بطريقة مختلفة

تلقَّت جورجيا ذات مرة دورة في الكتابة الإبداعية، وكان ما قال لها المحاضر هو: أشياء كثيرة جدًّا. أشياء كثيرة جدًّا تحدث في الوقت نفسه، وكذلك أشخاص كُثُر. وقال لها: فكِّري. ما هو الشيء المهم؟ ما الذي تريدين أن تلفتي نظرنا إليه؟ فكِّري.

أخيرًا، كتبت قصة عن جدها وقَتْله الفراريج، وبدا المحاضر مسرورًا بها. أما جورجيا نفسها فرأت القصة زائفة. فأعدَّت قائمة طويلة بجميع الأشياء التي لم تذكرها وسلَّمتها باعتبارها ملحقًا للقصة. قال المحاضر إنها تتوقع أكثر مما ينبغي، من نفسها ومن عملية الكتابة، وإنها ترهقه كثيرًا.

لم تكن الدورة خسارة كاملة؛ حيث إن جورجيا والمحاضر انتهى بهما المطاف إلى العيش معًا. وهما لا يزالان يعيشان معًا، في أونتاريو، في مزرعة. يبيعان توت العلِّيق ويديران دار نشر صغيرة. وعندما تتمكَّن جورجيا من جمع المال اللازم، تذهب إلى فانكوفر لزيارة أبنائها. في ذلك السبت الخريفي استقلَّت العَبَّارة إلى فيكتوريا، حيث كانت تعيش يومًا. فعلت هذا استجابةً لرغبة عفوية لم تثق فيها تمامًا، وبحلول منتصف ما بعد الظهيرة إذ سلكت ممر ذلك المنزل الحجري الرائع الذي اعتادت زيارة مايا فيه، كان شك كبير يداخلها بالفعل.

عندما هاتفت رايموند، لم تكن متأكِّدة من أنه سيدعوها إلى المنزل. ولم تكن متأكدة أصلًا من أنها ترغب في الذهاب إلى هناك. فلم يكن لديها أي فكرة عن مدى الترحاب الذي ستُقابَل به. ولكن رايموند فتح لها الباب قبل أن يتسنَّى لها أن تدق الجرس، واحتضنها محيطًا بكتفيها وقبَّلها مرتين (بالتأكيد لم يكن معتادًا على فعل ذلك) وقَدَّم إليها زوجته، آن. قال إنه أخبرها عن الصداقة العظيمة التي جمعت بينهم، هو ومايا وجورجيا وبن. صداقة عظيمة.

ماتت مايا، بينما تطلَّق جورجيا وبن منذ وقت طويل.

ذهبوا للجلوس فيما كانت مايا تدعوه — بشيء من الحبور الفاتر — «غرفة العائلة».

(في إحدى الأمسيات، كان رايموند قد أخبر بِن وجورجيا أن مايا لن تُرزق بأي أطفال على ما يبدو. وقال: «إننا نبذل أقصى ما في وسعنا … نستخدم الوسائد وكل شيء. ولكن لم يحالفنا الحظ.»

قال بن في صخب: «اسمع يا رجل، لا يفعل المرء ذلك باستخدام الوسائد.» كانوا جميعًا ثمِلين قليلًا. وأردف: «كنت إخالك خبيرًا بالعملية بأسرها، لكن أرى أننا يجب أن نتحدَّث قليلًا.»

كان رايموند طبيب توليد وأمراض نساء.

كانت جورجيا آنذاك تعرف كل شيء عن عملية الإجهاض التي أجرتها في سياتل، والتي أَعَدَّ لها حبيب مايا، هارفي. كان هارفي طبيبًا أيضًا، جرَّاحًا. كانت تعلم بأمر الشقة الكئيبة في المبنى المتهالك، والمرأة العجوز سيئة الطباع التي كانت تحيك سترة، والطبيب الذي وصل مرتديًا قميصًا، وكان يحمل كيسًا ورقيًّا بنيَّ اللون تملَّك مايا ظنٌّ هستيريٌّ بأنه يحوي أدوات الجراحة بلا شك. وهو في حقيقة الأمر كان يحوي غداءه: شطيرة من البيض والبصل. وقد ظلَّت رائحة تلك الشطيرة في أنف مايا طيلة العملية التي أجراها لها الطبيب وتلك السيدة الشبيهة بمدام ديفارج (من رواية «قصة مدينتين»).

ابتسمت مايا وجورجيا إحداهما للأخرى ابتسامة مقتضَبَة بينما واصل زوجاهما حديثهما المَرِح.)

تحوَّل شعر رايموند البني الأجعد إلى زغب فضي، وظهرت التجاعيد في وجهه. ولكنه لم يصبه خَطْب جلل، فلم ينتفخ أسفل عينيه ولا ظهر له لُغْد ولا احتقان من جراء تناول الكحول ولا لاحت عليه انحناءة انهزامية ساخرة. كان ما زال نحيفًا، منتصب القامة، مستقيم الكتفين، طيب الرائحة، فائق النظافة، ثيابه غالية وملائمة. من شأنه أن يصير رجلًا عجوزًا هشًّا، أنيقًا، ذا ابتسامة صبيانية لطيفة. قالت مايا ذات مرة في كآبة إنهما يتميَّزان ببريق خاص. كانت تتحدث عن رايموند وبن. وقالت: ربما يجدر بنا أن ننقعهما في الخل.

تغيَّرت الغرفة أكثر مما تغير رايموند. فحلَّت أريكة جلدية عاجية اللون محل أريكة مايا المكسوة بالقماش المزخرف، وبالطبع كل الأشياء الأخرى المبعثرة مثلما في وكر أفيون — الوسائد وحشائش البمباس التي كانت لمايا، والفيل الرائع متعدد الألوان ذو المرايا الصغيرة المخيطة فيه — كل ذلك اختفى. ساد الغرفة اللونان البيج والعاجي، وكانت ناعمة ومريحة مثلها مثل الزوجة الشقراء الجديدة، التي جلست على مسنَد مقعد رايموند وأدرات ذراعه حولها بحنكة، مريحةً يده على فخذها. كانت ترتدي سروالًا أبيض يبدو ناعم الملمس وسترة مطرَّزة لونها أصفر باهت مبيَضٌّ، وازدانت بحُلي من الذهب. ربَّت رايموند عليها تربيتتين قويتين متحدِّيتين.

وسألها: «ألست ذاهبة إلى مكان ما؟ … للتسوق مثلًا؟»

فردت عليه زوجته قائلة: «فهمت … تريدان استعادة الأيام الخالية.» ثم ابتسمت لجورجيا قائلة: «لا بأس … أنا فعلًا بحاجة إلى التسوق.»

عندما ذهبت، صبَّ رايموند شرابًا له ولجورجيا. ثم قال: «آن دائمة القلق من تناول الخمر … وترفض أن تضع ملحًا على المائدة. ورمت ستائر المنزل كلها لكي تتخلص من رائحة السجائر التي كانت مايا تدخِّنها. أعلم ما قد يدور برأسك، وهو أن صديقنا رايموند قد حصل على شقراء لعوب. لكنها في حقيقة الأمر فتاة جادة جدًّا ومتزنة جدًّا. كانت في مكتبي — لعلمك — قبل وفاة مايا بفترة. أعني أنها كانت «تعمل» في مكتبي. لا أقصد ما قد يبدو الأمر عليه! وهي ليست صغيرة مثلما تبدو، أيضًا. فعمرها ستة وثلاثون عامًا.»

كانت جورجيا تخال زوجته في الأربعين من عمرها. كانت قد سئمت الزيارة بالفعل، ولكن كان عليها أن تتحدث عن نفسها. فقالت إنها ليست متزوجة، وإنها تعمل، وتمتلك بالاشتراك مع صديقها الذي تعيش معه مزرعة ودار نشر، وأن عملهما في وضع غير آمن، لا يدرُّ ربحًا كثيرًا، ولكنه ممتع، وقالت: أجل، إنه صديق لا صديقة.

وقال رايموند: «لم يعد لديَّ أي معلومات عن بِن لسبب أو لآخر … كان آخر ما سمعته عنه أنه يعيش في قارب.»

فقالت جورجيا: «إنه يبحر برفقة زوجته حول الساحل الغربي كل صيف … وفي الشتاء يذهبان إلى هاواي. فالقوات البحرية تسمح بالتقاعد المبكر.»

قال رايموند: «عظيم.»

عند رؤية رايموند خطر ببال جورجيا أنها لا فكرة لديها على الإطلاق عن شكل بن الآن. هل غزا الشيب رأسه؟ وهل صار ممتلئًا قليلًا في منطقة الخصر؟ فقد أصابها كلا الأمرين؛ إذ تحوَّلت إلى امرأة مكتنزة ذات بشرة خمرية صحية، يعلو رأسها تاج من الشعر الأبيض، وترتدي ملابس فضفاضة، ألوانها زاهية إلى حدٍّ ما. عندما تفكِّر في بن، لا تزال تتخيله ضابطًا بحريًّا وسيمًا، له مظهر ضابط البحرية المثالي؛ متحمس وجاد ومتواضع. كانت تلوح عليه سمات شخص يتوق — في شجاعة — إلى تلقِّي الأوامر. لا بد أن أبناءها لا يزالون يحتفظون ببعض صوره، فكلاهما يريانه، ويقضيان العطلات على متن قاربه. ربما كانا يخفيان الصور عندما تأتي لزيارتهما. ربما خطر لهما أن يحميا صوره تلك من شخص آذاه.

في الطريق إلى منزل مايا — منزل رايموند — مرَّت جورجيا بمنزل آخر، كان يمكنها تفاديه بيسر. كان ذاك منزلًا في أوك باي، وفي الواقع كان عليها أن تخرج عن مسارها حتى تراه.

كان ذاك هو المنزل الذي قرأت عنه هي وبن في الإعلانات العقارية في صحيفة «فيكتوريا كولونيست». كان عبارة عن كوخ فسيح يقع تحت أشجار بلوط بديعة. كان المنزل به أشجار قطلب وشجيرات قرانيا، ومقاعد بجوار النوافذ، ومدفأة، ونوافذ ذات ألواح زجاجية متقاطعة على شكل المُعيَّن، وله شخصية. وقفت جورجيا خارج البوابة وشعرت بألم متوقَّع تمامًا. فهنا، كان بن يجز الحشائش، وهنا كان الولدان يصنعان الممرات والمخابئ في الشجيرات، ويشيِّدان المقابر للطيور والثعابين التي قتلتها القطة السوداء، دومينو. كان بإمكانها أن تتذكر المنزل من الداخل جيدًا جدًّا: الأرضيات المصنوعة من البلوط التي بذلت هي وبن مجهودًا كبيرًا في صقلها، والجدران التي طلياها، والغرفة التي استلقت فيها في بؤس تحت تأثير المخدِّر بعد اقتلاع ضرس العقل. هنا كان بن يقرأ لها بصوت عالٍ، من المجموعة القصصية «ناس من دَبلِن». لم تستطع تذكر عنوان القصة. كانت تدور حول شاب خجول ذي موهبة شعرية، له زوجة جميلة لئيمة. وعندما فرغ بِن من قراءة القصة، قال: ياللفتى المسكين!

كان بن يحب الأدب القصصي، وهو ما كان أمرًا يثير الدهشة بالنسبة إلى رجل يحب الرياضة أيضًا، ورجل كان محبوبًا في المدرسة.

كان ينبغي عليها البقاء بعيدًا عن هذا الحي. فكل مكان تسير فيه هنا — تحت أشجار البندق بأوراقها الذهبية المنبسطة، وأشجار القطلب ذات الفروع الحمراء، وأشجار السنديان الغرياني العالية، التي تبثُّ في الذهن قصصًا خيالية وغابات أوروبية وحطابين وساحرات — في كل مكان كانت خطواتها تؤنبها، سائلةً إياها: «لمَ؟» «لمَ؟» «لمَ؟» كان هذا التأنيب هو ما توقعته بالضبط — وما خاطرت بتعريض نفسها له — وكان ثمة شيء مبتَذَل في ذلك، شي مبتَذَل وغير مجدٍ. كانت تعلم ذلك. إلا أن قدميها السخيفتين راحتا تنتقدانها بقسوة قائلتين: «لمَ؟» «لمَ؟» «لمَ؟» «خطأ وهَدْر.» «خطأ وهدر.» «خطأ وهدر.»

أراد رايموند أن تتطلَّع جورجيا إلى الحديقة، التي قال إنها زُرِعَت خصيصى من أجل مايا في الشهور الأخيرة من حياتها. وضعت مايا تصميمها، ثم كانت تستلقي على الأريكة المكسوة بالقماش المزخرف (مُضرِمةً النيران فيها مرتين — حسب قول رايموند — عند إغفائها والسيجارة مشتعلة في يدها)، ومن عليها أمكنها مشاهدة الحديقة تتشكَّل شيئًا فشيئًا.

رأت جورجيا بركة ماء، بركة تحُفُّها الأحجار ذات جزيرة في المنتصف. وكان ثمة رأس وحش حجري شرير المظهر — عنزة جبلية ربما؟ — منتصبًا على تلك الجزيرة والماء يتدفق منه. وكان يحيط بالبركة دُغل من أقحوان شاستا، وأعشاب القسموس الوردية والأرجوانية، وأشجار صنوبر وسرو قزمة، وشجرة أخرى صغيرة ذات أوراق حمراء لامعة. وعندما دققت النظر أكثر، وجدت على الجزيرة جدرانًا صخريةً تكسوها الطحالب: أطلال برج صغير.

قال رايموند: «لقد استعانت بشاب للقيام بهذا العمل … كانت تستلقي هناك وتراقبه. استغرق الأمر الصيف كله. فما كانت تفعل شيئًا طيلة اليوم سوى الاستلقاء ومراقبته وهو يصنع حديقتها. ثم كان يدخل المنزل ويتناولان الشاي بينما يتحدثان عن الحديقة. ولعلمك لم تكتف مايا بتصميم تلك الحديقة وإنما تخيلتها. كانت تخبره بتصوراتها حيالها، ويتولى هو التنفيذ. أعني أنها لم تكن مجرد حديقة بالنسبة إليهما. كان يُفتَرَض أن تلك البركة هي بحيرة في بلد أطلقوا عليه اسمًا ما، وأحاطت بالبحيرة غابات وأراضٍ سكنتها قبائل وفصائل مختلفة. هل تستطيعين تصور الأمر؟»

فردت جورجيا قائلة: «نعم.»

«كانت مايا تمتلك خيالًا خصبًا. كان من الممكن أن تؤلِّف قصصًا خيالية أو خيالًا علميًّا. على أي حال، لقد كانت إنسانة مبدعة بلا مراء. ولكن لم يكن من الممكن إقناعها بتوظيف إبداعها جديًّا. كان يُفتَرَض أن تمثل تلك العنزة إحدى آلهة ذاك البلد، وكانت الجزيرة مثل مكان مقدس كان يضم معبدًا من قبل. تستطيعين أن تريْ الأطلال. فقد ابتكرا ديانة لذاك البلد. آه، وكذلك أدبًا وأشعارًا وأساطير وتاريخ؛ كل شيء. وألَّفا أغنية كانت الملكة تغنِّيها. طبعًا كان من المفترض أن تكون الأغنية مترجمة، عن تلك اللغة. وقد نسجوا قصة لذلك أيضًا. كان ثمة ملكة محبوسة في تلك الأطلال، ذلك المعبد. لا أتذكر السبب. كانت سيُضَحَّى بها على الأرجح، باقتلاع قلبها من صدرها أو شيء مريع من هذا القبيل. كان الأمر برمته معقدًا وميلودراميًّا. ولكن تخيَّلي مبلغ الجهد الذي بُذل فيه، والإبداع. كان ذاك الشاب يمتهن الفن. أعتقد أنه كان يظن نفسه فنانًا. لا أعلم كيف توصَّلَت إليه، في حقيقة الأمر. كان لديها معارف. إخاله كان يتعيَّش من عمل الأشياء من ذلك القبيل. وقد أبلى بلاءً حسنًا. مدَّ الأنابيب وكل شيء. كان يحضر كل يوم، وكل يوم كان يدخل المنزل عندما ينتهي من عمله ليتناول الشاي ويتحدث معها. حسنًا، في رأيي، لم يتناولا الشاي فقط. حسب معلوماتي، لم يكونا يتناولان الشاي فحسب. كان يجلب مادة صغيرة، ثم يدخنان معًا قليلًا. قلت لمايا إنه حريٌّ بها أن تكتب عن ذلك كله.

ولكن أتعلَمين، بمجرد ما فرغ من عمله، مضى في سبيله. مضى. لا أعلم، ربما حصل على وظيفة أخرى. لم يبدُ لي أنه يحق لي أن أسأل. إلا أنني كنت أظن أنه حتى إنْ كان قد حصل على وظيفة فكان بإمكانه أن يعودها من حين لآخر. أو إنْ كان قد ذهب في رحلة إلى مكان ما، كان يستطيع أن يراسلها. ظننت أنه كان بإمكانه ذلك. كنت أتوقع منه ذلك على الأقل. لم يكن الأمر ليضيره شيئًا، من وجهة نظري. لكان لطفًا منه أن يجعلها تظن أن الأمر لم يكن مجرد … مجرد صداقة مستأجرة طوال ذلك الوقت.»

ثم ابتسم رايموند، ابتسامة لم يستطع كبحها، أو ربما لا يدري بها.

وقال: «لا بد أنها توصلت إلى تلك النتيجة … بعد أن قضيا كل هذا الوقت اللطيف وتصورا الأشياء معًا وحثَّ كل واحد منهما الآخر. لا بد أنها أصيبت بخيبة أمل. هذا أكيد. حتى في تلك المرحلة، كان من شأن أمر كهذا أن يعني لها الكثير. أنا وأنت نعرف ذلك يا جورجيا. كان الأمر سيصنع فارقًا. كان بإمكانه أن يعاملها بطريقة أكثر عطفًا، ولم يكن هذا ليدوم لفترة طويلة جدًّا.»

•••

ماتت مايا السنة الماضية — في الخريف — لكن جورجيا لم تعرف بالأمر حتى عيد الميلاد. عرفت الأخبار من خطاب هيلدا في عيد الميلاد. هيلدا — التي كانت متزوجة من هارفي — متزوِّجة الآن من طبيب آخر، وتعيش في مدينة داخلية بكولومبيا البريطانية. قبل سنوات قليلة تقابلت هي وجورجيا — كلاهما في زيارة — مصادفةً في أحد شوراع فانكوفر، وظلتا تتبادلان الخطابات من حين لآخر منذئذ.

كتبت هيلدا قائلةً: «لا شك أنك كنت تعرفين مايا أكثر مما كنت أعرفها بكثير … لكني دُهِشت من كثرة تفكيري فيها. كنت أفكر فينا جميعًا — حقيقةً — كيف كنا، منذ خمسة عشر عامًا أو نحو ذلك، وأعتقد أننا كنا نشبه إلى حدٍّ ما الأطفال في ضعفهم عند تعاطيهم لعقارات الهلوسة وما شابه ذلك، وهو ما كان من المفترض أن يخلِّف فيهم ندوبًا مدى الحياة. وألا نعاني جميعًا من الندوب، فجميعنا دمرنا زيجاتنا ومضينا بحثًا عن المغامرة؟ طبعًا لم تدمر مايا زواجها، فقد ظلت هي دونًا عن الجميع حيث كانت؛ لذا أعتقد أن كلامي ليس فيه كثير من المنطق. ولكن مايا بدت أكثرنا ضعفًا بالنسبة إليَّ، فكم كانت موهوبة وهشَّة. أتذكر كم كان يصعُب عليَّ النظر إلى ذلك العِرق في صدغها حيث كانت تفرق شعرها.»

فكَّرت جورجيا كم كان ذلك خطابًا غريبًا كتبته هيلدا. تَذَكَّرَت ثوب هيلدا الفاتح الغالي ذا الياقة والمنقوش بالمربعات، وشعرها الأشقر القصير الأنيق، وحُسن خُلُقها. هل كانت هيلدا ترى حقًّا أنها دمرت زواجها وذهبت تبحث عن المغامرة تحت تأثير المخدرات وموسيقى الروك والأزياء المخالفة للمألوف؟ كان انطباع جورجيا هو أن هيلدا كانت قد تركت هارفي، بمجرد اكتشافها صنائعه — أو بعض صنائعه — ثم ذهبت إلى مدينة داخلية حيث تصرَّفت بحكمة فعادت إلى مهنتها القديمة في التمريض، وبعد برهة تزوَّجت طبيبًا آخر، موضع ثقة أكثر فيما يُفترض. لم تفكر مايا وجورجيا قط في هيلدا كامرأة مثلهما. لم تكن هيلدا ومايا مقربَّتين، وكان ذلك لسبب قوي. إلا أن هيلدا ظلت تتتبَّع أخبارها، وعرفت بموت مايا، وكتبت هذه الكلمات السخية. لولا هيلدا، ما كانت جورجيا عرفت. كانت ستظل تظن أنها ربما تكتب إلى مايا ذات يوم، وربما أمكن رأب الصدع الذي أصاب صداقتهما يومًا ما.

•••

عندما ذهب بن وجورجيا إلى منزل مايا للمرة الأولى، كان هارفي وهيلدا هناك. كانت مايا قد أعدت حفلة عشاء لستتهم فقط. كانت جورجيا وبن قد انتقلا مؤخرًا إلى فيكتوريا، فهاتف بن رايموند، الذي كان صديقًا له في المدرسة. لم يكن بن قد التقى مايا من قبل قط، لكنه أخبر جورجيا أنه سمع أنها حاذقة جدًّا، وغريبة الطباع. كان الناس يقولون إنها غريبة الأطوار. لكنها كانت ثرية — ورثت ثروة — لذا استطاعت الإفلات بغرابة طبعها.

أبدت جورجيا امتعاضها عند سماعها نبأ ثراء مايا، ومرة أخرى عند رؤية المنزل؛ المنزل الحجري المهيب ذي المروج المدرَّجة والشجيرات المشذَّبة والممر الدائري.

كانت جورجيا وبن قد نشآ في المدينة الصغيرة نفسها في أونتاريو، في كنف عائلتين متشابهتين. وكان من حسن حظ بن أن أُرسِل إلى مدرسة خاصة جيدة؛ وذلك بتمويل عمة كبرى. حتى في فترة مراهقة جورجيا — عندما كانت تفتخر بأنها فتاة بن وتفتخر أكثر مما تحب أن يُعرَف بدعوتها إلى حفلات الرقص في تلك المدرسة — كانت تزدري الفتيات اللاتي تقابلهن هناك. كانت ترى أن الفتيات الثريات مدللات وحمقاوات. كانت تنعتهم بالبلاهة. وكانت ترى نفسها فتاةً — ثم امرأةً — لم تَرُق لها الفتيات والنساء الأخريات كثيرًا. كانت تُطلق على زوجات ضباط البحرية الأخريات «سيدات البحرية». كان بن يتسلَّى أحيانًا بآرائها في الأشخاص وفي أحيان أخرى كان يسأل إذا ما كان لا بد من انتقادها الآخرين هكذا.

قال إنه يخالجه شعور بأنها ستحبُّ مايا. لم يجعلها ذلك تميل إلى مايا. ولكن اتضح أن بن كان على صواب. كان سعيدًا جدًّا آنذاك، لتقديمه شخصًا مثل مايا إلى جورجيا، وإيجاده زوجين يستطيع هو وجورجيا التواصل معهما كأصدقاء عن طيب خاطر. وقال: «من المفيد أن يكون لدينا أصدقاء من خارج البحرية … زوجة تقضين معها بعض الوقت، لا تكون تقليدية. لا يمكنك أن تقولي إن مايا تقليدية.»

وفعلًا لم يكن بإمكان جورجيا أن تقول ذلك. كان المنزل مثلما توقعته إلى حد ما — سرعان ما عرفت أن مايا كانت تُطلق عليه «قلعة الحيِّ الأليفة» — لكن مايا أصابتها بالدهشة. فقد فتحت الباب بنفسها، وكانت حافية القدمين، ترتدي رداءً طويلًا لا شكل له من قماش بني خشن بدا كالخيش. كان شعرها طويلًا مفرودًا، مفروقًا عاليًا عند إحد الصدغين. كان شعرها يكاد يكون بنفس اللون البني الباهت مثل الرداء. لم تكن تضع أحمر شفاه، وكانت بشرتها خشنة وشاحبة، عليها آثار مثل آثار طائر خفيفة في تجويفيْ وجنتيها. كان شحوبها ذاك والخشونة البادية على مظهرها تأكيدًا قويًّا على سموِّها. كم بدت لامبالية — متغطرسة ولامبالية — بقدميها الحافيتين، وأظافر قدميها غير المطلية، وردائها الغريب. كان الشيء الوحيد الذي فعلته بوجهها هو أنها طلت حاجبيها باللون الأزرق، بل انتزعت شعر حاجبيها كله — في حقيقة الأمر— وطلت بشرتها موضعهما باللون الأزرق. ولم يكن خطًّا مقوسًا، بل مجرد مسحة صغيرة من اللون الأزرق فوق كل عين، مثل عِرق متورِّم.

وجدت جورجيا — التي كان شعرها الداكن ممشطًا، وعيناها مرسومتين حسب النمط السائد تلك الأيام، ونهداها بارزين بأناقة — كل ذلك مربكًا، ورائعًا.

كان هارفي هو الشخص الآخر هناك الذي وجدت جورجيا مظهره مثيرًا للإعجاب. فقد كان رجلًا قصير القامة عريض المنكبين، بطنه بارز قليلًا، وعيناه زرقاوان منتفختان، وارتسم على وجهه تعبير مشاكس. كان من لانكشير. كان شعره الرمادي خفيفًا أعلى رأسه، لكنه طويل على الجانبين، وممشَّطًا فوق أذنيه بطريقة جعلته يبدو أقرب إلى فنان من جراح. وفيما بعد قالت جورجيا لبن: «لا يبدو لي نظيفًا بما يكفي ليكون جراحًا. ألا تظن أنه يبدو أشبه بالمثَّالين؟ بأظافره المتَّسِخة بالرمال؟ أظنه يسيء معاملة النساء.» كانت تتذكر كيف كان ينظر إلى ثدييها. وقالت: «إنه ليس مثل رايموند … فرايموند يعشق مايا. وهو فائق النظافة.»

(بعد بضعة أسابيع قالت مايا لجورجيا — بدقة متناهية — إن رايموند يمتلك مظهرًا تولع به الأمهات جميعًا.)

لم يكن الطعام الذي قدمته مايا أفضل مما قد يتوقعه المرء في عشاء عائلي، وكانت الشوكات الفضية الثقيلة قد فقدت لمعانها بعض الشيء. ولكن رايموند صبَّ خمرًا طيبًا كان يحب الحديث عنه. ولكنه لم يفلح في مقاطعة هارفي، الذي راح يحكي قصصًا مخزية تنمُّ عن الطيش تدور أحداثها في المستشفى، وتحدث ببذاءة خالية من المشاعر عن مجامعة الموتى والاستمناء. ولاحقًا، أُعِدَّت القهوة وقُدِّمت — في غرفة المعيشة — ببعض الرسمية. جذب رايموند انتباه الجميع عند طحنه حبات القهوة في أسطوانة تركية. كان يتحدث عن أهمية الزيوت العطرية. فتطلَّع إليه هارفي — الذي قوطع أثناء رواية إحدى طرائفه — وقد علت شفتيه ابتسامة قاسية، بينما تطلَّعت هيلدا إلى رايموند بانتباه مهذَّب متأنٍّ. وكانت مايا هي من منحت زوجها تشجيعًا كبيرًا؛ إذ ظلت إلى جواره كأنها مساعدته، وقدمت إليه العون في وداعة ورشاقة. قدَّمت القهوة في أقداح تركية صغيرة جميلة، كانت قد اشترتها هي ورايموند من متجر في سان فرانسيسكو، مع مطحنة القهوة. واستمعت في أناة إلى حديث رايموند عن المتجر، كما لو كانت تتذكر متعًا أخرى حدثت أثناء العطلة.

كان هارفي وهيلدا هما أول من غادرا. تعلَّقت مايا بكتف رايموند، مودعةً إياهما. ولكنها ابتعدت عنه بمجرد ذهابهما، منحِّية كياستها الناعمة وسلوك الزوجة جانبًا. تمدَّدت بعفوية في وضع غير مريح على الأريكة وقالت: «لا تذهبا الآن. لا أحد يجد فرصة للحديث في وجود هارفي. ليس أمام المرء سوى أن يتحدث بعد رحيله.»

فهمت جورجيا الأمر. فقد رأت أن مايا كانت تأمل في ألَّا تُترك وحدها مع الزوج الذي أثارته — لسبب أو لآخر — باهتمامها الاستعراضي به. رأت أن مايا كان يغلب عليها طابع الحزن، وكان يملؤها توجُّس مألوف عند نهاية حفل العشاء. أما رايموند فكان سعيدًا. جلس في نهاية الأريكة، رافعًا قدميْ مايا المتثاقلتين ليجلس. وفرك إحدى قدميها بين كفَّيه.

ثم قال رايموند: «يا لها من همجية … هذه امرأة ترفض أن ترتدي الأحذية!»

قالت مايا قافزةً من مكانها: «براندي! … كنت أعلم أن ثمة شيئًا آخر يفعله الناس في حفلات العشاء. إنهم يحتسون البراندي!»

قالت جورجيا لبِنْ، بمجرد أن فرغت من تعليقها على عشق رايموند لمايا ونظافته البالغة: «إنه يحبها لكنها لا تحبه.» لكن بن — الذي ربما لم يكن ينصت إليها جيدًا — ظنَّ أنها تتحدث عن هارفي وهيلدا.

وأضافت: «لا، لا، لا. أظن الأمر عكس ذلك تمامًا في هذه الحالة. من الصعوبة بمكان أن يعرف المرء ذلك مع الإنجليز. كانت مايا تمثِّل أمامهما. وأظن أن لديَّ فكرة عن السبب.»

وقال بن: «لديك فكرة عن كل شيء.»

•••

صارت جورجيا ومايا صديقتين على صعيدين؛ على الصعيد الأول كانتا صديقتين بصفتهما زوجتين، وعلى الصعيد الثاني كانتا صديقتين بشخصيهما. فعلى الصعيد الأول: كانتا تتناولان العشاء كلٌّ في منزل الأخرى. وكانتا تستمعان إلى حديث زوجيهما عن أيام المدرسة، وعن النكات والشجارات، والمؤامرات والكوارث، والمستقوين والمستضعَفين، وعن زملائهم أو أساتذتهم المرعِبين أو المثيرين للشفقة، وعن المكافآت والمواقف المخزية. سألتهما مايا عما إذا كانا متأكدين من أنهما لم يقرآ كل ذلك في كتاب. وقالت: «تبدو حكاياتكم كالقصص تمامًا … قصص يرويها صبية عن المدرسة.»

فقالا إن تجاربهما هي كل ما تدور الكتب حوله. وعندما كانا يكتفيان من الحديث عن المدرسة، كانا ينتقلان إلى الحديث عن الأفلام والسياسة والشخصيات العامة والأماكن التي كانا قد سافرا إليها أو كانا يرغبان في السفر إليها. وحينها كان يصير باستطاعة مايا وجورجيا أن تنضمَّا إليها في الحديث. لم يكن بن ورايموند يؤمنان بإقصاء النساء من الحديث. فقد كانا يؤمنان بأن النساء ذكاؤهن كالرجال تمامًا.

على الصعيد الثاني، كانت جورجيا ومايا تتحادثان في مطبخيهما، وهما تتناولان القهوة، أو كانتا تتناولان الغذاء في وسط المدينة. كان ثمة مكانان — مكانان فقط — تحب مايا تناول الغذاء فيهما. كان أحدهما حانة «موجولز كورت»؛ وهي حانة فخمة سيئة السمعة، في فندق كبير كئيب من فنادق السكك الحديدية. كان بالحانة ستائر مصنوعة من مخمل أكلته العثة بلون القرع العسلي، ونبات السرخس المجفف، وكان النُّدل يعتمرون العمائم. كانت مايا دائمًا ما ترتدي ثيابًا خاصة عند الذهاب إلى هناك، فترتدي أثوابًا حريرية متدلِّية وقفازات بيضاء غير نظيفة تمامًا وقبعات عجيبة كانت تجدها في متاجر البضائع المستعمَلة. كانت تتظاهر بأنها أرملة أدت الخدمة العامة مع زوجها في مواقع خارجية عدة من الإمبراطورية. كانت تتحدث بنبرات رخيمة إلى النُّدل الشباب متجهِّمي الوجه، سائلةً أحدهم: «لطفًا، هل يمكنك أن …» ثم تخبرهم أنهم كانوا في غاية اللطف.

اخترعت هي وجورجيا تاريخ أرملة الإمبراطورية هذه، وأُضيفَت جورجيا إلى القصة باعتبارها مرافقة أجيرة نكِدَة، ذات نزعة اشتراكية سرية، وتُدعى الآنسة إيمي جوكس. أطلقتا على الأرملة اسم السيدة أليجرا فورْبس بِليا. وأطلقتا على زوجها اسم نايجل فوربس بليا، وأحيانًا سير نايجل. وقد قضيتا معظم فترة ما بعد الظهيرة في إحدى الأيام الممطرة في موجولز كورت تخترعان مآسي شهر العسل الذي أمضاه آل فوربس بليا، في فندق رطب في ويلز.

كان المكان الآخر الذي يروق لمايا مطعَّمًا على طراز الهيبيز في شارع بلانشارد؛ حيث يجلس المرء على وسائد مخملية قذرة مربوطة إلى أعلى جذوع أشجار مقطوعة، ويأكل أرزًا بنيًّا مع خضراوات لزجة، ويشرب عصير تفاح مخمَّر الغائم. (في موجولز كورت، لم تشرب مايا وجورجيا سوى الجين.) عندما كانت تتناولان الغذاء في مطعم الهيبيز، كانتا ترتديان فساتين طويلة رخيصة الثمن مصنوعة من قطن هندي جميل وتتظاهران بأنهما لاجئتان من أحد الكميونات؛ حيث كانتا رفيقتين أو خليلتين لدى مغنٍّ شعبي يُدعى بيل بونز. ألَّفتا العديد من الأغاني لبيل بونز، كلها أغانٍ خفيفة ورقيقة وبريئة كانت تتعارض أيما تعارض مع أساليبه الجشعة الماجنة. فقد كان لدى بيل بونز عادات شخصية غريبة جدًّا.

وعندما لم تكونا تلعبان مثل هذه الألعاب، كانتا تتحدَّثان باندفاع عن حياتيهما، وطفولتيهما، ومشاكلهما، وزوجيهما.

قالت مايا: «كان ذلك مكانًا رهيبًا … تلك المدرسة.» ووافقتها جورجيا الرأي.

ثم أردفت مايا: «كانا صبيين فقيرين في مدرسة للأطفال الأثرياء … لذا كان عليهما أن يبذلا جهدًا كبيرًا. كان عليهما أن يكونا مصدر فخر لعائلتيهما.»

لم تكن جورجيا تظن أن عائلة بن فقيرة، لكنها كانت تعرف أن ثمة طرقًا مختلفة للنظر إلى تلك الأمور.

قالت مايا إنهما متى كان لديهما أشخاص مدعوون على العشاء أو لقضاء الأمسية، كان رايموند يتناول قَبلًا جميع التسجيلات الموسيقية التي يراها ملائمة ويضعها في ترتيب مناسب. وأضافت: «إخاله سيناول الضيوف موضوعات الحديث على الباب يومًا ما.»

كشفت جورجيا أن بن يكتب خطابًا أسبوعيًّا إلى العمة الكبرى التي أنفقت على دراسته.

وسألتها مايا: «هل يكتب خطابات لطيفةً؟»

«نعم، قطعًا. لطيفة جدًّا.»

نظرتا كل إلى الأخرى في كآبة ثم ضحكتا. وبعدها صرَّحت كل منهما — بل أقرَّت — بما يثقل كاهلها. كان ذلك براءة هذين الزوجين، براءتهما الشديدة المهذَّبة الحازمة القانعة. هذا شيء مُضجر وغير مشجع في نهاية المطاف، ويجعل الحميمية مسألة صعبة.

سألت جورجيا: «ولكن هل تشعرين بالذنب لحديثك على هذا النحو؟»

«بالطبع.» قالتها مايا مبتسمة وكاشفة عن أسنانها الرائعة الكبيرة؛ نتاج العناية المكلِّفة بأسنانها قبل أن تتولى هي مسئولية العناية بمظهرها. ثم أضافت: «لدي سبب آخر للشعور بالذنب … لكنني لا أعرف ما إذا كنت أشعر بالذنب فعلًا أم لا. أشعر ولا أشعر.»

فقالت جورجيا، التي لم تكن حتى تلك اللحظة تعرف عن يقين: «أعلم ذلك.»

قالت لها مايا: «أنت ذكية جدًّا … أم ترى هل تصرفاتي يسهل قراءتها. ما رأيك فيه؟»

قالت جورجيا في رزانة: «متعِب جدًّا.» كانت مسرورة بهذه الإجابة، التي لم تُظهر كم كانت تشعر بالإطراء من جراء الكشف عن هذا السر، أو كم كانت تجد ذلك الحوار شيِّقًا.

ردَّت مايا قائلة: «يبدو أنكِ تَعِين ما تقولين.» وحكت لها قصة الإجهاض. وأردفت: «سأنفصل عنه … قريبًا جدًّا.»

ولكنها ظلت تلتقي هارفي. كانت تروي — خلال الغذاء — بعض الحقائق المخيِّبة للآمال عنه، ثم تقول: إن عليها أن تذهب، لتلقاه في نُزل على طريق جورج، أو في الكوخ الذي كان يملكه على بحيرة بروسبِكت.

قالت: «لا بد أن أغتسل جيدًا.»

كانت قد تركت رايموند مرة، ليس من أجل هارفي. كانت قد هربت مع عازف ما، أو إليه. عازف بيانو — اسكندنافي، يبدو ناعسًا لكنه سيئ الطباع — عرفته أيام حياتها كسيِّدة مجتمع تحضر حفلات الأوركسترا السيمفونية الخيرية. راحت تتنقَّل معه من مكان إلى آخر لمدة خمسة أسابيع، حتى هجرها في أحد الفنادق في سينسيناتي. وبعدها أصيبت بآلام مبرحة في صدرها، تتلاءم مع قلب كسير. لم تكن تعاني في حقيقة الأمر إلا من نوبة ألم في المرارة. وأُرسل في طلب رايموند، وجاء وأخرجها من المستشفى. ثم قضيا عطلة قصيرة في المكسيك قبل أن يعودا إلى المنزل.

قالت مايا: «كانت تلك هي النهاية بالنسبة إليَّ … كان ذلك هو الحب الحقيقي اليائس. لن يأتيني ثانيةً أبدًا.»

ماذا كان هارفي إذن؟

«مجرد مران.»

•••

حصلت جورجيا على وظيفة بدوام جزئي في متجر لبيع الكتب، فكانت تعمل عدة أمسيات في الأسبوع. وذهب بن في رحلته البحرية السنوية. كان ذاك الصيف حارًّا ومشمسًا أكثر من المعتاد بالنسبة إلى الساحل الغربي. فمشَّطت جورجيا شعرها وتوقفت عن استخدام مستحضرات التجميل واشترت فستانين قصيرين عارييْ الظهر والكتفين. كانت إذ تجلس على مقعدها في مقدمة المتجر كاشفةً عن كتفيها السمراوين العاريتين وساقيها السمراوين القويتين، تبدو مثل فتاة جامعية، حاذقة ولكنها مفعمة بالحيوية والآراء الجريئة. كان الأشخاص الذين يأتون إلى المتجر يروق لهم مظهر الفتاة — المرأة — من نوعية جورجيا. كانوا يحبون الحديث إليها. ومعظمهم كان يأتي بمفرده. لم يكونوا أشخاصًا وحيدين بالضبط، ولكنهم كانوا وحيدين في توقهم إلى شخص يتحدثون إليه عن الكتب. فكانت جورجيا تضع قابس الغلاية خلف المكتب وتصنع أكوابًا من شاي التوت البري. بعض العملاء المحظيين كانوا يجلبون أكوابهم. وكانت مايا تأتي لزيارتها، فتقبع في الخلفية، شاعرة بالاستمتاع والحسد.

قالت لجورجيا: «هل تعرفين ماذا لديك؟ … لديك صالون! آه، لكم أود أن تكون لي وظيفة مثل هذه! أودُّ حتى أن تكون لي وظيفة عادية في متجر عادي؛ حيث يقوم المرء بطيِّ الأشياء وإيجاد أشياء للعملاء وإعطائهم الباقي ويقول لهم: شكرًا جزيلًا، وإن الطقس أكثر برودة في الخارج اليوم، وهل ستمطر؟»

فقالت لها جورجيا: «يمكنك الحصول على وظيفة كهذه.»

«لا، لا يمكنني. لا أتميز بالانضباط اللازم. فقد نشأت نشأةً بالغة السوء. لا أستطيع حتى تدبير شئون المنزل دون السيدة هانا والسيدة تشينج وسادي.»

كان هذا صحيحًا. فقد كان لدى مايا خدم كثر — بالنسبة إلى امرأة عصرية — وإن كانوا يأتون في أوقات مختلفة ويقومون بأعمال منفصلة ولم يكونوا بأي حال من الأحوال مثل خدم البيوت من الطراز القديم. حتى الطعام الذي كان يُقَدَّم في حفلات العشاء — الذي بدا كأنه يظهر لمستها غير المبالية — كان يعده شخص آخر.

عادةً، كانت مايا مشغولة في الأمسيات. وكانت جورجيا مسرورة بذلك؛ لأنها لم تكن ترغب في أن تأتي مايا إلى المتجر، وتسأل عن عناوين كتب عجيبة اخترعتها، جاعلةً عمل جورجيا هناك نوعًا من المزاح. فقد كانت جورجيا تأخذ المتجر على محمل الجد. كانت تكن له إعزازًا حقيقيًّا وسريًّا لم تستطع تفسيره. كان متجرًا طويلًا غير فسيح ذا مدخل ضيق قديم الطراز محصورًا بين نافذتي عرض مائلتان بزاوية. كانت جورجيا تستطيع أن ترى من على المقعد الذي كانت تجلس عليه خلف المكتب انعكاسات الضوء على إحدى النافذتين في النافذة الأخرى. لم يكن ذلك أحد الشوارع المعدَّة لاستقبال السائحين. كان شارعًا عريضًا يمتد من شرق المدينة إلى غربها، يغمره في ساعات المساء الأولى ضوء أصفر باهت، ضوء منعكس من على المباني الشاحبة المكسوة بالجص متوسطة الارتفاع، وواجهات المتاجر البسيطة، والأرصفة شبه الخالية. وجدت جورجيا في هذه البساطة نوعًا من التحرر بعد الشوارع الظَّليلة الملتوية، والفناءات المليئة بالزهور، والنوافذ المحاطَة بأفرع الكروم في أوك باي. هنا يمكن أن تنال الكتب احترامًا لن تنال مثله أبدًا في متجر أكثر تكلُّفًا وجاذبية من متاجر الضواحي. كان المتجر مكوَّنًا من صفوف طويلة مستقيمة من الكتب ذات الأغلفة الورقية. (كانت معظم كتب دار بنجوين لا تزال في أغلفتها البرتقالية في أبيض أو الزرقاء في أبيض، دون أي تصميمات أو صور، فقط عناوين غير مزخرفة، وغير مفسَّرَة.) كان المتجر بمنزلة طريق مستقيم يفضي إلى العطاء والوعود الممكنة. كانت بعض الكتب التي لم تقرأها جورجيا قط — وربما لن تقرأها أبدًا — مهمة بالنسبة إليها؛ نظرًا للجلال أو الغموض المحيط بعناوينها، على غرار: «في مدح الحماقة»، «جذور المصادفة»، «ازدهار نيو إنجلاند»، «الأفكار وسُبل الكمال».

في بعض الأحيان، كانت تنهض وتصف الكتب بنظام أدقَّ. كان الأدب القصصي يُصَفُّ أبجديًّا — حسب اسم المؤلف — وهو ما كان ترتيبًا منطقيًّا وإن كان غير مشوِّق. في المقابل، كانت كتب التاريخ والفلسفة وعلم النفس وكتب العلوم الأخرى تُصفُّ وفق قواعد معقدة وممتعة — تتعلق بالتسلسل الزمني والمحتوى — استوعبتها جورجيا في الحال بل وأضافت إليها. لم تكن في حاجة إلى قراءة جانب كبير من الكتاب لتتعرف على محتواه. كانت تستوعب فكرته بسهولة — على الفور تقريبًا — كأنما من رائحته.

وفي بعض الأحيان، كان المتجر يخلو من الزبائن، فكانت تشعر بهدوء غامر. حتى الكتب لم تكن تعنيها آنذاك. كانت تجلس على المقعد وتراقب الشارع — في تأنٍّ وترقُّب، وحدها، هائمة في حالة من الاتزان الدقيق.

رأت انعكاس مايلز — انعكاسه وهو معتمر خوذة ويوقف دراجته البخارية إلى جانب الرصيف — قبل أن تراه. كانت تعتقد أنها لمحت الصورة الجانبية لوجهه الجَسور، وشحوبه، شعره الأحمر المُغبَّر (خلع خوذته ونفض شعره قبل الدخول إلى المتجر)، ومشيته السريعة المتسكِّعة الوقحة الغازية، حتى عبر الزجاج.

لم يكن غريبًا أنه سرعان ما بدأ في التحدث إليها، شأنه شأن الآخرين. أخبرها أنه غوَّاص، وأنه كان يبحث عن حطام السفن، والطائرات المفقودة، والجثث. وأخبرها أن زوجين ثريين في فيكتوريا استعانا بخدماته إذ كانا يخطِّطان للقيام برحلة بحرية للبحث عن كنز، كانا يُعِدَّان لها آنذاك. كان اسماهما ووجهة البحث سرية. كانت عملية البحث عن الكنوز عملًا مجنونًا، وكان قد قام به من قبل. كان منزله في سياتل، حيث كانت زوجته وابنته الصغيرة.

كل ما قاله لها كان كذبًا على الأرجح.

أراها صورًا في كتب — صُوَرًا فوتوغرافية ورسومات، لكائنات رخوية، وقنديل البحر، وحيوان رجل الحرب البرتغالي، وطحالب السرجس، والسمكة الطائرة الكاريبية، وحزام فينوس. وأخبرها أي الصور دقيق، وأيها مزيف. ثم غادر دون أن يعيرها أي اهتمام، بل إنه انسلَّ من المتجر بينما كانت منشغلة مع أحد العملاء، دون بادرة وداع. إلا أنه جاء في أمسية أخرى، وحكى لها عن رجل غارق محشور في قمرة أحد القوارب، ينظر من النافذة المبللة في اهتمام. من خلال انتباهه لها وتجنبه إياها، ومحاداثاته غير الشخصية عن كثب، ومن خلال نظراته الغافلة المتجولة المتجهِّمة المطوَّلة من عينيه الرماديتين، سرعان ما جعل جورجيا في حالة مضطربة وإن لم تكن مزعِجة. لم يظهر ليلتين متتاليتين، ثم جاء وسألها — فجأة — إذا كانت ترغب في أن يوصلها إلى المنزل على دراجته البخارية.

وافقت جورجيا، فهي لم تكن قد ركبت دراجة بخارية في حياتها. كانت سيارتها في ساحة الانتظار، وكانت تعرف ما هو مقدَّر أن يحدث.

أخبرته أين تعيش. قالت: «على بُعد بضعة مربعات سكنية من الشاطئ.»

«لنذهب إلى الشاطئ إذن. لنذهب ونجلس على جذوع الأشجار.»

كان ذلك هو ما فعلاه. جلسا لفترة على جذوع الأشجار. ثم تضاجعا، على الرغم من أن الشاطئ لم يكن مظلمًا تمامًا أو خاليًا تمامًا، مستترين بأجمات مزهرة لم تكن ملاذًا مثاليًّا. ثم سارت جورجيا إلى المنزل شاعرةً بأنها امرأة أكثر قوة وخفة — غير واقعة في الحب على الإطلاق — وأنها أثيرة لدى الكون.

قالت لجليسة الأطفال — وهي جدة كانت تسكن في الشارع الذي تعيش فيه: «تعطلت سيارتي … وسرت الطريق كله إلى المنزل. كانت التمشية رائعة، رائعة حقًّا. استمتعت بها كثيرًا.»

كان شعرها أشعث، وشفتاها متورِّمتين، وملابسها مليئة بالرمال.

•••

امتلأت حياتها بمثل هذه الأكاذيب. كانت توقف سيارتها إلى جانب شواطئ قصيَّة، في طرق الغابات القريبة جدًّا من المدينة، أو على الطرق الخلفية الملتوية في شبه جزيرة سانيش. كانت توجد خريطة فوق خريطة المدينة التي كانت تضعها في رأسها حتى الآن — بطرقها المؤدية إلى المتاجر والعمل ومنازل الأصدقاء — خريطة أخرى بطرق ملتفة تسلكها في خوف (لا خزي) وإثارة، خريطة فيها مآوي واهية، وأماكن اختباء مؤقَّتة؛ حيث كانت هي ومايلز يتضاجعان، وكان ذلك في كثير من الأحيان على مقربة من حركة المرور أو من جماعة من المتنزِّهين سيرًا على الأقدام أو من رحلة عائلية. وصارت جورجيا نفسها — التي كانت تراقب أطفالها في الميدان، أو تتحسَّس الشكل الرائع لليمونة في يدها في السوبر ماركت — تحوي امرأة أخرى، كانت قبل ساعات قليلة تتأوَّه وتتقلَّب على نباتات السرخس أو على الرمال أو على الأرض العارية، أو — أثناء العواصف المطرية — في سيارتها؛ امرأة طار صوابها بعنف وروعة وانجرفت بعيدًا، ثم لملمت شتات نفسها وعادت إلى بيتها مجددًا. هل كان هذا أمرًا مالوفًا؟ ألقت جورجيا نظرة على النساء الأخريات في السوبر ماركت. كانت تبحث عن علامات؛ كالنظرات الحالمة أو التباهي أو لمسة إثارة في طريقة ملبس امرأة، أو إيقاع خاص في حركاتها.

سألت مايا: كم مكان تقابلتما فيه؟

قالت مايا، «الله أعلم … أَجري استطلاعًا.»

لعل المتاعب بدأت ما إن صرَّح كل منهما بحبه للآخر. لماذا فعلا ذلك، لماذا حددا أيما كان ما شعرا به أو ضخَّماه أو طمساه؟ بدا كما لو كان الأمر مطلوبًا، هذا كان كل ما في الأمر، مثلما قد تكون التغييرات والتنويعات والتطويرات في عملية الجماع نفسها مطلوبة. كان سبيلًا إلى المضي قدمًا. فصرَّحا بحبهما، ولم تستطع جورجيا النوم تلك الليلة. لم تأسف على ما قيل أو تظنُّه كذبًا، وإن كانت تعلم أن الأمر عبثي. فكَّرت في الطريقة التي سعى بها مايلز إلى جعلها تنظر إلى عينيه أثناء المضاجعة — وهو شيء لم يفعله بن بالتأكيد — وفكَّرت كيف كانت عيناه — اللتان كانتا تبدوان برَّاقتين متحدِّيتين في البداية — تصيران غائمتين هادئتين جادتين. كانت تثق به في تلك الحالة — وفي تلك الحالة فقط. فكَّرت أنها يُقذف بها في بحر رمادي عميق مُهلِك رائع؛ بحر الحب.

قالت لمايا اليوم التالي، وهي تحتسي القهوة في مطبخ الأخيرة: «لم أكن أعلم أن ذلك سيحدث.» كان الجو دافئًا ذاك اليوم، ولكنها كانت ترتدي سترة حتى تكوِّر نفسها فيها. كانت تشعر بالاضطراب والخنوع.

ردت عليها مايا في شيء من الحدة قائلة: «كلا. وما زلت لا تعلمين … هل قالها هو أيضًا؟ هل قال إنه يحبك أيضًا؟»

قالت جورجيا: نعم، نعم، بالطبع.

«احذري إذن. احذري المرة القادمة. دائمًا ما تكون المرة التالية صعبة بعدما يتفوَّهون بتلك الكلمة.»

وقد كان. في المرة التالية ظهر الصدع. في البداية بدآ باختبار ذلك الصدع، ليعرفا إن كان موجودًا فعلًا. كان الأمر كأنه تسلية جديدة بالنسبة إليهم. ولكن الصدع راح يتسع أكثر فأكثر. وقبل التفوه بأي كلمة لتأكيد وجوده، شعرت جورجيا به يتسع، شعرت به يتَّسِع وقد انتابها تبلُّد، على الرغم أنها كانت مستميتة في رغبتها في أن يلتئم. هل كان يشاركها شعورها؟ لم تكن تعلم. هو أيضًا بدا باردًا؛ شاحبًا متأنِّيًا، يلوح في عينيه بريق نية خبيثة جديدة.

كانا يجلسان في تهور، في وقت متأخر من الليل، في سيارة جورجيا بين الأحِبَّة الآخرين في كلوفر بوينت.

كان مايلز قد قال: «الجميع في هذه السيارات يفعلون ما نفعله … ألا تثيرك تلك الفكرة؟»

قال ذلك في اللحظة نفسها أثناء جماعهما الذي تحرَّكت فيه مشاعرهما — في المرة السابقة — إلى الحديث عن الحب في انكسار وإخلاص.

وأردف: «ألا تفكرين في ذلك أبدًا؟ … أعني، نستطيع البدء ببن ولورا. ألا تتصورين كيف سيكون الأمر إذا اجتمعنا أنا وأنت وبن ولورا؟»

كانت لورا زوجته، الموجودة في بيته في سياتل. لم يكن قد تحدث عنها من قبل، اللهم إلا ليخبر جورجيا باسمها. كان قد تحدث عن بن، بطريقة لم تعجب جورجيا لكنها تغاضت عنها.

فكان يقول: «ماذا يظن بِن أنك تفعلين للتسلية … بينما يبحر هو في المحيط الواسع؟»

«هل تقضين أنت وبن وقتًا رائعًا عندما يعود؟»

«هل يروق لبن هذا الرداء مثلما يروق لي؟»

كان يتحدث كما لو كان هو وبن أصدقاء على نحو ما، أو على الأقل شركاء، أو مالكَيْن مشتركَيْن.

قال — في نبرة بدت لجورجيا ماجنة في إصرار مصطنع، شابها مكر وسخرية: «أنا وأنت وبن ولورا … لننشر المرح.»

حاول ملاطفتها، متظاهرًا بعدم ملاحظته كَمَّ المهانة والصدمة المريرة التي شعرت بها. وراح يصف لها العطاء الذي يمكن تبادله بين أربعتهم في الفراش. وسألها عما إذا كانت تشعر بالإثارة. فقالت: لا، شاعرةً بالاشمئزاز. رد عليها قائلًا: بل تشعرين بالإثارة، ولكنك لن تستسلمي لها. صار صوته ولمساته أكثر خشونة. ثم سأل في نعومة وازدراء — معتصرًا ثدييها بقوة: ما الذي يميِّزك؟ جورجيا، لماذا تظنين أنك ملكة؟

قالت جورجيا محاولةً إبعاد يديه: «أنت تتصرف بقسوة وتعلم أنك تتصرف بقسوة … لماذا تتصرف على هذا النحو؟»

قال مايلز، في صوت ناعم يتصنَّع الرقة: «لست أتصرف بقسوة يا عزيزتي، وإنما أشعر بالإثارة. كل ما في الأمر أنني أشعر بالإثارة مجددًا.» ثم بدأ في جذب جورجيا إليه، ويعدِّل وضعها ليلائمه. فطلبت منه أن يخرج من السيارة.

«جبانة.» قالها بنفس الصوت الرقيق المصطنع المقيت، كما لو كان يلعق شيئًا كريهًا في جنون. «يا لك من عاهرة صغيرة جبانة.»

قالت جورجيا إنها ستضغط على نفير السيارة إذا لم يتوقف، وإنها ستضغط على نفير السيارة إذا لم يخرج، وتصرخ طلبًا للشرطة. ضغطت على نفير السيارة فعلًا أثناء مقاومتها إياه. دفعها بعيدًا، مطلقًا سبة مرتعشة كانت تسمع مثلها منه في أوقات أخرى، عندما كان السباب يعني شيئًا آخر. وخرج من السيارة.

لم تصدق أن مثل ذلك الحقد انبثق فجأة هكذا، وأن الأمور تغيرت على هذا النحو الصادم. عندما فكَّرت في ذلك لاحقًا — بعدها بفترة طويلة جدًّا — ظنَّت أنه ربما تصرَّف إرضاءً لضميره، حتى يميزها عن لورا، أو ربما ليمحو آثار ما كان قد قاله لها المرة السابقة، أو ليهينها لأنه كان خائفًا. ربما كان ذلك ما حدث، أو ربما بدا الأمر كله بالنسبة إليه مجرد تطور إضافي — شيِّق حقيقة — في عملية الجماع.

كانت ترغب في الحديث عن الأمر مع مايا. إلا أن إمكانية الحديث عن أي شيء مع مايا كانت قد تلاشت. فقد انتهت صداقتهما فجأة.

•••

في الليلة التالية لواقعة كلوفر بوينت، كانت جورجيا تجلس على أرضية غرفة المعيشة تلعب الورق مع أبنائها قبل خلودهم إلى النوم. دق جرس الهاتف، وكانت متأكدة أن ذلك مايلز. كانت تفكِّر طوال اليوم أنه سيهاتفها، فكَّرت أنه حريٌّ به أن يهاتفها ليبرِّر لها ما فعل، ليطلب عفوها، أو ليقول إنه كان يختبرها — بطريقة ما — أو أنه كان قد طار صوابه مؤقتًا بسبب ظروف لا تعلم عنها شيئًا. كانت تنتوي ألا تغفر له في الحال، لكنها لن تنهي المحادثة الهاتفية.

كانت مايا هي المتَّصلة.

قالت مايا: «احزري أي شيء غريب حدث؟ لقد هاتفني مايلز، مايلز الذي تعرفينه. لا بأس، رايموند ليس هنا. كيف عرف اسمي أصلًا؟»

قالت جورجيا: «لا أدري.»

كانت قد أخبرته، بالطبع. كانت قد قدَّمت مايا الطائشة إليه كنوع من التسلية، أو في إشارة إلى أنها مبتدئة في تلك اللعبة؛ أي إنها جائزة طاهرة نسبيًّا.

أضافت مايا: «يقول إنه يريد أن يأتي ويتحدث إليَّ. ماذا تعتقدين؟ ماذا دهاه؟ هل تشاجرتما؟ … أجل؟ آه، حسنًا، ربما يريدني أن أقنعك بأن تتصالحي معه. لا يسعني سوى أن أقول إنه انتقى الليلة المناسبة؛ فرايموند في المستشفى. ثمة امرأة حالتها متعسِّرة على وشك الولادة، ربما يضطر إلى المكوث في المستشفى وإجراء جراحة قيصرية لها. سأهاتفك وأخبرك كيف سار الأمر. حسنًا؟»

بعد مرور ساعتين — بعدما نام الأطفال بفترة طويلة — بدأت جورجيا تترقَّب مكالمة مايا. راحت تشاهد الأخبار على التليفزيون، حتى تصرف ذهنها عن ذلك الترقُّب. ورفعت سماعة الهاتف حتى تتأكد من أنه يعمل. أغلقت التليفزيون بعد مشاهدة الأخبار، ثم أعادت تشغيله. وبدأت في مشاهدة أحد الأفلام. شاهدت الفيلم الذي تخللته ثلاثة فواصل إعلانية دون الذهاب إلى المطبخ لمعرفة الساعة.

بعد نصف ساعة من منتصف الليل خرجت من المنزل وركبت سيارتها وقادتها إلى منزل مايا. لم يكن لديها أدنى فكرة عما ستفعله هناك. ولم تفعل شيئًا تقريبًا. قادت السيارة في الممر الدائري مطفئةً مصابيح السيارة. كان المنزل مظلمًا. كانت تستطيع رؤية المرآب مفتوحًا ولم تكن سيارة رايموند فيه. ولم تجد للدراجة البخارية أثرًا.

كانت قد تركت أطفالها وحدهم، دون أن تغلق أقفال الأبواب. ولكنهم لم يصبهم شيء. لم يستيقظوا ويكتشفوا هجرها لهم. ولم يفاجئها لص أو متسلل، أو قاتِل عند عودتها. كان هذا حظًّا موفقًا لم تَفِهِ قدره. كانت قد خرجت تاركة الباب مفتوحًا والأنوار مضاءة، وعندما عادت لم تدرك مدى حماقتها، وإنْ أغلقت الباب وأطفأت بعض الأنوار واستلقت على أريكة غرفة المعيشة. لم تنم. ولم تحرك ساكنًا، كما لو كانت أي حركة صغيرة ستزيد من شدة معاناتها، حتى رأت انبلاج ضوء الصباح وسمعت الطيور تستيقظ. كانت أطرافها قد تيبَّست. فنهضت واتجهت إلى الهاتف وتأكَّدت مرة أخرى أنه يعمل. ثم سارت متيبِّسةً إلى المطبخ ووضعت قابس الغلاية ورددت لنفسها كلمات «شلل الفجيعة».

«شلل الفجيعة». كيف فكَّرت هكذا؟ ذلك ما كانت ستشعر به — ما قد تصف به شعورها — إذا كان أحد أطفالها قد مات. فالفجيعة يشعر بها المرء عند حدوث خطب جلل، ومصاب فادح. كانت تعرف ذلك. ما كانت لتقايض ساعة واحدة من حياة أطفالها مقابل سماع الهاتف يدق في العاشرة مساءً الليلة السابقة، وسماع مايا تقول: «جورجيا، إنه يائس، وآسف. إنه يحبك كثيرًا.»

ولكن بدا أن مكالمة كهذه كانت ستمنحها سعادة لم تكن أي نظرة أو كلمة من أبنائها ستمنحها إياها، سعادة أكبر من التي يمكن أن يمنحها إياها أي شيء آخر ما بقي لها من عمر.

ثم هاتفت مايا قبل الساعة التاسعة. وبينما كانت تطلب الرقم، حدَّثت نفسها بأنه ثمة بعض الاحتمالات الأخرى التي يمكن أن تعقد آمالها عليها. فربما كان هاتف مايا خارج الخدمة مؤقتًا، وربما كانت مايا مريضة الليلة الماضية، أو أن رايموند وقع له حادث سيارة في طريق عودته إلى المنزل من المستشفى.

تبخَّرت هذه الاحتمالات جميعها ما إن سمعت صوت مايا، الذي كان ناعسًا (يبدو ناعسًا) وناعمًا من أثر الخداع. «جورجيا؟ هل هذه جورجيا؟ آه، كنت أظن هذا رايموند. لقد اضطر إلى المكوث في المستشفى في حال اقتضى الأمر إجراء جراحة قيصرية لتلك المرأة البائسة المسكينة. كان سيهاتفني …»

قالت جورجيا: «أخبرتني ذلك الليلة الماضية.»

«كان سيهاتفني … آه! جورجيا، كان من المُفترض أن أهاتفك! تذكرت الآن. نعم. كان من المُفترض أن أهاتفك، لكنني ظننت أن الوقت ربما كان متأخرًا جدًّا. ظننت أن الهاتف ربما يوقظ الأطفال. فكَّرت أنه ربما يجدر بي أن أنتظر إلى الصباح!»

«إلى أي مدى كان الوقت متأخرًا؟»

«ليس كثيرًا. كان ذلك ما ظننته فحسب.»

«ماذا حدث؟»

ضحكت مايا قائلة، مثل سيدة في مسرحية سخيفة: «ماذا تعنين ماذا حدث؟ جورجيا، هل أنت في حالة طبيعية؟»

«ماذا حدث؟»

قالت مايا، وهي تئنُّ متذمِّرةً في رحابة صدر وإن بدا عليها بعض العصبية: «آه جورجيا.» وأردفت: «جورجيا، أنا آسفة. لم يكن الأمر ذا بال. لم يكن الأمر ذا بال على الإطلاق. لقد تصرَّفت بوضاعة، لكنني لم أقصد ذلك. عرضت عليه قدحًا من الجعة. أليس هذا ما تفعلينه عندما يقود أحدهم دراجته البخارية إلى منزلك؟ تقدمين إليه قدحًا من الجعة. لكنه قال متغطرسًا إنه لا يشرب إلا الويسكي، وإنه لن يشرب الويسكي إلا إذا شربت معه. ظننته متعاليًا إلى حد كبير، تصرفه كان متعاليًا جدًّا. لكنني لم أفعل ذلك حقيقةً إلا من أجلك يا جورجيا — كنت أريد أن أعرف ما يدور في خلده. لذا، أخبرته أن يضع الدراجة البخارية خلف المرآب، واصطحبته للجلوس في الحديقة الخلفية، حتى إذا ما سمعت صوت سيارة رايموند أستطيع تهريبه من الطريق الخلفي ويستطيع هو أن يسير بالدراجة البخارية في ذلك الزُقاق. ليس في نيتي أن أبوح بشيء «جديد» لرايموند حاليًّا، أعني حتى لو كان شيئًا بريئًا، مثلما كان ذلك الأمر من البداية.»

وضعت جورجيا — التي كانت أسنانها تصطكُّ بعضها ببعض — سماعة الهاتف. ولم تتحدث إلى مايا بعدها قط. طبعًا ظهرت مايا على باب منزلها بعد فترة قصيرة، واضطرت جورجيا إلى السماح لها بالدخول؛ نظرًا لأن الأطفال كانوا يلعبون في الفناء. جلست مايا في ندم إلى مائدة المطبخ وسألت عما إذا كان يمكنها التدخين. لم تجبها جورجيا. فقالت مايا إنها ستدخن على أي حال وإنها ترجو ألا تمانع جورجيا. تظاهرت جورجيا أن مايا غير موجودة. وبينما راحت مايا تدخن، أخذت جورجيا تنظِّف الموقد وتفكِّك قطعه ثم تعيد تركيبها. ومسحت الأسطح ولمَّعت الصنابير ورتَّبت درج أدوات المائدة. ثم مسحت الأرض حول أقدام مايا. كانت تعمل في سرعة وكدٍّ دون أن تنظر إلى مايا تقريبًا. في البداية، لم تكن متأكدة مما إذا كان بإمكانها الاستمرار في ذلك. ولكن الأمر صار أيسر بعدها. فكلما ازدادت مايا جديةً — أي كلما انتقلت من الأسف المتعقِّل، والاعتراف بالخطأ الممزوج بالسخرية، إلى ندم حقيقي يشوبه الخوف — ازدادت جورجيا عزمًا، وشعرت برضا قاسٍ في قرارة نفسها. ولكنها حرصت على ألا تبدو عليها القسوة؛ إذ راحت تتحرك في المكان بخفة. وكانت تدندن تقريبًا.

تناولت سكينًا لإزالة الشحوم من بين قرميدات النُّضُد المجاور إلى الموقد. كانت قد تركت الوضع يتدهور.

راحت مايا تدخِّن سيجارة تلو الأخرى، مطفئةً إياها في أحد صحون الفناجين كانت قد تناولته بنفسها من خزانة الأطباق. وقالت: «جورجيا، هذا سُخف شديد. أستطيع أن أؤكد لك أنه لا يستأهل كل هذا العناء. لم يكن في الأمر شيء. الأمر كله كان وليد الويسكي والظروف.»

وقالت أيضًا: «أنا آسفة جدًّا. أنا في شدة الأسف. أعلم أنك لا تصدقينني. كيف أستطيع أن أشرح لك الأمر حتى تصدقيني؟»

وأضافت: «استمعي إليَّ يا جورجيا. أنت تهينينني. حسنًا، حسنًا. ربما أستحق ذلك. أستحق ذلك فعلًا. لكن بعد أن تهينينني بما يكفي سنعود أصدقاء مجددًا وسنضحك معًا على تلك الواقعة. عندما نصير سيدات عجائز، أقسم أننا سنضحك عليها. لن نتمكن من تذكر اسمه. سنُطلق عليه شيخ الدراجة البخارية. هذا ما سنفعله.»

ثم قالت: «ماذا تريدين مني أن أفعل يا جورجيا؟ هل تريدينني أن ألقي بنفسي على الأرض؟ أنا مستعدة لذلك. أحاول أن أمنع نفسي من الانتحاب، ولا أستطيع. أنا أنتحب يا جورجيا، ألا ترين؟»

كانت قد بدأت في البكاء. ارتدت جورجيا قفازيها المطاطيين وبدأت في تنظيف الفرن.

قالت مايا: «لقد ربحتِ … سآخذ سجائري وأعود إلى المنزل.»

هاتفتها مايا بضع مرات، فقطعت جورجيا الاتصال. وهاتفها مايلز، فقطعت الاتصال أيضًا. بدا لها صوته حذرًا لكنه يشوبه الزهو. هاتفها مرة أخرى وكان صوته مرتعشًا، كما لو كان يجاهد من أجل إظهار إخلاصه وخنوعه، وحبه الخالص. قطعت جورجيا الاتصال في الحال. وشعرت بالانتهاك والاضطراب.

كتبت مايا خطابًا، قالت في جزء منه: «أعتقد أنكِ كنتِ تعرفين أن مايلز سيعود إلى سياتل وإلى شئون حياته هناك أيًّا كانت. يبدو أن مسألة الكنز باءت بالفشل. لكن لا بد أنكِ كنتِ تعلمين أنه سيعود حتمًا في وقت ما وكنت ستشعرين بضيق بالغ آنذاك، لكن ها أنتِ ذي قد تجاوزتِ هذا الشعور بالضيق البالغ. أليس هذا حسنًا إذن؟ لا أقول هذا لألتمس العذر لنفسي. أعلم أنني كنت ضعيفة ووضيعة. لكن ألا يمكننا أن نرمي هذا وراء ظهرينا الآن؟»

واستطردت قائلةً إنها ورايموند سيذهبان في عطلة خططا لها طويلًا إلى اليونان وتركيا، وإنها تتمنى من كل قلبها أن تتلقى رسالة من جورجيا قبل أن ترحل. ولكنها إن لم تتلق أي رد منها ستحاول أن تتفهَّم ما تحاول جورجيا إخبارها إياه، ولن تزعجها بالكتابة إليها مجددًا.

وقد وفت بوعدها؛ فلم تكتب مجددًا. وأرسلت من تركيا قطعة جميلة من القماش المقلَّم كبيرة بما يكفي لصنع مفرش مائدة. فطوتها جورجيا ونَحَّتها جانبًا. تركتها ليعثر عليها بِن عندما تركت المنزل، بعد عدة أشهر.

•••

قال رايموند لجورجيا: «أنا سعيد … أنا سعيد جدًّا؛ ذلك لأنني راضٍ بأن أكون شخصًا عاديًّا أعيش حياة عادية هادئة. لا أبحث عن اكتشاف كبير أو أحداث كبرى أو منقِذ ينتمي إلى الجنس الآخر. لا أضرب في الأرض سعيًا وراء جعل الأمور أكثر تشويقًا. أستطيع أن أقول لك بمنتهى الصراحة: إنني أعتقد أن مايا ارتكبت خطأً. لا أعني أنها لم تكن موهوبة وذكية ومبدعة جدًّا وما إلى ذلك، لكنها كانت تبحث عن شيء ما، ربما كانت تبحث عن شيء غير موجود. وعادةً ما كانت تزدري كثيرًا من الأشياء التي كانت تمتلكها. هذا صحيح. لم تكن ترغب في الامتيازات التي كانت تتمتع بها. عندما كنا نسافر — على سبيل المثال — لم تكن ترغب في المكوث في فندق مريح. كلا، كانت تصر على الذهاب في رحلة طويلة شاقة تتضمَّن ركوب حمير تعسة بائسة وشرب اللبن الرائب على الإفطار. أظن أنني أبدو رجعيًّا للغاية. حسنًا، أعتقد أنني رجعي. أنا رجعي. لو تعلمين كانت تمتلك مجموعة فضيات رائعة، فضيات بديعة، ورثتها عن عائلتها. لم تكن تعبأ بتلميعها أو جعل عاملة النظافة تلمِّعها. كانت تلفها جميعًا بالبلاستيك وتخفيها. كانت تخفيها، كأنها شيء مخزٍ. كيف تظنين أنها كانت تتصور نفسها؟ مثل شخص من الهيبي، ربما. روح حرة ما؟ لم تدرك حتى أن أموالها هي التي جعلتها في حالة اكتفاء ذاتي. أؤكد لك أن بعض الأرواح الحرة التي رأيتها تدخل وتخرج من هذا المنزل لم تكن ستمكث كثيرًا إلى جوارها لولا أموالها.»

ثم أضاف: «بذلت كل ما في وسعي … لم أهرع بالرحيل عنها، مثل أميرها الخيالي.»

•••

شعرت جورجيا بلذة انتقامية من جراء قطع علاقتها بمايا. كانت مسرورة بضبطها نفسها في هذا الأمر؛ إذ أعارت مايا أُذُنًا صمَّاء. دُهشت حين وجدت نفسها قادرة على التحكم في نفسها هكذا، وإيقاع عقاب شامل هكذا. لقد عاقبت مايا. وعاقبت مايلز — من خلال مايا — قدر ما استطاعت. كان ما يجب عليها عمله — وكانت تعرف ذلك — هو أن تجلِد نفسها، وأن تقتلع من داخلها كل أثر لإدمان المَلَكات التي حازتها هاتان الأعجوبتان الذابلتان؛ مايلز ومايا. كان كلاهما مراوغًا برَّاقًا، كذَّابَا غاويًا مخادعًا. إلا أن المرء ليظن أنها بعد كل جلد الذات ذاك، كانت ستعود سريعًا إلى زواجها وتغلق عليها أبوابها، وتقدِّر ما كانت تمتلكه مثلما لم تفعل من قبل.

ولكن ذلك لم يحدث؛ فقد انفصلت عن بن. خلال عام كانت قد رحلت. وكانت طريقتها في الانفصال عنه شاقة وقاسية. فقد أخبرته عن مايلز، وإنْ حفظت كبرياءها بعدم رواية ذلك الجزء المتعلق بمايلز ومايا. لم تحاول — ولم تشأ — أن تتجنَّب القسوة. في ليلة انتظارها اتصال مايا، تسللت إلى نفسها روح مضطربة تملؤها المرارة. رأت نفسها في صورة شخص محاط بزيف، ويعيش فيه. فنظرًا لعدم ترددها في الخيانة، كان زواجها مزيفًا؛ ونظرًا لأنها أمعنت في الخروج عن إطاره — بسرعة كبيرة — كان مزيفًا. كانت مرتعبة الآن من أن تعيش حياة مثل حياة مايا. وكانت مرتعبة بالقدر ذاته من أن تعيش حياة كحياتها قبل أن يحدث ما حدث. لم يكن بمقدروها إلا أن تدمر. كان ثمة طاقة باردة تعتمل في نفسها وتتفاقم لتدفعها إلى تدمير منزلها.

كانت قد ولجت مع بن — عندما كان كلاهما فتيًّا — عالمًا من الرسميات والأمان واللفتات والإخفاء، والتظاهر بالود. وأكثر من مجرد التظاهر بالود، افتعاله. (حدَّثت نفسها عندما رحلت أنه لم يعد بها حاجة إلى الافتعال.) كانت سعيدة هناك، من وقت إلى آخر. شعرت بتعكُّر المزاج والاضطراب والحيرة والسعادة. لكنها قالت لنفسها بعنف: أبدًا، أبدًا، أبدًا، لم أكن سعيدة.

يقول الناس ذلك دومًا.

يجري الناس تحولات هائلة، لكنها ليست التغييرات التي يتصورونها.

•••

بالمثل، عرفت جورجيا أن ندمها حيال الطريقة التي غيَّرت بها حياتها ندم كاذب، ندم حقيقي وكاذب. وإذ استمعت إلى رايموند، علمت أنه أيًّا كان ما فعلته، فإنها لن تتوانى عن إعادة الكَرَّة. لن تتوانى عن إعادة الكرة، بافتراض أنها ستظل الشخص الذي كانته.

لم يرد رايموند أن يدع جورجيا ترحل. لم يرد أن يفارقها. وعرض عليها أن يوصلها إلى وسط المدينة. فعندما ترحل، لن يستطيع الحديث عن مايا. لقد أخبرته آن على الأرجح أنها لا ترغب في سماع المزيد عن مايا.

قال لها عند عتبة الباب: «شكرًا لمجيئك.» ثم أردف: «هل أنت متأكدة أنك لا ترغبين في أن أوصلك؟ وهل أنت متأكدة أنك لا تستطيعين المكوث حتى العشاء؟»

فذكَّرته جورجيا مجددًا بالحافلة، والعبَّارة الأخيرة. وقالت: لا، لا، أرغب حقًّا في المشي. المسافة لا تزيد عن ميلين. وإن الساعات الأخيرة من فترة ما بعد الظهيرة جميلة جدًّا، وفيكتوريا جميلة. كنت قد نسيت.

فقال رايموند مرة أخرى: «شكرا لمجيئك.»

قالت جورجيا: «شكرًا للمشروبات. وشكرًا لك أيضًا. أعتقد أننا لا نؤمن أبدًا بأننا سنموت.»

فقال رايموند: «ما هذا الكلام؟!»

«أعني أننا لا نتصرف أبدًا — لا نتصرف أبدًا كما لو كنا نؤمن بأننا سنموت.»

فاتسعت ابتسامة رايموند أكثر فأكثر ووضع يده على كتفها قائلًا: «كيف ينبغي أن نتصرف إذن؟»

قالت جورجيا: «بطريقة مختلفة.» وشدَّدت على ذاك القول في حماقة، ما يعني أن إجابتها غير مقنِعة على الإطلاق بحيث لا يمكنها أن تقدمها إلا على سبيل الدعابة.

احتضنها رايموند، ثم قبلها قبلة طويلة باردة. تعلَّق بها في شهية شديدة لكنها غير مقنعة، محاكاة هزلية لعاطفة، لن يحاول أي منهما — بالتأكيد — أن يسبر غور نواياها.

لم تفكِّر في ذلك أثناء سيرها عائدةً إلى المدينة عبر الشوارع المفروشة بالأوراق الصفراء، ذات الرائحة والصمت الخريفي، مرورًا بكلوفر بوينت، والجُرُف المتوَّجة الأجمات المزهرة، والجبال الممتدة على الجهة المقابلة من المياه، جبال شبه الجزيرة الأولمبية، التي تجمَّعت مثل خلفية صارخة، أو قصاصة من أوراق ذات ألون قوس قزحية. لم تفكِّر في رايموند ولا مايلز ولا مايا ولا حتى بن.

فكَّرت في الجلوس في المتجر في الأمسيات، وفي ضوء الشارع والانعكاسات المركَّبة في النوافذ، وحالة الصفاء غير المتوقعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤