صور الثلج

قبل ثلاثة أسابيع من وفاته — غرقًا في حادث قارب في بحيرة لم يسمعه أحد يذكر اسمها — كان أوستن كوبت يقف أمام مرآة ثلاثية في متجر كروفورد لملابس الرجال، في لوجان، ينظر إلى نفسه مرتديًا قميصًا رياضيًّا عنابيَّ اللون، وبنطالًا مربع النقش؛ ألوانه الكريمي والبني والعنابي. كلاهما غير قابل للكرمشة.

قال جيري كروفورد له: «استمع إليَّ … سيكون اختيارًا موفقًا إذا ارتديت القميص الغامق والبنطال الفاتح. سيمنحك هذا مظهرًا شبابيًّا.»

قهقه أوستن قائلًا: «هل سمعت من قبل بالتعبير «خروف في زي حمل»؟»

قال جيري: «يشير هذا إلى النساء … على أي حال، تغيرت الأمور الآن تمامًا. لا يوجد شيء اسمه ملابس للرجال أو للسيدات كبار السن. تصلح الموضة للجميع.»

عندما اعتاد أوستن على ما كان يرتديه، بدأ جيري إقناعه بارتداء وشاح رقبة ذي ألوان مناسبة وكنزة كريمية اللون. كان أوستن في حاجة إلى كل وسائل التمويه الممكنة. فمنذ وفاة زوجته، قبل حوالي عام، ومجيء قس جديد في «الكنيسة المتحدة» (كان أوستن — الذي كان فوق السبعين — قد تقاعد بصورة رسمية من وظيفته كقس بتلك الكنيسة، لكن كان مستمرًّا في القيام بمهام عمله بينما كانوا لا يزالون يتجادلون حول تعيين قس جديد والمبلغ الذي سيدفعونه له)، كان قد فقد كثيرًا من وزنه، وكانت عضلاته قد تقلَّصت، وكانت هيئته تتحول إلى هيئة رجل عجوز ذي بطن عظيم وظهر محنيٍّ. كانت عنقه ناتئة العروق وأنفه طويلة وخدوده متدلية. كان مثل ديك نحيف عجوز — نحيف لكنه قوي — ومثابرًا بما يكفي ليستعد لزواج ثانٍ.

قال جيري: «يجب تضييق البنطال … أمهلنا فقط بعض الوقت، هل تمانع في ذلك؟ متى هو هذا اليوم السعيد؟»

كان أوستن سيتزوج في هاواي، حيث كانت زوجته — زوجته المستقبلية — تعيش. حدد موعدًا للزواج بعد أسبوعين.

جاء فيل ستادلمان من مصرف تورونتو دومنيون آنذاك ولم يتعرَّف على أوستن من ظهره، على الرغم من أن أوستن كان القس السابق له. لم يره في ملابس كهذه من قبل.

قال فيل مزحة الإيدز. لم يستطع جيري إيقافه.

لماذا يضع شخص من نيوفاوندلاند واقيًا ذكريًّا على أذنيه؟

لأنه لم يكن يرغب في أن يصاب بالإيدز في أذنيه.

استدار أوستن، وبدلًا من أن يقول: «حسنًا، لا أعرف ماذا بكم يا رفاق، لكنني لا أرى في الإيدز أي شيء مضحك.»، أو «أتساءل عن نوع النكات التي يطلقونها في نيوفاوندلاند عن الناس التي تعيش في مقاطعة هورون.» قال: «هذه مزحة مضحكة.» وضحك.

«هذه مزحة مضحكة.» ثم سأل فيل عن رأيه في ملابسه.

«هل تظن أنهم سيضحكون إذا رأوني مرتديًا هذا في هاواي؟»

•••

سمعت كارين بهذا عندما ذهبت إلى متجر المخبوزات لاحتساء قدح من القهوة بعد الفراغ من نوبة عملها في فترة ما بعد الظهيرة كمنظِّمة مرور. جلست إلى طاولة التقديم وسمعت الرجال يتحدثون على مائدة خلفها. استدارت في مقعدها المرتفع الذي بلا ظهر أو ذراعين وقالت: «اسمعوا، أستطيع أن أقول لكم إنه تغيَّر. أراه يوميًّا وأستطيع أن أجزم بذلك.»

كارين امرأة طويلة نحيفة، جلدها خشن وصوتها أجش وتمتلك شعرًا طويلًا أشقر، داكنًا من جذوره بطول بوصتين. تترك كارين شعرها يتحول إلى اللون الداكن، بحيث يستطيل إلى الدرجة التي تستطيع تقصيره معها، لكنها لا تفعل. كانت فتاة شقراء طويلة ونحيفة، خجولة وجميلة، تركب خلف زوجها على الدراجة البخارية. صارت غريبة بعض الشيء، ليس كثيرًا وإلا لم تكن لتصبح منظمة مرور، حتى في ظل توصية أوستن كوبت عليها. تقاطع كارين المحادثات. يبدو أنها لا ترتدي سوى بنطالها الجينز ومعطف قديم داكن الزرقة من الصوف الخشن. يبدو على وجهها الصرامة والارتياب، كما لا تُخفي مشاعر الضغينة التي تكنُّها لزوجها السابق. تكتب عبارات على سيارته، بأصبعها، «مسيحي مزيَّف»، «منافق متملق»، «برنت دوبري ثعبان». لا يعرف أحد أنها كتبت «لعازر دنيء»؛ نظرًا لأنها كانت تعود (تقوم بذلك في الليل) وتمسحه بكمها. لماذا؟ بدا الأمر خطرًا، شيء قد يفضي بها إلى المتاعب؛ متاعب روحية، لا مجرد استجواب من رئيس الشرطة. كما أنها لا تكنُّ أي شيء إزاء لعازر، الشخصية الإنجيلية، بل ضد «دار علاج لعازر»، المكان الذي يديره برنت، ويعيش فيه حاليًّا.

تعيش كارين حيث كَانْت وبرنت يعيشان معًا خلال الشهور القليلة الماضية؛ أعلى متجر الأدوات، في الخلف، غرفة كبيرة بها تجويف في الجدار (لسرير الطفل) ومطبخ في أحد الجوانب. تقضي وقتًا طويلًا في منزل أوستن، تنظِّف منزله، وتُعد كل شيء لرحلته إلى هاواي. المنزل الذي يعيش فيه، حتى الآن، هو المنزل المُخصص لإقامة القس، في شارع بونديتشري. شيدت الكنيسة منزلًا جديدًا للقس الجديد، منزلًا جميلًا حقًّا، له فناء ملحق به ومرآب مزدوج. تعمل زوجات القساوسة غالبًا الآن؛ ويُعد من قبيل النفع الكبير إذا استطعن الحصول على وظائف كممرضات أو مدرسات، وفي تلك الحالة سيحتاج القس إلى سيارتين. منزل إقامة القس القديم مبني من الطوب ولونه أبيض مائل إلى الرمادي، تزينه حوافُّ زرقاء في الشرفة والجمالونات. يحتاج المنزل إلى الكثير من العمل لإصلاحه: وضع مواد عازلة، التنظيف باستخدام الرمل المدفوع بالهواء، طلاء جديد، أُطر نوافذ جديدة، بلاط جديد في الحمام. عند عودتها سيرًا إلى منزلها ليلًا، تشغل كارين نفسها في بعض الأحيان من خلال التفكير فيما ستفعل بذلك المكان إذا كان منزلها هي وكانت تتوفر لديها الأموال اللازمة.

•••

يريها أوستن صورة شيلا براذرز، المرأة التي سيتزوجها. في حقيقة الأمر، تُظهر الصورة ثلاثتهم؛ أوستن، وزوجته، وشيلا براذرز، أمام مبنى خشبي وبعض أشجار الصنوبر؛ منتجع، حيث التقى — التقيا — شيلا للمرة الأولى. يرتدي أوستن قميص القس الأسود والياقة المقلوبة؛ يبدو شخصية مراوغة، وابتسامة القس التبريرية ترتسم على ملامحه. تنظر زوجته بعيدًا عنه، بينما ترفرف العقدة الكبيرة لوشاحها المزيَّن بالزهور على رقبته. شعر أبيض رقيق، هيئة مهندمة، أنيقة. شيلا براذرز — السيدة براذرز، أرملة — تنظر أمامها مباشرةً، وهي الوحيدة التي تبدو مبتهجة حقًّا. شعرها أشقر قصير ممشَّط حول وجهها مثل سيدات الأعمال، بنطال بني، سترة بيضاء، وثدياها وبطنها بارزة، تنظر بشكل عفوي إلى الكاميرا ولا تبدو قلقة من الشكل الذي تبدو به في الصورة.

تقول كارين: «تبدو سعيدة.»

«حسنًا. لم تكن تعرف أنها ستتزوجني، آنذاك.»

يريها بطاقة بريدية في ظهرها صورة للمدينة التي تعيش شيلا فيها. المدينة التي سيعيش فيها في هاواي. ويريها أيضًا صورة فوتوغرافية لمنزلها. يوجد في الشارع الرئيسي للمدينة صف من أشجار النخيل في وسطه، ومبانٍ منخفضة بيضاء أو مائلة للون الوردي، وأعمدة إنارة مُعلَّق بها سلال زهور تفيض بما فيها، وتعلو كل ذلك سماء ذات لون فيروزي داكن حيث كُتب اسم المدينة — اسم بلغة هاواي لا يمكن بأي حال من الأحوال نطقه أو تذكُّره — بأحرف متدفقة على شريط من الحرير. بدا الاسم الطافي في السماء ممكنًا ككل شيء متعلق بالمدينة. بالنسبة إلى المنزل، لا يكاد المرء يراه على الإطلاق؛ مجرد بلكونة صغيرة وسط أشجار وأجمات مزهرة حمراء ووردية وذهبية. كان الشاطئ يمتد أمام المنزل، وكانت رماله نقية ذات لون كريمي والأمواج البرَّاقة مثل الجواهر تتكسَّر عليه. وهناك ربما سيسير أوستن كوبت مع شيلا الودودة. لا عجب أنه بحاجة لشراء ملابس جديدة.

•••

يريد أوستن من كارين أن تخلي المنزل. حتى كتبه، الآلة الكاتبة القديمة، صور زوجته وأولاده. يعيش ابنه في دنفر، وابنته في مونتريال. كتب إليهما، وتحدث إليهما عبر الهاتف، وطلب منهما أن يأخذا أي شيء يريدانه. يريد ابنه أن يأخذ أثاث غرفة الطعام، الذي ستنقله شاحنة نقل أثاث الأسبوع القادم. قالت ابنته إنها لا تريد شيئًا. (تعتقد كارين أنها لا تزال تفكِّر؛ يريد الناس دومًا «شيئًا» ما.) كل الأثاث، الكتب، الصور، الستائر، البُسط، الأطباق، القدور، الأواني ستُعرض في مزاد تقوم به شركة أوكشن بارن. سيجري بيع سيارة أوستن بالمزاد أيضًا، فضلًا عن آلة جز الحشائش الكهربية وآلة إزاحة الثلج التي أعطاه إياها ابنه في الكريسماس الماضي. ستُباع هذه الأشياء بعد رحيل أوستن إلى هاواي، وستذهب حصيلة عملية البيع إلى دار علاج لعازر. كان أوستن قد أنشأ هذه الدار عندما كان لا يزال قسًّا. لم يُطلق عليها ذلك الاسم. أطلق عليها دار الإصلاح. لكن قرروا الآن — قرر برنت دوبري — أن من الأفضل اختيار اسم ديني أكثر، مسيحي أكثر.

في البداية، كان أوستن سيعطيهم جميع هذه الأشياء كي تستفيد منها الدار. ثم، حدَّث نفسه أنه من اللائق أكثر أن يعطيهم الأموال، ويدعهم ينفقونها حسب ما يرونه مناسبًا؛ يشترون أشياء يرغبون فيها، بدلًا من استخدام أطباق زوجته والجلوس على أريكة زوجته المكسوَّة بقماش قطني منقوش.

تقول له كارين: «ماذا إذا أخذوا المال واشتروا به تذاكر يانصيب؟ … ألا تظن أن المال سيمثِّل إغراءً كبيرًا لهم؟»

يقول أوستن، في ابتسامة صغيرة، تثير الغيظ: «في كل خطوة نخطوها في الحياة إغراءات … ماذا إذا فازوا باليانصيب؟»

«برنت دوبري ثعبان.»

سيطر برنت على إدارة دار علاج لعازر بالكامل، التي كانت قد أسسها أوستن. كانت مكانًا مخصصًا لإقامة الأشخاص الذين كانوا يرغبون في التوقف عن شرب الخمر أو تغيير نمط أي حياة كانوا يعيشونها. حاليًّا، حدثت تحولات كبيرة بالمكان؛ حيث تُقام فيه جلسات طوال الليل للصلاة والغناء والشكوى والاعتراف. هكذا وضع برنت يديه على المكان؛ بأن صار يبدو أكثر تدينًا من أوستن. جعل أوستن برنت يتوقف عن شرب الخمر؛ أخذ يجرجر برنت شيئًا فشيئًا حتى أخرجه من الحياة التي كان يحياها، وقاده إلى حياة جديدة في إدارة هذه الدار من خلال أموال توفرها الكنيسة، الحكومة … إلخ، وارتكب خطأً كبيرًا — أقصد أوستن — بأن اعتقد أنه استطاع إخراج برنت مما كان فيه إلى الأبد. بمجرد دخول برنت في طريق الصلاح، بدأ في محاولة إقصاء أوستن؛ استطاع برنت أن يتجاوز طريقة أوستن الحذرة، الهادئة في تعليم الدين في وقت قصير، ويعزل أوستن عن الناس في كنيسته، الذين أرادوا نوعًا آخر من المسيحية، أكثر تزمتًا وتطرفًا. جرى إقصاء أوستن عن إدارة دار علاج لعازر ومنصبه بالكنيسة تقريبًا في نفس الوقت، واستطاع برنت أن يهيمن على القس الجديد دون أية صعوبة. وبالرغم من هذا — أو بسبب هذا — يريد أوستن أن يمنح دار علاج لعازر المال.

يقول: «من ذا الذي يستطيع أن يقول إن طريقة برنت ليست أقرب إلى الرب من طريقتي؟»

تقول كارين الآن كل ما تريده لأي أحد. تقول لأوستن: «لا تجعلني أتقيأ.»

يقول أوستن إنها يجب أن تحسب جيدًا الوقت الذي قضته في ترتيب الأشياء بالمنزل، بحيث يدفع لها مقابل كل ما قامت به، وكذلك عليها أن تخبره إذا كانت ترغب في أي شيء بالمنزل ليرى إذا كان يستطيع منحه إياها.

يقول: «في إطار المعقول … إذا قلت أود أن آخذ السيارة أو آلة إزاحة الثلج، فأظن أنني سأكون مضطرًّا أن أرفض؛ لأن هذا سيكون بمثابة إنقاص للمال الذي سأتبرع به لدار علاج لعازر. ماذا عن المكنسة الكهربائية؟»

هل هذه الطريقة التي يراها بها؛ كشخص يفكِّر دومًا في تنظيف المنازل؟ المكنسة الكهربائية قديمة جدًّا، على أي حال.

تقول: «أراهن أنني أعلم ماذا قال برنت عندما أخبرته أنني سأكون مسئولة عن بيع كل ذلك … أراهن أنه قال: «هل ستستعين بمحامٍ لمراجعة ما تقوم به؟» قال ذلك! أليس كذلك؟»

يقول أوستن بدلًا من الإجابة على ذلك: «لماذا أثق في أي محام أكثر مما أثق بك؟»

«هل هذا هو ما قلته له؟»

«أقول هذا لك. أرى أن المرء إما أن يثق في شخص أو لا يثق به. عندما تقرر أنك ستثق في أحد، يجب أن تستمر في هذا إلى النهاية.»

لا يذكر أوستن الرب إلا نادرًا. في المقابل، يشعر المرء أن طيف الرب يحوِّم حول جمل كهذه، وهو ما يجعل المرء يشعر بعدم الارتياح على الإطلاق — تشعر كارين وكأن ظهرها يتكسر — حتى إنه يتمنى أن يقولها أوستن ويتم تجاوز الأمر.

•••

منذ أربع سنوات، كانت كارين وبرنت لا يزالان متزوجين، ولم يكونا قد أنجبا الطفل بعدُ أو انتقلا إلى مسكنهما فوق متجر الأدوات. كانا يعيشان في المجزر القديم. كان ذلك بيتًا صغيرًا رخيصًا يمتلكه موريس فوردايس، والذي كان عبارة — في وقت من الأوقات — عن مجزر. في الطقس الممطر، كانت كارين تشم رائحة خنازير، وكانت دومًا تشم رائحة أخرى كانت تعتقد أنها رائحة دماء. كان برنت يتشمَّم الجدران ثم يهبط بأنفه ويتشمم الأرضية، لكنه لم يكن يشم ما كانت تشمه. كيف يمكن أن يشم أي شيء غير سُحب نَفَسه المخمورة التي كانت تتصاعد من جوفه؟! كان برنت سكيرًا آنذاك، لكن لم يكن معاقرًا للخمر بحيث يهمل كل شيء في حياته. كان يلعب الهوكي في فريق أو تي (الذي يتكون من لاعبين فوق سن الثلاثين) — كان أكبر سنًّا من كارين — وكان يزعم أنه لم يلعب الهوكي قط إلا وهو مخمور. عمل في شركة فوردايس للإنشاءات لفترة، ثم عمل لدى مجلس المدينة، يقطع الأشجار. كان يحتسي الخمر أثناء عمله متى استطاع، وبعد الانتهاء من العمل كان يشرب الخمر في نادي فيش آند جيم أو في حانة نزل جين هيفن، المُسماة جريزي هيفن. في إحدى الليالي، قام بقيادة إحد البلدوزرات، الذي كان قابعًا خارج جريزي هيفن، واتجه به عبر المدينة إلى نادي فيش آند جيم. بالطبع، جرى القبض عليه، واتهامه بتهمة قيادة بلدوزر تحت تأثير الكحول، وصار الأمر مزحة كبرى تم تداولها في أنحاء المدينة. لم يأتِ أحد ممن ضحك على المزحة لكي يدفع عنه الغرامة. وهكذا صار برنت أكثر جموحًا في تصرفاته. في ليلة أخرى، انتزع السلالم التي كانت تفضي إلى بيتهما. لم ينتزع السلالم بصورة عنيفة في إحدى نوبات الغضب العارم، بل نزعها بعناية وبطريقة منهجية، السلالم والدعائم، الواحدة تلو الأخرى، داعمًا السلالم السفلية أثناء نزعه السلالم وتاركًا كارين تقذف بأقذع الشتائم في الأعلى. في البداية، كانت تضحك على ما فعل — كانت قد تناولت بعض أقداح الجعة آنذاك — ثم، عندما أدركت أنه ماضٍ فيما يفعل في عزم وحماس، وأنها عالقة هناك، بدأت في قذفه بالشتائم. شاهد الجيران الجبناء خلسة ما حدث من أبواب بيوتهم التي توجد في مقابل بيت برنت.

جاء برنت عصر اليوم التالي وأُصيب بالدهشة، أو تظاهر بذلك. وصرخ قائلًا: «ماذا حدث للسلالم؟» كان يسير في المدخل في غضب عارم، كان وجهه المجعَّد، المُتعب، المستثار، يختلج، وكانت عيناه الزرقاوان تطرفان، وكانت ابتسامته بريئة، متواطئة. «لعن الله موريس ذلك! لعن الله السلالم المتهالكة. سأقاضيه. اللعنة!» كانت كارين في الأعلى بلا أي طعام تأكله سوى لفافة من حبوب «رايس كريسبيز» دون لبن، وعلبة فاصوليا صفراء. كانت تفكر في مهاتفة أحد حتى يأتي بسلم، لكنها كانت في شدة الغضب والعناد. إذا أراد برنت أن يجعلها تتضوَّر جوعًا، فستريه. ستتضوَّر جوعًا.

ذلك الوقت كان بحق بداية النهاية؛ التغيير. ذهب برنت ليرى موريس فوردايس حتى يضربه ويخبره كيف سيقاضيه، وتحدث إليه موريس بطريقة متعقِّلة، راشدة حتى قرر برنت ألا يقاضي موريس أو يضربه بل أن ينتحر. هاتف موريس أوستن كوبت آنذاك؛ حيث إن أوستن كان معروفًا عنه أنه يعرف كيف يتعامل مع الأشخاص الذين كانوا يسيرون في طريق اللاعودة. بينما لم يقنع أوستن برنت آنذاك بالإقلاع عن شرب الخمر، أو بالانضمام إلى الكنيسة، أقنعه بعدم الانتحار. ثم — بعد عامين عندما توفي الطفل — كان أوستن هو القس الوحيد الذي كانوا يعرفونه الذي يمكنهم استدعاؤه للقيام بمراسم الجنازة. لدى وصوله إليهم — للقيام بمراسم الجنازة — كان برنت قد شرب كل ما في المنزل من خمر وخرج يبحث عن المزيد. خرج أوستن في إثره وقضى الأيام الخمسة التالية — باستثناء وقت قصير قضاه في دفن الطفل — بصحبة برنت وهو يشرب. ثم قضى الأسبوع التالي يحاول إخراجه من حالة السكر البيِّن هذه، وقضى الشهر التالي يتحدث إليه أو يجلس معه، حتى قرر برنت ألا يعاود الشراب، وأنه قد أقام صلة بينه وبين الرب. قال أوستن: إن برنت كان يعني بذلك أنه أدرك المعنى الحقيقي لوجوده في هذه الحياة وأدرك أيضًا قوة ذاته الداخلية. قال برنت إنه لم يكن سببًا ولو للحظة في إيابه إلى رشده؛ بل الرب.

ذهبت كارين إلى كنيسة أوستن بصحبة برنت لفترة؛ لم تكن تمانع في ذلك. رغم ذلك، كانت ترى أن ذلك لم يكن كافيًا لاحتواء برنت. رأته يهب واقفًا لينشد المزامير، مؤرجحًا ذراعيه وضامًّا قبضتيه، جسده كله مبرمج. كان يمر بالحالة ذاتها مثلما كان بعد احتِساء ثلاثة أو أربعة أقداح من الجعة عندما لم يكن هناك ما يمنعه من شرب المزيد. كان ينفجر. وسرعان ما انفلت من قبضة أوستن واستحوذ على جزء غير يسير من الكنيسة. كان كثير من الناس يرغبون في ذلك التحرر، ضوضاء أكثر وصلاة أكثر وغناء أكثر وليس الحديث المقنع الهادئ؛ كانوا يرغبون في ذلك منذ فترة طويلة.

لم يدهشها أي من ذلك. لم يدهشها أن برنت تعلَّم تقديم الأوراق بشكل محترف وترك الانطباع الصحيح والحصول على التمويل الحكومي؛ لم يدهشها أنه تولى إدارة دار الإصلاح، التي كان أوستن قد أدخله فيها، وطرد أوستن منها. كان برنت دومًا منبعًا للاحتمالات. لم يدهشها حقًّا غضبه الشديد منها الآن لاحتسائها قدحًا من الجعة وتدخين سيجارة واحدة مثلما لم يكن يدهشها ما كان يفعله معها عندما أرادت التوقف عن إقامة الحفلات والذهاب إلى الفراش في الساعة الثانية. قال لها إنه يمهلها أسبوعًا حتى تقرر. لا مزيد من الشراب، لا مزيد من التدخين، والمسيح مخلصها. أسبوع واحد. لم تأبه كارين بالأمر. بعد انفصالها عن برنت، أقلعت عن التدخين، وأقلعت تقريبًا عن الشراب، وتوقفت أيضًا عن الذهاب إلى كنيسة أوستن. تخلت عن كل شيء تقريبًا، لكنها لم تتخل عن الضغينة الداخلية التي أصبحت تُكِنُّها لبرنت، التي كانت تنمو أكثر فأكثر. ذات يوم، استوقفها أوستن في الشارع وظنت أنه سيقول شيئًا لطيفًا، شخصيًّا، مؤنبًا لها، لضغينتها أو لتركها الكنيسة، لكن كان كل ما فعله هو سؤالها أن تأتي لتساعده في العناية بزوجته، التي كانت عائدة إلى المنزل من المستشفى ذلك الأسبوع.

•••

يتحدث أوستن في الهاتف إلى ابنته في مونتريال؛ اسمها ميجان، تبلغ من العمر ثلاثين عامًا تقريبًا، غير متزوجة، وتعمل كمنتجة تليفزيونية.

يقول أوستن: «تمتلئ الحياة بالكثير … تعرفين أن الأمر لا صلة له بأمك. هذه حياة جديدة تمامًا. أشعر بالندم … لا، لا. أعني أن ثمة أكثر من طريقة لحب الرب، ويعتبر الاستمتاع بالعالم بالتأكيد أحد هذه الطرق. هذا كشف ظهر لي مؤخرًا، متأخرًا أكثر مما ينبغي بحيث لا يعد ذا نفع بالنسبة لأمك … لا. الإثم خطيئة وإغواء. قلت ذلك للكثير من المساكين الذين كانوا يحبون الانغماس فيه. الندم شيء آخر. كيف للمرء بعد أن تُوهب له حياة طويلة يحاول أن يهرب منها؟»

تحدِّث كارين نفسها: كنت محقة؛ تريد ميجان شيئًا. لكن بعد قليل من الكلام، يقول أوستن إنه ربما يلعب الجولف، لا تضحك، وإن شيلا تنتمي إلى أحد أندية قراءة المسرحيات، وإنه يتوقع أن يكون نجمًا في ذلك، بعد كل هذه الخطب الرنانة على منبر الوعظ — انتهت المحادثة. يخرج أوستن إلى المطبخ — الهاتف في القاعة الأمامية، فهذا منزل قديم الطراز — ويتطلع إلى كارين، التي تنظِّف الخزانات العليا.

يقول متنهدًا، ثم متنهِّدًا، بشكل مضحك: «الآباء والأبناء، يا كارين … آه، يا لها من شبكة معقدة نغزلها، عندما يولد لنا أولًا، أطفال! ثم، يريدوننا أن نصبح دومًا كما نحن، يريدون أن نصبح آباء؛ نهزهم من الأعماق بشكل مفزع إذا فعلنا شيئًا لا يظنون أننا سنفعله. بشكل مفزع.»

تقول كارين، في غير تعاطف كبير: «أظن أنها ستعتاد على الأمر.»

«حسنًا، ستفعل، ستفعل. ميجان المسكينة.»

ثم يقول إنه ذاهب إلى أقصى المدينة لقص شعره. لا يرغب في أن يتركه يطول؛ حيث إنه يبدو ويشعر دومًا بأنه في غاية الحماقة عند حلاقة شعره. يتدلى فمه إلى الأسفل عند ابتسامه، أولًا إلى أعلى، ثم إلى أسفل. هذا التدلي لافت فيه في كل مكان يذهب إليه، الوجه متدلٍّ حتى لغد الرقبة، الصدر مفرَّغ ومنحدر في صورة كرش صغير، غريب. ترك التدفق قنوات جافة، خطوطًا عميقة. غير أن أوستن يتحدث — من سوء خِلاله كثرة الحديث — كما لو كان يخرج صوته من جسد خفيف، في حالة تأهب، لديه متعة في الانتقال من مكان إلى آخر.

بعد وقت قصير، يرن جرس الهاتف مرة أخرى، وكان على كارين أن تهبط وتجيب عليه.

«كارين؟ هل هذا أنت، كارين؟ أنا ميجان.»

«ذهب والدك لتوه ليقص شعره.»

«جيد. هذا جيد. أنا مسرورة. يعطيني هذا فرصة الحديث إليك. كنت آمل أن أتحدث إليك.»

تقول كارين: «حسنًا.»

«كارين. الآن، أنصتي إليَّ. أعرف أنني أتصرف على النحو الذي من المُفترض أن يتصرف الأبناء الناضجون في مثل هذا الموقف. لا يعجبني هذا الأمر. لا أحب هذا الأمر في نفسي. لكنني لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير في الأمر. أشك في الأمر. أتساءل عما يجري. هل هو على ما يرام؟ ماذا تعتقدين؟ ما رأيك في المرأة التي سيتزوجها؟»

تقول كارين: «لم أرَ إلا صورتها.»

«أنا مشغولة جدًّا الآن ولا أستطيع ترك كل شيء والعودة إلى المنزل والتحدث معه بصراحة. على أي حال، هو صعب جدًّا في الحديث معه. بينما يبدو متحمسًا ومنفتحًا في الحوار، في حقيقة الأمر هو شخصية منغلقة جدًّا. لم يكن قط من النوع الذي يهتم بالجانب الشخصي في تعامله، هل تعرفين ما أقصده؟ لم يفعل شيئًا قط من قبل لأي سبب «شخصي». كان يقوم بالأشياء دومًا «من أجل» الآخرين. كان يحب دومًا أن يجد أشخاصًا «بحاجة» إلى أن يساعدهم أحد على قضاء حوائجهم. حسنًا، أنت تعرفين ذلك. حتى جلْبك إلى المنزل، مثلما تعرفين، للعناية بأمي؛ لم يكن ذلك تمامًا من أجل خاطر أمي أو خاطره.»

تستطيع كارين أن تتخيل ميجان — الشعر الطويل، الداكن، الناعم، المفروق في المنتصف والممشَّط فوق كتفيها، العينان الملونتان بكثافة والبشرة المسمرة والفم المطلي بأحمر شفاه بلون وردي خفيف، الجسد السمين المغطَّى بملابس أنيقة. هل يستحضر صوتها هذه الهيئة إلى الذهن حتى لو لم يكن المرء قد رآها من قبل؟ هذه النعومة، هذا الإخلاص الجم. لمعة رقيقة في كل كلمة ومساحات تقدير صغيرة بين كل منها والأخرى. تتحدث كما لو كانت تستمع إلى نفسها. هذا أكثر من اللازم، في حقيقة الأمر. هل هي ثملة؟

«دعينا لا نهرب من مواجهة الأمر، كارين. كانت أمي متغطرسة. (نعم، هي ثملة.) حسنًا، كان لا بد أن يكون لديها شيء. مجرجرة من مكان إلى آخر، دومًا لفعل الخير. لم يكن فعل الخير من الأمور التي تهم أمي على الإطلاق. لذا الآن — «الآن» فقط — يتخلى عن كل شيء، يمضي إلى الحياة المريحة. في هاواي! أليس ذلك غريبًا؟»

«غريبًا.» تسمع كارين تلك الكلمة في التليفزيون يقولها أشخاص، معظمهم من المراهقين. تذهب بتفكيرها إلى الأسواق الخيرية التي تنظمها الكنيسة التي تتحدث عنها ميجان. هذا هو المعنى الذي يجيء إلى ذهنها عندما تسمع تلك الكلمة؛ أسواق الكنيسة الخيرية التي اعتادت والدة ميجان على تنظيمها، محاولةً دومًا أن تضفي عليها طابعًا خاصًّا وتجعلها تبدو مختلفة. المظلات المخططة ومقهى في ممر جانبي في أحد الأعوام، وشاي ديفونشاير وتعريشة ورود في عام تالٍ. ثم، تتصوَّر والدة ميجان راقدة على الأريكة المكسوة بقماش قطني منقوش في غرفة المعيشة، ضعيفة ومنهكة بعد إحدى جلسات العلاج الكيماوي، وأحد المناديل الأنيقة، المبطنة ملفوف حول رأسها شبه الخالية من الشعر. لكن كانت لا تزال تستطيع التطلع إلى كارين في دهشة مكتومة، تقليدية، عندما تلِج كارين إلى الغرفة. «هل كنت تريدين شيئًا، يا كارين؟» الشيء الذي كان من المُفترض أن تطلبه منها كارين، ستطلبه هي من كارين.

«غريب». «سوق خيري». «متغطرسة». عندما بلغت ميجان ذلك المبلغ في حديثها، كان يجب على كارين أن تقول — على الأقل — «أعلم ذلك.» لكنها لم تملك إلا أن تقول: «ميجان. هذا يكلفك مالًا.»

«مال، كارين! أتحدث هنا عن أبي. أتحدث عما إذا كان أبي في رشده أو عما إذا كان فقد رشده، كارين!»

•••

في اليوم التالي، جاءت مكالمة من دنفر. كان دون — ابن أوستن — يتصل ليخبر أباه أن من الأفضل عدم نقل أثاث غرفة الطعام؛ حيث إن تكلفة الشحن مرتفعة جدًّا. يوافقه أوستن الرأي. يقول، يمكن صرف المال في وجوه أفضل. ما فائدة الأثاث في نهاية الأمر؟ ثم، يُطلب من أوستن تفسير مسألة مزاد أوكشن بارن وما تفعله كارين.

يقول أوستن: «بالطبع، بالطبع، لا غضاضة في ذلك … سيقومون بعمل قائمة بكل شيء يحصلون عليه ويحددون فيها ثمن بيعه. يمكن بسهولة أن يتم إرسال نسخة منها. أعتقد أن لديهم جهاز كمبيوتر. انقضت أيام العصور المظلمة هنا …

نعم … آمل أن تنظرا إلى هذا المال كما أنظر إليه. هذا مشروع قريب إلى قلبي. أنت وأختك تعيشان عيشة كريمة. أنا محظوظ للغاية في أبنائي … معاش التقاعد ومعاش القس … ماذا أريد أكثر من ذلك؟ وهذه السيدة، هذه السيدة، أؤكد لك، شيلا، لا ينقصها مال، إذا جاز أن أعبِّر عن ذلك على هذا النحو …» ثم يضحك في خبث على شيء يقوله ابنه.

بعد إغلاقه الخط، يقول لكارين: «حسنًا، ابني قلق بشأن أموري المالية وابنتي قلقة بشأن حالتي العقلية. حالتي العقلية والعاطفية. طريقة الذكر والأنثى في النظر إلى الأمور. طريقة الذكر والأنثى في التعبير عن القلق. تحت ذلك يوجد الشيء نفسه. يتغير النظام القديم، مفسحًا المجال أمام النظام الجديد.»

لا يتذكر دون كل شيء كان في المنزل، على أي حال. كيف ذلك؟ كان هنا يوم الجنازة ولم تكن زوجته بصحبته؛ كانت في شهورها الأخيرة من الحمل ولم يمكنها المجيء. لم يكن سيأتي بها للاعتماد عليها في هذا الأمر. لا يتذكر الرجال هذه الأشياء جيدًا. لم يطلب إلا القائمة بحيث يبدو الأمر كما لو كان يتابع كل شيء وحتى لا يحاول أحد أن يخدعه. أو يخدع أباه.

كانت هناك أشياء ستأخذها كارين، ولم يكن أحد ليسألها من أين جاءت بها. لم يكن أحد ليذهب إلى منزلها؛ طبق عليه نقوش على هيئة شجر الصفصاف، الستائر المزدانة بالزهور ذات اللونين الأزرق والرمادي، دورق صغير، كنز من زجاج ياقوتي اللون وغطاء من الفضة، قطعة قماش بيضاء من الحرير، مفرش مائدة كانت قد قامت بكيِّه حتى صار يلمع مثل حقل ثلجي متجمِّد، والمناشف الضخمة المصاحبة له. كان المفرش ثقيلًا جدًّا، وكانت المناشف تتدلى من كئوس الخمر مثل الزنابق، إذا كان ثمة كئوس خمر لديك. كبداية فقط، أخذت إلى المنزل ست ملاعق فضية في جيب معطفها. تعرف كيف يجب ألا تبدو الأشياء ناقصة بما يكفي بحيث لا تأخذ أي شيء من طاقم الشاي الفضي أو الأطباق الجيدة. لكن خطف بصرها بعض أطباق الحلوى الزجاجية الوردية، ذات النقوش التي على هيئة سيقان نباتات طويلة. ترى أن منزلها قد تغير كثيرًا، مع وجود هذه الأشياء به. الأكثر من ذلك، تستطيع أن تشعر بالهدوء والسرور اللذين تشعهما هذه الأشياء في المكان. بجلوسها في غرفة بها أشياء رائعة على هذا النحو، لن تحتاج إلى الخروج منها. لن تحتاج إلى التفكير في برنت، وفي طرق للانتقام منه. يستطيع أي شخص يجلس في غرفة كهذه أن يطرد، بل يطرح أي أحد أرضًا يحاول أن يتطفل عليه.

«هل كنت تريدين شيئًا؟»

في يوم الإثنين في الأسبوع الأخير لأوستن — كان من المُفترض أن يسافر إلى هاواي يوم السبت — بدأت أول عاصفة كبيرة في الشتاء. هبَّت الرياح من الغرب، فوق البحيرة؛ كانت الثلوج تسقط بقوة ليلًا ونهارًا. كانت المدارس مُغلقة يومي الاثنين والثلاثاء؛ لذا لم يكن على كارين أن تعمل منظمة مرور. لكنها لم تستطع تحمُّل البقاء في المنزل؛ لبست معطفها الصوفي الثقيل ولفَّت رأسها ونصف وجهها بوشاح من الصوف وخاضت في صعوبة بالغة في الشوارع الممتلئة بالثلوج إلى منزل القس.

المنزل بارد، الرياح تهبُّ بقوة حول الأبواب والنوافذ. في خزانة المطبخ بطول الحائط الغربي، تبدو الأطباق مثل الثلج. أوستن مرتدٍ ملابسه لكنه يرقد على أريكة غرفة المعيشة، ملفوفًا في ألحفة وأغطية مختلفة. لا يقرأ أو يشاهد التليفزيون أو ينعس، بقدر ما تستطيع أن ترى، لا يفعل إلا الحملقة. تصنع له قدحًا من القهوة السريعة.

تقول: «هل تظن أن هذا الجو سيتحسن بحلول يوم السبت؟» لديها شعور أنه إذا لم يذهب يوم السبت، فربما لا يذهب على الإطلاق. ربما يجري إلغاء الأمر برمته، وربما ترتبك جميع الخطط.

يقول: «سيتوقف كل ذلك في الوقت المناسب … لست قلقًا.»

مات طفل كارين في عاصفة ثلجية. ففي فترة ما بعد الظهيرة، عندما كان برنت يشرب مع صديقه روب ويشاهد التليفزيون، قالت كارين إن الطفل مريض، وكانت في حاجة إلى مال لتستقل سيارة أجرة لتذهب به إلى المستشفى. نهرها برنت، فقد كان يظن أنها تحاول أن تضايقه فقط. وكانت إلى حدٍّ ما تفعل ذلك؛ كان الطفل قد تقيأ مرة، وكان يئن، ولم يكن ساخنًا جدًّا. ثم، قرابة وقت العشاء، عند خروج روب، ذهب برنت ليأخذ الطفل ويلعب معه، ناسيًا أنه كان مريضًا. صرخ في كارين قائلًا: «الطفل مثل الفحمة المشتعلة!» وأراد أن يعرف لماذا لم تحضر الطبيب، لماذا لم تصطحب الطفل إلى المستشفى. قالت كارين: «أتسألني لماذا؟!» ثم بدآ في الشجار. قالت كارين: «قلت إنه ليست هناك حاجة ملحة لذهابه … حسنًا، هو ليس في حاجة إلى الذهاب إلى الطبيب.» هاتف برنت شركة سيارات الأجرة، ولم تكن سيارات الأجرة ستخرج بسبب العاصفة، التي لم يلاحظها هو أو كارين حتى الآن. هاتف برنت المستشفى وسألهم ماذا يفعل، وقالوا إنه يمكنه أن يقلل من درجة حرارة الحمى عن طريق لف الطفل في مناشف مبللة. هكذا فعلا، وبحلول منتصف الليل كانت العاصفة قد هدأت، وكانت كاسحات الثلج في الشوارع، فذهبا بالطفل إلى المستشفى، لكنه مات. ربما كان سيموت مهما كانا سيفعلان؛ كان يعاني من الالتهاب السحائي. حتى إذا كان طفل صغير محل اهتمام عظيم في منزل لا يعاقر الأب فيه الخمر ولا يتشاجر الأب والأم، فربما كان سيموت. على الأرجح كان سيموت، على أي حال.

رغم ذلك، كان برنت يرى أن ذلك كان خطأه. وفي بعض الأحيان، كان يرى أن ذلك كان خطأهما. كان الأمر بالنسبة له مثل مص الحلوى، ذلك الاعتراف. طلبت كارين منه أن يصمت، أمرته أن «يصمت».

قالت: «كان سيموت على أي حال.»

عندما انتهت العاصفة، عصر الثلاثاء، ارتدت كارين معطفها وخرجت تنظِّف ممشى بيت القس. تبدو الحرارة كما لو كانت تنخفض أكثر فأكثر؛ السماء صافية. يقول أوستن إنهما سيذهبان إلى البحيرة لمشاهدة الثلوج. إذا كانت هناك عاصفة كبيرة كهذه في وقت مبكر من العام كهذا، فستحرِّك الرياح الأمواج إلى أعلى حتى الشاطئ ثم تتجمد هناك. الثلج في كل مكان، في تشكيلات غير معقولة. يذهب الناس إلى البحيرة ويلتقطون صورًا. عادةً، تنشر الجريدة أفضل هذه الصور. يريد أوستن أن يلتقط بعض الصور، أيضًا. يقول إنه سيُري هذه الصور للناس في هاواي. تزيح كارين الثلوج عن السيارة، أيضًا، ثم يمضيان معًا، يقود أوستن في حرص بالغ. لا يوجد أي شخص عند البحيرة. الطقس بارد جدًّا. يتعلَّق أوستن بكارين أثناء سيرهما في صعوبة بالغة على الممشى، أو حيث يجب أن يكون الممشى، تحت الثلج. تتساقط طبقات من الثلج من أفرع أشجار الصفصاف المثقلة إلى الأرض، وتسطع الشمس خلالها من جهة الغرب: تبدو مثل حوائط من اللؤلؤ. الثلج مغزول خلال سلك السياج المرتفع بحيث يجعله يبدو مثل قرص شمع العسل. تجمَّدت الأمواج أثناء ارتطامها بالشاطئ، صانعةً هضابًا وكهوفًا، مشهد عجيب حقًّا، حتى حافة المياه. جميع معدات ملعب الأطفال؛ أراجيح الأطفال وقضبان التسلق، حوَّلها الثلج، وبدت وكأنها معلقة مثل أنابيب الأرغن أو مدفونة فيما يبدو مثل تماثيل نصف منحوتة، أشكال من الثلج قد تكون أشخاصًا، حيوانات، ملائكة، وحوش، تُركت دون الفراغ منها.

تشعر كارين بالقلق عندما يقف أوستن وحده ليلتقط الصور. يبدو غير متزن بالنسبة لها، ماذا لو وقع؟ ربما تنكسر قدمه، أو وركه. تنكسر أوراك الأشخاص كبار السن ثم يكون ذلك بمثابة نهايتهم. حتى خلع قفازه لتشغيل الكاميرا يعتبر مخاطرة. ربما لا يتطلب الأمر سوى إصبع متجمد حتى يبقى هنا، وتفوته طائرته.

عند عودته إلى السيارة، يكون عليه أن يحك وينفخ في يديه. يدعها تقود السيارة. إذا حدث أي مكروه له، فهل ستأتي شيلا براذرز إلى هنا، تتولى العناية به، تستقر في بيت القس، تنقض أوامره؟

يقول: «هذا طقس غريب … في شمال أونتاريو الطقس معتدل، حتى البحيرات الصغيرة مفتوحة، لا تقل درجات الحرارة عن الصفر. وها نحن هنا في قبضة الثلج والرياح القادمة مباشرةً من منطقة السهول العظمى.»

تقول كارين في حزم: «سيكون الأمر كذلك بالنسبة إليك عندما تذهب إلى هاواي … شمال أونتاريو أو السهول العظمى أو هنا، سيسعدك أن ترحل من هنا. ألا تهاتفك أبدًا؟»

يقول أوستن: «من؟»

«هي. السيدة براذرز.»

«أوه، شيلا. تهاتفني في وقت متأخر من الليل. يكون الوقت مبكرًا جدًّا في هاواي.»

•••

يرن جرس الهاتف بينما كارين وحدها في المنزل قبل صبيحة اليوم الذي يرحل فيه أوستن. صوت رجل، غير واثق، وكئيب.

تقول كارين: «ليس هنا الآن.» ذهب أوستن إلى المصرف. «سأجعله يهاتفك عندما يجيء.»

يقول الرجل: «حسنًا، أكلمك من مسافة بعيدة … بحيرة شافت.»

تكرر كارين قائلةً: «بحيرة شافت.» وهي تبحث على رف الهاتف عن قلم.

«كنا نتساءل فقط لنعرف الوقت الذي سيصل فيه. سيأتي أحدهم ليلاقيه. إذن، سيذهب إلى ثاندر باي في الساعة الثالثة، أليس هذا صحيحًا؟»

توقفت كارين عن البحث عن قلم. تقول أخيرًا: «أظن هذا صحيحًا. بقدر ما أعلم. إذا هاتفتني قرب وقت الظهيرة، فسيكون هنا.»

«لست متأكدًا إذا كنت سأستطيع الاتصال في وقت الظهيرة. أنا في الفندق هنا لكن عليَّ أن أذهب إلى مكان آخر. سأترك له رسالة. سيلاقيه أحد الأشخاص في المطار في ثاندر باي في الساعة الثالثة غدًا. حسنًا؟»

تقول كارين: «حسنًا.»

«يمكنك أن تخبريه أن لدينا مكانًا يقيم فيه، أيضًا.»

«حسنًا.»

«عربة مقطورة. قال إنه لا يمانع أن يعيش في مقطورة. أترين، لم يكن لدينا أي قس هنا منذ وقت طويل.»

تقول كارين: «أوه … حسنًا. نعم. سأخبره.»

بمجرد أن وضعت السماعة، وجدت رقم ميجان في قائمة الأرقام الموضوعة فوق الهاتف، وهاتفتها. يرن الهاتف ثلاث أو أربع مرات ثم يأتي صوت ميجان، يبدو أكثر حيوية من المرة السابقة التي كانت كارين سمعته فيها، أكثر حيوية لكن مستفز.

«تأسف صاحبة المنزل أنها لا تستطيع تلقِّي مكالمتك في الوقت الحالي، لكن إذا كنت ترغب في ترك اسمك، ورسالة، ورقم هاتفك، فستعاود الاتصال بك في أقرب وقت ممكن.»

كانت كارين قد بدأت بإبداء أسفها، لكن الأمر مهم، قبل أن يقاطعها صوت صفير، وتدرك أن ما سمعته لم يكن إلا ماكينة الرد الآلي. تعيد كلامها مجددًا، وهي تتحدث بسرعة وفي وضوح بعد أخذ نفس عميق.

«كنت فقط أريد أن أخبرك. كنت فقط أريدك أن تعرفي. والدك بخير. حالته الصحية جيدة، وهو بخير من الناحية العقلية، وكل شيء على ما يرام. لذا، ليس عليك أن تقلقي. سيسافر إلى هاواي غدًا. كنت فقط أفكِّر، كنت فقط أفكِّر في حديثنا عبر الهاتف. لذا، أعتقد أنني يجب أن أخبرك ألا تقلقي. هذه كارين تتحدث.»

قالت كل ذلك في وقت مناسب؛ إذ سمعت صوت أوستن عند الباب. قبل أن يسأل أو يتساءل عما كانت تفعل في البهو، أطلقت وابلًا من الأسئلة نحوه. هل ذهب إلى المصرف؟ هل جعل البرد صدره يؤلمه؟ متى ستأتي شاحنة أوكشن بارن؟ متى يريد مجلس إدارة الكنيسة مفاتيح البيت؟ هل سيهاتف دون وميجان قبل أن يرحل أم بعد رحيله إلى هناك، أم ماذا سيفعل؟

نعم. لا. تصل الشاحنة يوم الإثنين. تُسلَّم المفاتيح يوم الثلاثاء، لكن لا حاجة إلى العجلة؛ إذا لم تكن قد فرغت مما تفعل، فسيكون يوم الأربعاء مناسبًا. لن تكون هناك مكالمات أخرى. قال هو وأبناؤه كل ما يمكن أن يُقال. بمجرد أن يصل هناك، سيكتب إليهما خطابًا. سيكتب إلى كل منهما خطابًا.

«بعد أن تتزوج؟»

نعم. حسنًا. ربما قبل ذلك.

كان قد وضع معطفه على درابزين السلم. ثم تراه يمد يدًا حتى يتزن في مشيته، ممسكًا بالدرابزين. يتظاهر بأنه يتلاعب بأصابعه بالمعطف.

تقول: «هل أنت بخير؟ … هل تريد قدحًا من القهوة؟»

للحظة، لا يقول شيئًا. عيناه تتجاوزها. كيف يصدق أي إنسان أن هذا الرجل العجوز المترنح، الذي يذبل جسده يومًا بعد يوم، في طريقه إلى الزواج من أرملة مسلية ويقضي أيامه من الآن فصاعدًا يسير على شاطئ مشمس؟ ما كان لأوستن أن يفعل أشياء كهذه، على الإطلاق. يسعى دومًا إلى بذل كل جهده في مساعدة أشخاص لا يردون الجميل، أشخاص ناكرين للجميل مثل برنت. في المقابل، كان يخدعهم جميعًا بأن يجعلهم يظنون أنه يحاول تغيير جلده، وإلا ربما يتمكن أحدهم من اكتشاف أمره. كان يتملَّص منهم، يخدعهم، مستمتعًا بالأمر كله.

لكن كان يبحث عن شيء في المعطف حقًّا. يُخرج قنينة صغيرة من الويسكي.

يقول: «ضعي قليلًا من هذا في كوب لي … لا عليك من القهوة. مجرد إجراء وقائي. ضد الضعف. ضد البرد.»

يجلس على درجات السلم عندما تجلب الويسكي له. يشرب الويسكي وهو يرتجف. يهز رأسه إلى الوراء وإلى الأمام، كما لو كان يجعلها أكثر صفوًا. ينهض. ويقول: «هذا أفضل كثيرًا … أوه، أفضل كثيرًا جدًّا. الآن، فيما يتعلق بصور الثلج تلك، يا كارين. كنت أتساءل، هل تستطيعين أخذها الأسبوع القادم؟ إذا تركت لك ثمنها؟ ليست جاهزة بعد.»

على الرغم من أنه دخل توًّا من الخارج حيث البرد، تكتسي ملامحه باللون أبيض. إذا وضعت شمعة خلف وجهه، فستسطع عبر وجهه كما لو كان وجهه مصنوعًا من الشمع أو الخزف الصيني الخفيف.

تقول: «يجب أن تترك عنوانك لي … إلى حيث أرسل إليك الصور.»

«فقط احتفظي بها حتى أبعث إليك بخطاب. هذا سيكون أفضل شيء.»

•••

هكذا، انتهى بها المطاف بمجموعة كبيرة من صور الثلج، بالإضافة إلى تلك الأشياء الأخرى التي عزمت على الحصول عليها. تُظهر الصور السماء في لون أكثر زرقة مما تكون عليه في أي وقت، لكن لا يبدو نسيج السياج، شكل أنابيب الأرغن واضحًا تمامًا. لا بد أن يوجد إنسان، أيضًا، لمقارنة حجمه بحجم الأشياء في الصور حتى يمكن التعرف على حجمها الحقيقي. كان يجب عليها أن تأخذ الكاميرا وتلتقط صورًا لأوستن، الذي اختفى. اختفى تمامًا مثل الثلج، إلا إذا طفا جثمانه على الشاطئ في الربيع. ذوبان، غرق، وكلاهما يختفي. تنظر كارين إلى صور الكتل الثلجية الشاحبة المخيفة، هذه الصور التي التقطها أوستن، تنظر كثيرًا جدًّا حتى إن شعورًا تولَّد لديها بأن أوستن موجود فيها، بشكل أو بآخر. أوستن موجود في هيئة شاحبة جدًّا لكنها واضحة.

تعتقد الآن أنه كان يعرف. مؤخرًا جدًّا عرف أنها أدركت كل شيء، كانت تفهم ما كان يعتزم عمله. مهما كنت وحيدًا، ومهما كنت مخادعًا وعازمًا، ألا تحتاج إلى شخص واحد على الأقل يعرف ما تفعله؟ ربما كانت هي ذلك الشخص بالنسبة إليه. كان كلاهما يعلم ماذا كان الآخر يعتزم، ولم يبُح أي منهما بمكنون نفسه، وذلك كان صلة غير عادية. في كل مرة تفكِّر في الأمر، تستحسنه، شيء غير متوقع على الإطلاق.

تضع إحدى تلك الصور في ظرف، وترسلها إلى ميجان. (مزقت قائمة العناوين وأرقام الهواتف المعلقة على الحائط، كإجراء احترازي.) ترسل صورة أخرى إلى دون. وصورة ثالثة، مختومة ومصحوبة بعنوان، عبر المدينة، إلى برنت. لا تكتب أي شيء على الصور أو تُرفق أي تعليق. لن تهتم بأمر أي من هؤلاء الأشخاص بعد ذلك. حقيقة الأمر أنه لن يمر وقت طويل قبل أن ترحل من هنا.

تريد فقط أن تجعلهم يتساءلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤