًا من هذا القبيل، لكنهما لا يكترثان بالإشارة إلى الأمر منذ أن رحلت بياتريس وجيادها.

•••

في المرة الأولى التي جاء فيها فيكتور سويكي إلى المتجر، تفرَّقَتِ الموظفات — مثلما قال موراي لباربرا — وكأنهن حمائم دنت منهن قطة. في حقيقة الأمر، كان كثير من الموظفات اللائي ورثهن موراي مع المتجر يبدون مثل الحمائم؛ كُنَّ آنسات ذوات شعر أبيض لم يمنع عدم زواجهن إصابتهن بالسمنة وكِبَر صدورهن. كان من السهل تصوُّر وجود نوع من الإثارة داخل تلك الصدور عند رؤية فيكتور. جاءت إحداهن تهذي بكلام غير مفهوم وهي تصعد السلم إلى مكتب موراي الصغير لتخبره أن هناك رجلًا غريبًا عن البلدة بالمتجر، وأن أيًّا من الموظفات لم تستطع معرفة ماذا كان يريد.

كان يريد شراء ملابس عمل. كان من الصعب جدًّا تحديد ماذا كان يقول. (رغم كل شيء، كان قد عاش في إنجلترا عدة سنوات.) لم تكن لكنة فيكتور البولندية هي التي أزعجت الموظفات في متجر زيجلرز، بل هيئته. صنَّف موراي فيكتور مباشرةً في الفئة نفسها من البشر التي تنتمي إليها باربرا، لكن من بين الاثنين وجد فيكتور الأكثر إبهارًا وإزعاجًا. فحين كان ينظر إلى باربرا كان يحدِّث نفسه قائلًا: هذه فتاة نادرة، لكنها ما زالت فتاة، وكان يرغب في مضاجعتها. (هما الآن متزوجان منذ سبع سنوات.) أما فيكتور فقد جذب انتباهه باعتباره حيوانًا بهيًّا أنيقًا — قل، حصانًا من فصيلة بالومينو ذهبيًّا، جريئًا لكن عصبي المزاج، خجل من الضجة التي يثيرها. ستحاول أن تقول شيئًا ملطفًا لكن يشي بالاحترام، وتمسح على عنقه اللامعة، إذا سمح لك بذلك.

قال موراي: «ملابس عمل.»

كان فيكتور طويلًا، ضعيف البنية، وكان يبدو مهذَّبًا. في مقهى فندق بريتش إكستشينج، حيث اعتاد أن يذهب هو وموراي، قالت إحدى النادلات له في أحد الأيام: «هل تمانع في أن تخبرني بشيء؟ كم يبلغ طولك؟ لأننا نجري مراهَنَةً على ذلك هنا.»

قال فيكتور: «أبلغ ستة أقدام وخمس بوصات.»

«فقط؟ كنا نخمِّن أن طولك يبلغ سبعة أقدام.»

كان لون بشرته زيتونيًّا فاتحًا، وشعره أشقر داكنًا، وعيناه زرقاوين زرقة خفيفة وبرَّاقتين. كانت عيناه جاحظتين قليلًا، ولا يكاد جفناه يرتفعان تمامًا عن آخِرهما. كانت أسنانه كبيرة وصفراء، مثل أصابعه، جرَّاء النيكوتين. كان يدخِّن طوال الوقت. كان يدخِّن بينما كان يدقِّق بِحِيرةٍ في الملابس الموجودة في متجر زيجلرز. كانت جميعها قصيرة جدًّا عند الأقدام بالنسبة له.

قال إنه وزوجته، التي كانت إنجليزية، كانا قد اشتريا مزرعةً على حافة المدينة. أراد موراي أن يتحدث إليه في غياب الموظفات اللاتي كن يَحُمْنَ حوله في اندهاش؛ لذا اصطحبه إلى الشارع، للمرة الأولى، وذهبا إلى بريتش إكستشينج. كان يعرف المزرعة التي كان فيكتور يتحدث عنها، ولم يكن يفكِّر بها كثيرًا، لكن قال فيكتور إنهما لا ينويان زراعتها، سيربِّيان الجياد ويقيمان مدرسةً للتدريب على ركوب الخيل. سأل فيكتور موراي عن رأيه عمَّا إذا كان ذلك سينجح أم لا. هل هناك فتيات ثريات صغيرات في المنطقة؟ «أعتقد إذا كان لديك مدرسة للتدريب على ركوب الخيل، فلا بد أن تكون هناك فتيات ثريات صغيرات. لا يركب سواهن الخيل.»

قال موراي: «تستطيع الإعلان عن ذلك في صحف المدينة، ويمكن أن يأتين في الصيف.»

«بالطبع، يأتين إلى المعسكر، إلى معسكر الخيول، هنا وفي الولايات المتحدة، يذهبن دومًا في الصيف إلى المعسكر، أليس كذلك؟»

بدا فيكتور مسرورًا بهذه الفكرة. كل شيء كان عبثيًّا بالنسبة إليه، وكل شيء مقبول. فصول الشتاء — هل صحيح أن هناك ثلوجًا تتساقط من أكتوبر إلى مايو؟ هل تبلغ الثلوج عتبات النوافذ؟ هل يمكن أن يشرب أحد ماء الأبار دون غليه، أم هل هناك خطر الإصابة بحمى التيفود؟ ما نوع الأشجار، عند قطعها، التي ستوفِّر أفضل حرارة في الموقد؟

لم يستطع موراي التذكُّر بعد ذلك أي أسئلةٍ طُرِحت في اليوم الأول، أو إذا كان ثمة فاصل على الإطلاق بين الأسئلة العملية والأسئلة الأكثر عمومية أو الشخصية. لم يكن يظن أن هناك أي فواصل، كل الأسئلة مختلطة. عندما كان يشعر فيكتور بالحيرة من أي شيء، كان يسأل. متى أُقِيمت هذه البنايات؟ ما مذهب الناس الأساسي وهل هم متمسكون به؟ مَن هذا الرجل الذي تبدو عليه أمارات الأهمية، تلك المرأة التي تبدو حزينة؟ في أي نشاط يعمل الناس؟ هل هناك متمردون ملحدون، أشخاص أثرياء جدًّا شيوعيون؟ ما نوع الجرائم التي تُرتكَب، متى كانت آخِر مرة ارتُكِبت فيها جريمة قتل، هل يشيع الزنا؟ هل يلعب موراي الجولف، أو يمتلك قاربًا ترفيهيًّا أو يدعوه موظفوه: سيدي؟ (ليس كثيرًا، ولا، ولا.) ظلت عينا فيكتور الزرقاوان تشعان سرورًا، مهما كان السؤال، ومهما كانت الإجابة. كان يمدد رجليه الطويلتين، ويعقد يديه خلف رأسه. كان يستمتع بكل شيء يسمعه. سرعان ما أخبره موراي كيف كان جده يقذف العملات المعدنية في الشارع، وعن بِذَل أبيه الداكنة وستراته المبطَّنَة بالحرير، وعن رغبته هو شخصيًّا في أن يصير قسًّا.

«لكنك لم تصبح كذلك؟»

«لقد كفرت.» كان موراي يشعر دومًا بأن عليه أن يبتسم عندما يقول هذا. «هذا يعني …»

«أعرف ما الذي يعنيه هذا.»

عندما جاء للبحث عن موراي في المتجر، لم يكن فيكتور يسأل أيًّا من الموظفين إذا كان يستطيع مقابلة موراي أم لا، بل كان يذهب مباشَرَةً إلى المكتب، عبر السلم إلى القفص الصغير. تحيط بالمكتب جدران من الحديد المطاوع، في مثل طول موراي — حوالي خمسة أقدام وتسع بوصات. كان فيكتور يحاول التسلُّل خلسةً إلى مكتب موراي، لكن كان وجوده بالطبع يثير البلبلة في المتجر، مثيرًا موجات متوالية من الانتباه والهواجس والإثارة. كان موراي يعرف في الغالب عندما كان يجيء فيكتور، لكنه كان يتظاهر بأنه لا يعرف. ثم يضع فيكتور — كنوع من المفاجأة — رأسَه اللامعة أعلى الجدار، ورقبته بين اثنين من الأسياخ المدببة المزيَّنة. كان يبتسم لهذا التصرُّف الأحمق.

وجد موراي في ذلك تملُّقًا غير صريح.

بالطبع، كانت هناك قصة كبيرة وراء فيكتور. كان أكبر من موراي بعشر سنوات؛ كان في التاسعة عشرة عندما اندلعت الحرب. كان طالبًا آنذاك، في وارسو. كان يتلقَّى دروسًا في الطيران، لكن لم يكن قد حصل على إجازة طيران بعدُ. مع ذلك، كان يذهب إلى مدرج الطائرات حيث كانت تقبع طائرات القوات الجوية البولندية. وصبيحة الغزو الألماني لبولندا كان موجودًا هناك هو وبعض أصدقائه بغرض المرح، وكنوع من المرح أيضًا أخذوا بعض الطائرات وطاروا بها إلى السويد. بعد ذلك، ذهب إلى إنجلترا وانضمَّ إلى القوات الجوية البولندية، التي كانت جزءًا من سلاح الجو الملكي البريطاني. شارك في غاراتٍ كثيرةٍ، وأُسقِطت طائرته فوق فرنسا. استطاع الهبوط بالمظلة؛ اختبأ في الغابات، وكان يأكل بطاطس نيئة من الحقول، وساعدته حركات المقاومة الشعبية الفرنسية، ثم شقَّ طريقه إلى الحدود الإسبانية. عاد إلى إنجلترا. أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما عرف أنه غير مسموح له بالطيران مجدَّدًا. كان يعرف أشياء كثيرة أكثر مما ينبغي. إذا حدث وجرى إسقاط طائرته مجدَّدًا واعتقاله واستجوابه، كان يعرف أشياء أكثر مما ينبغي. كان يشعر بخيبة أمل بالغة، واضطراب شديد، وتسبَّب في إثارة جلبة حوله، حتى أُعطِيَ مهمة أخرى؛ إذ جرى إرساله إلى تركيا، في مهمة سرية بصورة أو بأخرى، ليكون جزءًا من شبكة كانت تساعد بولنديين وآخرين، كانوا يحاولون الهروب عبر جبال البلقان.

كان ذلك ما كان يفعله بينما كان موراي وأصدقاؤه يبنون نماذج طائرات وينشئون شيئًا شبيهًا بمقصورة القيادة في الطائرة في سقيفة الدراجات في المدرسة، بحيث يمثِّلون كما لو كانوا يقصفون ألمانيا.

قالت باربرا: «هل تصدِّق كل هذه الأشياء، حقًّا؟»

قال موراي في عنادٍ: «كانوا يطيرون فعلًا بطائرات بولندية إلى السويد دون أن يلحق الألمان بهم … وكانت الطائرات تقصف فرنسا ويهرب طيَّاروها.»

«هل تظن أن شخصًا لافتًا للانتباه مثل فيكتور يستطيع الهروب؟ هل تظن أن شخصًا لافتًا للانتباه على هذا النحو سيجري إرساله في مهمة سرية؟ يجب أن يبدو المرء مثل الممثِّل أليك جينيس حتى يجري إرساله في مهمة سرية.»

قال موراي: «ربما لأنه يبدو لافتًا للانتباه للغاية يبدو لا غبار عليه … ربما سيبدو وكأنه آخِر شخص على الأرض يمكن أن يُرسَل في مهمة سرية، وسيكون ذلك هو السبب في أن أحدًا لن يشكَّ فيه.»

ربما للمرة الأولى، ظنَّ أن شكوك باربرا كانت تلقائية ومزعجة. كانت مثل سمة شخصية، حركة لاإرادية.

كان قد دار هذا الحديث بعد أن جاء فيكتور وبياتريس إلى العشاء. كان موراي قلقًا حيال لقاء فيكتور وباربرا. كان يرغب في تقديم كلٍّ إلى الآخَر، حتى يتباهى بكل منهما أمام الآخَر. لكن عندما جاءت الفرصة لم يكونا في أفضل حالتهما، بدا كلٌّ منهما متحفظًا فاترًا عصبيًّا وساخرًا.

كان يوم حفلة العشاء، في أواخر مايو، باردًا وممطرًا بشكل غريب. كان الطفلان — كانت فليسيتي تبلغ خمسة أعوام آنذاك، وآدم ثلاثة — يلعبان في الداخل طوال اليوم، معطِّلَين باربرا عن أداء أعمالها، ومثيرين الفوضى في غرفة المعيشة، التي كانت قد نظَّفَتْها، وبحلول وقت النوم لم يكونا قد تعبا بما يكفي ليخلدا إلى النوم. لم تسهم الأمسية الخفيفة الطويلة بأي حال من الأحوال في جعل الطفلين ينامان. كانت هناك طلبات كثيرة لتناول الماء، وشكاوى من وجود مغص، وشكاوى من كلب كاد يعض فليسيتي الأسبوع الماضي. أخيرًا، هرع آدم إلى غرفة المعيشة لا يرتدي سوى القطعة العلوية فقط من بيجامته، وهو يصرخ: «أريد بيكي، أريد بيكي.» كانت «بيكي» كلمةً يستخدمها الصغير للإشارة إلى «البسكويت»، والتي لم يَعُدْ يستخدمها. كان يبدو على الأرجح أن فليسيتي أوحت إليه بعمل هذا المشهد التمثيلي، وربما درَّبَتْه عليه. رفعه موراي إلى أعلى وحمله إلى غرفة الأطفال وضربه بشدة على مؤخرته العارية، ثم ضرب فليسيتي بشكل أعنف، وعاد إلى غرفة الطعام وهو يحك يديه معًا، لاعبًا دورًا كان يكرهه، أَلَا وهو دور المؤدِّب الحازم. بينما ظل باب غرفة الأطفال مغلقًا، لم يَحُلْ ذلك دون أن يخرج منها صوت صراخ طويل وغاضب.

سار كلُّ شيء على نحو سيئ منذ بداية هذه الزيارة. كان موراي قد فتح الباب وقال دون تحفُّظ: «تُلقي أشجار الكستناء بمشاعلها، وتتدفق الزهور من الزعرور البري بسبب الرياح!» مشيرًا إلى الطقس، وظانًّا أن بياتريس ستستحسن سماع قصيدة إنجليزية. قال فيكتور باسمًا ومتحيرًا: «ماذا؟ ماذا تقول؟» وقالت بياتريس: «إنها قصيدة.» كما لو كان قد سأل أحد: «ما هذا الذي يجري عبر الطريق؟» وأجابت قائلة: «هذا خنزير الأرض.»

ظل مرح فيكتور غير بادٍ. بدت ابتسامته الكبيرة التي تبرق فيها عيناه، وضحكته، في غير موضعها ومصطنعة، بلا حيوية. حتى بشرته بدت باهتة ورمادية مصفَرَّة. كان مثل تمثال أمير في قصة تذكَّرَها موراي، قصة أطفال. ينتزع الأمير عينيه المصنوعة من الجواهر لبيعها لمساعدة الفقراء، ثم يتبرع بكل جلده المصنوع من أوراق الأشجار الذهبية لخدمة الغرض نفسه. يرشده طائر سنونو صغير أثناء عماه، ويظل صديقه الوحيد.

كانت رائحة الطهو تشيع في المنزل بأسره. كانت باربرا قد أعدَّتْ لحمَ خنزيرٍ مشويٍّ. كانت قد أعدَّتْ البطاطس وفق وصفة جديدة، مقطعةً وطاهيةً إياها في الفرن في إناء غُطِّيَ بطبقة من الزبد. كانت قطع البطاطس تبدو دسمة، وغير ناضجة تمامًا بالنسبة إلى موراي. كانت الخضراوات الأخرى مسواة أكثر مما ينبغي؛ نظرًا لأن باربرا كانت قد تعرَّضَتْ لمضايقات وتوقفات كثيرة في المطبخ بسبب الأطفال. كانت فطيرة جوز البقان ثقيلة جدًّا على المعدة كحلوى تُقدَّم بعد هذا الطعام، وكانت حوافها بنِّيَّة أكثر مما ينبغي. لم تحاول بياتريس حتى أن تتناول قطعةً منها، ولم تفرغ حتى من تناول قطع البطاطس في طبقها. لم تضحك عندما خرج آدم محمولًا وهو يصرخ. ربما شعرت أن الطفلين يجب أن يجري تربيتهما والحد من جماحهما على نحوٍ صارمٍ مثل الجياد.

جال موراي بفكره، وأدرك أنه لم يلتقِ ويحب امرأةً قط من قبلُ كانت شغوفة إلى حد الجنون بالجياد. كانت أولئك النساء ضيقات الأفق، متزمتات، لا حس دعابة لديهن، ولم يكُنَّ عادةً جميلات. كانت بياتريس تمتلك بشرةً وردية، تكاد تكون على طبيعتها. كان شعرها داكنًا ويحيل إلى اللون الأبيض، وكان مقصوصًا دون قصة مميزة. لم تكن تضع أحمر شفاه، وهو شيء عجيب كان بمثابة إشارةٍ إلى الزهد أو الإهمال المزري لدى امرأة في ذلك الوقت. كان فستانها بلون عش الغراب غير مربوط من الوسط جيدًا، ما كان يشي بأنها لم تكن مهتمة بحفلة العشاء هذه، ولم تكن مستعدَّةً أن تقدِّم أي تنازلات.

كانت باربرا، في المقابل، ترتدي جونلة من القطن المصقول تمتزج فيها ألوان الأصفر والبرتقالي والنحاسي، وحزامًا أسود مشدودًا، وبلوزة سوداء مفتوحة الصدر، وأقراطًا مستديرة كبيرة ورخيصة. كان أحد الأشياء في باربرا التي لم يكن موراي يفهمها ولم يكن فخورًا بها — في مقابل الأشياء التي لم يكن يفهمها، لكنه كان فخورًا بها — هو ميل باربرا هذا إلى ارتداء الملابس المثيرة الرخيصة؛ فتحات صدر كبيرة، أحزمة محكمة الربط، وبناطيل ضيقة جدًّا مثل تلك التي يرتديها مصارِع الثيران. كانت تسير في شوارع والي مبرزة مفاتن جسدها، الذي كان جسدًا مثيرًا وفق نمط هذا الوقت — أو أحد نمطيه، ليس نمط أودري هيبورن بل نمط تينا لويز — وكان الإحراج الذي يتسبب فيه ذلك لموراي معقَّدًا ولا يمكن وصفه؛ كان يشعر أنها تفعل شيئًا لا يتلائم مع جدِّيَّتها وتحفُّظها، نبرتها الساخرة. كانت تتصرف بطريقة ربما تنبَّأت بها أمه. (كانت أمه تقول: «أنا متأكدة أنها فتاة طيبة حقًّا، لكنني لست متأكدة تمامًا مما إذا كانت تلقَّتْ تعليمًا جيدًا.» حتى مواري كان يدرك أن أمه لم تكن تشير إلى الكتب التي ربما قرأتها باربرا، أو إلى الدرجات التي كانت تحصل عليها في المدرسة.) كان الأمر الأكثر إزعاجًا هو أنها كانت تتصرف على نحو لم يكن حتى يتوافق مع طبيعتها الجنسية، أو ما كان موراي يعرفه عنها، وكان عليه أن يفترض أنه يعرف كل شيء عنها. لم تكن شهوانية جدًّا في حقيقة الأمر. في بعض الأحيان كان يظن أنها تتظاهر بأنها شهوانية أكثر مما هي عليه في حقيقة الأمر. هذا ما كانت توحي به إليه الملابس المثيرة التي كانت ترتديها، وكان هذا هو السبب في كونه لم يستطع التحدُّث عن هذا الأمر لها. كان ثمة شيء غير مؤكَّد، خطر، مفرط في ملابسها. كان مستعدًّا للتغاضي عن أي أشياء سيئة في باربرا — ربما عدم تعاطفها أو عنادها — لكن كان لا يرغب في أن يتقبَّل فيها شيئًا يجعلها تبدو حمقاء أو حزينة.

كانت هناك باقة من زهور الليلك في منتصف المائدة، كانت تشغل حيزًا كبيرًا بشكل لا يسمح بوضع الأطباق بشكل جيد، وكان يسقط منها بعض زهورها على المفرش. ازداد غضب موراي شيئًا فشيئًا بسبب هذا، ثم أخيرًا قال (بصوت زوج حانق): «باربرا، هل يجب أن نضع تلك الزهور على المائدة؟ لا نستطيع حتى أن يرى أحدنا الآخر من خلالها حتى نتحدث.»

في تلك اللحظة، لم يكن أحد يتكلم.

انحنت باربرا إلى الأمام، مبرزةً فتحة صدرها بلا حياء. رفعت باقة الزهور دون أن تنبس بكلمة، ما خلَّف سيلًا من براعم الليلك على المفرش وطبقِ تقديم اللحم. سقط أحد أقراطها واستقر في بوريه التفاح.

كان من المفترض أن يضحك الجميع. لم يستطع أحد أن يضحك. ألقت باربرا نظرةً حادة على موراي. ظن أنه ربما يجب على الجميع أن ينهض الآن، وربما يجب أن يترك الجميع المائدة ويترك الطعام الذي لا يرغب أحد في تناوُله والحديث غير الودي. ربما يجب على الجميع أن ينصرف كل إلى حال سبيله.

التقط فيكتور القرط من البوريه بملعقة. مسحه في منشفته وانحنى قليلًا تجاه باربرا، ووضعه إلى جانب طبقها. قال: «كنتُ أحاول تذكُّر اسم بطلة الرواية التي تذكِّريني بها.»

وضعَتْ باربرا القرط مرة أخرى في أذنها. نظرت بياتريس خلف أو خلال رأس زوجها إلى ورق الحائط راقي الذوق، رخيص الثمن — الذي كان على هيئة تصميمات بيضاوية كريمية اللون على خلفية صفراء شاحبة — الذي كانت والدة موراي قد اختارته لوضعه في بيت البستاني.

قال فيكتور: «إنها كاترينا إيفانوفنا فيرخوفتسوف … خطيبة …»

قالت باربرا: «أعلم مَن هي … أعلم جيدًا.»

كان موراي يعلم من خلال توقُّف تدفُّق كلماتها المفاجئ أنها كانت على وشك أن تقول «أعلم جيدًا أنها إنسانة مزعجة.»

•••

قال موراي لبربارا: «إنها بياتريس.» أثناء مساعدته إياها في غسل الأطباق. كان قد اعتذر عن حادثة زهور الليلك. قال إن بياتريس أثارت غضبه، وأفسدت الأمسية عليهم جميعًا. قال: «حتى فيكتور لا يبدو منسجمًا معها … تبدو جاذبيته مخبَّأة تحت ركام عظيم.» كان يتصور أن كل ما في بياتريس يجعل فيكتور باهتًا؛ عظامها المدكوكة، وتنوراتها الكئيبة.

قالت باربرا: «أستطيع أن أتخلى عن كليهما.» وهنا دار الحديث بينهما حول الأشخاص اللافتين للنظر والمهمات السرية. لكن انتهى بهما المطاف بتناول الخمر كله، والضحك على سلوك آدم وفليسيتي.

•••

بدأ فيكتور في زيارتهما في أوقات المساء. فيما يبدو، لم يُشِرْ حفل العشاء بالنسبة له إلى أي توقف أو صعوبة في صداقتهما. في حقيقة الأمر، كان يبدو أن الأمر أشعره براحة أكبر. كان بمقدوره الآن أن يقول شيئًا عن زواجه — ليس شكوى أو تفسيرًا بل شيئًا مثل «تريد بياتريس …» أو «تعتقد بياتريس …» — وأن يتأكد أن قدرًا كبيرًا من كلامه سيُفهَم.

وبعد فترة، قال أشياءَ أكثر عنها.

«بياتريس تتذمر من أنني لم أنتهِ بعدُ من إعداد الإسطبل للخيول، لكن عليَّ أولًا أن أتعامل مع مشكلات الصرف، ولم يرد البلاط بعدُ؛ لذا لا يعتبر الجو جيدًا جدًّا في المزرعة، لكن الصيف جميل هنا. أنا سعيد هنا.»

ثم أخيرًا قال: «تمتلك بياتريس المال. هل تعرف ذلك؟ لذا يجب أن تستدعي هي السبَّاك، أليس كذلك؟ هل فهمتُ الأمر على نحو خاطئ؟»

كان الأمر كما توقَّع موراي.

قالت باربرا: «تزوَّجَها من أجل مالها والآن عليه أن يعمل مقابل ذلك … لكنه يمتلك بعض الوقت للقيام بزيارات.»

قال موراي: «لا يستطيع أن يعمل ليلًا ونهارًا … لم يَعُدْ يأتي لتناول القهوة أثناء النهار.»

هكذا كانت الطريقة التي استمرا في الحديث بها عن فيكتور — تهاجم باربرا، ويدافع موراي. صارت لعبة. شعر موراي بالارتياح أن باربرا لم تُشعِر فيكتور أنه غير مرحَّبٍ به؛ لا تبدو متضايقة عندما يأتي للبيت في المساء.

كان يصل عادةً في الوقت الذي كان موراي ينتهي فيه من جز الحشائش، أو التقاط بعض لعب الأطفال، أو تفريغ حوض استحمام الأطفال، أو رش المياه على مرجة أمه. (كانت أمه، كالمعتاد، تقضي جزءًا من الصيف بعيدًا، في وادي أوكاناجين.) كان فيكتور يحاول تقديم يد المساعدة، كان ينكفئ ليؤدي هذه الأعمال مثل إنسانٍ آليٍّ محتار ورقيق. ثم كانا ينقلان المقعدين الخشبيين الموجودين على المرجة في منتصف الفناء ويجلسان. كانا يستطيعان سماع باربرا تعمل في المطبخ، دون إنارة الأضواء، لأنها — مثلما كانت تقول — تجعلها تشعر بالحرارة. عندما كانت تفرغ من أعمالها، كانت تذهب للاستحمام وتخرج إلى الفناء عارية القدمين، عارية الساقين، شعرها الطويل مبلَّل، تفوح منها رائحة الصابون الذي برائحة الليمون. كان موراي يذهب إلى الداخل ويعد ثلاثة كئوس، والتي هي خليط من الجين وماء الصودا والثلج والليمون. كان عادةً ينسى أن باربرا لا تضع الليمون في الثلاجة، وكان في كل مرة يناديها ليعرف مكانه أو ما إذا كانت قد نسيت أن تشتري البعض منه. ترك فيكتور مقعده وتمدَّدَ على الحشائش، وكانت سيجارته تومض في ضوء المساء الخافت. نظروا إلى السماء وحاولوا أن يشاهدوا قمرًا — وهو لا يزال شيئًا نادرًا ومدهشًا يمكن أن يراه المرء. كانوا يستطيعون سماع رشاشات الماء، وفي بعض الأحيان صرخات، دوي صافرة شرطة، ضحكات بعيدة. كان ذلك صوت برامج تليفزيونية، يأتي من خلال النوافذ المفتوحة والأبواب الخارجية السلكية بطول الشارع. في بعض الأحيان، كانا يسمعان صوت صفق الأبواب الخارجية السلكية عند مغادرة مشاهِدِي تلك البرامج المنزلَ لبرهةٍ، وأصوات صاخبة لكن غير واضحة المعالم تتحدث في الأفنية الخلفية الأخرى حيث يجلس الناس يحتسون الشراب، مثلما يفعلان، أو يتأملون السماء. إذا نظرت لحياة هؤلاء الأشخاص، فيمكن أن تشعر بأن لها صوتًا مسموعًا، لكنها وحيدة، تسبح طليقة بعيدة بعضها عن بعض تحت سقف أفرع أشجار الزان والإسفندان أمام المنازل، وفي المساحات الخالية في الخلف، مثل أشخاص في نفس الغرفة يتحدثون، تسبح أرواحهم طليقة على حافة النوم. كانت رنة صوت مكعبات الثلج غير المرئية مريحة، تثير التأمل.

في بعض الأحيان، كان الثلاثة يلعبون لعبة ابتدعتها باربرا أو أخذتها عن لعبة أخرى. كانت تُسمَّى «البرتقال والتفاح»، وكانت تستعين بهذه اللعبة حتى تشغل الأطفال أثناء تحركاتهم بالسيارة. كانت لعبة اختيارات، تتدرج في مستوياتها من السهل جدًّا إلى الصعب جدًّا. ربما تبدأ اللعبة بالاختيار بين زبد الفول السوداني وعصيدة الشوفان، ثم تنتقل إلى الاختيار بين زبد الفول السوداني وبوريه التفاح، وهو ما كان أصعب. تقع الخيارات الصعبة حقًّا بين شيئين يحبهما اللاعبون كثيرًا، أو بين شيئين لا يحبهما اللاعبون أبدًا، أو بين شيئين يستحيل مقارنتهما لسبب ما. لا يوجد فائز في هذه اللعبة. كانت متعة اللعبة تكمن في التفكير في خيارات صعبة أو في المعاناة نتيجة ذلك، وكانت نهاية اللعبة تأتي عندما يصرخ أحد اللاعبين قائلًا: «أستسلم. لا أستطيع تحمُّل ذلك. هذا شيء في منتهى الغباء. لا أرغب في التفكير في ذلك مرة أخرى!»

هل تفضِّل تناول كوز ذرة طازج على الفحم، أم آيس كريم من الفراولة مصنوع في المنزل؟

هل تغطس على الفور في بحيرة باردة في يوم شديد الحرارة، أم تدخل إلى مطبخ دافئ حيث تجري عملية خبيز لإعداد خبز طازج، بعد خوضك في مستنقع في عاصفة ثلجية؟

هل تفضِّل أن تضاجِع زوجة خروشوف، أم زوجة أيزنهاور؟

هل تفضِّل تناول قطعة لحم خنزير باردة، أم الاستماع إلى خطاب أثناء مأدبة غداء في مؤتمر لمؤسسة كيوانيس الدولية؟

•••

كانت الأمور تسير إلى الأسوأ في المزرعة؛ لم يكن ماء البئر صالحًا بما يكفي للشرب. ذَوَتِ الأجزاء العليا من ثمرات البطاطس بسبب آفة أصابت المحصول. غزت حشرات من أنواع عدة المنزل، ولم يجرِ الانتهاء من شبكة الصرف. لكن هذا شيء لا يُذكَر عند مقارنته بالدناءة البشرية. في إحدى الأمسيات قبل أن تأتي باربرا للانضمام إليهم، قال فيكتور لموراي: «لن أستطيع أن أتناول الطعام في المزرعة بعد الآن. يجب أن أتناول جميع الوجبات في المقهى.»

قال موراي: «هل الأمور هنا غير مرضية لك إلى هذا الحد؟»

«لا، لا، الأمور غير مرضية دومًا بالنسبة لي، لكن ما اكتشفته الآن أكثر سوءًا من مجرد عدم الشعور بالرضا.»

سُمٌّ. قال فيكتور إنه وجد زجاجة من حمض البروسيك. لم يعرف منذ متى تمتلكها بياتريس، لكن حسب رأيه ليس منذ فترة طويلة. لم يكن لهذا الحمض أي استخدام في المزرعة. كان يعتقد أنه ليس له إلا استخدام واحد فقط.

قال موراي: «بالتأكيد لا … لن تفعل ذلك. ليست مجنونة. ليست من ذلك النوع من الأشخاص الذي يسم الآخَرين.»

«أنت لا تعرف أي شيء. لا تعرف أي نوع من الأشخاص هي أو ما قد تفعله. تظن أنها لن تسمِّم أحدًا، فهي سيدة إنجليزية، لكن إنجلترا مليئة بالقَتَلَة، وهم في الغالب السيدات والسادة الأرستقراطيون والأزواج والزوجات. لا أستطيع أن آكل في منزلها. لا أعرف حتى إذا كنتُ سأكون في أمان إذا نمت هناك. بالأمس، كنت أرقد مستيقظًا إلى جانبها، وهي في نومها تكون باردة مثل الثعبان. نهضتُ ورقدتُ على الأرض في الغرفة الأخرى.»

تذكَّر موراي شقة الحارس، الخالية الآن لسنوات. كانت في الطابق الثالث من مبنى المتجر، في الخلف.

قال: «حسنًا، إذا كنتَ تعتقد ذلك حقًّا … إذا كنت ترغب حقًّا في الانتقال …» وبعد أن قبل فيكتور متفاجئًا مستريحًا ممتنًّا، قال موراي: «ستتولى باربرا تنظيف الشقة لك.»

لم يَجُلْ بخاطره في ذلك الوقت أنه هو نفسه أو فيكتور ربما يستطيع تنظيف وكنس بعض الحجرات القذرة. لم يَجُلِ الأمرُ بخاطر باربرا أيضًا. نظَّفت باربرا الشقة في اليوم التالي، ووضعت ملاءات ومناشف وبعض القدور والأطباق، على الرغم من أنها كانت تشك بالطبع في مسألة خطر تسمُّم فيكتور هذه. «بِمَ ستستفيد من موته؟»

حصل فيكتور على وظيفة في الحال. صار الحارس الليلي على الآلات الموجودة خارج منجم الملح. كان يحب العمل ليلًا. لم يَعُدْ في حاجة إلى استخدام السيارة بعد الآن؛ لذا كان يسير في منتصف الليل إلى العمل ويعود إلى الشقة في الصباح. إذا كان موراي موجودًا في المتجر قبل الثامنة والنصف صباحًا، يسمع فيكتور وهو يصعد درجات السلم الخلفية. كيف كان ينام، في ضوء النهار الساطع في ذلك الصندوق الصغير في حجرة تقع تحت السقف المستوي الساخن؟

قال فيكتور: «أنام جيدًا … أطهو، وآكل، وأنام. أنا مستريح. أشعر بالطمأنينة بشكل غير متوقع.»

•••

عاد موراي إلى المنزل ذات يوم بشكل مفاجئ، بعد الظهر بقليل.

تبلورت تلك الكلمات في ذهنه بعد ذلك. كانت كلمات مبتذَلة وكئيبة جدًّا. «ذات يوم عُدْتُ إلى المنزل بشكل مفاجئ …» هل هناك قصة على الإطلاق لرجل يعود إلى المنزل فجأةً ويجد مفاجأة سارة؟

عاد إلى المنزل فجأةً، ووجد — ليس فيكتور وباربرا معًا في السرير. لم يكن فيكتور في المنزل على الإطلاق — لم يكن هناك أحد في المنزل. لم يكن فيكتور موجودًا في الفناء. كان آدم في الفناء، يسبح في حوض الاستحمام البلاستيكي. في موضع غير بعيد تمامًا عن الحوض، كانت باربرا راقدةً على الغطاء الباهت اللون، داهنةً جسدها بزيت الحماية من الشمس، الذي كانا يستخدمانه عند ذهابهما إلى الشاطئ. كانت ترتدي سترة الاستحمام السوداء بدون حمالات، وهي سترة كانت تشبه المشد والتي لن تصير شائعة على الإطلاق خلال بضعة أعوام. كانت السترة تُبرِز الفخذين تمامًا، وكانت تضغطهما معًا بشدة. كانت تحصر بشدة الوسط والبطن والأرداف معًا، وترفع وتُبرِز الثديين بحيث يبدوان كما لو كانا مصنوعين من شيء صلب مثل مادة الستيروفوم. كان لون ذراعيها ورجليها وصدرها وكتفيها يبدو أبيض في الشمس، على الرغم من أنها جميعها كانت تميل إلى السمرة عندما كانت تدخل إلى المنزل. لم تكن تقرأ، على الرغم من وجود كتاب مفتوح إلى جانبها. كانت ترقد على ظهرها وذراعاها مرتخيتان إلى جانبيها. كان موراي على وشك أن يناديها من خلف الباب الخارجي السلكي، لكنه لم يفعل.

لِمَ لا؟ رآها ترفع إحدى ذراعيها لتحمي عينيها من الشمس، ثم رفعت ردفيها، غيَّرت من وضع جسدها قليلًا. ربما بدت الحركة طبيعية جدًّا، عفوية — إحدى حركات تعديل وضع الجسم العفوية هذه التي تقوم بها أجسادنا. كيف عرف موراي أن هذه الحركة لم تكن عفوية؟ بعض التفكُّر أو التدبُّر، والوعي، بذلك الانتفاخ البسيط ووضع الجسم جعل الأمر جليًّا له — رجل يعرف جسد هذه المرأة — أن تلك المرأة لم تكن بمفردها. في أفكارها، على الأقل، لم تكن بمفردها.

اتجه موراي إلى النافذة المطلة على الحوض. كان يحجب الفناء الخلفي عن الحارة الخلفية ومنطقة الشحن خلف المتجر سياج عالٍ من أشجار الأرز. لكن كان من الممكن رؤية الفناء الخلفي — ذلك الجزء من الفناء الخلفي حيث ترقد باربرا — من نافذة الشقة في الطابق الثالث. لم تضع باربرا أي ستائر في الشقة. رأى موراي فيكتور جالسًا هناك، عند ذلك الشباك. كان فيكتور قد جلب كرسيًّا بحيث يستطيع الجلوس والتطلُّع من النافذة مثلما يشاء. كان ثمة شيء غريب حيال وجهه، كما لو كان يضع قناعًا واقيًا من الغاز.

ذهب موراي إلى غرفة النوم وجلب العدسات المكبِّرة التي كان قد اشتراها مؤخرًا. (كان يفكِّر في الذهاب في نزهات سير في الريف وتعليم الأطفال أنواع الطيور.) كان يتحرك في هدوء بالغ في المنزل. كان آدم يصنع ضوضاء كثيرة في الخارج.

عندما نظر إلى فيكتور من خلال العدسات المكبرة، رأى وجهًا كوجهه هو — وجه تُخفى بعض ملامحه خلف عدسات مكبرة. كان لدى فيكتور عدسات مكبرة أيضًا. كان فيكتور ينظر إلى باربرا من خلال العدسات المكبرة.

اتَّضَح أنه كان عاريًا — على الأقل، كان الجزء الذي يُمكن رؤيته منه عاريًا — ويجلس على مقعد مستقيم الظهر عند النافذة في حجرته الحارة. كان موراي يستطيع استشعار حرارة الغرفة وقاعدة مقعده الصلبة التي تزيد من تعرُّقه وشعور الرجل بالإثارة، إثارة قوية لكنها مركَّزة وغير جامحة. وبالنظر إلى باربرا، كان يستشعر وميضًا يشع من كل جسدها، الطاقة جميعها متجمِّعة في بشرتها، وهي تسلم نفسها إلى هذا الهجوم. لم تكن ترقد ساكنة تمامًا — كانت هناك تموجات حركية تمر فوق جسدها، مع بعض التقلُّبات والارتعاشات الصغيرة. عدم استقرار على حال، تغييرات في أوضاع الجسد. كان المنظر غير محتمل. في وجود طفلها في منتصف اليوم، في فنائها الخلفي، كانت ترقد على الحشائش داعيةً إياه. واعدةً — لا، كانت تقدِّم بالفعل — أكثر صور التعاون روعة. كان المشهد بذيئًا، ولافتًا للانتباه، وغير محتمَل.

كان باستطاعة موراي تخيل ما يبدو عليه شكله الآن؛ رجل يراقب من خلال عدسات مكبرة رجلًا يراقب من خلال عدسات مكبرة امرأةً. مشهد من فيلم كوميدي.

لم يعرف أين يذهب. لم يستطع الذهاب إلى الفناء ويُوقِف هذا الأمر. لم يستطع العودة إلى المتجر وهو يعرف ما يحدث فوق رأسه مباشرةً. ترك المنزل وأخرج السيارة، التي كان يحتفظ بها في جراج أمه، وانطلق بها. لديه الآن مجموعة من الكلمات التي يضيفها إلى «ذات يوم عُدتُ إلى المنزل بشكل مفاجئ؛ أدركت أن حياتي تغيَّرت.»

لكنه لم يكن يدرك معنى ما يقول. قال: حياتي تغيَّرت، حياتي جرى تغييرها، لكنه لم يدرك المعنى على الإطلاق.

قاد السيارة عبر الشوارع الخلفية في والي مارًّا بمزلقان سكة حديد، في اتجاه الريف. كان كل شيء يبدو كالمعتاد، لكنه في الوقت ذاته بدا كمحاكاة خبيثة في عينيه. قاد السيارة فاتحًا نوافذها على آخِرها، محاولًا الحصول على نسمة هواء، لكنه كان يسير بسرعة بطيئة جدًّا. كان يقود بسرعة السير داخل المدينة بينما هو خارج حدود المدينة. أطلقت شاحنةٌ بوقها حتى تمر. كان ذلك أمام مصنع الطوب. أزعجه بشدة صوت بوق الشاحنة العالي وضوء الشمس الساطع المنعكس من الطوب، مما أثَّرَ على رأسه وجعله يئنُّ، كما لو كان لديه ألم شديد برأسه من آثار الشراب.

•••

استمرت الحياة اليومية، تحوطها كارثة كما يحيطها خط من النار. كان يشعر أن منزله مكشوفٌ، حياته مكشوفة — لكنها لا تزال قائمة — كان يشعر بأنه غريب، خفيف وقع القدم ومراقبٌ في ضغينة خفية. ماذا سيتكشَّف له أكثر بعد ذلك؟ على العشاء، قالت ابنته: «أمي، لماذا لا نذهب إلى الشاطئ هذا الصيف؟» وكان من الصعب الاعتقاد بأنها لا تعرف كل شيء.

قالت باربرا: «ستذهبين أنت … ستذهبين مع والدة هيثر.»

«لماذا لا نذهب أنا وآدم وأنتِ معًا؟»

«نحب أنا وآدم الشاطئ الموجود هنا.» تحدَّثَتْ باربرا بشكل بدا منه أنها شديدة الاعتداد والثقة بنفسها — متعالية بعض الشيء. «سئمتُ من الحديث إلى الأمهات الأخريات.»

«أَلَا تحبين والدة هيثر؟»

«بل أحبها.»

«أنتِ لا تحبينها.»

«بالطبع أحبها. أنا فقط كسولة يا فليسيتي. أنا شخص غير اجتماعي.»

قالت فليسيتي في رضا: «أنت لا تحبينها.» تركت المائدة، وبدأت باربرا في وصف معسكر الشاطئ الذي تقيمه الأمهات الأخريات، كما لو كان هذا أمرًا يمتع موراي الاستماع إليه. المقاعد والشماسي القابلة لِلطَّيِّ، اللعب والمراتب القابل للنفخ، المناشف والملابس البديلة، مستحضرات تنظيف البشرة، الزيوت، مطهرات الجروح، لاصقات الجروح، قبعات الشمس، شراب الليمون، مشروب كوول-إيد، المصاصات المجمدة في المنزل، والمنتجات الصحية المفضلة. قالت باربرا: «من المفترض أن تمنعن الأشقياء الصغار من التذمر لعدم تناول البطاطس المقلية … هن لا ينظرن إلى البحيرة على الإطلاق إلا إذا كان أحد أطفالهن فيها؛ يتحدثن عن إصابة أطفالهن بالربو، أو عن أماكن حصولهن على أرخص الفانلات.»

لا يزال فيكتور يأتي لزيارتهما في المساء. لا يزالون يجلسون في الفناء الخلفي ويحتسون الجين. بدا الآن أن في الألعاب أو المحادثات التي لا هدف منها، كانا يفسحان المجال أمام موراي، يضحكان تقديرًا، يثنيان على أي مزحة يقولها أو رؤيته لأي شهاب. كان يتركهما عادةً معًا وحدهما. كان يذهب إلى المطبخ للحصول على المزيد من الجين أو الثلج؛ كان يذهب ليطمئن على الطفلين، متظاهرًا بسماعه أحدهما يبكي. كان يتصور آنذاك أن قدم فيكتور العارية الطويلة ستنزلق من صندلها وتمس، ثم تدلِّك، سمانة باربرا العارية، فخذها الممدَّد. ستنزلق أيديهما إلى أي أجزاء تستطيعان الوصول إليها. في لحظة مخاطرة، ربما يلمس لسان أحدهما لسان الآخَر. لكن عندما كان يخرج من المنزل مُحدِثًا بعض الجلبة، كانا دومًا تفصلهما مسافة مناسبة، يتحدثان في مسائل تافهة عادية.

كان على فيكتور الرحيل مبكرًا أكثر من المعتاد، ليذهب إلى العمل في منجم الملح. كان يقول: «إلى منجم الملح.» — الشيء نفسه الذي كان الكثيرون هنا يقولونه، المزحة التي كانت صحيحة حرفيًّا.

ضاجَعَ موراي باربرا آنذاك. لم يكن قط عنيفًا أو متحررًا جدًّا في العلاقة معها. كان لديه إحساس باليأس والمرارة. هذه هي النهاية، هكذا حدَّث نفسه. جملة أخرى أضافها في رأسه: «هذه نهاية الحب.» غطَّ في النوم في الحال ثم استيقظ وضاجعها مرة أخرى. كانت مفعمة بالخنوع والاستسلام وقبَّلته مودعةً عند الإفطار بما بدا له تعاطفًا غريبًا جديدًا وهَّاجًا. كانت الشمس تشرق كل يوم، وفي الصباح خاصةً كانت تؤذي عينيه. كانا يشربان أكثر — ثلاثة أو أربعة كئوس الآن، بدلًا من اثنين — في الأمسيات، وكان يضع المزيد من الجين في الكئوس.

جاءت فترة على موراي كان لا يستطيع في وقت ما بعد الظهيرة البقاء في المتجر مزيدًا من الوقت؛ لذا كان يقود السيارة ذاهبًا إلى الريف. كان يقود السيارة عبر المدن الداخلية — لوجان، وكارستيرز، ودالبي هيل. في بعض الأحيان، كان يقود السيارة بعيدًا حتى يبلغ معسكر الصيد الذي كان والده يمتلكه والذي آل إليه الآن. هناك، كان يخرج من السيارة ويسير، أو كان يجلس على درجات سلم الكوخ المُهمل، المصنوع من ألواح خشبية مستوية. في بعض الأحيان، كان يشعر في خضم متاعبه بنشوة غريبة. كان يُسرَق. كان يجري تحريره من حياته.

•••

ذلك الصيف، مثلما في فصول الصيف الأخرى، كانوا يقضون أحد أيام الآحاد في التقاط حبات التوت الأسود بحذاء الطرق في الريف. كان موراي وباربرا وآدم وفليسيتي جميعًا يلتقطون حبات التوت الأسود، وفي طريق العودة إلى المنزل كانوا يشترون ذرة سكرية من كشك خاص بأحد المزارعين. كانت باربرا تُعِدُّ العشاء السنوي للاحتفال بظهور الذرة بصنع أول فطيرة من التوت الأسود الطازج. كان الطقس قد تغيَّر حتى عندما كانوا يلتقطون التوت، وعندما كانوا يشترون الذرة التي كانت تضعها زوجة المزارع على مصراعي كشكها، وكانوا ينقلون كل ما لم تكن قد باعته ويضعونه في الجزء الخلفي من الشاحنة. كانوا آخِر زبائنها. كانت السحب مظلمة، وكانت الرياح التي لم يكونوا قد شعروا بها شهورًا تطير أفرع الأشجار وتوقع الأوراق الجافة. كانت قطرات قليلة من المطر ترتطم بالزجاج الأمامي للسيارة، وبحلول الوقت الذي بلغوا فيه والي كانوا يقودون السيارة عبر عاصفة ممطرة شديدة. كان المنزل غاية في البرودة، حتى إن موراي أشعل المدفأة، ومع أول موجة من الحرارة انتشرت رائحة من القبو عبر المنزل — رائحة الكهف تلك المنسية، رائحة الجذور، والتراب، والخرسانة المبللة.

خرج موراي في الأمطار والتقط رشاش المياه، والحوض البلاستيكي. دفع مقاعد الجلوس الموجودة على الحشائش تحت إفريز السطح.

قال لبربارا، نافضًا عن رأسه قطرات المطر: «هل انتهى الصيف؟»

كان الأطفال يشاهدون أفلام كرتون من إنتاج والت ديزني، وقد أدى بخار غليان الذرة إلى تعتيم النوافذ. تناولوا بعد ذلك العشاء. كانت بربارا تغسل الصحون بينما كان موراي يضع الطفلين في الفراش. عندما أغلق الباب عليهما وخرج إلى المطبخ، وجد بربارا تجلس إلى المائدة في شبه ظلام، تحتسي القهوة. كانت ترتدي إحدى سترات الشتاء الماضي.

قال موراي: «ماذا عن فيكتور؟» أدار الأنوار. «هل تركتِ أي بطاطين له في الشقة؟»

قالت بربارا: «لا.»

«إذن سيشعر بالبرد الليلة. لا يوجد مصدر تدفئة في المبنى.»

قالت بربارا: «ليأتِ ويأخذ بعض البطاطين إذا كان يشعر بالبرد.»

قال موراي: «لن يأتي ويطلب بطاطين.»

«لِمَ لا؟»

«لن يأتي.»

ذهب موراي إلى خزانة البهو ووجد بطانيتين ثقيلتين، وحملهما إلى المطبخ.

«أَلَا تعتقدين أن من الأفضل أن تأخذيهما إليه؟» وضع البطانيتين على المائدة أمامها.

قالت بربارا: «لِمَ لا تأخذهما أنتَ؟ … كيف تعرف أنه هناك أصلًا؟»

اتجه موراي إلى النافذة فوق الحوض. «الأنوار مضاءة. إنه هناك.»

نهضت بربارا في جمود. ارتعشت كما لو كانت تحاول أن تتماسك، وشعرت الآن برجفة برد.

قال موراي: «هل ستكون هذه السترة كافية؟ … أَلَا تحتاجين إلى معطف؟ ألن تمشطي شعرك؟»

ذهبت إلى غرفة النوم. عندما خرجت، كانت ترتدي بلوزة بيضاء من الستان وبنطالًا أسود. كانت قد مشَّطت شعرها ووضعت أحمر شفاه جديدًا، لونه باهت جدًّا. بدا لون فمها باهتًا، في تناقض مع وجهها المائل إلى السمرة بسبب شمس الصيف.

قال موراي: «أَلَا ترتدين معطفًا؟»

«لن أبقى طويلًا حتى أصاب بالبرد.»

وضعت البطانيتين على ذراعيها. فتح لها الباب.

قالت: «هذا يوم الأحد … ستكون الأبواب مغلقة.»

قال موراي: «هذا صحيح.» وقام بإحضار المفاتيح الاحتياطية من خطاف المطبخ. تأكَّدَ أنها كانت تعرف أي مفتاح يفتح الباب الجانبي للمبنى.

ظل يراقب بريق بلوزتها حتى اختفت عن الأنظار، ثم سار عبر المنزل بسرعة، في أنفاس لاهثة. توقَّفَ في حجرة النوم والتقط الملابس التي كانت قد خلعتها؛ بنطالها الجينز، وقميصها، وسترتها. رفعها جميعًا إلى وجهه وتشممها وحدَّث نفسه قائلًا: هذا الأمر مثل مسرحية. أراد أن يرى إذا كانت قد غيَّرت سروالها التحتي. هزَّ بنطالها الجينز لكنه لم يجد سروالها فيه. بحث في سلة الملابس المتسخة لكنه لم يجده. هل كانت خبيثة بما يكفي بحيث خبَّأته تحت أغراض الأطفال؟ ما جدوى أن تكون خبيثة الآن؟

كانت رائحة بنطالها الجينز مثل رائحة الجينز عندما يكون قد جرى ارتداؤه لفترةٍ دون غسله — ليس فقط رائحة الجسد بل كل مجهود بذله. كان بإمكانه أن يشم مسحوق التنظيف فيه، ورائحة طهو قديمة. وها هو بعض الدقيق كانت قد أزالته عنه الليلة، وهي تصنع عجينة الفطيرة. كانت رائحة القميص رائحة صابون وعرق وربما دخان. هل كان ذلك دخانًا — دخان سجائر؟ لم يكن متأكدًا، عند شمه القميص مجدَّدًا، إذا ما كان ذلك دخانًا على الإطلاق أم لا. كان يفكِّر في أمه التي كانت تقول: إن بربارا لم تتلقَّ تعليمًا جيدًا. لم تكن ملابس أمه لتخرج منها رائحة كتلك، رائحة جسدها وحياتها. كانت تعني أن بربارا لم تكن مهذَّبة، لكن أَلَا يمكن أنها كانت تعني أيضًا منحَلَّة؟ امرأة منحَلَّة. عندما كان يسمع الناس يقولون ذلك، كان يَرِدُ إلى خاطره دومًا بلوزة غير مزرَّرة، ملابس تنزلق من الجسد، للإشارة إلى شهوتها وإتاحتها. صار الآن يعتقد أن أمه لم تكن تعني سوى ذلك، منحَلَّة. امرأة يمكن أن تصبح منحلة، أن ينفلت لجامها، امرأة لا يمكن الوثوق بها، امرأة يمكن أن يفلت زمامها في أي وقت.

ابتعدت عن عائلتها. تركتهم كليةً. أَلَمْ يكن يجب أن يدرك من خلال ذلك كيف يمكن أن تتركه؟

أَلَم يكن يدرك ذلك، طوال الوقت؟

كان قد أدرك أن ثمة مفاجآت ستحدث.

عاد إلى المطبخ. (يتعثَّر في طريقه إلى المطبخ.)

صب لنفسه نصف كأس من الجين، دون ماء صودا أو ثلج. (يصب نصف كأس من الجين.) فكَّر في صفعات أخرى. ستتغير نظرة أمه للحياة. ربما ستتولى أمر الأطفال. ربما سينتقل هو والأطفال إلى منزل أمه، أو ربما ينتقل الأطفال إلى منزل أمه ويبقى هو هنا، يشرب الجين. ربما يأتي بربارا وفيكتور لزيارته، يريدان أن يصبحا صديقين له. ربما يؤسِّسان بيتًا ويدعونه في الأمسيات، وربما يذهب.

لا، لن يفكِّرا فيه. سيدعان كل تفكير فيه، وسيذهبان بعيدًا.

عندما كان موراي طفلًا، كان نادرًا ما يشارك في الشجارات. كان دبلوماسيًّا ومرحًا. لكن في إحدى المرات تشاجَرَ مع أحدهم وطُرِح أرضًا في فناء مدرسة والي، ظل طريح الأرض، ربما لنصف دقيقة. كان يرقد على ظهره في دوار، ورأى الأوراق على فرع الشجرة فوقه تتحول إلى طيور سوداء، ثم برَّاقة أثناء تخلُّل الشمس لها وإثارة الرياح إياها. طُرِح في حيز خالٍ، كثير النسمات، فضاء كان كل شكل فيه خفيفًا ومتغيرًا وكان هو على حاله. رقد هناك وحدَّث نفسه قائلًا: «لقد حدث هذا لي من قبلُ.»

•••

تُسمَّى الدَّرَجَات البالغ عددها ثمانيًا وسبعين من الشاطئ إلى المنتزه أعلى الجرف درجات غروب الشمس. هناك لافتة إلى جانب هذه الدرجات تشير إلى وقت الغروب لكل يوم من بداية يونيو إلى نهاية سبتمبر. تقول اللافتة: «شاهد غروب الشمس مرتين.» مع وجود سهم يشير إلى الدرجات. تتمثَّل الفكرة هنا في أنه إذا جرى المرء بسرعة جدًّا من أسفل السلالم إلى أعلاها فيمكن أن يرى آخِر قوس من أشعة الشمس يختفي مرةً ثانية. يعتقد السائحون أن هذه الفكرة، فضلًا عن عادة إعلان وقت الغروب، يجب أن تكون تقليدًا قديمًا في والي. في حقيقة الأمر، لم يكن الأمر سوى بدعة حاذقة جاءت بها الغرفة التجارية.

الممشى الخشبي جديد أيضًا. منصة الفرق الموسيقية قديمة الطراز في المنتزه جديدة أيضًا. لم يكن ثمة منصة فرقة موسيقية على الإطلاق من قبلُ. تسعد كل هذه الأشياء الرائعة السائحين — لا يعارض موراي ذلك البتة؛ إذ إنه يعمل في مجال السياحة — وفي الوقت الحالي تُسعد هذه الأشياء قاطني المدينة أيضًا. خلال ذلك الصيف في الستينيات، عندما كان موراي يقضي وقتًا طويلًا يتجول بسيارته في أنحاء الريف، بدا كما لو أن كل شيء آتٍ من زمن فائت جرى تمزيقه، وإزاحته بعيدًا، تُرِك ليبلى ويُهمَل. كانت الآلات الجديدة تدمِّر تصميم المزارع، وكانت الأشجار تُقطَع لإنشاء طرق أوسع، وكانت متاجر ومدارس ومنازل القرى تُهجَر. بدا الجميع توَّاقًا إلى أماكن الانتظار ومراكز التسوق والمتنزهات في الضواحي التي تكسوها حشائش ناعمة مثل الطلاء. كان على موراي تقبُّل الآراء الأخرى، وتقييم أشياء — كما لو كانت نهائية — لم تكن إلا عرضية ومؤقتة.

من رحم التقبُّل هذا، لا شك، جاءت فورة الهدم والتجديد، التي كان سينخرط فيها في غضون شهور قليلة قادمة.

والآن يبدو كما لو كان العالم يتحوَّل إلى طريقة موراي القديمة في التفكير. يقوم الناس بترميم المنازل القديمة وبناء منازل جديدة ذات شرفات قديمة الطراز. من الصعب العثور على شخص لا يفضِّل أشجار الظل والمتاجر الكبرى، المضخات، الإسطبلات، الأرجوحات، والأشياء الغريبة المثيرة. لكن لا يجد موراي أي متعة في هذه الأشياء، أو يجد بديلًا آخَر.

عندما عبر الممشى إلى حيث توجد أشجار الأرز وصولًا إلى الشاطئ، جلس على صخرة كبيرة. أولًا، لاحظ كم كانت هذه الصخرة غريبة وجميلة، يمر بها خط كما لو كان قد جرى شقها عرضيًّا وضُمَّ نصفاها معًا مرةً أخرى بطريقة غير صحيحة تمامًا — لم يكن سطح الصخرة مستويًا تمامًا بل مسنَّنًا. كانت لديه بعض المعلومات عن علم الجيولوجيا، بحيث يدرك أن ذلك الخط كان صدعًا، وأن الصخرة لا بد أنها آتية من منطقة درع عصر ما قبل الكمبري التي تبعد مائة ميل عن هنا. كانت صخرة تشكَّلت قبل العصر الجليدي الأخير، وكانت أقدم كثيرًا من الشاطئ الذي تقبع فوقه. انظر إلى طريقة تشكُّلها وانقسامها — الطبقة على السطح تصلَّبَتْ في صورة أمواج مثل كريم مخفوق في دوائر.

توقَّفَ موراي عن الاهتمام بالصخرة وجلس عليها الآن. يجلس الآن ناظرًا إلى البحيرة. أمواج لونُها أزرقُ فيروزيٌّ تبدو عبر الأفق، رائعة كما لو كانت مرسومة بحبر فيروزي، ثم يتحوَّل لونها إلى أزرق صافٍ حتى حاجز صدِّ الأمواج، ثم تتدرج في لونها إلى الأخضر والفضي حتى تتكسر على الرمال. كان الفرنسيون يطلقون على هذه البحيرة «البحر الهادئ»، لكنها بالطبع يمكن أن تغيِّر لونها في غضون ساعة؛ ربما تصبح قبيحة، وذلك حسب الرياح وما يجري في قاعها.

سيجلس الناس ويشاهدون البحيرة كما لو كانوا لم يشاهدوا حقلًا من الحشائش أو المحاصيل المتموجة من قبلُ. لِمَ يحدث ذلك، رغم أن حركة التموُّج واحدة؟ ربما يرجع ذلك إلى عملية النحر، إلى التفتت الذي يجبرهم على المشاهدة. يعود الماء طوال الوقت، ناحرًا مغيرًا الشاطئ.

يحدث شيء مشابه إلى شخص يموت على غرار هذا النمط من الموت. كان قد رأى والده، كان قد رأى آخرين. تفتُّت، اختفاء — طبقة رقيقة إثر أخرى حتى العظام.

بينما لا ينظر في ذلك الاتجاه، يعلم عندما تلوح بربارا في الأفق. يستدير ويراها أعلى السلالم. بربارا الطويلة، في ردائها الخريفي المصنوع من الصوف، القمحي اللون، المغزول يدويًّا، تبدأ في النزول في غير عجلة أو تردُّد، لا تمسك بالدرابزين — هيئتها الواثقة، غير المكترثة المعتادة. لا يستطيع أن يستشف أي شيء من خلال طريقة سيرها.

•••

عندما فتحت بربارا الباب الخلفي، كانت شعرها مبلَّلًا جرَّاء الأمطار — مفتولًا — وكانت بقع الماء تتناثر في كل مكان من سترتها الستان.

قالت: «ماذا تفعل؟ … ماذا تحتسي؟ هل هذا جين صافٍ؟»

ثم قال موراي ما لم يذكره أو ينساه أيهما. قال: «أَلَمْ يرغب بكِ؟»

جاءت بربارا إلى المائدة وضمَّتْ رأسه إلى سترتها الستان المبلَّلة والأزرار الصغيرة الصلبة، ضمَّتْ رأسه بلا رحمة بين ثدييها. قالت: «لن نتحدَّث عن ذلك أبدًا … أبدًا. أليس كذلك؟» يستطيع شمَّ رائحة السجائر في جسدها الآن، ورائحة ملمس غريب. ضمَّته إليها حتى أمَّنَ على ما تقول.

«حسنًا.»

تشبثَّتْ بما قالت، حتى عندما أخبرها أن فيكتور كان قد رحل في حافلة الصباح وترك رسالةً إلى كليهما. لم تطلب منه أن ترى أو أن تلمس الرسالة، لم تسأل عمَّا كان فيها.

«إنني في غاية الامتنان ولديَّ الآن مال كافٍ ما يجعلني أرى أن الوقت مناسب الآن كي أواصل حياتي في مكان آخَر. أفكِّر في الذهاب إلى مونتريال حيث سأستمتع بالحديث بالفرنسية.»

•••

أسفل الدرجات تنحني بربارا إلى أسفل وتلتقط شيئًا أبيض. تمشي وموراي إحداهما تجاه الأخرى بطول الممشى، ويستطيع موراي أن يرى بسرعةٍ ذلك الشيءَ؛ بالونة بيضاء، تبدو إلى حد ما غير منتفخة تمامًا ومتغصنة.

تقول بربارا وهي تقترب منه: «انظر إلى هذا.» تقرأ من بطاقة ملتصقة بخيط البالون: ««أنطوني بيرلر. اثنتا عشرة سنة. مدرسة جوليت الابتدائية. كرومبتون، إلينوي. ١٥ أكتوبر.» كان ذلك منذ ثلاثة أيام! هل طارت هذه البطاقة إلى هنا في ثلاثة أيام فقط؟»

ثم أضافت: «أنا بخير … لم يكن هناك شيء. لم يكن هناك شيء سيئ. لا يوجد ما يستدعي القلق.»

يقول موراي: «لا.» يمسك ذراعيها، يستنشق رائحة المطبخ وأوراق الشجر التي كانت تتخلَّل شعرها الأسود الذي به مسحة من الشعر الأبيض.

تسأله: «هل ترتجف؟»

لا يعتقد أنه يرتجف.

ببساطة، دون أي شعور بالذنب، على النحو الذي يتصرَّف به المتزوجون لفترة طويلة، يتخلص من الرسالة التي كانت جالت بخاطره عندما رآها أعلى درجات السلم: «لا تخذليني مجدَّدًا.»

ينظر إلى البطاقة في يدها ويقول: «هناك المزيد. الكتاب المفضَّل، «الموهيكان الأخير».»

تقول بربارا، في نبرة صوتها المألوفة الضاحكة، الرافضة والواعدة في آنٍ واحد: «أوه! هذه البطاقة خاصة بالمدرسة … ليست هذه إلا كذبة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤