الدمعة الثالثة: الكابوس

ليست حياة الروح أن تُشيح بوجهك عن الفساد والموت، بل أن تحدق فيهما …

هيجل فوق العرش١

قصر مهجور، يبدو كالنسر الهرم الجاثم فوق السفح، يحتضر وحيدًا من ألم الجرح. تحملني قدماي إليه عبر صحارٍ جرداء، تحت سماءٍ دهمتها السحب السوداء. جحافل قطعان وجيوش ذئاب، سُفن غرقى يهرب منها البحارة والفئران، ويبكي الرُّبان، خيل جامحة تسقط في الميدان، أقنعة الأبطال المهزومين، دروع تسقط في الطين، وملائكة تنفخ في الأبواق، كلاب تنبح في الآفاق، ومواكب إنس وشياطين، ترقص تركع تسجد للتنين. أدخل من باب القصر كأني أدخل في قبر، يهتف صوت يأتي من فوقي، من تحتي أو ينبعث من المصدر: هذا قصر العقل المطلق. حدق في عين الموت وحدق؛ فحياتك أن تلقَى الخطر المحدق، تتحداه فتنجو من قبضته أو تغرق. أدلف من البوابة الحديدية الصدئة، يختلط وقع قدمي الثقيل بأنات العظام التي أدوس عليها، بالرطوبة وطعم الملح ورائحة العفن، وسواد الظلال المعلقة كالمعاطف السوداء في الأركان. لا أكاد أدنو من العتبة، حتى تنفتح أمامي القاعة الرهيبة في آخرها، فوق الدرجات الخشبية الداكنة، تتحجَّر عيناي على المشهد: عرش ضخم، يجلس عليه شيخ عجوز، يخطف بصري بريق يسطع في العينين، ويخترق السواد والظلال والأطياف المتراصة على جانبي القاعة كشُواظ الجمر المتأجِّج وسط دخانٍ وتراب. تشدني القوة المجهولة للاقتراب منه، يجذبني توقُّدُ العينين وبياض الوجه الذي يلمع كالعاجِ الناصع كلما اقتربت منه، تصرفني العينان ويشغلني الوجه عن الالتفات ورائي أو حولي، ويُفاجئني الصوت الخارج من قلب العرش، صوت في لمعان العينين الواسعتين الباردتين: صلِّ وصُب اللعنة! قدِّم كشفَ حسابك!

ربي! أعرف هذا الوجه. لم أره رأي العين، لكن أذكر أني شاهدته، أغرقت عيوني في عينيه، خفت بريقهما وبرودهما الثلجي، وذهلت من الوجه الواثق من نفسه، الرائع مثل وجوه الأرباب على قِمم الأوليمب. رنَّ الصوت الخارج منه كالقدر الساحق، يهبط من برجٍ شاهق، مَن أدخلني هذا القصر؟ من كان رفيقي ودليلي؟ من هذا الملاك الجالس فوق العرش؟ هو شيطان أم القيصر؟ والأشباح الواقفة على الصفَّيْن. كالحة عابسة الأوجه، تهمس، تطرق بالرأس، تكاد تشير إليَّ، أتمعن فيها عن قرب: حراس أم زوار؟ أصحاب مظالم أم حجاب؟ والشجرة، هذا الجذع الراسخ والأغصان الخضراء. أتظلل هذا العرش؟ من أين تجيء الخضرة في هذا القفر؟ ومشاعل في كل مكان. توشك أن تطفئها أنفاس الليل الجاثم مثل جبال الأحزان. هل أصرخ؟ أسقط فوق الأرض، أنادي الملك الجالس فوق العرش، وأسأل: ما هو دوري في هذا الحفل أو القُدَّاس الملعون؟ أجري وأثور وأضرب رأسي في الجدران، وأبكي كالمجنون. يأتي الصوت المخنوق الشامخ كنفير القدر الصارخ، يجرف روحي كالقشَّة في التيار الجارف: فتش عن جُمجمتك بين الأشلاء! فهناك مكانك بين الموتى الأحياء!

جماجم وأشلاء، حقًّا، حقًّا، أفتح عيني، أنظر كالممسوس، كومة أشلاءٍ تحت العرش، وجماجم ثقبت أعينها تتأملني بعيون الصمت. تدعوني وتعاتبني بلسان الموت، أصرخ في غضبٍ يشعله المقت: ما هذا؟ عرش فوق الأشلاء؟ مأدبة وحوش وبرابرة تَلْتهم لحوم الغرباء؟

– بل رب إغريقي بلع الأبناء، غضب الرب الحي الفرد على نفسه، فالتهم الفرد ليصبح ذاته، وتجلى في ثوب الروح المطلق.

– صور سوداء مخيفة لإلهٍ يأكل نفسه، كالميت نفض الأكفان، وغادر رمسه.

– كي يخرج في ثوبٍ أنقى، يتألق بالنور الأعلى.

– لا أفهم، يا مولاي.

– عجبًا! مع أنك عشت طويلًا مع أفكاري، وسهرت ليالي تبحث عن أسراري. أسريعًا ينسى الزائر داري؟ خذ يا ولدي مفتاح السر. حتم وقضاء أن تكتمل الدورة؛ كي تسمو فوق الأطلال الخربة، مملكة الله الحرة، يا ولد تلك هي الرؤيا، رحت أسجِّلها في نوبة غضبٍ أسطوري، ليلة كنت وحيدًا في «يينا». ثم عكفت عليها وصببت رؤاها المرة في أُطر التجربة.

أطرقت حزينًا، كشفت عن حيرة نفسي، حيرة وجهي ويدي الساهمتين كعصفورين وحيدين أضاعا العُش. قال الملك الجالس فوق العرش: هل تذكر يا ولدي العملاق «خرونوس»؟ لما ابتلع بنيه، فلم يفلت منه غير «زيوس»؟

– ويعود زيوس فيثأر منه، ويجبره أن يتقيَّأ أولاده؟

– لكن الرب الذي أعنيه لا يثور على أولاده، مثلما يثور على نفسه، على خروجه الشقي عن ذاته، على الطبيعة التي خلقها، فازدهرت بألوانها وأشكالها. لقد انتشر وتبدد في هذا «الآخر»، ابتعد عن نقطة المركز، أحس أنه أراق جوهره الخالص في اللانهائية التي لا تعرف راحة ولا استقرارًا. عندئذٍ يتولاه الغضب الجبار، ويملكه السخط، فيدمر ما شادته يداه، يبتلع الصور والألوان والأشكال، ويمزق أعضاءه بيديه، ويسحق العظم ويهرس اللحم حتى يسيل، وفي السعير الذي يغلي ويفور تتطهر نفسه، تترك وراءها كل الشوائب، ترتفع نقية متلألئة في النور الباهر، فلقد عاد الرب لذاته. عاد الرب لذاته.

– صورة رب جبار مظلم. العدم يمزق نفسه، أيكون الهدم بناء، ويصير الموت هو البعث؟ أشار بيده أن اسكت. كف بيضاء كقطعة ثلج، تلقي طيفًا أسود، أشبه بالمروحة السوداء: هذا شيء لا مندوحة عنه، نهر الجدل الجبار، صراع الذات مع الآخر. اغترَّ الشيطان الساقط بجماله، فتحدى الله، فثارت ثورته وابتلعه! لكن الطبيعة المبتلعة ترتفع في ثوب مثالي، فقد ماتت حياتها لتبعث روحها، وهي في ثوبها النقي الجديد قد انتصرت على الشر، وصمدت لوهج الألم وحريقه المشتعل في أعماقها. أهمس في خوف، كلماتي تسقط فوق الأرض وترجف، قطرات دماء تجري من جرح ينزف. وتشير الكف البيضاء الخافقة كمروحة سوداء: أحسبك تقول كما قال الناس: الجورب حين يُرقع خير منه حين يمزق! أما الوعي فليس كذلك، ما من وعي حق إلا وهو ممزق، بين الأضداد يعيش ويحترق ويومض كوميض البرق. تلك حياة المطلق، نهر صراع أبدي، جدل التاريخ المثقل بالمأساة، معركة الظلمة والنور، الموت مع الميلاد، حياة وموت، فعل ورد فعل، جذب ودفع، تحليل وتأليف، مُلَّاك وفلاحون، مستعمِرون ومستعمَرون، نواة موجبة وكهارب سالبة، ركود «الين» ودفع «اليانج»، تطور الروح التي تبعث الحياة في الطبيعة والإنسان. تلك هي التجربة الأولى، نبعث من نهر الجدل الجارف كالجيش الزاحف. على ضفافه نبتت كل التصورات والمفاهيم، اتسعت صورها، وامتدت غصونها في الظاهريات والتاريخ والدولة والدين والفن.

– في المنطق أيضًا. كم عذبني المنطق!

– ألم أقل في مقدمته: يمكن القول بأن مضمون الكتاب تصوير لله في جوهره الأبدي، قبل خلق الطبيعة أو أي روح متناهٍ؟

– هذا هو ما قلت: في البدء كان الرب المطلق المباشر، ثم غضب على ذاته التي ضاعت في الآخر، فسحقت قوة السلب الرهيبة وجوده المباشر أو عدمه الخالص، فعاد إلى ذاته في وحدة أرقى وأغنى. وحدة تتمزق فوحدة جديدة!

– الآن فهمت. البذرة تتبعها النبتة فالثمرة. الطفل بريء وسعيد، والشاب يتابع خطواته، وأخيرًا يأتي الشيخ على عُكَّاز يتأوه. طاحونة هذا العالم لا تتوقف أو تنكص، والخطوات ثلاث لا تختل ولا تنقص، أنصت يا ولدي لرنين الخطورة فوق السطح، وفي عمق القاع، غابات العالم ترقص، أو تحتضر على الإيقاع، تضربه كف الجدل فينفذ في الأسماع، هذا يا ولدي هو سر العالم، سر حياتك، موتك، كل الأوجاع!

يسكت صوت العرش، يدير صاحبه رأسه الضخم، ويريحه على يده، تتوه العينان الزرقاوان في الفراغ، القوة والجبروت تشع عليه وريح اليأس البارد تعصف منه. تنفذ في ثقوب الجماجم فتئن وتشكو كأنين الناي، أتلفت حولي، ترتعش الشجرة، توشك أن تدنو مني، ترتعش النار من المشاعل وتتساقط ومضاتها كحبات النَّدَى الملتهبة فوق الوجوه على الصفَّيْن، هذي أقنعة أم أوجه أبطال منسيين؟ أتقدم منهم، تتأمل عيني قسمات الوجه وتجعيدات الجبهة وأخاديد الزمن ونقش القدر المسطور، أعرف بعض ملامحها، أتذكر أني عشت ليالي أتأملها، ألعنها، أستوحيها، أندب حظي معها، أسترحمها أن تغفر عجزي وقصوري، أعرف وجه أرسطو، أفلاطون وهيراقليط، وجه الكندي والفارابي والحلاج، وتفاجئني عينا ديكارت الواسعتان السوداوان، والوجه الضامر، وجه الفأر المذعور، تلمع فيه العينان الزرقاوان، عينا كانط الطيبتان الثاقبتان. أذكر زينون وأسأله أين سلحفاتك والسهم، أين أخيل ليشهد بعد زوال الحلم، إن المجد خداع والشهرة وهم. هل يبقى غير الصمت الخالد يا أرباب الحكمة والفهم؟ ها أنا أتأملكم، أمثل بين يديكم مدحورًا أبكم وأصم، هل أذنبتم أنتم أم أذنبت وضيعني الوهم، ولمن ندع الحكم؟ ترتعش الشجرة، توشك أن تمسح رأسي بأناملها الخضراء، أتأملها، تنحسر الخضرة، تتدلى منها الأغصان الصفراء، أبدأ في عد الأوراق، فألمح وجهًا وضَّاء، تتألق فيه الطيبة أنجذب إليه، تنفرج الشفتان وينسكب الصوت شعاع ضياء: دع يا ولدي الأوراق، بعد قليلٍ تنظر فيها وتقلبها بالكفين وبالأحداق، كم أشفقت عليك وأنت صغيرٍ عاق، والآن تحركني نفس اللهفة والإشفاق، تمتد يداي إليها، أدنو منها، ينتفض بقفص الصدر ذبيح وجل خفاق، أهتف: أنت؟ أية ريحٍ طيبةٍ جاءت بك؟ من أرشدك لهذا القصر المهجور؟! ينسكب الصوت بسمعي: من أرشدني؟ من يجعل طيف الأم يزور، طفلًا شابت منه الرأس وما زال يدور، في بحر الكون الواسع بشراع الحلم المكسور، يتصارع مع موج البحر فيزيد ويغور، ثم يثوب لحضن الشط الدافئ كالعصفور المقرور. من أرشدني للقصر المهجور؟ من يجعل طيف الأم يزورك كالمصباح المسحور؟ يتبع خطوك في جوف المد المسحور، جوف التنور، يرعى سهرك بين الكتب الموحشة كأفواه قبور، سر يا ولدي واترك هذي الأوراق الآن، يحزنني أن تغلبك الأحزان، بعد قليلٍ سأراك فسر بأمان، وستأخذ زادك مني، وهو كما عودت كثير، نور من عيني ومن حبة قلبي نور.

توارى الوجه كما تتوارى الموجة. لمست كتفي يد رعناء، التفت لأرى رجلًا يقف بجانبي، إلى الوراء قليلًا، يجذبني من ذراعي ويشير بعينيه ويديه إلى بابٍ في وسط القاعة في الناحية اليسرى، لم يجذبني الأيسر صينية فضية موشاة بالذهب والفضة والطيور وأوراق النبات. هبت منها الرائحة العطرة فأفاقت كل خلاياي، انفتحت كالأفواه الجائعة بلا استئذان. صِحْت بأعلى صوتي: ما أطيبك وما أذكاك! كيف عرفت بأني جائع؟ وضع السبابة فوق الشفتين، وقال: حذار! صاحب هذا العرش وسدنته غرقى في الأفكار، فاطرد هذا الخاطر كي لا تنزعج الروح وهيا اتبعني للدار، فالخطر قريب منك. صحت بغضب: ماذا تعني؟ أي خطرٍ أو أخطار؟ جذب ذراعي، همس بأذني: انظر! قلت: لا شيء هنالك، أنت تخرِّف. عاد إلى الهمس: هناك! انظر عينيه الحارقتين كجمر النار، يزحف نحوك أنت، حذار! صحت به: من هذا؟ لا، لا شيء. لست ألاحظ غير ظلال أو أرواح، نسمات تعبث بالأوراق ولا ترتاح، ومشاعل ساكنة الضوء كأعماق جراح. ماذا تقصد؟ ألجمه الصمت أو الذعر. تراجع خطوتين للوراء، بعد قليل رأيته يزحف نحوي في بطء، تسبقه جمرتان محمرَّتان. أمسكت بسترة النادل السوداء، لا بد أنني أفسدت أناقته التي لا تناسب رهبة المكان، تشبثت بطرفها وصحت: عقرب! عقرب يتقدم نحوي. وعليَّ يسلط عينيه، ويشرع طرف السن المسموم. هيا نمضي! فالروح المطلق لن ينقذك، ولم ينقذني منه. لن يحميني من لدغته كل الحكماء.

قال النادل، وهو يصحبني إلى الباب: لكنك ستعود إليه، بعد تمام الدورة ستعود إليه. سألت: أعود إليه؟ من أين؟ أين أنا الآن؟ قال في غموض: حتم أن تكتمل الدورة. أوَلم تسمع كلمات الجالس فوق العرش؟ قلت وأنا أحث خطواتي، وأتلفت مذعورًا نحو العقرب الذي تسلل شبحه الأجرد بين الجماجم وغاب بينها: حقًّا هذا هو ما قال. حتم أن تكتمل الدورة، لكن بعد الشبع من المأدبة الكبرى. وأشرت إلى الحمامة أو اليمامة المحمرة التي يلمع عليها الدهن، ابتسم النادل في لطف، لم يَخرُج من شفتيه حرف.

صبي في يده ناي

وجدت نفسي في ردهةٍ كبيرة غارقةٍ في ضوء النجف البللوري، مثل الردهات الناصعة في فنادق المدن الكبرى. على اليسار صندوق خشبي عالٍ، ومن وراء الزجاج يقف في الاستقبال عاملات جميلات وموظفون في حللٍ سوداء، ينحنون لا أدري إن كانوا يرحبون بي أم يرثون لي. فالبسمات أحاجي لن تُفهم أبدًا، وذئاب الغابة فيما يُروى تبتسم قليلًا لضحاياها. أبتسم للنادل، وأسأل عن دورة المياه. يرد هو أيضًا بالابتسام، فأعتذر بابتسامةٍ أكبر. أقول لنفسي: لعن الله الرعب! تتسع البسمة في شفتيه عن المألوف: أما أنا فستجدني عندما تحتاج إليَّ، ستجدني دون انتظام. أشم الرائحة بعمق، تصبح بسمته ضحكة، يجري كالطائر تترنح فوق يديه حمامة جَوعى. يختفي عن عيني اختفاء السراب عن عين الظمآن، تخترق السكين مثانتي، فأزم شفتي. يشير عامل مهذب بابتسامته أكثر من يده إلى مكان الحمام. أهبط درجات، أصعد درجاتٍ أخرى، تخطف بصري الجدران الناعمة بلون الفيروز. تستقبلني حسناء بيضاء سمينة، في خديها غمازة. هي أيضًا تبتسم وتضحك، تعطيني الفوطة والمنديل وتلمس يدها، خطأ، موضع عضوٍ حساس. ترمقني لحظات تزفر في وجهي عطر النار من الأنفاس. أبتسم بدوري وأقول بحب: هذا من فضل العقرب! تضحك، تخبطني أسفل ظهري وتموء: ما خابت نظراتي أبدًا، والعقرب في داخله عقرب! ألمس يدها البضَّة: معذرةً يا حسناء. أتمنى أن أشبعك وأروي ظمأك، لكن أخشى يفلت مني النادل، ويطير حمامي الزاجل. قد أبقى في فندقكم أيامًا أخرى. فانتظري يوم لقاء عاجل. تتأوه، تنظر في مرآة: فندقنا؟ يوم لقاء؟ ليتك تعرف نفسك، تعرف من نحن، وماذا نقصد. لكنك تجهل كل الأشياء، تجهل من أيامك أو أعمالك، حتى الأسماء، قحة وغرور من شفتين وأسنان كالبللور. أغلق خلفي الباب. أفتحه بعد قليل. ما زال الصوت يرن بأذني والأصداء: ليتك تعرف نفسك، تعرف من نحن. أين الحسناء؟ حتى أنت تمصين دمائي؟ أصعد الدرجات منتعشًا، ما أجمل صنع الماء! يلقاني رجل فخم ضخم كالكابوس يغلق عينيه وسترته، ويقول بأدبٍ جم: يا سيد، أين بطاقتك الصفراء؟ أتحسس جيبي، أعجب لعبوس الوجه، أحاول أن أبتسم قليلًا، ألمح عينًا ترمقني، عينًا أخرى، كل الأعين سوداء وكل الأوجه غبراء. أصرخ كالمجنون: ضاعت مني حافظة نقودي، سُرقت، نشلتها الحسناء!

– حسناء! أية حسناء؟

– أغرتني، سخرت مني حين رفضت الإغراء.

– أية حسناء؟ نحن نراجع كل الأسماء. أين هويتك؟ تكلم. لم أتكلم. رشقتني الأعين كأفواه البنادق. التصقت بصدري كذُباب الموت الأسود. تحسَّست جيبي، ثم هتفت: من فضلك لا ضوضاء. فندقنا لا يدخله إلا السادة والأمراء. أين هويتك؟

تزدحم وجوه حولي، ضاعت منها البسمات. يلتفُّ رجال ونساء. يخترق الصف صبي في يده ناي، ينفخ فيه فينبعث الصوت الساحر. أين رأيت الوجه الضامر؟ يتقدم نحو الرجل الضخم، يمد إليه الحافظة وتعزف يده الأخرى فوق الناي. أهتف: أرأيتم؟ حافظة نقودي. خذها، افحصها أنت بنفسك. يتناولها الرجل، يتمتم معتذرًا، يخرج منها الأوراق. أنظر في وجه العازف، يطفو الجزع عليه والإشفاق. يفتح الرجل البطاقة، ينظر فيها، ثم يصيح: هل صدقتم؟ تتزاحم حولي الأوجه، تمتد العين وتمتد الأنف، تهتف أصوات: أعجب موقف. لا اسم ولا عنوان، لا صورة، لا توقيع ولا أختام. أحتج وأبكي، وأدق بقدمي الأرض: هذا سخف سخف! إني … يتدخل الصبي الساحر، يسحب البطاقة بلطف: أنا أعرفه، قد كلفني به. ويميل على رأس الرجل ويهمس، يتراجع للخلف وينصرف الناس. يتقدم مني الرجل، ويحني قامته ويهتف: لِمَ لَمْ تذكر هذا من قبل؟ هذا الفندق تحت الأمر، ماذا تطلب؟ ماذا يرضيك؟ تفضل!

يسحبني الصبي من ذراعي بعد أن ينفخ في الناي نغمة بارعة، ويضع يده تحت إبطي، ويقول: سامحهم، من لا يعرف يجهل. أنا منذ الآن رفيقك، ودليلك، خادمك وأكثر، ويخلص ذراعه ويمد كفيه. ترتعش أصابعه على الناي. أسأله ما هذا اللحن؟ يبتسم ببراءةٍ ويقول: الصعود إلى الهاوية!

نتجول من رواقٍ إلى رواق، نصعد درجات ونهبط درجات، نترك ردهة لامعة لندخل ردهة ناصعة. الجدران يفيض منها الضوء كسطوح زجاج شفاف، ووجوه الخدم تبتسم وتطرق إلى الأرض، كأنها تعتذر أو تخفي سرًّا. ندلف إلى قاعة كبيرة تذكرني رائحتها الحادة بعنابر المستشفيات: نظيفة، بيضاء، ناعمة الأسرَّة والجدران، ولكنها مخدرة كجسدٍ أبيض ممدود على مائدة الجراح. أنظر فأرى سريرين في القاعة، أُسدلت بينهما ستارة سوداء، يعزف الصبي لحنًا عابثًا كصفير عصفورٍ نزِق ويشير إلى السرير الأول ويقول: هذه أول سلمة، اذهب إلى هناك، إنها تنتظرك. اهبط بعدها سلمة أخرى، وستجد الأخرى تنتظرك. أسأله: من تعني؟ يرمقني بطرف عينه: أنت الأدرى، راجع صفحات كتابك. يرن بأذني صوت نبهني في قاعة العرش: قدم كشف حسابك! أطرق في صمتٍ، أسأله: ماذا تفعل أنت؟ يبتسم ويعبث بالناي: ما أفعله دومًا، أسمعك اللحن؟ أكرر السؤال، وأنا أضع ذراعي على كتفه: أي لحن؟ يرفع حاجبه ويقول: كيف نسيت؟ لحن سقوطك في الآبار! يشير إليَّ فأتقدم. يرتفع العزف ورائي، يرتفع أمامي يشبه خطوة طفلٍ عاري القدمين، يتحول أثناء النوم ويبحث عن أبويه.

ممدودة على الفراش كحُورية خرجت من الماء، الشعر الكستنائي منسدل حول رأسها بغير نظام. والوجه الناصع البياض، المشوب ببقعٍ حمراءٍ خفيفة، يشبه وجه ملاك. وجه صغيرٍ شاحب كالهلال النائم فوق السحاب، تشع منه براءة طفلٍ عليل مسحوب إلى أسفل شبه مثلثٍ حاد، تشعر من نظرتك الأولى إليه أنك مدعو لحماية يتيم. والعينان ضيقتان، خاليتان من التعبير، والجفنان بلا رموش، تنظران في بلاهةٍ لا تعرف إن كانت مكرًا أو سذاجة أو غباء. توشك أن تهتف حين تنظرُ في بحيرتها الآسنة: هل خلق الله ملائكة عميان؟ ما ضرَّ لو اتسعت هاتان العينان، لو ينعكس بمرآتهما ظل خيال أو وجدان؟ لكنك تغفر وتسامح، فالفم مفتوحٌ ذابل، والفجر يطل من الأسنان، فيغسل كل سؤال.

ممددة على السرير اللامع، تجري يدها الباردة على أزرار الفستان. لاحظت تبلدها وبرود أناملها وشحوب الكف. قلت لنفسك: إن اليد والعين مرايا النفس. والنفس المتبلدة تناسبها عين باردة أو كف متجمدة الحس (كل الأرواح تنال الأجسام التي تستحقها، درس من علم الفراشة). لكنك كفنت الخاطر في أكفان النسيان، فاليُتم الآسر فجَّر فيك ينابيع حنان.

– أنت؟ (قالتها وأشاحت بوجهها الذابل المستطيل.)

– أتذكرين؟ (وقفت بعيدًا أنظر في استحياءٍ، نفس الخجل ونفس الطيبة والتسليم.)

– أنا الآن أم أولاد، لم جئت؟

– جئتك من صومعة الزاهد المنحوس، جئت كما يأتي الطيف أو الكابوس. جئت، كما قلت، بوجه السكِّير وقلب الصوفي الشاعر، ويقول العابر في عرض الشارع ضعةً وخنوعًا، يذهب في بيت الصمت فيهتف من هب ودبَّ: «فصام.» يكتب عن قدر العالم والإنسان، فيسرع أرباب الحكمة: مجنون خائب. يبني سجنًا هو فيه سجين، والسجان يحنو كالأم، فلا يُقبل منه حنان، ذلك أليق بالزهاد أو الكهان. لا تك قديسًا وسط كلابٍ وذئاب. من لا يأكل يُؤكل، والسمك الصالح تبلعه الحيتان.

– أف! عدت لنفس الموال، أأنت كتاب مفتوح؟

– عفوًا. كم حدثتك عن كتبي، عن أحلام الغد، كم قلت وكررت عليك: هي عندي لقمة عيشٍ أو صنعة، وهي كذلك متعة، أما الحب …

– الحب؟ شبت في الجسد البارد شعلة نار، عضَّ الشفتين سعار، هب الإعصار على النهدين وثار، أصاب العينين دوار.

– أجل … الحب.

– لم تعرف أبدًا.

– تذكرين يوم سألتك عنه؟

– أذكر. ذنبي أني أكتم سري، أسرف في الكتمان. كان الشفق الشاحب يكسو الأشجار، أدركت أنك أسدلت على المأساة ستارًا بعد ستار.

– حدقت بوجهك، بالشعر الأبيض في الرأس، أطرقت وخاطبت النفس. أنا بنت اليوم وأنت الذاهل وابن الأمس. يطفر من عينيك الحزن، ويكسو وجهك لون اليأس، أي دواءٍ يشفي داء الميت في الرمس؟

– قلت الحق، لكنك ما قلت الصدق. أحببت سواي، وما كذب عليَّ القلب. حدق في عينيك، فشاهد غيري يسخر من بلوري، مرت تلك الأيام، تداعَى برج الأحلام.

– حقًّا أحببت سواك.

– ولماذا مثلت الدور؟

– كان عنيدًا مغرورًا، فأخذت بثأري منه.

– أغرقتك بحنان الأب؛ فلماذا أنكرت الحب؟

– حقًّا كنت كأب. هل تذكر ما أفضيت إليك، عند لقائي الأول بك.

– أذكر، أذكر. لا أنسى، لكن أغفر.

– كنت كأب، وبهذا حدثني القلب، لكني أفتقد بجانبك الحب. أفتقد شباب القلب، حزنك قد سد عليَّ الدرب.

– حزني؟! ما أنا حجر أو صخر، حزني قدر العمر، وهو الميراث المر. في بلدي يُولد كل الأطفال شيوخًا، يقتل حتى الزهر. حزني؟ من مسئول عنه؟ وطني، أرضي، بذرة أبويَّ وأجدادي، أم هذا العصر؟ سأم الأيام المُرَّة والشرطي الحارس ولي الأمر؟ الشاعر يا … يحمل ميزان العالم بين يديه، إن ثقلت كفته بالأحزان، فما ذنب الشعر؟ أسرع وأطمئنك فلست بشاعر، لكني أحيا الشعر، أتحسس جرح العالم، وأفتش عن وجه الفجر، وأعود كأني الحصاد العائد بحصادٍ مر؛ ولهذا أصمت كالقبر، أكتم سري، يوم أموت سيُدفن معي السر.

أذكر يوم ذهبنا للبستان، نأكل ونُثرثر، نستعرض أشكال الحيوان. كنت سعيدًا كالطفل الأرعن، كالفنان. مشينا على الممشى، تفرح عيني بالخُضرة، وتمرح في عرس الورد وأفراح الطير. أكلمك عن أمنا الأرض، عن ثوب الطبيعة الحي، عن الأبديِّ الفعال الذي ينسج النول الأزلي، نحن أيضًا طبيعة، نُولد ونأكل ونتناسل ونشيخ ونموت كما تموت الأفراد. لكن يبدو أن الفرد يموت ليحيا النوع. ماذا يمنعنا أن نصبح طبيعيةً خالصة؟ هل فكرت في هذه المسألة؟ إنه العقل، الفكر. نحن حيوانات، ولكنا حيوانات بائسة مفكرة. نصفنا طين ونصفنا سماء، نصنع أنفسنا بإرادتنا، بإرادتنا نبني التاريخ، كل الموجودات بلا تاريخ، إلا الإنسان. لا يذكر أحدٌ أن النملة والقرد أو الخنزير يسجل تاريخ النملة والقرد أو الخنزير. نعبر بالعقل حدود الكون، نحاول أن ننفذ خلف السطح، ونكشف لبَّ الأشياء، بل نقفز خلف مَجرَّتنا، نكتشف عوالم أخرى. لا تنس اللغة كذلك؛ عند الحيوانات إشاراتٌ وعلامات، والبعض تطور بإشاراته، لكن الرمز الحافل بالمعنى لم يعرفه سوى الإنسان، واللغة أيضًا. لكن لماذا لا تتكلمين؟ هل أكلم نفسي؟ أمد يدي لأمسك يدك. هل خطر ببالك معنى أن تُنزع كفٌّ من كف؟ أكتم، أعتذر، وأغفر، وأبرز، وأنبهك لألوان الورد وأشكال الشجر، وصور العرس الرباني. أتكون الجنةُ أجمل من هذا؟ لم لا ندخلها، نسبح في النهر ونُغرق فيه القلب؟ يمكننا أن نفعل هذا، أقسم لك؛ فالخلد قريبٌ منا، والأبدية تدعونا بلسان جميع الأشياء: «ذوقوا طعم الجنة قبل الموت!» كذب القائل إن العالم حلمٌ زائل، أو إن الدنيا جسر عبور. خالدةٌ كل الأشياء تشع خلودًا، حتى النبتة في الحقل، حتى الشوكة في الصحراء، حتى النظرة في العين، لكنا ضيعنا الدهشة، وغرقنا في العادات الهشَّة، تجرفنا فوق بحار العالم كالقشة، وتقاتلنا وتخاصمنا وخلَقْنا في الأرض جحيمًا، أتكون جهنم أسوأ من هذا العالم، أتكلم وأثرثر، وجبال الصمت عليك ترين؟ ماذا في صدرك تخفين؟ ندخل مطعم الجزيرة، نأكل ونتطلع للبط الوديع، أعود أحدثك عن سلام الروح، ترمقنا الأعين، وتباركنا عين عجوز طيب، جرب ما جرَّبَه حتى تعب القلب. ويشير إلينا طفل يتأملنا عن بُعد. هل يرقب منذ اللحظة سرَّ تفتُّح قلب الورد؟ تسألينني هل أنت متصوف؟ أضحك، وأقول: لم أبلُغْ هذا الشرف العالي بعد. تنقصني الخبرة والفن.

– لكن لا ينقصك الحزن؟

– وَجْدُ الصوفية جهد، رؤيا يُكسِبها الله لقلب العبد، فتطيب النفس، وتسكر من خمر الوعد، ويفيض عليها النور، وتترك سجن الجسد الصلد، هذا شيء لم أعرفه بعد.

– ماذا يمنع من بذل الجهد؟

– يمنعني حبي ذلك.

أضحك وأحاول أن ألمس يدك وخدَّيْك، فتبتعدين، وتعودين إلى الصمت. أشعر لحظتها أن كيانك يتلفَّت ناحيةً أخرى.

– تسألين لمجرد السؤال: ومن هو المتصوف؟

أربت ظهرك بيدي وأهتف: أنسيت دروس الأمس؟ وتجيبين بسخطٍ: هل أذكر شيئًا دخل الأذن، وما دخل القلب ولا الرأس؟

– معك الحق. من علمك الفلسفة بعيدٌ عنها بعد الأرض عن الشمس. لن يدخل من باب الحكمة مَن لا يحمل معه الدهشةَ والشوق.

تغرقين في سكوتك من جديد. أتذكر أنني لم أجب على سؤالك، أُغالط إحساسي، أضحك وأقول: المتصوف من لا يملك شيئًا، أو بالأحرى من لا يملكه شيء. تهللين كطفلٍ نزِقٍ مكَّار، وتصيحين بملء الصوت: هذا أنت! يغرقني الصمت، يدثِّر رأسي ليل الحزن. ما أغرب هذا؟ هل يمكن أن ينسدل الليل نهارًا في عز الشمس؟ أدرك أنك أبعد مما فكرت. يقطع صمتي رجل عالٍ كالنخلة. فوق الرأس عمامة كبيرة، تعلوها ريشة طاووس أو ديك. أضحك في نفسي: ديك الجن؟ ما أغرب حال العشاق، يكتب بالإبر على الآفاق. أرد عليه سلامه، يجلس دون استئذان.

– هل أنت هندي؟

– أكل عيش يا بيه.

– أنا لست بيه من فضلك. أنا مثلك آكل عيش.

– تحت الأمر، أكشف طالعك وطالع هذا القمر.

– أسأل: كم من فضلك؟

– العين بصيرة، واليد قصيرة. ما تدفعه يا بيه.

– أصيح بغضبٍ: قلت لك لست بيه ولا باشا. أنا مثلك إنسان وفقير مثلك، والشرط على رأيك نور.

– نور والله ونور.

ويمد يديه، فيأخذ كفك. يبتسم ويشرق وجهه. وينظر نحوي يصطنع الخبث. يهتف باستغرابٍ مغشوش: بنتان وولد. أيام هناء والاسم سيبدأ بالهاء. أموال، سفريات أعمال تسند لك؛ فحياتك عمل لا يهدأ. والغد طالعه سعد.

تطرق رأسي تبتل العين، يبتسم الشك على شفتي: والغد رائع. أبحث عن عينيك الخاويتين؛ لأقرأ وجه الأمل الضائع، يمضي الرجل يقول: أسمع عجلات قطار. صوت شهيقٍ وزفيرٍ يمتد. يطول، أنظر في عينيك وفي عينيك ذبول، غيم وسحاب وأفول. ينصرف الرجل ونمضي بعد قليل. وأحاول أن ألمس يدك فتفلت مني كالعصفور، قطع الشك يقين. أتساءل: أنا سجَّان أم مسجون؟ وأحاول أن أضحك. أسكب شلَّال الكلمات، نعبر بالحيوانات. أضحك وأشير لقرد: لست بخيرٍ منك؛ فأنا أحيا في قفصٍ مثلك. وأشير إليك، أقرأ آيات الكره على خدك وجبينك ويديك، أتكلم عن نظرية داروين. هذا القرد الأعلى، أترين؟ انظري لوجهه وعينيه وتشريح جسده. هو أيضًا يلعب ويضحك ويبدو أحيانًا بذكاء الطفل. انظري إليه وإليَّ، ثم انظري في مرآتك، الفرق بسيط، بضع ملايين سنين. والمخ صغير الحجم، لكن من يدري؟ قد يرقى هذا القرد، ويصبح إنسانًا أعلى. أسمعت عن الإنسان الأعلى؟

نصل إلى محطة السيارات، جسدك بجواري، ويدي يمكن أن تصل يديك، لكن البحور تفصلني عنك. أتأمل وجهك، خدك، عينيك. ما يتمنى الإنسان محال. والقُبلة حُلم أو قمة جبل عال. يأتي الرقم المطلوب، نتفق على وعد لقاء.

يوم وقفت لأنتظرك في «التحرير»، يمضي الناس حواليَّ وتفحَصُ وجهي عين غني وفقير، وتمر اللحظات مرور الخيل فتصهل وتثور، لم خنت الوعد وكذبت؟ الحب غريب في بلدٍ يخنقه حُراس الموت، سقطت كل الأقنعة، ولم يبقَ سوى الصمت، الباقي صمت، الباقي صمت.

– الباقي صمت، هذا أصدق ما قلت.

يفاجِئُني الصوت. حلوًا رقيقًا كالحلم. أهتف كلقيطٍ وجد أباه: هذا أنت؟

يبتسم الصبي، ويرفع نايَه السحري إلى فمِه. ينفخ صفارة عصفور عاشق، وجد العش الدافئ والماء الرائق، تلمع أزرار السترة كالذهب النادر، يبتسم الوجه الفنان الضامر، ويشير بيده، في كل بنان ناي ساحر: هل تدري من تنتظر هناك؟

– من؟

– انظر خلفك من غير غضب!

الطرق على باب جهنم

يا لك حقًّا من ساحر. تسحر تذكاراتي كالبوذي الناسك يسحر حياته. ألمح شبحًا يتقدم نحونا. قصيرة، رقيقة الوجه، على عينيها نظارة سميكة، تسبقها ابتسامة تبرز أسنان الفك الأعلى الناتئة إلى الأمام، جسمها الضئيل كجسم صبيٍّ لم ينم، لا يتميز فيه صدر ولا خصر ولا ردف، والقدمان قصيرتان، أقصر مما يسمح به جسم قصير. في قدميها جورب أبيض كجورب التلاميذ، ويداها الدقيقتان المتدليتان من ذراعين نحيلتين كأيدي عرائس الأطفال، لا تتحركان إلا عندما يصدر لهما الأمر من الدماغ، الدماغ الضخم الذي يكسوه شعر أشقر قصير هو كل شيء في هذا الشبح الأشقر. فيمن تراه مقبلًا تحس أنه السيد الوحيد، الفارس الذي يركب مهرًا ضئيلًا لم يجد سواه. يأمر السيد بحكمه في كل شيء. ما من عضوٍ إلا رهن مشيئته، يتحرك بحساب، يضحك بحساب، يبكي يصرخ بحساب. سأل بكل الأعضاء، تسلل لخلايا الدم أحال الجسم المحسوس إلى فكر. والطهر يشع عليها منها حول الوجه، كالهالة حول وجوه الشهداء أو القديسين. والطيبة تتجسد فيها، وحنان الأم. لكن هل يسمو الطين العاجز لمقام القديسين؟

أهمس للصبي الساحر: المومياء. انظر وراءك في غضب!

– يزيح الناي عن فمه. يتشبث بذراعي كي يخفي دمعة. يفتح فمه فيغلبه الدمع. يوشك أن يهتف: ما أبأس حظ القديسين، أنتم يا أبناء الفانين! تربت كفي خده. أطبع فوق الجبهة قبلة. أهمس: هي أمي الصغرى، يستنكر هذا بتعجب، كأميرٍ هبط من الكوكب: عجبًا! هل لك أمان؟

– كم ترعاني وتعوضني عن فقد الأم.

يتوارى الصبي وهو يصفر لحنًا لا أعرف معناه. هل يمكن أن يعزف لحن الفرح المحزن، أو لحن الحزن المفرح؟

تتقدم يدها خطوتها المسرع وتطفر كالعصفور. تنطق اسمي محذوفًا منه حرف العين.

– لم تكن تنتظرني. اعترف!

– أعتذر، أتمتم لا أدري كيف أجيب. لو قلت الصدق أجبت بأني لا أنتظرك. وأنا لا أكذب.

تميل عليَّ بعطفٍ لم أعهده ولا أستحقه. تطبع قبلة على خدي: تعلم أني معك وإن غبت. أبدًا لا أنساك.

أضحك وأقول: طبعًا. أنت الأم الصغرى.

فتجلجل ضحكتها الصافية كما لو كانت تنشج باكية: لكني لم أحبل بك. هذا شيء كنت سأندم طول العمر عليه!

أطرق، أغمض عيني: ذنب لا حيلة لي فيه. لكن ما العمل الآن؟ تمد ذراعيها وتكاد تحضنني. أتحفظ كالعادة، يغمرني إحساس الذنب مع العرفان. تهتف وهي تشد ذراعي: يسأل مثلك من لا عمل لديه. نعمل ما كنا نعمل، حتى تترك حزنك. هل يتركك؟ أليس هناك دواء؟

أسأل نفس سؤالك: لكن ماذا نفعل؟!

– نذهب للغابة. للجبل الأخضر. للزحلقة على الثلج الأبيض. نجلس في الكوخ قليلًا نحسو القهوة والشاي. تغسل ثوب همومك بالأمطار. تفتح للنور ذراعيك وصدرك على إله النور يضمد جرحك. تقرأ فاوست، أو تسمعني شعرك أو قصصك. لن أفهم شيئًا، لكني أتذوق لغتك. تعطيني درسًا فيها؟

في ليلة سفري جاءت تزورني. يدها كالعادة محملة بالهدايا. شيء ضخم، بل أشياء. ملفوفة بالورق الملون البهيج والشريط الذهبي. ما أبدع ما تختار! حتى أمي لا تصنع هذا، مختارات من شاعرها الأكبر. موسيقى للمتمرد الأصم الذي تعلم ضعفي نحوه، أغاني الحب الفرنسية التي تؤكد رومانسية لا شفاء منها. مجموعات الحكمة الشرقية والصينية: من طائفة الزن وتشوانج تسو. شطائر محشوة بالجبن الذي أحبه. وفطائر تفاح تعرف حبي له. ربطة عنق وقميص، أزرار للأكمام، دهان لحذاء المهمل، صور محفورة على الخشب للمدن التي زرناها معًا، والمدينة التي عشنا فيها، للسوق وبوابة مارتن، للنافورة في الميدان، للجامعة وتمالي هوميروس وأرسطو فوق السلم، للكاتدرائية والبرج العالي والديك الذهبي عليه.

– كل ما يبتدئ ينتهي.

أنشغل بحزم الحقائق وترتيب الكتب. الحجرة مهملة على غير العادة. كم رتبتها بنفسها ونظفت الدولاب والمرآة ووضعت الفوطة في مكانها.

لكن لكل نهاية بداية جديدة.

تغضب وتشيح بيدها: بالله سألتك لا تتفلسف.

أصحح خطئي: ولكني لا أتفلسف. على الأقل الآن. أرجو أن نتلاقى.

تضع يدها على خدها. تتفحص عيناها عيني. هل يصدق مرة؟ أؤكد أملي في المستقبل: ستزورينني حتمًا.

يتهلل وجهها وجبينها الذي بدأت تغزوه التجاعيد: حقًّا! وأرى الأهرام وأبا الهول؟

أغتصب الضحكة: وأبا الهول الحي!

تعيد يدها إلى خدها. أتحاشى نظرة عينيها.

– ليتك تعرف معنى ما قلته.

تسكت. تنفرج شفتاها ثم تنغلقان. أقرأ اليأس على وجهها أحاول أن أفلت من الدائرة. أقدم لها صندوق السجائر فترفض. وصندوق الحلوى فترده شاكرة. ترى ارتباكي فتنهض وتقلب الكتب، تخرج يدها الصغيرة كتابًا صغيرًا تبحث في صفحاته، ثم تقرأ:

ساكن لا عمق له، واحد لا يتغير، نافذ في كل شيء، وهو لا يتعب أبدًا، ربما يوصف «أم الكون» أو جذر الوجود. بيد أني صرت لا أعرف اسمه. خفي، لكن في كل مكان، فعال، لكن لا يعمل شيئًا، طيب القلب أنا مع كل طيب، وأنا أيضًا مع الأشرار طيب. موجود، لكن لا يعرف في أي مكان. يفعل، لكن لا يعلن عن فعله. ينتصر، ولكن لا يحتفل بنصره. لين، لكنه قوي، ووديع ومسالم. هو كالماء بسيط ونقي. قديس من غير قداسة، وقوس من غير سلاح، يملك لكن لا يتملك، يتمنى ألا يتمنى. ليتني أعرف اسمه.

طوت الكتاب ووضعته على حجرها. راحت تتفرس في وجهي.

قلت: إنه «الطاو».

قالت ضاحكة: ما أغباك! بل هو أنت!

حاولت أن أعتذر: شرف لا أصل إليه. أتمنى لو أعرف نفسي.

قالت مؤكدة: حقًّا. ليتك تعرف نفسك.

تشاغلت مرة أخرى بترتيب أشيائي وكتبي وأسطواناتي، رحت أردد كلامًا لا معنى له وأتمتم بأغنيةٍ لا داع لها: هل تسنى لأحدٍ أن يعرف نفسه؟ حتى سقراط يشككنا في هذا. ما أكثر هداياك! إنني لا أجد لها مكانًا. لو لم تهدني هذه الكتب والأسطوانات و… و… و… لما وجدت مشكلة في حزم الحقائب. كانت تكفيني حقيبة واحدة. أثرثر وأحاول أن أضحك وأتغابى وأتخبط كطاحونة. كنت قد سرقت نظرة إلى عينيها. غارقة في الدموع. أرجع للثرثرة التي تبحث كل لحظة عن وقودٍ جديد. لكني أتبين عجزي. أكتشف براعتي المفضوحة في الهرب منه. ألمحها تجفف عينيها وتنهض على قدميها وتقول بعدم اكتراثٍ أحمى من السكين: يا … يا … هل نتمشى قليلًا؟

أجيب كمن خرج من ورطة: نعم. في الحال.

نغادر الحجرة إلى فناء البيت، تتوقف عيناي على كل شيء: المدخل الداكن النظيف، الدرجات اللامعة باستمرار، صندوق البريد الذي جرب لهفة الانتظار لخطابٍ لا يأتي أبدًا. أنظر في الفناء الصغير، شجرة لا أعرف فصيلتها تظلل مرتفعين صغيرين عليها نقش أسود جميل الكتابة المطرزة على نسيج، تحته يرقد «تاسو» كلب العجوز التي أسكن عندها، لم سمته باسم الشاعر الإيطالي البائس؟ أنظر لواجهة البيت، نعبر الممشى الظليل إلى باب السور المنخفض الذي يؤدي للشارع. أتوقف أمام نافذة حجرتي. هل يمكن أن أرجع مرةً أخرى؟ الأيام التي عشتها، والليالي التي سهرتها، والكلمات والضحكات والأحلام والهموم ولحظات اللقاء المختلس واللذات البائسة والقراءات والأفكار. لماذا يموت شيء فينا كل لحظة؟

لم يفتح الماضي فمه العجوز ويبتلع كل شيء؟ كيف نوقف نهر الموت البطيء لحظة واحدة؟ النهر يجرفنا، قاربنا ينحرف معه، والهاوية مستعدة على الدوام. كم مرة عبرت هذا الشارع الصغير، كم مرة فوجئت بالقمر يطالعني خلف الأشجار والبيوت المنحدرة السقوف وأبراج الكنائس كأنه وجه طفل كبير يغرق في بحيرة ذهبية! كم أيقظني من أحلامي وأنا متأبط حقيبة كتبي مهموم بالأفكار التي أصارعها وتصارعني، ذاهل عن نفسي والأرض التي أسير عليها، كأن الطفل السماوي يتربص في كل مرة، وعينه الواسعة الملتهبة، تنسل إلى قلبي فجأة لتسألني: من أنت؟ وكم هربت من السؤال، كومت الكتب والأفكار على رأسي، استندت لعكازة أمل واه، خلقت المبررات والمبررات.

أيقظني صوتها: لحظات الوداع كالثمار الناضجة المتساقطة من الشجر. من يدري متى ترجع لهذه المدينة، لهذا الشارع، للقنوات الرقيقة الجارية على جانبيه، أشجار السيدر والزيزفون التي عبرت بها كثيرًا.

– عبرت بها وبكل شيء. أليس الإنسان عابرًا على الدوام؟

وضعت يدها في يدي، وقالت: هذا ما تقوله. ولكني أشك فيه.

سألت: كيف؟ ألا ترين كل شيء يصبح ماضيًا؟

ضحكت وصنعت بيدها قوسًا دار حول الأفق والبيوت والأشجار: المهم أن يحيي الإنسان كل ما حوله، عندئذٍ يحضر في كل خلاياه ويملكه للأبد.

– الأبد؟ أليست كلمة طويلة جدًّا؟!

– أنت؟ ماذا تقصدين؟

– هل أصبح تاريخًا عندك؟

– تاريخًا لا يُنسَى أبدًا.

– أبدًا؟ أرأيت؟ كلامه في كلام في كلام.

– إنني أعني ما أقوله. لا يمكن أن أنسى وجودك بجانبي، هداياك قراءاتي معك، عذابك في إصلاح كتاباتي، رحلاتنا مع الأصدقاء في الجبل والغابة، دعوات الشاي مع الأغراب في حجرتك، ألم أقل لك؟!

– ماذا؟

– إنك أمي الصغرى.

سكتت. قلبت طرفها في السماء المكفهرة بالسحب الثقيلة. مدت يدها إلى شعرها وشدته. تحسست صدرها الضيق ورقبتها النحيلة: ألا تكف عن كلماتك الغبية؟

رَبَتُّ على ظهرها. أحسست بعظامه الصلبة الناتئة.

– معذرة. كنت أعني ما أقول. لم يحبني أحد مثلك.

– وتقولها الآن، في ليلة سفرك؟ يا صاحبي، نحن نأتي دائمًا متأخرين. هل تذكر قائل هذا؟

– ولكنني أحببتك حقًّا، كنت الأم والأخت والممرضة والقديسة.

قالت في سخرية أهون منها اليأس: قديسة؟

قلت بحماس: هذا ما أومن به. لست من هذا العالم. أتعرفين ماذا يخطر لي كلما رأيتك؟ ماذا أتمناه!

قالت: ماذا؟

قلت: أقبل طرف ردائك كالمؤمن يلثم طرف رداء ولي أو قديس.

صاحت في غضب: قديس! قديسة! متى تفتح عينيك؟ ليس بأوروبا قديسات — إلا في الصوامع أو الأديرة. العذرية التي تهتمون بها تلاشت من الوجود. أنا أيضًا لي أخطائي وخطاياي.

قلت في هدوء كأنني أعتذر: لا أصدق. ولو رأيتك مع عشرين رجلًا.

ردت في تسامح: الخطأ بشري. أليس كذلك؟ كل هذا من فكرتكم عن المرأة. ألم تقل لي هذا من قبل؟

– معك الحق؛ فكرتنا الموروثة من روح البدو تحلم دائمًا بالمرأة، لا بإنسانة واحدة محددة، شخصية لا تتكرر في عمر البشرية.

ضحكت وقالت: ويستحسن أن ينقلها البدو الملثم الراقد فينا، ويضعها في الحريم. خصلات شعرها الأسود منسدلة على كتفيها. لحمها أبيض كالعاج. أردافها ضخمة كالناقة. ضعيفة وشاحبة ومستسلمة. وحين ينام معها يحقق نصره المفقود مع العدو. فالعدو يرقد أمامه في خضوع وذل، مهزومًا حتى كل خلية فيه. التفتت بحب استطلاع حاولت أن تخفيه: ولهذا تركتها؟

– تقصدين …؟

قالت بأسى: عندما عرفتك بها تمنيت أن تجد فيها ما تبحث عنه؛ شعرها الطويل، عينَيْها الخضراوَيْن، حيويتها ونضارتها ويتمها أيضًا، ألم تكن مجنونًا بها؟

قلت وأنا أشيح بيدي: وإهانتها لي؟!

استنكرت: لا يمكن أن تتفعل هذا. … طيبة وتحبك.

أردت أن أغلق بابًا تأتي منه الريح: لا داعي. انتهى كل شيء لقد أهانت بلدي.

حاولت أن تعتذر عنها: ربما كانت فلتة لسان. لا يمكن أن تقصد هذا. أنت دائمًا حساس أكثر مما يجب. تخلق أوهامًا وتصدقها.

أشرت بيدي لأسدل ستار الختام: لم تكن تكف عن الاتهام: أنتم … أنتم … أنتم … كأننا من طينة الأقزام وهي من طينة العمالقة. إني أشكو بلدي حقًّا. أحزن لتخلفه البشع، أحاول أن أقرع أجراس الخطر ليصحو، أجلده بسياط النقد، لكني أعبده، أدفع عنه الحقد. إنها لم تحبني أبدًا.

– كنت أشعر أنها سعيدة بجوارك.

– سعادة السيد الذي يسحب كلبًا من نوع نادر.

– أف من لسانك القاسي! أتظل مازوخيًّا للأبد؟ طالما أكدت لي أنها تحبك.

– لنترك هذا. قلت لك: «إيروس» يكرهني. استخسر سهامه في. هل نجلس في مكان قريب؟

– أتحب أن نتعشى؟ مطعمك المفضل قريب.

– لا، لا. لقد تأخرت. لا نفس لي.

هتفت كأنها رأت معجزة: أتعرف إلى أين؟ إلى حبيبتك القديمة.

صحت ضاحكًا: لا مخلص إلا الموت! فلنذهب إليها.

عروس ماتت في حضن كتاب

لم تكن أول مرة نزورها. إنها ترقد هناك، آمنة وادعة في سلام المقبرة القديمة. أعرف الطريق إليها. أوشك أن أعرف عدد الخطوات إلى قبرها، على اليمين بعد البوابة العتيقة المجللة بالورود والتيجان، في الممشى الضيق المخضل بالعشب، خامس شاهد على اليمين. كم صحبوني إليها، كم حدثوني عنها. أستاذ اللغات السامية الطيب، ذو الحاجبين المرتفعين كمنقار النسر، صاحبتي الأولى التي جرتني إليها، وصممت أن تكون أول قبلة تسمح بها إلى جوارها، وبالقرب منها، الدليل السياحي الذي أرشدنا لآثار المدينة وأنهال من فمه شلال الذكريات والمعلومات الموثقة عنها. وهي دائمًا هناك. ممددة على القبر بردائها الشفاف الذي لبسته لآخر مرة. وثنيات الرداء منسكبة في منحنيات رقيقة مع جسدها النحيل كجسد ملاك. ذراعاها متدليتان على صدرها في استسلام القديسات، ويداها تمسكان بكتابٍ مفتوح سألت عنه، فقالوا هو الكتاب المقدس، تشع من وجهها وعينيها الطيبتين الحالمتين هالة الورع والجمال والرضا، كأنها «أوفيليا» الطافية على صفحة غدير صاف. يخيل للعين في كل لحظة أنها تخلص نفسها من الرخام الرمادي الداكن، وتطير فوقه. كيف استطاع الفنان الذي نحت تمثالها أن يقهر الحجر، أن يحوله إلى نهرٍ حزين شفاف. أن يثبت الحلم في طينته ويطلقها في نفس الوقت من قبضته؟

كنت أستعيد الذكريات، ونحن في الطريق إليها. ظلت عيني ترصد كل ما تراه الشجرة التي رأيت السنجاب يتسلقها في خفةٍ وجنون، ويتلفت نحوي مذعورًا، البيت الملون الواجهة بالأخضر والأبيض الذي دخلته مرة بدعوة من فلكي ومنجم أراد أن أترجم له لوحة كبيرة بأبراج السعد التي تنتظر الملك السنوسي، وينوي إهداءها إليه في عيد ميلاده، مكتب الصحة الصاعد نحو الغابة الذي سرت فيه لأول مرة مع زميلة ذاهلة العينين طيبة الوجه، ظلت طول الوقت تبدي إعجابها بلوكريثيوس وطبيعة الأشياء.

يقطع ذكرياتي صوت ينبهني إلى بداية المقبرة: هاه! هل امتلأت الكأس؟

أقول ضاحكًا وأنا أنفض رأسي: ودائمًا تفرغ!

تسبقني للدخول وتقول وهي تضحك: غدًا تمتلئ بخمر جديدة. من يدري ماذا ينتظرك هناك؟

نمشي على الدرب المؤدي إلى الكنيسة الأثرية الصغيرة. تبين لي أسماء الأشجار التي نمر عليها كأنها زرعتها بنفسها. باقات الورد على القبور ندية لا تزال. تحس دهشتي وتقول: كان أمس هو الأحد.

أسألها: هل هناك من لا يزال يذكرهم؟ ألهم أبناء هنا في المدينة؟ تقول: إنها مغلقة منذ ثمانين سنة. ولكنها أصبحت متحفًا. هذا هو طبع الناس هنا. شيء مهين ومزعج كما ترى. معظم الأسر انقرضت، بعضها ما يزال له أحفاد. ولكن أهل المدينة يعتبرونهم كأهلهم، يزورونهم كل أحد ويضعون هذه الزهور.

– والعشاق أيضًا.

ضحكت في خجل: ولا يطيب لهم العناق إلا هنا. خصوصًا قرب حبيبتك!

أضحك أنا أيضًا: إذًا تعالَيْ نجرب حظنا!

نحن يا صاحبي أتينا متأخرين. دائمًا متأخرين.

نزور الكنيسة التي زرتها أكثر من مرة نقف عند رسوم الحائط وتشرح ما سبق أن شرحته بالتفصيل. تحيط عيناها بالنقوش وشموع المذبح والجدران النشعة بالرطوبة والسقف المزين بصور الملائكة والقديسين كأنها تعانق أشياء في مسكنها الخاص. تتمتم شفتاها بالأدعية وتصنع علامة الصليب ونخرج. نمضي إلى العذراء صاحبة الكتاب. تقف أمامها خاشعةً كأنها تراها لأول مرة. أتلمس معها الشاهد والنقش وأمر بأصابعي على حنيات الرداء والوجه المستطيل الحزين والعينين المغمضتين في الحلم الطويل. تتراجع للوراء، وتجلس على مقعد تمسح التراب بمنديلها عنه. تتأمل وجهي وأنا أتجه نحوها وأجلس بجانبها. تعرف أنني سأغرق في السؤال عن حقائق التاريخ أو سأتمادى في التفلسف عن الحياة والموت والاستشهاد بالعبارات المحفوظة. تتأمل النائمة قليلًا، ثم تقول: ما رأيك أن تتزوجها؟

أضحك وأقول: هو الحل الوحيد!

تستطرد: لا تسخر. إني جادة.

أهتف: والقرن الذي بيني وبينها؟

– لا يهم. مثلك لا تصلح له غيرها، ألا تبحث دائمًا عن المحال؟

– وأعيش فيه أيضًا. ولكن ماذا يقول أهلها؟

– اطمئن. كلهم ماتوا. نعقد الزواج الآن؟

– والشهود؟ ملائكة وشهداء وقديسون ويسوع نفسه؟!

– لا تكن سخيفًا يكفيك شاهد واحد.

– تقصدين شاهدة؟!

– نعم نعم. وسأتكفل بمصاريف العرس.

– المهم أن ترضى الجميلة. ألا ترفضني هي أيضًا؟

– لا تهرب. دائمًا تنهزم قبل بداية المعركة. سترضى حتمًا.

– ثقتك في محلها، ما دامت لا تسمع ولا تنطق! هيا نسألها.

– لن نسألها. سنعقد فورًا.

أقف وأشدها من يدها. نلقي النظرات الأخيرة على العروس الصامتة. تتطفل يدي على وجهها الحالم الحزين وذقنها المدببة الحادة، وكتابها المفتوح على صدرها، وقاعدة الشاهد الجرانيتي. تأتي وتمسك يدي. تمد إحداهما إلى اليد التي تلمس الكتاب. تتمتم شفتاها وتخرج منها مقاطع لاتينية أحاول أن أتابع معناها وتغمض عينيها وتستغرق في الصلاة. أتعجلها بعد أن لاحظت الشمس قد غربت منذ وقتٍ طويل.

– أخشى أن يقفلوا البوابة!

– في ليلة عرسك وتخاف؟ يا للغباء الأزلي!

أضحك. يمنعها الخشوع من الضحك. بعد قليل تسير بجانبي صامتة. نخرج من البوابة، ونسير في الطريق إلى مسكني. القمر هلال متعب نحيل يطلع على استحياء. السكون يغمر المدينة، وأوراق الشجر الصفراء تخشخش تحت أقدامنا. نفترش الظلال الشاحبة. جدران البيوت وأعمدة المصابيح وقوائم الإعلانات. أفكر في بلدي، في بلدي، في مدينة الضوضاء التي سأعيش فيها، في القرية البائسة التي تنتظرني، في الهاوية التي تفتح فمها وتهدد بابتلاعي، في دوامة التخلف التي ستجرفني كحبة الرمل إلى هاوية الانقراض المحتوم. وتغرق في الصمت. فيم تفكر هي أيضًا؟ أسترجع الذكريات، كلها أصبحت ذكريات، تتدخل الأماكن والأزمنة والأحداث والأشخاص، وتتصادم كقطيع هارب أمام العاصفة، نصل إلى مدخل البيت الذي أسكنه. تقف وتمسك بيدي: تأخرت. لا بد أن أعود.

– لا أدري كيف أشكرك. السكون يغطي كل ما حولنا. عيون المصابيح تسدل علينا رموشها الفضية. لا نأمة ولا حركة في الشارع الهادئ. أفاجأ بصدرها على صدري. تضم ذراعيها حولي، وتشدني إلى وجهها. فمها على فمي. لأول مرة يتدفق الدفء وحرارة اللحم في دمي. ترتجف شفتاها المبللتان بالدموع. يرتجف الصدر والظهر. أتحصن في قوقعتي الحجرية.

– آه يا … لو تدري كم أحبك.

في المدينة الكبيرة كنت أمر عليهم كل يوم. أخرج من محطة القطار الأرضي (المترو)، وأطلق عليهن من برج عيني حمامات التعجب والرغبة والشهوة. كن يقفن دائمًا هناك، يسندن ظهورهن إلى بيتٍ عادي لا يلفت النظر، على الرصيف المواجه لبستان عادي أيضًا، في الناحية الأخرى من الميدان مقهى صغير يجلس الناس على طواره في الصيف، حسبتهن في البداية لاعبات سيرك، فسراويلهن قصيرة تكشف عن معظم الساق، في أقدامهن أحذية عالية الكعب، على وجوههن أحدث ما ابتدع. صناع أقنعة الإغراء. لكني لم أكن أرى خيمة، ولا أسمع طبلًا، ولا بوقًا، لا صيحة قرد، ولا زئير أسد، ولا صراخ سباع البحر. وأعبر الميدان إلى اليمين لأمشي على الطوار (المؤدي إلى مكتبة كنت أتزود منها بزاد العين والقلب، بالكتب الجديدة والوجه الحي الباسم أبدًا فيها)، وكنت أخطف البصر إليهن لأسرع بالوقوع في شبكة خجلي وارتباكي ودقات صدري المتلاحقة. ذات مساء أمر بالميدان في طريقي إلى مسكني البعيد، ويفاجئني الصوت الناعم كسطح الوردة والوجه الأبيض كوجه طفلة صبغوا شفتيها وخديها بالأحمر: ألا تحب أن نبقى معًا بعض الوقت؟ (أتطلع في وجهها، أتخيل وجهي يصفر، ويعكس ألوان الطيف) لندع أجسادنا تتحدث لبعضها. هذه هي اللغة الوحيدة الصادقة.

– نعم. ولكني … والوقت متأخر.

– يبدو أنك مثقف، عيبكم أنكم تقرءُون كثيرًا. تعال لنقرأ أسرار الجسد. أنا لا أحسن الكلام. أنت غريب فيما يظهر.

– نعم. أخشى.

– إلى متى تخشى؟ شعرك أبيض. الحب دواء الخوف، هيا بضع سلالم.

– لكن … لكن … لكن … لكن … أعني الشرطة، والجيران، و… كم …

– لا تحمل همًّا. شرقي أنت؟ لن نمكث طول الليل. لن نخطفك لدينا. الشرطة تحرسنا وتؤمننا.

مشيت بجانبها صامتًا. عند المدخل رمقتني حبشية فارعة القامة منقوشة الشعر كالمروحة المجدولة من حبات سوداء، ضحكت أخرى بيضاء سمينة، فخذاها المتورمتان يثوران على السروال الضيق المخطط. تفتح لنا امرأة لطيفة الوجه مدورة العينين السوداوين، قصيرة الشعر، في أدبٍ مسرف تدعونا للدخول. أنظر في الردهة اللامعة والأبواب المغلقة. وأتشمم روح السكون والترف في هذا الشرك المهلك! تمد الفتاة يدها فتمسك يدي. هيا! هل تستكثر لحظة حب؟ تبتسم السيدة التي فتحت لنا الباب، وتودعنا في صمت، أحس يدها الناعمة، أخجل من نفسي. جف عصير الشجرة، لم تبق سوى الأوراق الصفراء. يا زهر ربيع العمر ألا يصدمك شتائي؟ ندخل حجرة ساطعة الضوء، جدرانها الخضراء تورق في النفس الراحة والأمن. الفراش مرتب، والسرير عريض، وإلى اليسار دولاب بمرآة. تسبقني إلى الفراش، وتسحب على نفسها الغطاء، لحيرتي وخوفي من النظر في المرآة لم ألحظ أنها كانت قد تعرت تمامًا. «تخجل مني؟ الحمام أمام الباب. هيا فاتت خمس دقائق. والباقي عشرون.» أذهب للحمام وأخلع ملابسي. هناك أيضًا مرآة. لو تكسر كل مرايا العالم! أرجع في «روبٍ» فضفاض. أغلق خلفي الباب. «منظرك بديع.» «أأثير الضحك إلى هذا الحد؟ معذرة، هذا البطن آثار السن.» «بل أنت عجوز طفل. أول مرة؟» أدخل تحت الغطاء. أضع الرأس على الكف. «ما لك؟ تتفكَّر في مشكلة الكون؟» «أتأمَّل وجهك. أقرأ قصتكِ وطبعك.» «ليس لدينا وقت. ليس لدينا وقت.» «أدفع ما يُرضِيكِ، عندي وقت، فلنتكلم.» تغضب وتضرب الفراش. «عندي عمل آخر. أي زبونٍ أنت؟ انهض.» أخرج من محفظتي أوراقًا أعطيها إياها، أهمس: «فليعرف كل منا الآخر.» «لكن عندي موعد.» تنظر في ساعتها. «فاتت عشر دقائق. عندي موعد.» أنسل إلى جانبها، أتحسس كفيها. وأميل على الصدر. أمسح خديها. «هيا، هيا.» تتفتح كالوردة للشمس، أتملى في عينيها وأمد الشفتين. تضحك ساخرة: «يا لك من رومانسي! أعرف هذا النوع. لكن ليس لدي الوقت، عندي موعد.» تنظر في ساعتها.«أغبيٌّ أنت؟ احترق الوعد!» أتحسس يدها، خديها، ألثم جبهتها والشعر. «هيا هيا.» «لا أبدأ حتى تعطيني قبلة.» تدير خدها ناحيتي: «خذ! لا لا.» وأمد الفم. يتأهب صدري للقاء الصدر، ويداي لتطويق الجبهة والشعر. تقترب الشفتان من الشفتين، تصرخ كالمجنونة: «لا، لا. ما هذا؟!» «هل أخطأت؟» «حتى لو تدفع لي مليون.» «هل يصلح هذا من غير القبلة؟» تتنمر تتفرسني عين التاجر يطرد شحاذًا من بابه: «القبلة لحبيبي وحده، لا يأخذها مخلوق غيره، حتى لو كنتَ أمير الهند وملك الصين!» «افترضي أني محبوبك؟» «يكفي ثرثرة، ضيعت الوقت.» تنظر في ساعتها، تنفخ تتأفف تلوي شفتيها باشمئزاز. انطفأ الجمر. العطر تبخر. سكن القارب والمجداف انكسر على الصخر. «معذرة، لكني لا أستغني عن قبلة، في بلدي.» «في بلدك!» قامت غاضبة، بدأت تلبس سترتها والسراويل. وأنا أرمقها بعيون الطفل المذنب. «عُدْ لبلادك إن شئت.» ألقت في وجهي الأوراق. «هذا عمل لا عش للعشاق.» «أرجوكِ احتفظي بهدوئك، وكذلك بالماركات، يمكنني أن أعطيك سواها.» تطوي ذراعَيْها على صدرها، تطيل النظر إليَّ: «هذا كرم منك. لم تبق سوى خمس دقائق. ذنبك أنت.» أدخل في سراويلي وقميصي. «أعرف يا سيدة البيت طريقي. عندك موعد. تفضلي أنت.» يا رب السهم النافذ والقوس، هَبْني أن أجد القبلة: كأسًا تفرغ في كأس، عين تغرق في عين، قلب يدق في قلب. نهر يجري مع نهر ليصبا في البحر. ابن تاب عن الذنب، وعاد إلى الأب، وشعاع بعد الغربة يرجع للشمس.

البحر البحر البحر

– من؟ أنت؟

– أنسيت؟

– حسبتك خنت، وظننت بأنك مثل الناس تخليت.

– أنا مسئول عنك؟ تركتك للأحلام.

– اسكت. أَسْمِعني عزفك فوق الناي؛ فلعل اللحن يريِّح البال. هذا أفضل، ليست كل الأشياء تُباع وتُشرَى بالمال. أو إن شئت فلُذْ بالصمت.

– معك الحق، لكن ليس لدينا وقت، حتى للصمت.

– وقت للغد والأمس ولا وقت لدينا لليوم. هيا، هيا.

– أمروني أن أصحبك.

– ولماذا الأمر؟ تُسعدني الصحبة.

– هيا، هيا؛ أزِف الوقت.

– الوقت، الوقت! والأبدية ضيعناها خوف ضياع الوقت، وإلى أين؟

– البحر! البحر! البحر!

هتفت كما هتف جنود الإغريق القدماء: البحر! البحر! بعد الظمأ القاتل في الصحراء، يتعرَّى الظامئ ويذوق الماء.

– ليس الأمر كما نتصور، أخشى الندم عليك وخيبة أملك.

– تخيب أملي، تخرجني من هذا الكهف المظلم، من ليلٍ أتخبط فيه إلى ليلٍ معتم، وتقول بأنك ستخيب أملي؟ هيا للبحر.

يطرق رأسه، يغمض عينيه، يتدلى الناي على صدره، كيتيم حاروا في أمره، نترك ممشًى، ندخل رَدْهة، وتمر علينا الخدم، الزوار، يا صاحب هذا الفندق، أين النادل وحمايته الموعودة؟ أيجوع الضيف لديكم ومآدبكم ممدودة؟ تلفح وجهي الريح، وملح البحر يرطب جلدي.

بعد قليل يبدو الشاطئ، تسطع حبات الزبد على البعد، والموج الهادر يصخب في أذني ويحتد، لا تبخل يا موجَ البحر، ولا تنسَ الوعد، أحرقني الظمأ الكافر في صحراء المجد، فاغسل بالدمع الصافي من عينيك ذنوبَ الأمس وهمَّ الغد، وأَعِدَّ اللحد أو المهند. تلمس قدماي الشاطئ. أنظر فوقي: قمر هادئ، بدر كالزورق تلمع فيه لآلئ.

– لم لا تتكلم؟ نايك لا يترنم!

– إني مُرغَم. أمروا بالصمت، وكتمان السر المبهم.

– البحر أمامك والجنة بين يديك. ماذا تكتم؟

– انظر حولك، لن أتكلم.

أتلفت حولي، أنشق أنفاس البحر كسمكة يعيدها الصيادون للماء، بعد أن جفت على اليابسة. إلى اليمين صخرة سوداء، داكنة الحجر، ناتئة التجاعيد. أمعن النظر فأرى نسرًا يعلوها، كتلة عابسة لا تتميز عنها. بين الحين والحين يرف جناحاه ويهبطان. عيناه جمرتان، أيسلطهما عليَّ؟ إلى اليسار، بعيدًا عنا بقليل، أراها ترقد ساكنة، آمنة في ضوء القمر، تحرك شدقيها وتمضغ بسلام. أشد رفيقي من كمه. أهمس له: بقرة؟ ماذا جاء بها؟ لا عشب على الشط ولا مرعى. ماذا تجتر؟ يغرق الصبي في صمته، تخرج الضحكة كالغصة: تجتر الذكرى!

– هيا نتجه إليها. هذا ما قالوه. أعطوني أيضًا مرآة.

– مرآة؟ لا تنسَ الباروكة أيضًا.

– لا تهزل. لسنا في عُرس.

– هل نحن بمأتم؟

يعود لصمته، يتقدم نحو البقرة بهدوء، ما زالت تحرك فكَّيْها وتجتر في سلام. لا يبدو عليها أنها تنتبه لوجودها أو للبحر الممتد وراء ظهورها. لن يخطر ببالها أن ترفع رأسَها لترى القمر الحالم فوقها. غارقة في نفسها، غائبة عن العالم كله. عن الأرض التي ترقد عليها، عن الواقفين أمامها. ربما كانت غائبة، حتى عن لذة العُشب الذي تجتره. في عينيها السوداوين الواسعتين بحيرة رضا واستسلام. أهتف في غضب: هل جئنا البحر لنشهد بقرة! البحر يحب العري، ألا نتعرى؟

– اسكت. حذرتك ألا تهزل، ها هم يأتون.

– لا أدري أين أطلوا، كيف تلاقوا، هل ينشق البحر أم الأرض، ويخرج منها المردة، عملاق أسود، ثلاثة، خمسة، غربان سود في هيئة بشر يتقدمون نحونا. كلما ظهرت ملامح وجوههم ذعر القلب كفأرٍ يرتجف أمام القط. نسخ واحدة من صنمٍ واحد، يتحرك في بطء، شعر أسود، جلد أسود، سترة صدر سوداء، وسروال أسود، ربطة عنقٍ سوداء ثبت فيها تكشيرة وجهٍ قاسٍ أسود. أرتعد وأبحث فيهم عن أجنحةٍ سوداء، ذيول سود، قرون أو منقار أسود. يتحرَّك جبل الليل الأسود، يفتح فمَه، يخرج منه الرعد الأسود.

– المرآة.

ترتعش يد الصبي، وهو يمدها إليهم بالمرآة. مرآة صغيرة، منقوشة الأطراف بزخارف خشبية عليها ورد وأوراق شجرة مذهبة، تنطلق الغضبة منهم كزئير الأسد الجائع.

– أحمق، وحرام فيك المأكل والمشرب.

يتلوى الصبي، ويحني رأسه: مولاي، سادة قدري، أخطأت، فماذا أفعل؟

يتلفتون لبعضهم ويضحكون. رعد وصواعق وممنون: ماذا يفعل؟ ماذا يفعل؟

ويصرخون بفمٍ واحدة: يا حشرة. اسحبه من أذنيه وقرب وجهه من وجه البقرة.

يتقدم مني، ينظر في عيني، لم يجبره شيء أن يسحبني من أذني؛ فأنا أخطو نحو البقرة، وأقرب منها عيني ووجهي. يضع المرآة أمام البقرة، لا يطرف في عينيها رمش. تمضغ بسلام.

– انظر وجهك!

لا أتكلم. أردت أن أقول الأمر مطاع يا سادة، أرتجع ولا أعرف ذنبي.

– منذ سنين ولم تر وجهك، تنظر في المرآة، وتحلق ذقنك، وتسوي شعرك، لكن لا تبصر وجهك. حان الوقت فهيَّا، ثبِّتْ قلبك.

أغمض عيني وأفتحهما. الصبي بجانبي يسلط المرآة على وجه البقرة، ثم يسلطها على وجهي، أتطلع فيها، كيف أصدق؟ هل هذا وجهي؟ أتلفت نحو البقرة، نفس السحنة، نفس الجبهة والشفتين، نفس العينين الصافيتين. أتحسس فكِّي. يتحرك، يمضغ يرتفع ويهبط، تتأملني عينا البقرة، أتأمل عيني في المرآة، نفس النظرة، نفس الحسرة، نفس الحيرة في قاع بحيرة. أفيق على صوت الرعد: أعرفت الآن؟

يشيرون للصبي فيميل جانبًا، يمدون إليه يدًا واحدة، فيستجيب بحركةٍ سريعة. يُخرج من صَدرِه سكينًا لامعة. يحس وحشتي والكلمات التي لم أقلها: الناي مع السكين؟ يأخذونها ويختلس نظرةً إليَّ ويهمس: إني معك فلا تحزن. هي للبقرة.

تميل أجسامهم الضخمة كجذوع الأشجار العتيقة، وينحون سدًّا واحدًا، أما البقرة؛ بضربةٍ واحدة تفتح البطن. عجبًا لِمَ لَمْ تنزل قطرة دم؟! والبقرة تجتر وتحلم. وكأن السود صغار منها ترضع، أو راعية تحلب لبن الضرع. يرفعون رءوسهم، وكأنهم رأس واحدة مخيفة تتفرس فيَّ. ماذا أبصر؟ أوراق تخرج من بطن البقرة، أقلام أقلام أقلام، كتب كتب كتب، لا يظهر فيها رسم غلاف أو عنوان.

– أرأيت؟

– أنحني وأفحص بعضها، إنها كتبي، هي نفسها التي فرحتُ بها ذات يوم. ألمح فيها أوجه ثوار، زهاد، حكماء ومجانين، شاعرة تبكي ابنتها، أبطال مآسٍ مهزومين وشُهداء مكسورين. والبقرة تجتر وتجتر، من عينيها يسقط دمع مر. ينهضون على أقدامهم، يردون السكين للصبي يزأر صوت واحد: بطن الشاعر، أو بطن البقرة.

أرفع وجهي للقمر الساكن في وهج بحيرة، أنظر للموج الهادر يبدأ ويعيد الكرة. تلمس كف كتفي بحنان. تسحبني في رفق. يبرز منديل أبيض. آخذه وأجفف دمعي. أسمع صوتًا يأمر: هيا للصخرة والنسر.

جروني إلى الصخرة. النسر هناك، يشتعل الجمر بعينيه، يرفرف بجناحيه، أتردد، تدفعني الأيدي، هيا، لا تتلكأ. أنظر للعازف فوق الناي، يشد القدمين حزينًا مثلي، أبدًا لا يرفع عينًا عن ظلي: أنقذني. أنشد لَحنْك غني، كن في المحنة عوني. يضحك العمالقة الخمسة، ينشدون في صوتٍ واحد: لن ينقذك اليوم سواك. والمنقذ من ينقذ نفسه. أهتف: كيف وأنتم تجتمعون عليَّ؟ كيف سأُفلت من قبضتكم؟ ويغنون غناء الجوقة: نحن نعرفك بنفسك، نحن نعرفك بنفسك!

نقترب من الصخرة، يتهلَّل وجه النسر، تسري الرعدة في أعضائي وأناديه: يا سيد هذا الصخر. إن كنت ملاكًا أو شيطانًا خلِّص روحي من هذا القهر. يتبادلون النظرات، يرفعون رءوسهم للنسر، ثم يحنونها خشوعًا، يزداد خفق الجناحين وتوقُّد العينين. أوشك أن أهتف به: جوعان في مأدبة النسر الجائع، ظمآن يقيد بالحجر الظامئ. أين الخير وأين الشر؟ ينادي أحدهم: الصبر! الصبر! وسيأتي دورك قبل الفجر.

في لحظةٍ يلتفون حولي. يصرخ أحدهم في الصبي، فيُفيق ويمد إليهم يده بالحبال. ينهمكون في ربط يدي وساقي على الصخرة، أنظر وجه القمر وأضرع للبحر.

ها أنا مربوط للصخرة. أنتظر عذابي من أيدي السحرة. أتوقع أن أُجلَد أو تبقر بطني كالبقرة. الشر الكامن في أعينهم يطلق شرره، بعد قليلٍ سيغادر وَكْره.

لكنهم لا يتحركون، جلسوا أمامي في صفٍّ واحد، كأنهم يتفرجون على قردٍ مغلول. يتغامزون أحيانًا، يخرج أحدهم من جيبه جريدةً مصورة ويتسلى بقراءتها، يستغرق الثاني في تأمُّل القمر والبحر والشاطئ، يُخرج ورقةً من جيبه يسندها على حقيبته، كأنه يتأهب لكتابة قصيدة، يدفن الثالث رأسه بين يديه، ويستسلم للنوم وأسمع شخيره، يتطلع الرابع إلى ساعته وينظر للنسر. أما الخامس فيراقبني ويرصد حركاتي، وكأنه سيقدم تقريرًا علميًّا عني. بعد قليل ينهشني النسر. أعرف ألَّا أمل ولا فائدة من الصبر. أصرخ فيهم: سفَّاحون وجلَّادون، أسنان جراد معلون، هل غفلت عنكم عين القانون؟ أظننتم أن الأرض خراب والناس نيام لا يصحون؟ من أين خرجتم! من علَّمكم حمل السوط مع السكين؟ مرَّغْتُم وطني في الطين، يا أكلة لحم البشر النهِمين، صرتم أمراء وسلاطين، وبنيتم عرشًا فوق قبور المهزومين، إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم تدرون، أم أنتم لا تدرون؟ إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم سجان وسجين، جزار مطعون من نفس السكين؟ قارئ الجريدة تائهٌ في صفحاتها. والمتململ لا يكف عن النظر لساعته. والنائم لا يصحو، بل يرتفع شخيره. أما الجالس فليكن جاره، ويقول بصوتٍ عال: النغمة القديمة، مسكين لا يعرف شيئًا. يزداد يأسي، فأعاود صراخي: أنا من جيلٍ مهزوم، حاولنا نصلح وضع الكون المشئوم، خرج العالم من محوره، زاد الظلم على المظلوم. يا كم قلنا وكتبنا والجرح قديم، حتى صرنا كالبُوم. الحرية تُذبَح والعدل يتيم.

ضحك كأني ألقيت دعابة. أغرق في الضحك، وقال: قلنا وكتبنا! جبل الأقوال وثرثرة الكاذب والدجال. أين الأفعال؟ أين الأفعال؟

ينتبه النائم، يُلقي القارئ جريدته من يده، ينظر بقلقٍ إلى ساعته ويعتدل، يشير المترقب للنسر فيتحفَّز ويرتفع جناحاه، ويندفع كالسهم نحوي. في لحظةٍ يصل إلى هدفه، تؤلمني الطعنة، ينفتح الجرح، يرجع إلى الصخرة، يتحفز، ويرفرف بجناحيه، ينطلق الظل الأسود، تزداد الطعنة ألمًا، يتدفق دم، تسقط قطراتٌ من منقاره، تنفذ عيناه بلحمي كوميض البرق، أصرخ من ألمي: النسر يفتت كبدي. ينهش لحمي، ويمزق جلدي.

يردون بصوتٍ واحد: ذنبك أنت.

– لا المعجزة صنعت، ولا الكون المقلوب عدلت.

– لكنك قد فكرت، والنار سرقت.

– والسارق أصبح مسروقًا، والفكر تدلى مشنوقًا، ما عدت جديرًا باللعنة.

– فلماذا تخنق مخنوقًا؟

– اسأل نفسك، اسأل هذا النسر!

لم يحتج إلى سؤال، فسرعان ما انقضَّ كالصاعقة الكاسرة على كبدي. لم أستطع أن أتحسس الجرح، إذ كانت يداي مربوطتَيْن إلى ظهري. لكنني بصعوبةٍ نظرت إليه. هالني أنه لم يعد يؤلمني؛ إذ بلغ الحد الذي يتخطى الإيلام، ويصل إلى الغيبوبة. أردت أن أفتح فمي وأصيح: أين رسول الآلهة من الأوليمب؟ أين عطارد أو «مركور»؟ لكني يئست من العثور عليه. فربما كان الخمسة الموكلون بعقابي هم: عطارد، مركور. وربما يكون هو نفسه قد نسي دوره، واختفى أثره. وعَمَّ أتراجع أو أتنازل؟ جسدي عروه وفتحوا بطني، لم يبق هناك سر، حتى حافظتي يمكنهم أن يفتحوها، ولا بد أنهم سألوا مدير الفندق عني، أو سألوا العازف الصغير، من يدري إن كان مدير الفندق نفسه هو الذي أرسلهم إليَّ؟ أخذت أنفاسي تتلاحق، غام الأفق بعيني، غطتني سحب الغيبوبة، وأقفت على عزف الناي وريش يتناثر في الجو. هل تذرو الريح جناح النسر؟ ونظرت إليه، كان كجنح الليل، تكوم كالحجر الصلد، وانطفأ بريق المجد، والريش يخلق في الجو، ويصبح أجنحة، تنبت فيه القدم، الرأس، المنقار، العين، وينادي أحد الجلادين عليَّ: انظر ما أخفيت، العش امتلأ ففر الطير.

لم أعرف ماذا يقصد. كان الريش لا يزال يتطاير. وأنا أتابعه شغوفًا به، وأراه يتخلق أمامي طيورًا مختلفة الأشكال والألوان. رفع جلاد آخر صوته، وأخذ يقول: لأنك أخفيت النار، كتمت السر، لا استدفأت ولا أدفأت الغير، ولهذا ضاق القفص وفر الطير.

أخذوا يرددون وراءه: فر الطير، فر الطير.

عيناي مشغولتان بمتابعة الريش والطيور، والحياة التي تتخلق كالسحر تمنعني أن أكترث بصياحهم. وهم كذلك لا يكترثون بي، ويواصلون غناءهم الرتيب: كتبت وقلت: لكن لم تك أنت، لم تك أنت.

أغاظني كلامهم، فصِحْت بهم: لم أكتفِ بالقول، فعلت، ما كان بوسعي قدمت، ضحكوا واستمروا في الغناء: لكنك خلف قناعٍ عشت.

قلت وأنا أشيح بوجهي: يكفي أني ما قصرت. لم أقسُ على أحدٍ وقسا الزمن عليَّ.

ضحكوا وأخذوا يصفِّقون: وعلى نفسك أنت قسوت. انظر هذا الطير الغاضب يخرج من كبدك، يخرج في صمت. نحن فتحنا القفص فرفرف في الجو، وراح يغني عذب الصوت. أما أنت فقد أهملت وترددت.

– يخرج من كبدي؟

تؤلمني رقبني وأنا ألويها لأنظر في كبدي. حقًّا كان الريش يخرج منها. ينتشر في الفضاء كقطعٍ متناثرةٍ من قوس قزح. أسمعهم يضحكون ويقولون: تأمل هذا الطير، وانظر للوجه. وستنكره أو ستعرفه على الفور. تدوي الطيور حول رأسي، تتمهل قليلًا أمامي لأتفحصها. أحقًّا أعرفها؟ أنكر بعض الأوجه، لا أذكرها، أعرف بعض ملامحها: سلطان يعشق جاريته، والجارية تحب العبد. وهذا الطير: إيزيس الملكة تهوى الفلاح المنحوس، وتعلمه، تبعث فيه الروح كما فعلت بأوزيريس. ما هذا أيضًا؟ قارون تتبعه سبعة طيور. يا للذاكرة المثقوبة كالغربال! والحكماء السبعة! ومن هذا؟ هو أوديب، أوديب يدافع عن نفسه، إن أجرم في حق الشعب، فإن الشعب كذلك شارك في جرمه. وأب يحتضر ويلقي الأبناء عليه التهمة، تنتظر الزوج، وتغزل ثوبه، حين يعود ويُغرق في الدم كفَّيْه تصده، تنكر وجه القاتل، ترجع للمغزل، تنسج ثوب الزوج الحق وتنتظره، أطفال تبحث عن آباء، آباء تبحث عن أبناء، ووجوه أناسٍ أعرفهم، فلاحون وخدم وقضاة، رسامون وشعراء ولصوص مهرة، دجالون وجلادون ونهازو فرصٍ فجرة، أبطال أساطير ومساكين وثوار وضحايا الثورة … إلخ. كانت الطيور تحلق في الجو، وتقترب مني، وتدوي في أذني، ثم تبتعد وتختفي. لم يمض وقت طويل، حتى كانت كلها قد ذابت كقطع السحاب التي تسوقها الرياح أمامها، وتحرقها أشعة الشمس، فتشف قليلًا قليلًا، حتى تتلاشى. صفت السماء وهدأ الدويُّ والطنين. وانكفأ النسر على نفسه، وأخفى رأسه بين جناحَيْه، واستسلم للنوم، وسكن الألم، فلم أعد أشعر بوخزه واحتراقه. وتطلعت أمامي، فإذا الجلادون الستة واجمون كتماثيل قرودٍ متراصَّة في مدخل معبد. وانطلق صوت الناي، حنونًا، منسابًا في شفافية شعاع القمر الذي ازداد توهجًا في السماء كتفاحةٍ ذهبية. كانت هي الساعة التي تسبق طلوع الفجر. غلالة تغطي وجه الأرض، رمادية داكنة، تشبه سحابة غبارٍ فوق أرض معركةٍ لم تتضح. كنت قد تعبت وثقلت جفوني، فتراخى جسدي وتمدد، وسرى في كل شيءٍ كما سرى فيه كل شيء. وإذا بالناي يفتح عيني، والصبي الساحر يبتسم عن فمٍ عذبٍ نضيد الأسنان. لولا القيد في ذراعي وساقي، لولا الخدر الباهت الذي يلفني كالضباب، ولولا أن النسر ما يزال في مكانه، والتماثيل الستة صامتة كالأصنام أمامي، لولاها لقلت لنفسي: كابوس زال. ولكن ها هو الصبي يعزف، كأن لم يكن شيء. واللحن يشبه أن يكون تحيةَ ترحيبٍ واستقبالٍ لموكبٍ قادم. ويبعد الصبي الناي عن فمه ويناديني باطمئنان: ها هو قادم! أهمس من مكاني: مَن؟ يدير الصبي ظهره إليَّ. يفتح ذراعيه كمن يستقبل ضوء الفجر الطالع بعد هزيم الرعد، وقصف الريح بليلٍ عاصف: بشر لا كالبشر! إله أو شمس!

البطل الشمس

كان يتمشى على الشاطئ في جلال أبوللو وجماله. كيان أسطوري عالي الجبهة، شامخ الأنف كبطل روماني، منسدل الشعر على الكتفين، لا هو بالطويل النحيل الذي يشرئبُّ عبثًا للسماء، ولا بالقصير السمين الذي تجذبه العناصر للأرض. يقترب قليلًا في مشيته الرائعة كجيشٍ زاحف، تبدو عيناه الواسعتان السوداوان كعيني نسرٍ هبط من الأوليمب لتوه، حلق فوق البشر، وعبر حدود الحياة والموت. وقف الصبي مفتوح الفم يتأمل عينيه، وفمه الدقيق، وذقنه الحاد المدبب، ولا بد أن العينين الواثقتين اللامعتين استغرقتاه، فظل يحدق فيهما ونسي الناي على فمه. كان ينحني على الرمال أحيانًا؛ ليلتقط قوقعة أو يفحص حيوانًا بحريًّا، أو يتأمل قطعة حجر. ثم يفتح ذراعيه وصدره القوي العريض للشمس ويهتف: لو لم تكن العين شعاعًا من نور الشمس، ما أمكنها أن تبصر ضوء الشمس. أيها الصبي الوديع الجميل، أنت محظوظ إذ تعيش في بلاد الشمس. كانت روحي تتضور جوعًا للدفء، فذهبت لروما وصقلية وألقيت العبء، عبء ضباب بلادٍ تخنق أنفاس المرء. أنت محظوظ، يا ولدي. لِمَ لا تتكلم؟ ألا تحسن غير الغناء؟ وهذا الناي الذي أراه، أتكون صبيًّا لساحر؟ أغراني هذا الولد الماكر، واشتهرت أغنيتي عنه. جرب مثله معلمه أن يقرأ بضع تعاويذ تسخر روح الأشياء، نسي حروف السر، ففاض الماء، وأغرق جدران المنزل والأبهاء، يا ولدي، لا تتعجل سير الزمن، ونضج الأشياء، كسلحفاة «زينون» أرادت تسبق خطو أخيل العدَّاء، خذ نايك، واعزف أغنيتك للبحر وللأفق الوضَّاء: هل تذكرها؟

رد الصبي بصوتٍ واهنٍ رانَ عليه الخجل: لست صبيَّ الساحر يا مولاي، أنا الصبي الآخر، ذلك الذي روَّض الأسد الشرس بغنائه وعزفه على الناي.

يتعجب السيد، ويرفع حاجبيه الثقيلين: حقًّا؟ إنه كذلك صبي ساحر. استطاع بقوة اللحن والإيمان أن يسيطر على فوضَى العناصر والغرائز، ويخلص العجوز والأم وطفلها من خطر الوحش، ويؤمِّنهم من أخطار الطبيعة عندما تثور البراكين، وتغضب الزلازل والأعاصير. ذلك هو سر الفن يا ولدي، لغز المبدع الذي ينتصر على طبيعته الحيَّة بالفن والدين والأخلاق. كانت أقصوصة صغيرة، لكنها من النوع الذي يحار الإنسان كيف وُفِّق لكتابتها؟ هل تذكر أغنيتك فيها:

الخالد يحكم في الأرض،
نظرته سادت في الأفق.
الأُسْد انقلبت حُملانًا،
والموج تراجع للخلف.
والسيف اللامع قد أمسى
يتجمد كمدًا في الغمد.
الأمل تحقق والفن،
وتجلت معجزة الحب.

ليس عجيبًا أن أجد صبيًّا مثلك يسحره نور الشمس الطالع، ويواجه قوة هذا العنصر السيال بالعزف والغناء. شيقة وممتعة هذه الأرض، يبدو أن عقلي الباحث عن كل جديدٍ لن يشبع من أرضها، وسمائها، ونباتها، وأحجارها. الأبدي فعَّال في كل مكان، خصوصًا في هذا الجزء من العالم. لكن بالله عليك: أين أنا الآن؟

هتف الصبي فرحًا: في الشرق، الشرق الطهور.

وضع السيد يده على ذقنه، وقال: نعم، نعم. لا بد أن تكون هذه قطعة من الشرق، ثم مضى يردد بصوتٍ هادئٍ يخرج من صدره ليعود إليه وينفذ فيه: لله المشرق، لله المغرب، الأرض شمالًا، والأرض جنوبًا، ترقد آمنة، ما بين يديه، أهي بلاد شقيقي، توءم روحي في المشرق؟

صاح الصبي: حافظ؟ لا، بل أرض المتنبي، وجميل بثنية، وكثير عزة.

تعجب السيد، وأخذ يتلفت حوله، ويتطلع إلى الشمس البازغة في الأفق كأنه يريد أن يشدها إلى صدره: حقًّا، ليتني عرفت عنهم أكثر مما عرفت، لكني هاجرت بروحي الشرق، جددت شيخوختي وشعري بالحب والغناء، وتطهرت من نبع الحضر، وحومت قصائدي حول أبواب الفردوس، هذا الدفء، هذه الشمس، لنبتهج يا ولدي بيومنا العابر الجميل.

كان الحديث ودفء الشمس قد ساقهما إلى التجول على الشاطئ. وكانا قد وقفا تحت الصخرة يتطلعان للأفق، ويجوسان على الرمل والحصى. ويملآن صدرهما بنسيمِ الفجر النقي. لم يرفع السيد رأسه إلى الصخرة إلا عندما غلبني الألم على بهجة الاستماع إليه، فخرجت منه الآه. حانت منه التفاتةٌ إلى الصبي، ونظر إلى أعلى وصاح: ويلك! من هذا المسكين على الصخرة؟ هل تتكرر في هذا الجزء من العالم مأساة اللص الأعظم؟ شاركه الصبي في التطلع نحوي، غام الأسى في عينيه وعلى خديه وأطرق برأسه. صاح السيد غاضبًا: هل يصنعون هذا بكل الثائرين؟ أيبعثون المأساة القديمة في كل مكان؟ هذه الصورة القديمة من أيام شبابي. لقد نسيتها، وانتصرت عليها. ألا أستريح حيًّا ولا ميتًا؟

رفع ذراعه وأشار إلي: أنت! من قيدك إلى الصخرة؟ أنت؟

صحت من الألم: مشنوق تتدلى رأسي في بستان المشنوقين. ربطوا ساقي في الصخرة.

– من؟

– ستة جلادين، والنسر الأسود فتَّتَ كبدي، مزق لحمي كالمجنون.

– ومركور؟ هل بعثوه إليك لتخضع للطين؟ وترد النار إلى الآلهة الموتورين، لا تفعل أبدًا.

– ماذا تقصد يا مولاي؟

– إن البشر ضعاف يحتاجون لمن يخلقهم ويسويهم، ينفخ فيهم سر الكلمة، سر النار ويهتف فيهم: كن فيكون. من يفعل هذا غير الشاعر، من يبعثهم، يهدي الخلد إلى الفانين؟ لست وحيدًا فوق الصخرة، فعلوا هذا بألوفٍ قبلي، وألوفٍ بعدي، أنا من نسل بروميثيوس المسكين. لما كنت شبابًا مثلك.

– قد جاوزت الخمسين.

– لا تيأس، فاليأس مهين، والروح المبدع يهزم سيف الزمن المسنون. في ريعان شبابي كنت رسول النار إلى الطين، عشت وغنيت وصغت بمطرقتي: ثوارًا، أبطالًا، فنانين، ورجالًا لا ينهزمون ولا يقعون على أقدام الجلادين، يثقفون بأنفسهم، يتحدون، يحبون؛ فالقلم الخالق يكتب ويعبر عن خلاق في الصدر دفين، فاخلق يا ولدي.

– جف معين الخلق، ويئست نفسي.

– غامر واستغنِ بيومك عن أمس.

– تعبت، تعبت. وعشت وحيدًا أحمل بؤسي.

– أنا أيضًا جربت الوحدة والصمت، لكني عشت وأحببت وأبدعت، فقهرت الموت.

– كيف؟ أجبني.

– مت لتكون! بذلك تقهر موتك. ضحِّ بنفسك كي ينشأ كلٌّ أرقى منك. فالقطرة تجد نفسها عندما تنعدم وتصبح لؤلؤة، والفراشة تجد نفسها عندما تحترق في لهب الشمعة، غنِّ معي يا ولدي:

وإذا لم تصغ للصوت القديم،
داعيًا إياك مت كيما تكون؛
فستبقى دائمًا ضيفًا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين.

– أأموت لأحيا؟ أولم يشبعني زمني موتًا؟

– كل ما يهوَى الوجود، سوف يَهوِي في العدم. عش يا ولدي.

– كيف أعيش؟

– في اللحظة. في أيام شبابي جربت اليأس. أوشك أن يوردني حتف النفس، لم أتردد، أمسكت القلم لأخلص من قبضته.

– ما أكثر ما سود قلمي! بحر مدادي لم يغسل ألمي، ما قربني شبرًا من نفسي.

– اكتب ما يمليه عليك الحس، وكن نفسك يا ولدي.

– أفعل هذا جهدي.

– الفعل، الفعل. ها أنت نطقت بنفسك. في البدء الأول كان الفعل. هذا ما كنت أقول وأعمل. والخالد يعمل في كل مكان، ينشط في كل زمان، لا يتخلى عن مغزله أبدًا. فلماذا لا تفعل مثله؟ الخالق فعال، كن مثله، والخالق يبدع، فلماذا لا تبدع مثله؟ خلق الإنسان ليخلق، ولهذا استخلفه الله على الأرض؛ لينطق يبدع يخلق.

– سأحاول، لكن …

– لا تترك لحظة! عش في اللحظة، فالإنسان فقير لا يملك إلا اللحظة، فليحرث هذا الحقل بنفسه، وليزرعه ويجرب حظه، هذا ما يفرضه الوعي، وتفرضه اليقظة.

– لكن اللحظة تعبر، تفنى كالقطرة في بحر الزمن وتهدر.

– املأها بالعمل المثمر تغدو القطرة لؤلؤة، والحبة جوهرة، والأبد سيطبع خاتمه فوق الزمن المدبر. أتقول بأن اللحظة تهرب منك، سوف تعود شقيقتها تتوسل لك: املأ كأسي، لا تتردد، جدد خمري تتجدد، فالنشوة منك إليك.

– النشوة، والخمرة والكأس.

– بهذا تعرف سر النفس!

– ما أطيبك وأحكمك! فهات الكأس.

أقبل السيد الكبير عليَّ، وأخذ يفك الحبال المربوطة حول القدمين والساقين. أحسست أنفاسه الدافئة ترف على وجهي كأجنحة النسيم.

ثبت بصري في عينيه السوداوين، شمسان هما أم أفق يسع الكون؟ وأنا أشعر بين يديه شعور الابن حيال الأب، يختلج الإعجاب بصدري والرهبة والحب.

تحمس الصبي، فأخذ يساعده في فك قيودي، ولمست يده جرحي فنادى: انظر يا سيد، جرح وبقايا دم. مال السيد علي ومد يده القصيرة المكتنزة، فلمس الجرح. ابتسم، وقال: لا بأس عليك ولا ضير، أنا أيضًا عشت وفي جنبي جرح مر، جرح الشعراء قديم لا يندمل مع العمر، ينفتح إذا كتب القلم ويبتسم كثغر نَضِر، فاغمس قلمك في هذا الحبر، كي يحيا الشعر، كي يحيا الشعر.

هل تحتمل النملة أن يمدحها الأسد أو النمر؟ قلت وفي عيني الحسرة وخدودي تحمر: يا مولاي لقد هرب الشعر، وانحسر الموج عن الصخر، صار عجوزًا أعمى في زمن الغدر، يُجلد بسياط الذل وأكل العيش وطلب الستر، داس على جثته أقزام العصر. انظر يا مولاي لهذا النسر.

أدار وجهه ناحية الصخرة المقابلة. كان النسر لا يزال منكفئًا على نفسه ورأسه مدفون بين جناحيه، أحسَّ بعيني النسر البشري، فارتجفت عيناه قليلًا، واضطرب جسمه الجاثم كالليل أو الهم. ابتسم السيد، وقال: أعرف هذا النسر. يعرفه المبدع أنى كان على اليابسة أو البحر، فتت كبد بروميثيوس، ولن ينجو منه إنسان حر، ينتشل اليأس من هاوية اليأس، فيصبح كالريح العاصف، كالموج الهادر في البحر، من صدرك يخرج هذا النسر، القلق الجامح والألم الجارح، والفرح الطافح والبشر، لا تخش النسر، لا تخش النسر.

قلت: وهؤلاء.

سأل في رفق: من؟

أشرت إليهم، كانوا ما يزالون في مكانهم، قابعين أمام الصخرة كأطلال جدارٍ عتيقٍ ينظرون إلينا صامتين.

قال السيد: أشباح هؤلاء أم آدميون؟

– بل جلادون.

صاح السيد: من أنتم؟ من أرسلكم، من كلفكم بالأمر الملعون. أقضاةٌ أنتم أم متهمون؟

وقف أحدهم وهو يتلفت إلى رفاقه. مدَّ ذراعيه للأمام، ثم رفعهما لوجهه وتنحنح قليلًا، ثم قال: معذرة يا سيد، نحن …

صاح بغضب لا يصدر عمن كان رزينًا متئدًا مثله: أعرفكم. أتذكر سحنتكم؛ هل أنتم في كل زمانٍ ومكان؟ باسم الفن، وباسم الشعل لسعتم جسدي كالحشرات، سممتم بئر حياتي كالحيات، لا تتوهج نار تُطفئُوها، لا يزهر شجر حتى تجتثوه، لا يرتفع بناء حتى تلقوه بالأحجار، بشر أنتم أم دود، ووجوهًا أنظر أم أقنعة كلاب وقرود؟

قلت: جلادون ودجالون. غرزوا الناب بلحمي طول العمر، حتى ضاق الصدر، اختنق الصدر.

زعق الواقف وردوا عليه في صوتٍ واحد، بل نحن خرجنا من هذا الصدر كما خرج النسر، نحن رؤاه، هواجسه، أحلام صباه ظنون الفكر، يأمرنا نصدع للأمر. عشنا معه في السراء وفي الضراء، وفي الخير وفي الشر، رجعنا وظمئنا معه، ذقنا الحلو وذقنا المرَّ، ليلًا ونهارًا ناديناه ودعوناه في الجهر وفي السر: انهض وتحدَّ القهر، وافتح عينيك وقلبك للشمس، وألقِ بجسدك في البحر، حتى غضب علينا، نسي ملامحنا، ألقانا في قاع البئر. ضقنا يا مولاي بصمت القبر، فحملناه اليوم — كما تشهد — في الفجر، كي يتطهَّر بالنور ويُخرج من منجمه الدر، لم نأسره، حاشا لله، ولكن أنقذناه من الأسر، كي يبصر، يعرف، يعمل …

قاطعه السيد: يعمل؟ ماذا يعمل؟ لا ينقذكم إلا العمل الحر. يا أولادي، تلك وصية عمري.

قلت ساخطًا: أولادك، كشفوا عريي، نهشوا لحمي.

احتج الأسود الذي يتحدث بلسانهم، وقال: من يأكل من لحمٍ مر؟

نحن تركناه لهذا النسر، ينهش كبد النائم في كهف الغيب أو السر.

ضحك السيد فجأة. لم تأت الضحكة من فمه، بل راحت تنتشر في كل أعضائه، فتهتز وتتمايل وتعلو وتهبط كالقارب الذي تجرجره موجة هادرة. نظر إليَّ وفي عينيه وميضُ الشفقة والحب، والتفت إليهم كأنه يستأنف كلامه: لا تنسوا، وهو رسول العمل الحر.

وقفوا خاشعين، خفضوا رءُوسهم، وأخذوا يهزونها في خضوعٍ كالرهبان الصغار أمام الكاهن الأكبر. قال كبيرهم: نصدع للأمر، نصدع للأمر.

وقف السيد على الصخرة كالقائد الذي يُصدر أوامره بالزحف، سطعت جبهته الشامخة في ضوء الشمس، واحمرَّ وجهه كالشارب النشوان، وأخذ يشير بذراعه الممدودة إلى الأمام والخلف: هيا للعمل الحر، وأقيموا الأرض الحرة كي يحيا فيها شعبٌ حر. هيا الآن وقبل فوات العمر، فالحرية يغزوها إنسان حر، يعمل ويغني في كل مكانٍ يزرع شجر الخير. شقوا الأرض هناك، اسقوها حتى تخضرَّ، والأكواخ البائسة أمام البحر، يسكنها نمل أغبر وجراد مصفر، ابنوا في موضعها المعمل والساحة والقصر.

قال كبيرهم مستفسرًا: هل تبني الكلمة وتعمر؟ ماذا تقصد؟

قال في حماس: لتكن الكلمة عونًا للعمل الحر. هيا انتزعوا من قبضة هذا البحر أرضًا ينمو فيها الزرع، ويعبق فيها الزهر. شق قناة يجري فيها ماء النهر، كي يسقي الأرض الظامئة، فتلهج بالشكر، أو يطعم شعب محرومًا عذَّبه الفقر. شق قناة في هذا القفر، ليس كثيرًا من رجل الفكر. هيا هيا، شقوا الأرض، أزيحوا الصخر، حان الوقت لأمضي.

قلت: ألا تبقى معنا؟

التفت إليَّ في حنان ووضع يدَه على كتفي: أما أنت فغير نفسك، واحمل قلمك في الحال، كما تحمل فأسك. بدأ طريقك فأتِمَّ الرحلة، وتحدد قدرك فاسلك سبله.

أمسك بالقلم وأمسك بالكأس

ذهب السيد كما جاء، لم نعرف إلى أين، كما لم نعرف من أين أخذنا نتطلع إليه، وهو يخطو فوق الصخور كفارسٍ غريبٍ امتطى صهوة الريح والجبال والسحاب. أخذ السود الستة يتابعونه بأبصارهم، كرجال الفلك الذين يرصدون كوكبًا سطع في السماء، ثم اختفى. رحت أنظر إليه كأني أنظر في نفسي. لا بد أن أجيال البشر قد عاشت وتناسلت وبنت وخربت وتحملت؛ كي تغذي جنينًا في أحشائها، وتنميه وتربيه، وتصبر على المخاض مئات السنين لكي يهبط أرضنا الكئيبة، ويسطع في سمائنا مثل كوكبٍ رحيمٍ يعرف كلَّ شيء، ويغفر كل شيء، ويعطي المثل الأصغر للأبدي الحي الفعال على نول الزمن الأزلي. ظهرت كواكب عديدة مثله في سمائي وسماء الناس. أحببت كثيرًا منهم، وتعلمت على أيديهم، منهم أعمى مجدور الوجه، شعت منه ألسنة اللهب الحارق بالثورة والصدق، منهم من يسبح في الآخرة، ومنهم من غاصَ بأعماق الطين، من ثار وفار وحطم عصره، من عكف على هندسة الكون وترتيبه، من غنى وحده، أو عزف على قيثارة الحلم ومدن الغد، من أضحكني في ليل الصمت، من أبكاني، زرع بنفسي شجر الموت، من أحياني في صحبته فسئمت صحابي، أهلي، جيراني، لكن هذا النور المنسجم الهادئ …

انتبهت لصوت الناي فيَّ يترقرق حنانٌ لم أعهده، لا بد أنني جُبت متاهتي على رنينه الشجي. كان الصبي يعزف تلك الأغنية التي أنشدها للسيد، وصاحبت وقع حركاته وسكناته، حتى خلت أنه يتبع الشبح المتلاشي بروحه، أو يحاول أن يسترجعه بحنين شكواه. ولا بد أنه لم ينس وجود الستة بعيونهم السود وسُتراتهم السوداء وحقائبهم السود، يقفون هناك يشيعون صورته الغائبة، كما يشيع اللحادون جثة كبير سمعوا عنه، وأدوا نحوه مراسيم الواجب، واستراحوا منه.

– هيا للعمل.

دوَّى صوت كبير الجوقة الكالحة كصوت بوقٍ أو نذير. كان معنى الإشارة الآمرة أن يكف الصبي عن عزفه، أن أهبط من مكاني على الصخرة، أن أقبل على فصل العذاب الجديد. وقبل أن أستجمع بقية قوتي لأنحدر على الطريق الوعر المليء بالحصى والحجارة المدببة كالسكاكين التفتُّ لأنظر للنسر. كان قد غادر موضعه، هل طار ليلحق بالسيد؟

سبقتني الجوقة إلى مكان العمل، وسبقني الصبي إلى المثول بين أيديهم. في لحظاتٍ فتحوا حقائبهم، أخرجوا منها ملابس العمل الزرقاء، وسرعان ما ارتدوها، أخرجوا منها — لشدة عجبي — فئوسًا وجرافات صغيرة بأيدٍ طويلة، وأكياسًا وجرادل وعِصيًّا كالملاعق الكبيرة، تنتهي بعضها بأطرافٍ مسنونةٍ كالأشواك.

– هيا للعمل.

هتف كبيرهم فانطلقوا بأدواتهم أسرع من خفقة جَفْن. هم أنفسهم الذين بدوا منذ قليلٍ كأفراد الجوقة في قداسٍ أو مأساة، أصبحوا الآن يجرون ويذهبون ويجيئون بفئوسهم، وحفاراتهم الصغيرة، وعصيهم وأكياسهم راحوا يشقُّون الأرض، ويخرجون التراب في أكوامٍ لا تلبث أن تتراكم كالكثبان الصغيرة.

– هيا.

كنت قد وقفت أراقبهم، لا أدري ماذا أفعل. سرحت بي الأفكار على الرغم مني، كأنني أشاهد شريطًا يدور في الخيال، حتى نبهني الصوت من جديد: للعمل. أتظل حياتك تحلم وتفكر؟

تحركت، ولكن في غير اتجاه.

خذ فأسًا واحفر، أوَلم تسمع ما قال السيد؟

قلت معتذرًا: نتعلم مسك الفأس، كما نتعلم مسك القلم.

– ماذا تنتظر إذًا؟ أتكون يداك أحنَّ على الأرض البائسة من العامل والفلاح؟ هل تخشى أن تجرحها؟ إن الأرض ترحب بجراحٍ فوق جراح.

– لا أخاف يا سيدي، ولكن لا أدري.

– هيا، هيا. يكفينا ثرثرةً وهراء، تعال وجرب أن تفتح صفحة هذا العالم، أن تقرأ فيه بالآلة والعتلة والفأس.

– الفأس؟

– نعم. ألم يسبق لك أن لمست فأسًا؟ تنوحون على الفلاحين دون أن تجربوا الفأس. تمجدون الأرض وتنزهون أيديكم وستراتكم اللامعة من الطين. هيا، هيا.

تذكرت المرة الوحيدة التي لمست فيها فأسًا. كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري عندما زرت الحقل، في يدي كالعادة كتاب، وفي قلبي عرائس الأحلام، وآمال المستقبل، وحسرات الحاضر، ورياح السُّخط، وأشواق البعد تصطخب في الضباب. كان الكتاب قد استهواني على الرغم من صعوبته، فقد كان بالفرنسية التي لم أحسنها، ورحت بعنادي أستشير القاموس الصغير بحجم الكف، الذي لم يكن يترك «سيالة جلبابي» الأبيض. قصة حبٍّ كانت، والبطل اليائس كانت محبوبته تخلص للزوج المنتظر المخلص، زوج يعرف واجبه ويؤدي عمل الدولة كالساعة أو دورات الأفلاك، البطل اليائس عقَدَ العزم على الانتحار، يجلس إلى مكتبه؛ ليكتب رسالة يطلب فيها خدمة من صديق، والخدمة أن يرسل إليه غدارة. وثعبان النيل الصغير يتمدد ويسحب جسمه المتلوِّي اللامع ويقترب مني. التفاتة سريعة إلى شاطئ الترعة، سرحة قصيرة مع دموع البطل المنتحر، وانتفاضة مذعورة يغيب فيها العقل، ويتحول الجسد إلى عصفور مخبول أو حجر مندفع بقوةٍ لا يعلمها. جريت من الجرن المكوم بالقش إلى حظيرة البهائم. أخذت ألتقط أنفاسي المبهورة أمام الأبقار والحمير التي رفعت رءُوسها عن العلَف، وراحت تنظر إليَّ متعجبة، لم يكن الفلاح العجوز الضئيل الوجه هناك، جريت إلى حجرته، وأنا أهتف: ثعبان! ثعبان! خرج الرجل من الحجرة في هدوء كعادته، بين يديه إبرتان كبيرتان، وخيوط من الصوف الأحمر، قال في هدوء: هل أمسكته؟

– أمسكته؟ لقد جريت منه.

– شاطر، أين رأيته؟

قلت وأنا أتخفى في ظله: عند الجرن، لا بدَّ أنه تسلل في القش.

– في هذا الحر. كان يزحف (نعم يزحف، في حياتي ما كرهت مثل الزواحف، الدودة ترعبني، البرص يشيب شعري، يكتم نفسي أكثر من تمساح، عين الثعبان تلسعني في النوم وفي اليقظة، ترهبني أكثر مما ترهب حمامة مسكينة يهم بابتلاعها، لن أنسى المنظر في حوض الزجاج!) قال العجوز: سنجده إن شاء الله، اتجَهَ ناحية الترعة. مشيت وراءه، قال لي: استرح أنت، وسأحضر وأعمل الشاي، مرت لحظات قصيرة، عاد بعدها رافعًا الفأس في يده، يتدلى من حدِّه ثعبان صغير ينزف دمًا. ها هو يا عم — لعنها الله — ننفضها عن رءُوسنا وأرجلنا كالبراغيث. صحت به: ارمه في الترعة، أدفنه في التراب! ادفنه؟ أنت طيب القلب. ها هو راح! وذهب إلى الباب وطوحه بذراعه السمراء البارزة العروق. اقتربت منه وأنا أنتفض، أمسكت الفأس لأول وآخر مرة!

كانت عينا الكبير تحدجني بنظراتٍ كلدغة الثعبان. تقدمت أتناول فأسًا مَدَّها إلى أحد الرجال الباقين في صبرٍ يُحسد عليه. همس الصبي: تقدم، تقدم، افعل ما يقولون. طمأنته: لا تخش عليَّ. وأخذت أرفعها وأنزلها في الحفرة التي بدأت تتسع. أخرجني الصوت الغاضب من صمتي: احفر جيدًا، ما هكذا الحفر، انظر لرفاقك، علموه كيف يمسك الفأس ويصوبها. أقبل أحدهم عليَّ، أمسك ذراعي وشدد قبضة يدي على طرف الفأس، رفعها بقوة وهوى بها إلى القاع. أنَّتِ الأرض بحشرجة المحتضر. ظهر التراب تحتها بُنِّيًّا غامق اللون كجلد حيوان مسلوخ. تناثرت حبات التراب في عيني، فاحمرت وسحَّت منها دمعتان تقطران على خدي. قهقه الكبير، وأخذ يلكز رفاقه في جنوبهم، فيجاوبونه بالضحك. مال أحدهم على جنبه في عمق الحفرة، ومسح العرق عن جبهته، وأخذ يضرب كفيه: مثقفون، مثقفون.

زعق الكبير عندما رآني جامدًا كتمثال بلَّله المطر، أتلفت يمينًا ويسارًا، أعتذر عن الذنب، أعجب من ضحكاتهم وأمد بصَري للبحر أسترحمه، وللبقرة التي كانت لا تزال ممددة على الشط تمضغ وتجتر في سلام، وكأني أدعوها أن تقف في صفِّي. صرخ الكبير: لا تتلفت للبقرة. تمتمت معتذرًا: أنا أفعل ما تأمر به. صرخ من جديد: هل عدنا للأيام العكرة؟ ثبت عيني رغمًا عني على البقرة، وسط الصخب والضجيج، بل وسط اهتزاز الزلزال نفسه يمكن أن يفزع الإنسان لحظة إلى واحة أمن خاطفة كسراب. قلت: أنا لا أهمل عملي، أفعل ما في وسعي. علت صرخته، حتى صمَّتْ أذني: أتسمي هذا عملًا؟ علينا أن نكمل شق القناة. هل نسيت الجنة التي سنزرعها هنا؟

قلت: لا لم أنس، فأنا أعيش لها.

صاح: إذًا فاعمل، اعمل. تردد صوت الناي، متأرجحًا يهتز على إيقاع الأذرع الصاعدة الهابطة، وضربات الفئوس في بطن الأرض، وسقوط التراب على حافة الحفرة كسقوط الحجارة في ماءٍ آسن، كنت أعمل جهدي؛ لكي أستحق صفة العامل. أحاول أن أبعد عني الأفكار المتزاحمة عليَّ كلسع البعوض أو همس السحَرة. وتجنبت النظر إلى الكبير، الذي كان لا يزال يحدق في وجهي. أيقظني صوته: مجتهد، لكنه لا يستطيع، لا يستطيع. ألقيت الفأس لحظةً لأستريح، وشددت قامتي قليلًا. استمر يقول: خطر الذاتية! ميئوس منه. لم أدر كيف أدفع التهمة عني، لم أدر كذلك كيف أدفع الوجوه التي بدأت تتزاحم حولي، والطيور التي ترفرف على وجهي. سحقًا لي لو عرفوا هذا! هي نفس الطيور التي خرجت من كبدي، نفس الأوجه: إيزيس وأوديب وأوفيليا، سرب الحكماء السبعة والملك سليمان، وعيسى بن هشام، أطفال وعجائز، فلاحون وشحاذون وأبطال مآسٍ، حمقى ومجانين، خدم وأرامل وبغايا وملوك، فنانون وصحفيون وثرثارون ودجالون ومنسيون ومحتضرون … صرخ الكبير صرخة خفت معها أن يرجع النسر على دويِّها، وقف الصبي مذعورًا لا يدري ماذا يفعل بيديه وذراعيه، ولا بالناي المتدلي من رقبته تصفر فيه الريح، دوت كصاعقةٍ اخترقت السماء في طريقها إلى قلبي. يبدو أن الجرح انفتح فقد سقطت قطراتٌ منه على جانب الحفر: ميئوس منه، ميئوس منه. ألقى الرجال فئوسهم على الحافة، نفضوا التراب عن جنوبهم ورءوسهم وتثاءَبُوا، بدءُوا يخرجون من الحفرة واحدًا بعد الآخر، وعندما تلمس أقدامهم الكثبان الصغيرة المكومة على طول الحافة يلوون رءوسهم نحوي ويهزوننا. هممت أن ألحق بهم وأغادر الحفرة، صاح الكبير: ميئوس منك، ميئوس منك. حاولت أن أتكلم، تحركت شفتاي، ولم يخرج صوت، نفضت التراب عن جسدي العاري المحترق بنار الشمس، ووضعت يدي على الحافة كي أقفز. انهالت ضربة فأسٍ طاحنة فوق يدي. سحبتها والألم الخانق يلطمني، ويطلق من صدري حشرجة كلبٍ مطعونٍ أو مدهوس. شل السمع وغام البصر، وجثم الجبل عليَّ، نفذت صيحته بعد قليلٍ في أذني: الحفرة لك! ردد الخمسة وراءه: الحفرة لك، الحفرة لك. وعاد يطلق زئيره المسعور:

يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.

ويهلل الرجال الخمسة، ويتمايلون طربًا، ويرددون على وقع التصفيق:

يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.

رأس هش، رأس هش

يشير أحدهم إلى الصبي الواقف تجاههم على الجانب الآخر من الحفرة كشجرة صفصاف صغيرة، تتدلى خصلات شعرها المنفوش في الماء. يحوِّل بصره عنه، ويغيب في صمته، يهتف به الكبير أن يعزف شيئًا على نايه، يجمد ويلتم على نفسه كالحجر. يصرخ فيه: يا أحمق، الحفلة تحتاج الناي! يجلس على الأرض، ويدفن رأسه بين كفيه. تقذفه يد بحصاة، ينتبه قليلًا، ثم يغرق في غيبوبته. أتابع كل شيء كالمتفرج، أهم لأقفز من الحفرة، فتهوي القبضات كالمطارق على يدي.

يعلو صوت الجوقة:

تتمنى الموت، ولكن لا ترضاه.
تشكو عبء وجودك، لكن تحياه.
خفاش الحزن يعشعش بين ضلوعك.
لا الشعر يعزي القلب، ولا العلم يجفف نهر دموعك.
العالم يرقص حولك، والدنيا تضحك لك.
فلماذا تقبع في الظلمة يضنيك الضنك،
تأكل خبز الأوهام ويأكلك الشك؟
نحن ضحاياك وجلادوك، ونحن الآسر والمأسور.
عشنا في كهفك مغلوبين، وخاصم أعيننا النور.
ماذا يضنيك؟ تكلم! أفض بما يشقيك.
الحب؟ تسرب منك. الأمل؟ تعثر فيك.
لماذا ضيعت الحب؟ أضعت الأب والأم، وضاع بَنُوك.
ميئوس منك،
ميئوس منك.
داؤك ميئوس منه، جرحك لا حيلة فيه.
نجمك — لو تعلم — نحس، دربك — لو تدري — تِيهٌ.

أخذوا يرفعون أصواتهم ويصفقون، يتمايلون ويهللون. بدوا كالجياع على مأدبة القيصر اللئيم، يمدون أيديهم، ويملئُون أفواههم، ويتلمظون، ويتجشئُون، ويمصون الأصابع والأظافر المسنونة كالأنياب. بعد الضجة والضحك الصاخب تعبوا. كاد أحدهم أن يغرق في النوم. تثاءب، أعدتهم الثؤباء، فركوا الأعين، مسحوا دمع الفرح من الجفنين. هب الكبير واقفًا، أدار ظهره إليَّ وصاح: ماذا نفعل به؟ ردوا في صوتٍ واحد: نهيل التراب عليه. أعجبهم القول، فأخذوا يرددون كأنهم يشتركون في مظاهرة: نهيل التراب عليه، نهيل التراب عليه.

استدار الكبير نحوي. مد يده فقبض على رأسي. كان دافئًا من وهج الشمس، نقشت فيه الريح جحورًا وأخاديد، شدد قبضته الحديدية عليه، حتى تأوهت: هذا الرأس؟ قالوا في صوتٍ واحد: رأس هش، رأس هش! جذب الشعر الهائش نحوه، وتخلله بأصابعه وعاد يصيح: هذا الرأس! ردوا في نفسٍ واحد:

رأس هش، رأس هش.
عش لغراب البين ومخزن قش.

قلب عينيه فيهم بإعجاب. عاد يسأل: حيرنا، ماذا نفعل فيه؟ صاحوا بحناجرهم كالثيران تردد كلمات نشيد محفوظ: لن يبرأ صاحبه، أو يهنأ بالعيش، حتى يُقطِّع هذا الرأس ويذبح كالكبش. تهلل وجهه كمن جاءه الجواب المنتظر بعد صبرٍ طويل: ماذا أيضًا؟ شق حناجرهم سيف صياح المستغيثين لإطفاء حريق: ألقوة لكلاب الحي، ارموه لسباع الوحش.

أسكتهم بإشارةٍ من يده، التفت إلى الصبي كما لو كان يعاتبه؛ لأنه لم يرافق المنشدين باللحن المناسب. لزم الصبي صمته ومد يده محاولًا أن يلمس رأسي، ثم سحبها كمن لسعته الجمر. وقف الكبير ومد ذراعيه نحو السماء والأرض، ثم خفضهما ووضع يده اليمنى على رأسي، بينما كانت يده اليسرى تتحرك كالعصا التي تقود فريقَ العازفين في وقارٍ، وتتثنى كظل راقصة في معبد:

صدت عنه بلقيس، وطردته من بهو العرش.
لو يُلقى في ظهر طريقٍ، ما اكترث بجثته نعش!

كأنه نثر أمامهم كنزًا. مدوا أفواههم المكتنزة باللحم الأحمر، فتحوها، برزت منها الأسنان، اهتزت أيديهم مع أرجلهم طربًا، صاحوا:

جزوه ليخرج منه الطيش،
يُذبَح كالكبش،
يُذبَح كالكبش!

مد الكبير ذراعه، دون أن يلتفت نحوي. قبض على شعري فصرخت، ضحك ورنَّت ضحكته عالية الصوت، صاح كذئبٍ يصرع شاة، يغرز فيها الناب، ويلقمها حجر الموت:

رأس هش! رأس هش!

الموت على بابا اليمن وكسر المرآة

أبدًا لن أنظر ليلًا في مرآة.

فقد وجدتني واقفًا على باب اليمن، شغلتني طلعته المجيدة الراسخة عما حولي. رحت أتأمل الأثر البديع الذي أطفأ الزمن أنواره: عمودان ضخمان يقفان على الجانبين كشجرتين عظيمتين غرستهما يد الماضي، ضيقتين في أعلاهما، منحدرتين بميلٍ لطيفٍ إلى أسفل، كتمثال ملكة بضة بلا رأس ولا أذرع. تفتح ساقيها الممتلئتين بذكريات التاريخ، فتمر منها مواكب غزاة، وطغاة، وأمواج حفاة وعراة، نبهني صوت يهتف: سيمر الموكب بعد قليل. ولكزني صاحب الصوت في صدري ومد لي حزمة ورق أخضر يقطف منه ويمضغ. التفتُّ إليه، هل هذا وجه بشري أم وجه جرادة ملتحية؟ وعبرته العين إلى وجوهٍ أخرى متحلقة في دائرةٍ متسعةٍ، نفس الوجوه الذابلة الصفراء، نفس العيون الجاحظة المتعبة، والأرجل الناحلة الحافية السمراء. وازدادت الحركة في الميدان الصغير، بشر وحمر وجمال ترتع حرة، كأنها في مهرجان يمتطي صهواتها شيوخ وقضاة وحراس. وطبول تدوي من بعيد وأصداء أبواق. قلت لجاري: اليوم يتم الإعدام؟ انفتح فمه الساخر عن أسنانٍ صفراء: وهل اليوم هو الجمعة؟ أسرعت أقول: غدًا الجمعة. فلماذا هذا الجمع الحاشد؟ افتر فمه ووجهه الضامر عن بسمةٍ ماكرة: غريبٌ أنت؟ قلت: إنسان مثلك، وأوحد بالله. قال: لكنك من بلدٍ آخر؟ قلت: من دار الإسلام المصحف واحد، والهم كذلك واحد. بالله عليك، ماذا يجري اليوم؟ قال بعد أن اطمأن قليلًا: غدًا بعد صلاة الجمعة يقطع سيف الجبار رقاب الكفرة. أما اليوم فيلقى الجبار رعاياه. سألت: مجلس القضاء الأسبوعي؟ تدخل جار: بل يعرض معجزة وكرامة. لم يترك لي وقتًا للتعبير عن الدهشة؛ فقد لسعته ولسعتني في وقتٍ واحدٍ لطمةُ سوطٍ مفاجئة من «عكفة» الإمام. لقد أخذوا يقطعون الساحة الصغيرة وأيديهم تلوح بالسياط، وتضرب بها الوجوه، فتستقيم الصفوف، وتشهق الصدور، وتتعلق العيون بالموكب المنتظر.

أخيرًا ظهرت طلائعه، وأخذت تقترب، يتقدمها فرسان الإمام وحراسه، جراد آخر بلحى سوداء، يزحف على أقدامٍ حافية، تبرق في وجه الظهيرة عيونهم المحمرة، وحناجرهم الحادة، وسيوفهم الطويلة المدلاة من خصورهم، وبنادقهم العتيقة المصوبة إلى الصدور. كانوا يسيرون على أقدامهم، أو من فوق بغالهم وجمالهم فيهشون الحشود ويصيحون: الإمام! الإمام! ثم يتراجعون ويتحلقون حول محفَّة كبيرة محمولة فوق أعناق عبيد سود، تتدلى ضفائر شعرهم الأجعد من جانبي رءُوسهم الصغيرة. وأخذت المحفة تتمايل، حتى توسطت الدائرة المرصوصة كالسور الطيني. أرسلت عيني إلى وجه الإمام، مستدير أبيض تحوطه لحية اختلط فيها الشعر الأسود بالأبيض والعينان متسعتان ينفذ منها بريقٍ كحد السيف. أزرار بيض بأزرارٍ سوداء، حوله حزام عريض أخضر يلمع فيه الزمرد والياقوت، ويرقد في جرابه خنجر ظهر مِقبضه الفضي المُوَشَّى بالذهب.

تفرست العينان السوداوان الواسعتان في الجموع، دوت الطبول والأبواق وصرخ العكفة: مولانا آمين، مولانا آمين. وطلع خلفه شيخ قصير في ثياب فقيه أو قاضي الشرع: اليوم ترون كرامة الإمام. هل توضأتم أيها الناس؟ تردد صوت واحد: نعم آمين! رن صوت الفقيه: ستصلون وراء الإمام، وتصلي معكم القطط والكلاب. خيَّم الصمت على الجموع، نظروا إلى الفقيه، وهو ينحني أمام الإمام، كأنه عابد يقدم البخور للصنم المعبود. مد ذراعيه إلى أحد الحراس الذي ناوله كلبًا كبيرًا كان يحمله على كتفيه. وضع الكلب خلف الإمام الذي وقف وقفة الصلاة، ورفع ذراعيه بالشهادة. صاح الفقيه: انظروا! حتى الكلاب تأتم بسيدنا الإمام، حتى الحيوان الأعجم يركع ويسجد وراءه فحذارِ حذار!

سرت همهمة بين الناس، لكنهم كتموها وهم يبصرون الكلب يرفع ساقيه الأماميتين، ويحاكي فعل الإمام، رفع الجميع أذرعهم. دوت الشهادة كموج البحر، وانحنى الإمام راكعًا، فركع الكلب وراءه، وخفضت العيون المتعجبة أبصارها، ومالت جذوعها راكعة، وسجد الإمام فسجد الكلب، وخرت الجباه على الأرض، كما خر رأس الإمام وكلبه الضخم، ونفذت صيحة الفقيه: كرامة الإمام! معجزة الإمام!

اندفعت أشق الزحام، حتى توسطت الساحة، وقفت تحت المحفة العالية التي تتم عليها المهزلة. ارتعشت عيون العبيد، واهتزت ضفائر شعرهم، وأنا أهتف: دجال! دجال! دجال!

ذعر الحرس ودبت فيهم الحركة، صلصلت السيوف ودوَّت السياط. لكن الذهول سمر أقدامهم في الأرض، راح الصراخ يشق صدري وحنجرتي: هذا صنم كافر، طاغوت شيطان فاجر، هل نعبد صنمًا أو نعبد رب الأكوان؟ أولم نتحرر بالإسلام؟

قال الإمام في هدوء: وأنا سيف الإسلام.

التف الحراس حولي، رفعوا البنادق العتيقة والسيوف الطويلة اللامعة، وصوبوها إلى صدري ووجهي. أشار لهم الإمام، فتحولوا إلى أصنام، ثم أشار إليَّ لأقترب منه: شيطان كافر؟ خرج الصوت اللاهث: بل مثلك إنس، لكني أحيا في ضوء الشمس. نفذ صوته الحاد في أذني: ونحن؟ أموات نحن؟ انطلق الصوت الهادر المشروخ: أنت وهم؟ تحيون، ولكن في الأكفان، في كهف الماضي العفن المظلم كالديدان، بل أنتم لا شيء لا في الحاضر أو في الماضي، بل خارج كل زمان.

قال الإمام، وهو يمد نحوي فم أفعى سام: وأنا؟ أين أكون؟ صمتُّ: أنت الصنم الطاغوت أدخلت اليمن بكهف الصمت الملعون، وأقمت السور الطين. وغدًا ينهدم السور، ويندق النور، وتنهار سجون وسجون.

ضحك الإمام، وقال في ثقة العارف: غريب أنت؟ من أتباع الكافر ماركس والفاسق لينين؟ أنا أعرفك وأعرفهم. طاشت ثورتكم يا مسكين. قلت في هدوء: الثورة آتية، والفجر قريب.

ضحك وقال: من أين ستأتي يا مجنون؟ نحن هنا في ظل المصحف يحكمنا الشرع.

صحت في الجموع: بل تحكم بالسيف، وتقتل بالسيف.

قال وهو يشير إلى حُرَّاسه: أنت حكمت على نفسك. هيا يا حراس، لا لا! انتظروا، وسيحكم فيه هذا الكلب!

بإشارةٍ من يده قفز الكلب من فوق المحفة على صدري. جثم عليَّ ولفحتني أنفاسه الحارة. انغرزت أسنانه في لحمي، وسال الدم من وجهي وذراعي وساقي. صارعته وصارعني، لو كان كلبًا واحدًا لقاومته وطرحته أرضًا، وجثمت عليه، وغرزت فيه أسناني، لكن كلابًا أخرى هجمت عليَّ، وأخذت تنهش لحمي، وتلعق دمي. كلاب مسعورة من كل لونٍ وجنسٍ وشكل. من أين جاءت؟ هل أطلقها «العكفة» بعد أن درَّبُوها؟ هل كانت هي الأخرى تصلي وراء الإمام؟ وانهالت عليَّ اللكمات والصفعات من كل جانب، وانضمَّت الكلاب البشرية والجراد الملتحي إلى المعركة. والجميع يهتفون ويزغردون ويرقصون على جثماني: غريب كافر، كلب ثائر، نحن ننفذ حكم الشرع، نحن ننفذ حكم الشرع.

لا أدري كيف خرج الصوت من جثتي الغارقة في الدم والطين والعذاب: حكم الشرع هو العدل، عودوا للرب الحق، للرب الحاكم بالمصحف لا بالسيف. نَحُّوا الطاغوت الحاكم بالسيف، يقطر منه الدم أنهارًا منذ معاوية ويزيد والحجاج على الأعناق يرف، نحُّوا السيَّاف، ونحوا السيف.

وأشار الإمام، فتنحَّت البنادق والسيوف والسياط، والتأم البنيان المرصوص من الجراد الملتحي في دائرة كثيفة، التفَّتْ حولي كأنها سور صنعاء الطيني. ووجدتني وسط الدائرة لا بشر حولي ولا كلاب، جثة وحيدة ما زالت تتردد فيها الأنفاس، وعندما فتحت عيني لم أجد أحدًا حولي أين ذهب الجميع؟ بماذا حكم الجبار؟ من سينفذ حكمه؟ ومتى يعمل فيَّ السيف؟ تحسست رقبتي وقلت لنفسي: انتظرني الجبار إلى الغد. بعد صلاة الجمعة يقطعك السيف، وأفقت على دقات رهيبة على الباب. قمت متثاقلًا وفتحت الباب. جرادة ملتحية تقف أمامي، بين يديها سلاسل وأغلال تصلصل بالموت القادم في الليل. نحن الحراس! أرسلنا الجبار إليك، أمَرَ وأَمْرُ الجبار مطاع، أن نضع الأغلال بساقيك وكفيك، هيا هيا، كف غريب كافر، هيا هيا، ساق الكلب الثائر، وغدًا نقطع رقبة زنديق فاجر.

قبضت يد على يدي، حاولت يد أخرى أن تضع الغل في ساقي، انتفضت صارخًا: انتظروا أن أصلح شأني، وأردت أن أتجه نحو المرآة المثبتة أمام فراشي المضطرب الدافئ. أمسكني الحارسان، ولفَّا ذراعَيْهما حولي كأنهما شبكة حديدية تلتفُّ حول سمكة هاربة. صاح أحدهما: ويلك! لا تنظر ليلًا في المرآة! ورفع الآخر الأغلال الثقيلة، وأطلقها على المرآة، فتحطمت وتناثرت شظايا.

ثم صاح وهو يقبض على يدي، ويُحكم السلاسل حولهما: أولم ننهك عن هذا؟ لا تنظر أبدًا في مرآة! لا تنظر أبدًا في مرآة.

وجه المحبوبة والسيَّاف وتنفيذ الإعدام

في ساحة الإعدام، الشمس في الأفق قرص ذابل الاحمرار، تنور تخبو فيه النار، أوراق الشجرة تكاد تلامِسُ رأسي، جذعها الخشن الناتئ يحك ظهري، يوجعه، يوشك أن يدميه، أفتح عيني المحترقة بلهب السهد، أنظر حولي وأمامي، أتلفت للخلف، وجوه وجوه، أقنعة سوداء وشيلان بيضاء، وعباءات وعمامات، أصوات تختلط على سمعي، همس وصياح، دمدمة وأنين، تفتح عيناي، تفتح أذناي كأبواق، تنفض عنها الكف تراب سنين، من يتزاحم حولي؟ لِمَ يتجمع هذا الحشد وينظر فيَّ؟ الشمس تميل إلى الغرب، عربتها المحمرة تتوارى خلف الجدران، مكتب البريد أمامي، أمامه السور الحديدي المنخفض، وبابه الصغير الذي طالما دفعته بيدي، خلفي ثلاث قباب بيضاء مدوَّرة كبطون الحمام، وعلى خطواتٍ مني حجر صلد، يرتفع على كتف منصة، كالمذبح في قلب المعبد، الحجر نظيف لامع، والمنصة تنحدر بانفراج نحو الأرض، والعشب الطري يبزغ من الأرض، وتلون أطرافه أشعة صفراء ذابلة، تتناثر فيه نُقَر الماء وآثار الأقدام على الطين، تلسعني ذبابة، أريد أن أرفع يدي، فأكتشف القيد فيهما، سلسلة حديد صَدِئ تربطها باليد الأخرى، تؤلمني قدمي، تحز الجلد والعظم سلسلة أخرى أكبر منها: لو حاولت القفز فسأبدو كغرابٍ يحجل، لن أجنيَ إلا سخرية الطير المتربص بي.

لكزتني في جنبي أصابع خشنة كالحوافر: تبتسم وتضحك وتكلم نفسك؟ أولا تشعر بالهيبة؟!

أرفع وجهي؛ كي أعرف مصدر هذا الصوت. يختلط عليَّ الأمر، ست وجوه تحدق بي، ستة أجسام كجذوع النخل، أتفرس فيها، أنكرها، أتعرف فيها الأعين والجبهة والحاجب والأنف، نسخ واحدة من صنمٍ واحد. رأيتهم من قبل، لكن الملبس يتغير، سترات بيضاء، حزام بُنِّي حول الخصر، يبرز منه مقبض خنجر. المقبض من عاج، يتوسطه فصٌّ أحمر ذهبي، السروال ملون، تجري فيه خطوط حمراء وبيضاء وزرقاء، في القدمين صنادل من جلدٍ أو مطاط، تبدو منها الأصابع والأظافر المغبرَّة، ستة وجوه، ست لحى سوداء، ست عيون غائرة تذكرني بعيون الأسرى من بابل نقشت فوق جدار الكرنك، تلمس كف شعري وتشده، يتردد صوت واحد: رأس هش! رأس هش!

الآن تذكرت.

– هل أنت على استعداد؟

يجيب صوت من خلفي: طبعًا يا سادة. ألتفت إليه، يجلس متربعًا على العشب، يمضغ ورقًا أخضر، وَجْنَتُه اليسرى منتفخة.

– فات أوان التنفيذ.

– ننتظر القاضي ورسولًا من عند الجبَّار.

تلمع عيناه بذكاءٍ فِطري، فكٌّ مُفْترٌّ عن بسمة طفلٍ أو عذراء، شعر اللحية يبرز في غير نظام، الأنف قوي حاد، والوجه كحجر أثري ناتئ ينظر في خجلٍ للأرض، كل عيون الناس تحدق فيه وتنتظره، يتدلى من الحزام الملتف حول وسطه سيفٌ طويل في جراب، أراحه على الأرض وراح يمضغ بغير اكتراث.

طيبون هؤلاء الناس، طيبون وأصلاء صامتون أيضًا، يتركون لك حرية البكاء، أيديهم الخشنة السمراء تشغلهم عن سقطات اللسان. الأنامل النحيلة كأسراب النمل، تتحرك، تمتد وتقبض، تخزن وتفكر، تتكلم من غير كلام، طيبة هذي البلدة، والرب غفور، يتجوَّل فيها شبح الزمن الميت، يتثاءب يتنفس يزفر أبخرة من مسكٍ وعطور، في كل مساءٍ يلمع فوق مآذنها سيف يحمله سيف، يهتف يتأوَّه ويرف، ويهب حريق فوق مآذنها في منتصف الليل وعند الفجر، تعلو ألسنة اللهب تسبح، تدعو بالخير وتنذر بالويل، تطوقها جبال سوداء كظهور مردة شامخين، أخذوا يهدهدونها على بحور الذاكرة والليل والشعر مجهولًا ينظر فيه مجهولون (آه يا مدن الضجة والأحزان! حاصرني قيظ جحيمك، زحف على الطوفان، تختال القردة فيك، وتزهو بفحولتها الخصيان، أهرب منك إليك، وعن ظلي التائه أبحث بين النيران).

أسمع هرجًا وسط الجمهور، يبكي طفل حط على عينيه جيش ذباب، وتنوح عجوز طيبة الوجه انكسرت في جبهتها سُفن الأيام، ووقف الموت على الباب. يهتف شاب: عاش العدل! نصر الله الإسلام! تضطرب الأيدي الخشنة والأذرع والأجسام، تقترب من السور الشائك، تسري الهمهمة كشبحٍ يجري في الليل الحالك. يقف حمار كان يتجول وحيدًا، يمد الرأس والأنف، يحك رأسه بالسور وينهق، تتسلل عنزة خلال الصفوف ويتفرس في وجهها السامي المستطيل، باستغرابٍ وصل القاضي ورسول الجبَّار، ترك السياف القات، ووقف على قدميه، ابتسم وخبط على صدره العاري، وتحسس مقبض سيفه، انحنت جذوع الشجر السوداء، وقدموا أنفسهم: نحن تتبَّعنا أثره، مجهول حاول أن يزرع في الأرض الطيبة بذور الفتنة، راقبناه وعرفنا سره، وذهبنا للجبار وأبلغناه أمره، ها هو مربوط في جذع الشجرة.

اقترب القاضي مني، ووقف رسول الجبار بجانبه يحمل أوراقًا ملفوفة، نظر القاضي في وجهي، لمست كفاه كتفي، تمتم وتنحنح، حمد الله وسبَّح باسمه، كانت شفتاه تتحركان ولا يخرج منها غير حروف مقطوعة الرءوس، لم أفهم شيئًا مما قال؛ سقطت في أذني بعض الكلمات: تلك حدود الله، فاحكم بالعدل، تقطع أيديهم، أرجلهم. كان وجهه كوجه فأر، على عينيه نظارة بنية سميكة تستند على أرنبة أنفه، فوق رأسه عمامة بيضاء ملفوفة بعناية، على كتفه شالٌ حريري مذهب الأطراف، في عينيه أصرار تكسر حدته الرحمة والعطف. أما الرسول فكان يقف وراءه ويده على خنجره اللامع، بينما تدير اليد الأخرى اللفافة الصفراء المربوطة بشريطٍ حريريٍّ أحمر. وجهه عريض بارز الوجنات، مكتنز من أثر النعمة، وعيناه واسعتان تلمع فيهما حدقتان شديدتا السواد يحيط بهما البياض. ما أشبههما بعيني الجبار! لم أرهما إلا في الصور والكتب القديمة، لكنهما أرَّقَا لَياليَّ ونفَذَا كالجمر بلحمي، عينان كعيني ثورٍ هائج، واسعتان مخيفتان كبئرٍ مسموم، معلقتان كدوائر النار في السحب، في الهواء، في أوراق الأشجار، شررهما المتقد يضيء فوق قمم الجبال، يلتصق بأحجار الشارع، يتوهج في البيوت وعلى الجدران، تتسلط على القرية في كل وقتٍ وكل مكان، عينا نسر شرسٍ منهوم، رفرف فوق سطوح المدن، تدلى منه سيف يقطر بالدم، يرعب حتى النمل الراقد في الشقوق والجحور، كم تلمع هاتان العينان فيسيل منهما طوفان الليل والخوف الأصم. ارتعدت، جرفتني قشعريرة الحمى، ربتت كتفي كف القاضي الحانية: هدئ روعك يا ولدي؛ فالعدل سيأخذ مجراه.

التفت إلى الحراس الستة، اهتز الصنم الأكبر وتكلم: مجهول دلف إلى الفندق في وقتٍ مجهول.

سأل القاضي، لمعت عينا السياف: ماذا يفعل؟

– لا نعلم. يهذي، يهمس، يحلم.

صحت غاضبًا: هل حرمت الأحلام؟!

هز الصنم رأسه، وانفرجت شفتاه: بالطبع. الأحلام الفاسدة بذور الفتنة.

استعاذ القاضي بالله: المؤمن لا يحلم. والعاقل لا يفشي أبدًا سر الحلم.

تقدم رسول الجبار، وقال: عين الجبار على الكفرة، لا تخطئ منهم شعرة.

بدأ كبير الأصنام يشرح القضية، ويُلقي التهمة: راقبناه مع الأيام، وصبرنا حتى جاوز سنَّ الخمسين، وفحصنا الأحلام، ودققنا في الأوهام، ليتكلم كنتم معنا حين دخلنا في رأس القاتل، ورأينا الخنجر، ورأينا بركان الثورة يتفجر، طوفان الغضب يدمر، ورأينا مدن الأحلام يمشي فيها ناس من نوعٍ آخر، قيم وشرائع أخرى، أفكار وعلوم تشعل نارًا كبرى.

استعاذت الأصنام الخمسة من النار، تمتم القاضي وهو يقترب مني: ماذا تفعل يا ولدي؟ أتعلم؟

– بل أتعلم لا أزعم أني أعلم، حظي من زاد العلم قليل، وحصاد العمر ضئيل.

– حياك الله! تكلم، ماذا كنت تعلم؟

– إن الإنسان كريم حر، الله استخلفه فوق الأرض؛ لينظر، يسأل، يعمل، يحتج ويرفض ويفكر.

– نعم بالله. وتفكروا، وانظروا، وفي أنفسكم …

اعترض أحد الأصنام قائلًا: يا مولانا لا تغترَّ بقوله.

أسكته القاضي بإشارةٍ من يده: هذا ما حثَّ عليه الشرع.

تدخل صنم آخر: اسألنا نحن به أدرى، طفنا معه في أبهاء الحلم، وسمعنا همس الشفتين خلال النوم، ورأينا أسراب الطير الغاضب تخرج من كبده.

صحت: من كبدي، هل أنتم؟

قالوا بصوت الجوقة: نحن، تذكرت؟ أولم تسمع يا مولانا ما قال الآن؟

سأل القاضي: ماذا قال؟

قال أحدهم: يرفض.

قال الآخر: يندهش، ويحتج ويرفض.

قلت: شيء لا أخجل منه، ليس بإنسانٍ من لا يحتج ويصرخ لا.

قال الصنم مؤكدًا: هذا ثابت في الأحلام.

صحت بصوتٍ مخنوق: أحلام لا تؤذي نملة.

هتف الصنم الأكبر الذي لم يستطع أن يخفي فرَحَه: والأحلام تفجر ثورة، وتحرك سيف الكفر بأيدي الكفرة.

استعاذ القاضي من الفتنة والكفر، تحسس السياف جراب سيفه، وعبثت يد الرسول بمقبض خنجره اللامع، تحفزت العيون، وساد السكون.

قال القاضي: أين هويتك يا ولدي؟

تقدم منه الرسول، وأحنى رأسه، مد يده في صدره، وأخرج حافظة بنية داكنة أخرج منها بعض الأوراق وقدَّمها له، تفحصها القاضي، ثم هز رأسه وقال: بيضاء.

– لا اسم ولا عنوان، لا أتبين إلا كلمات: كن إياك.

أكد الصنم الأكبر، وهو يهز ذراعه في الهواء: ألم نقل لكم؟ مجهول يحمل رأسًا مجهولًا. يمضغ خبز الأحلام المجهولة، تخرج منه طيور الأحلام المجهولة. هذا خطر الأخطار، حمدًا لله فلم تغمض عين الجبار، عن هذا الرأس الهش الثرثار.

وضع يده على رأسي، وشد الشعر، حتى صرخت. لمعت عين السياف، وطافت الرأس والرقبة، ضغطت وجوه الحشد على السلك الشائك، وعلت الهمهمة، خفض القاضي رأسه، وارتعشت جفونه، وجرت أصابعه قليلًا على المسبحة قبل أن يقول: مجهول لا تُعرف عنه هوية. اقرأ يا ولدي نصَّ التهمة؛ تلك حدود الله، وهذا أمر الجبار.

انطلت صيحة من صفوف الحشد الواقف عند السور تماوج الزحام، وانشق عن امرأةٍ تصرخ وتشير: انتظروا. انتظروا (لوح القاضي بذراعه)، ففتح الحراس سياج السور الصغير، اندفعت في ثيابها السوداء، وموجة شعر أسود ترف حول وجهها، تسلقت درجات المنصة الحجرية، تقدمت من الشجرة التي ربطوني بها، وتبينت الوجه، نفس بريق العينين، والوجه الشاحب كالقرص مدور، آه يا قمري الأوحد في ليل العمر.

سأل القاضي: هل تعرف صاحبة الوجه؟

قلت، وأنا أثبت عيني عليه: حلمي الأكبر، يسعى الإنسان وينسى، وينام ويحلم، لكن لا ينسى الحلم الأول.

غضب القاضي، دمدمت الجذوع الستة، اهتزت أغصان الأذرع، واضطربت أوراق الأيدي. هتفتْ صائحة: يا قاضي العدل، أنا أعرفه، أستحلفكم بالله دعوه.

ندت عن الجذوع السوداء ضحكة خشنة. ابتسم القاضي: ندعه؟ قد صدر الحكم أمر الجبار، وإن الأمر أهم. اقرأ يا ولدي التهمة.

بدأ الصوت يرتل البنود المدونة على اللفافة الصفراء. ثبت كياني عليها، فلم أصغِ لما يقول. صدمت أذني كلمات المجهول، الأحلام، الثورة، أشواك الفتنة. نادتها روحي: أنت؟ تأتين إلي؟ وأرى وجهك وأكلمك وأسمع منك؟ الآن أموت قرير العين، حلمي الأوحد يتحقق فتذهب كل الأحلام، إني الآن أكفِّر عنه أمامك، هل تكفيك الآلام؟ ما زلت بآخر أنفاسي أذكُر تلك الأيام.

– وأنا أذكرها، كنا جيرانًا.

– كنت أعيش، أفكر، أتنفس لك كالصوفي الزاهد لا أقصد إلا وجهك، أقرأ ما أقرأ، أكتب كتبًا عنك ولك. حين تمرين وألمح وجهك بالصدفة، ينفذ كالقمر الناصع من نافذة الشرفة، وتُهلل سفني الغارقة على صخر الوحشة، أفرح كالطير المقرور، وتعروني الرعشة، وجد الطائر عشه أبدًا لم تكترثي بي، ما صعدت النظر إلي، ما أحسست بيتم القلب، حين أتيت وزرت الأهل، سلمت عليهم ما سلمت، قالوا، قلت، وأنت لزمت الصمت، كنت أحبك أنت وغيرك ما أحببت، غيرك ما أحببت، غابت عيني وتحيرت، مر جواد اللحظة وترددت، لم يرجع أبدًا، فات الوقت، فات الوقت، ركضت سنوات العمر وشرقت وغربت، طوفت بمدن البشر، عرفت، جهلت، نسيت، وغرقت ببحر الإثم طفوت، وتطهرت وعشت ومت. غيرك ما أحببت، تعبر أيامي المقتولة، أصحو، أعمل، أضحك، أحزن، وأنام، لا أبصر إلا وجهك، إلا عينيك، ويقتل يوم يتبعه يوم، تقتل أعوام وجواد اللحظة مرَّ، ولن ترجعه الأحلام، لكن أحيانًا أحلم أنك جنبي، فأكلمك وأضحك معك، وأضحك من أوهامي، وأمد يدي باللقمة نحوك، أغلق شباكي حتى لا تؤذيك الريح، أشكو الأيام إليك، وسخرة أكل العيش، وأشد غطاء الفرش عليك، أقبل وجهك قبل النوم، أمر بيدك على أوجاع القلب، وأسحبها فوق الصدر، وأقبلها، وأوسدها رأسي لتنام. أنتبه لنفسي، أعرف أني كجنين في بطن الأم، يسألني عقلي: لم تتناول هذا السم؟ لم تستسلم للأفكار الثابتة وعقدة أوديب وسائر أمراض الوهم؟ ما أغبى العقل المغرور، وما أغبى الطب! يتوقف عند الظاهر، لا يسبر غور القلب، أحيا كالناس، وتحيين ككل الناس، وندور ونأكل، نسخط نرضى، نُلقي الأولاد إلى العالم، نشكو ظلم الزوج، جحود الأبناء، الأهل، الأصحاب. ونسعى في أسواق الرزق، ولكن هل ينطفئ الحلم؟ الحلم الأول محفور في الجلد، اللحم، العظم.

– هل تحلم أبدًا؟ السياف أمامك، والسيف يهدد بالقتل.

– هل ينجو الإنسان من الظل؟

– قرءُوا التهمة، والتفوا حولك ليفكوا القيد.

– يكفيني أنظر في عينيك.

– لم جئت؟ ومن جعلك تدخل من هذا الباب؟

– لما أغلقت بوجهي الباب، سدت في وجهي الأبواب، ووقفت على باب العالم، أطرق، أطرق، لا يفتح لي، تنكرني السدة والأعتاب، ويطردني الحجَّاب.

– العين بعين، والأذن بأذن، هذا هو نص الحد.

– لا، لا داعيَ للأعين والآذان.

دوَّى الصوت في أذني، استطرد بعد قليل: نحن ننفذ نص الحكم، هيا يا سياف، وضع ذراعيه حولي، لفحتني أنفاسه الثقيلة، فك القيد عن اليدين، وانحنى ليفك الأغلال عن القدمين، هتفت حبيبتي: افتح عينيك!

همست: يكفيني أنظر في عينيك.

قال الجذع الأكبر الذي أمسك يدي اليمنى: نريحه من هذه اليد، تكفيه الأخرى. أمسكها السياف، هزها قليلًا، لمس الرسغ، طلاه بدهانٍ أسود، لمع حد السيف، ثم هوى. صرخت من الألم، ربت على كتفي: عندي لك زيت مَغليٌّ من أفضل نوع.

انحدر لأذني صوت: وماذا يعمل بهذه؟ يمكنه أيضًا أن يستغني عنها، هوى الحد على رسغ اليد اليسرى. طش الزيت المغلي، اختلط صياح بنشيج بكاءٍ، ضحكات تعلو، لا زلت أميز منها: يمكنه أن يكتب أو يرسم بالفم، هذا أيضًا فن. تحسست يد خشنة ساقي اليمنى، أزاحت الشعر عند التقاء الساق بالفخذين، دهنتها بعلامةٍ سوداء، وهوى حد السيف. لم أقوَ على الصراخ، حتى الكلاب تكف عن العواء عندما يذبحها الألم. في ضباب الغيبوبة تحدرت همسات وهمسات كقطرات المطر. تسقط الآن على رأسي، يتردد صوت: رأس هش! رأس هش! شدوني إلى المنصة، كفان ثقيلتان تقبضان على شعري، وتضعان جبهتي على حجر أملس ناعم، انداحت قطرات رطبة، الكف الثقيلة تدعك الرقبة، تزيح الشعر عنها، تدلكها بدهانٍ لزجٍ تغمض الأعين، تنكتم الأنفاس، تهرول أقدام الذعر بلا صوت، رأس هش! رأس هش! أبكي، أفتح عيني، وأتحسس رأسي.

العودة إلى بهو العرش

الدموع لا تزال في عيني، صدري يرتجف، وينشق كأرض روعها الزلزال، تلمس كتفي يد خفيفة، أفتح عيني فأراني أستند على جدارٍ وأراه: أنت؟

– تحلم كالعادة بالناسوت والناموس؟

– أحلم؟ بل فزعني الكابوس. أتحسس ذراعي ويدي، أمد الساقين، أتذكر وأمر على رقبتي وأضغط على عروقها ولحمها بشدة.

– حاذر! تخنق نفسك.

أضحك وأقول: كالعادة! يقترب مني وينحني عليَّ، يتفحص وجهي، ويثبت عينيه في عيني، يسألني برفق: كيف وصلت إلى القصر؟

قلت: القصر؟ هل هذا …

ضحك وضرب الكتف، وقال: سرت بنومك، حتى جئت إليه، سافرت وعدت من الأسفار؛ لتبكي جنب جدار.

جففت دمعة جرت على خدي، ونفذت في شفتي: كلب مكتئب يحتضر وحيدًا بجوار جدار. مد يديه، فأخذني من يدي: تحلم أبدًا، لا تعرف حق الجار على الجار. ينتظرونك.

سألت وأنا أنهض على ساقي، وأنفض الغبار عن رأسي وصدري وسترتي المبللة بحبات الندى: ينتظرون؟ من؟

ضحك وقال: جيرانك، في بهو العرش هناك.

– جيراني؟ بهو العرش؟

ضحك، ومد ذراعه فتأبطني من ذراعي: هل ينسى الجار الجار؟ وأنا أيضًا …

قلت وأنا أضغط على يده: لا لا، لكني اشتقت لنايك، رحت أفتش عن ظلك في الساحة، قرب الشجرة.

سأل: ما هذا؟ عدت لأحلامك؟ إني أنتظرك منذ الفجر. زعموا أنك أفسدت حياتي، قلت غريب مجهول، غضب مدير الفندق، هدد وتوعد: كيف تسرب؟ ليس لديه هوية، أين ذهب؟

– طفت بمدن الناس، وجُبت متاهاتِ القلب، وأشار العقل فسرت على الدرب، ها أنت تراني ألفظُ أنفاسي بجوار جدار وكأني …

غضب وصاح: لا تلفظها. يكفي تعذيبه لنفسه!

ضغطت على يده: معك الحق. أقسى من عذَّب نفسي هو نفسي.

أقبل على البوابة يفتحها، صرَّت ضلوعها الحديدية الصدئة، وتساقط عنها التراب، نظر إليَّ بخبثٍ: مفتاح السحر معي، انظر! وضع الناي في ثقب القفل الضخم، قفل صلب مغبر، أهمله الزمن الأعمى، فتراكم عليه نسج العناكب، هتفت: تفتحه بالناي؟

ابتسمت عيناه، وقال وهو يعالج القفل العجوز: سحر، سحر. أنسيت كلام السيد؟

قلت: الناي يروض حتى الوحش.

ضَحِك، وقال وهو يخرج القفل من المزلاج ويدفع الباب: والغابة في الداخل، يسطع في ظلمتها العرش، ادخل؛ فوحوش أخرى تنتظر هناك.

خطوات إلى الداخل، ووضعت قدمي على العتبة. قلت قبل أن أنزل من على الدرج: كما تنتظر النار القش!

نفس القاعة والبهو، العرش يشع في آخرها كهودج ذهبي وسط السحاب الأسود، أشباح تتجول وظلال تتحرك في صمت، أتقدم في اتجاه العرش، كأني أتزاحم في موكب أرواحٍ معتمةٍ تنتظر القارب والملاح الشيخ، الجماجم كما هي تحت قدمي الكرسي، كبقايا حيوانات راكعة في ذل، والجالس فوق العرش استسلم للنوم، افتقد بريقَ عينيه الواسعتين الباردتين، أنظر في شعره الأشقر الجميل المنسدل على أذنيه، أتطلع للجبهة العريضة كلوحٍ مصقولٍ من الرخام، وهي مائلة على مسند الكرسي، تعب الرأس وغربت فيه الشمس! جاءت أجيال أخرى ورءوس أخرى، وانحدر القرص المتوهج في أحضان الظل، لا يبقى ملك فوق العرش، ولا يسلم نجم من زحف الليل. أتلفت حولي، أين الكهنة والسدنة في هذا المعبد؟ كانوا يقفون حواليه، ينتظرون الأمر من الرب الذي ابتلع نفسه وابتلعهم. ها هم يجلسون في صمت، لولا بصيص شعاعٍ ينفذ من السقف، والنوافذ التي أسدلت عليها ستائر القطيفة الداكنة؛ لتعثرت فيهم، أغمضوا عيونهم وناموا مفتوحي الفم. هل ينتظرون من ينفخ نسمة ريحٍ أو بركان، أو عاصمة تحييهم، تنفض عنهم كفن النسيان؟ وما زالت الشجرة كما هي، ممتدة الغصون، جذعها المليء بالأورام والنتوء كجسدٍ مجدور تمد جذعها في الأرض، وتتشبث بالطين. على الرغم من كل شيء؛ تملكني الخوف أخشى أن أرى العقرب يظهر فجأة، وينبش أصابع قدمي. كان قد تسلل أمام عيني إلى أقدام العرش وغاب بين الجماجم، من يدري إن كانت هناك عقارب أخرى في انتظاري؟ أصيح من الذعر: أنت! لم لا أسمع صوتك؟ ينساب الصوت بلطف: أنا لا أتخلى عنك. أسأل في ذعر: إني أتعثر في هذا الليل. لم لا تشعل شمعة لحنك؟ يتسلل صوت ينفذ في الجدران: لا يظهر نجمي الآن، دوري لم يقبل بعد.

أصرخ في أحجار الحكماء على الصفين: يا حكماء!

لا يتحرك حجر، لا يخفق صوت. أعود فأصرخ على أشرخ جدران الصمت! يا حكماء الزمن الغابر، عذرًا، يا أنجم هذا الزمن الحاضر، يا حكامًا في مملكة الأوهام، أصغوا لنداء رعيتكم.

يتثاءب أحد الأحجار، يفرك عينيه وينفخ في وجهي كالإعصار: من؟

أصيح: شبح يستنجد بالأشباح!

يدمدم غاضبًا: هل تجلد حتى الأرواح؟

هتفت محاولًا أن أهدئه: إني منكم، أهرب منكم وإليكم.

سأل في ضيق: ماذا تطلب؟ لم تنشلنا من بحر النوم؟ تصرخ وتثرثر وتهيل علينا اللوم؟ لا تزعجنا، أرجوك ولا تتبختر بين عمالقة العالم كالقزم!

قلت أكثر عن ذنوبي: لفظتني الأبواب، فجئت إليكم أتمسح بالأعتاب، نبذتني المدن الحجرية لا جيران ولا أحباب. قالوا ليس لديه هوية، لا اسم ولا عنوان ولا ألقاب.

قال: ومتى تعلم أن الفكر غريب يخطو بين الأغراب؟ يحيا في زمنٍ لا يتقيد بزمان، يسكن بين الناس، ولكن لا يتقيَّد بمكان، يرسم وجه زمانٍ لم يولد بعد، يهدي ويحرر من أسر المهد وسجن اللحد، يتلمس خلف رداء الحاضر نبض الأبد الممتد.

قلت فرحًا: أرأيت؟ أنا أيضًا أسمع هذا النبض، وأنظر في هذا البعد، ونهاية كل الأشياء أراها خلف بدايتها، فأرى العظم وراء اللحم، والكفن الأبيض في ثوب العرس. أنا أيضًا رحت أحدق في عين الموت وأتحداه، يأتي أو لا يأتي لم أخشاه. حاولت …

قال متذمرًا وهو يتثاءب: ماذا حاولت؟

قلت مندفعًا لأسرق انتباهه: حاولت على قدر الجهد، أن أبعثكم أحياء، وأذوب نفسي فيكم، أعجنكم بدماء القلب.

تحرك حجر آخر. مد ذراعيه إلى الأمام والوراء، ووضع يده على فمه؛ ليمنع تثاؤبه أو ضحكته العالية. قال بسخريةٍ مرة: حاولت، وحاولت. لم تحيا أبدًا في الوهم؟ لم تقفز من قمة حلمٍ لتغوص بهوَّة حلم؟ عش يومك يا ولدي.

قلت محتدًّا: من قال بأني لا أحياه؟ إني أنظر.

قال بصوتٍ ممدودٍ يتحشرج من أثر النوم: خلف ردا الظاهر والحاضر؟! وهم، وهم. من بؤرة هذا الحاضر تبصر ماضي الأزمان، وبعين الظاهر تجد اللب الكامن في الأشياء وفي الأبدان، وعلى مصباح الحاضر تهدي للدرب الصاعد في أحشاء الأيام. أوهام، أوهام. عض بأسنانك فاكهة الحاضر!

قلت كأني أعاتبه: من لا يحمل تجربة الزمن الغابر، فلن يدرك معنى الحاضر. ها أنا أحمل فوق الكتفين جبال الأجيال، وأوجه وجهي للخلف وأستقبل غرر الآمال. من لا يشرب خمر الآباء فلن تسكره كأس الأبناء، من لا يأكل زاد الآلاف من الأعوام، فلن يتذوق خبز اليوم الراهن أو ما يأتي من أيام.

تلوى صوته وتمطى كسلحفاةٍ هرمة: حفنة كلماتٍ من مقبرة الأموات، أدِّ الواجب نحو اللحظة، وتعلم مما فات. لم تجزع من شبح الآتي؟ ما هو آتٍ آت.

قلت منتصرًا: ها أنت تردد كلماتي! في القطرة سر البحر، في اللحظة سر الأبد الهادر كالنهر، فيها الجنة إن شئت وفيها النار.

تثاءب بصوتٍ مرتفعٍ انبعث منه أنينٌ كمواء قطٍّ عجوزٍ يبعد اليد التي تعبث بشاربه ولحيته، وتطرد عنه النوم: اذهب يا ولدي، عد من حيث أتيت، وترفق بظلالٍ عبرت وعظام. اذهب، اذهب، أكمل سمرك في مأدبة الأبد، ونادم كأس الأحلام.

قلت أناشده كلمة، كالشحاذ يريق الدمع، وماء الوجه ليأخذ من كفِّ بخيلٍ لقمة: يا أرباب الحكمة، قولوا كلمة، مصباح الحكمة صار يشع الظلمة، حاولت أن أكلمكم، أنتشل قواربكم، أنشر أشرعة خواطركم في وجه الريح العاصف بالنقمة، أخلع عنكم كفن النسيان، وأستحلفكم بالإنسان، أجعل منكم شاهد صدقٍ فوق الزمن الطافح بالبهتان. معذرة، فاض القلب بما يحمل فانطلق لساني.

جاءني صوته المتثائب، الذي يقول آخر ما عنده ليمنع كل كلام: نحن جسور يا ولدي.

أسرعت بالرد، قبل أن يسقط في حفرة نومه: أنا أيضًا جسر تعبره الأقدام، بعد قليل يُنسى أو تطويه الأحزان.

قال في حسمٍ كبريق السيف: فابن الجسر بنفسك، ولكل زمانٍ جسر ثان. وانس المطلق، لا تبحث عنه وسط زحام الفانين، الفاني.

سألت في حسرة: أولًا يبقى شيء؟ هل الإنسان مجرد إنسان؟

قال في حدةِ ممثلٍ ينهي آخر فصل في المأساة: لن يبقى إلا من حول نهر حياة الإنسان، ووقف بوجه الظلم الزاحف كالطوفان، أما التجريد …

سألت: التجريد؟

قال: حاذر سم العقرب.

سألت بلهفةٍ، وأنا أحرك قدمي في كل اتجاه خشية أن يكون العقرب قريبًا مني. لم يتركني في ارتباكي، فقال: يلدغ صاحبه، فيعيش ويمشي بين الناس كميتٍ في الأكفان، لدغ العقرب لا يَشفي منه إلا سُم العقرب.

ابتهلت إليه أن يفسر كلامه: ماذا تعني يا مولاي؟

قال وهو يسدل الستار ويسحب الغطاء: أعني ما قلت، عانق جسد الواقع، عض الحاضر بالأسنان!

سكت الصوت. على الشعاع الذابل في المساء، المتسلِّل في حياءٍ من السقف والنوافذ مع آخر أنفاس الشفَق الوردية رأيتهم هناك، متراصين كالتماثيل التي تحركت ثم سكنت، ملتحمين كأنهم جدار قلعةٍ عتيقةٍ في وجه الحصار. حياة متعبة، حفر عليها الزمن أخاديده، شعور مسدلة، ووجوه كالأقنعة الراقدة في انتظار المهرجان، يشع الجمال الحزين من بعضها كأنوار فنارٍ وسط أمواج الليل والبحر، وتطل القتامة من بعضها الآخر كلعنات الشيخوخة، بعضها مستسلم راضٍ، وبعضها ساخط مزموم الشفتين، حرص قبيل الموت على أن ينقش آخر حرفٍ في لغة السخط على هذا العالم. رحت أملأ عيني منهم سنين أضعتها مع هذا، وشهورًا في صحبة ذاك. أما الجالس غير بعيدٍ منه، فما زلت أمني النفس لعلي أعرفه، وأحاوره وأزور الدار، والآخر في الصف الثاني، والثالث والرابع والخامس. لكن هل يتسع الصدر؟ أتمد عذارى القدر الساخر في خيط العمر؟!

صوت الأم ووجه الأم

هبت عاصفة، لا أدري من أين ارتجَّت النوافذ والستائر، وخشخشت الجماجم تحت العرش، سقطت أوراق فوق الأرض وارتجف القلب، كانت الشجرة العجوز قد اهتزَّت وترنحت، واستسلمت الأغصان المتدلية كأذرع الخاشعين في الصلاة لهبات الريح، ترنحت رءوسها بعنف، أخذت تقاوم في إصرار المهزوم، وتناثرت الأوراق على جانبي العرش فوق رُءوس الحكماء أوراق خريف صفراء. تقدمت وخطوت بضع خطواتٍ نحوها. انحنيت وأخذت أجمعها في بقعةٍ واحدة. ربي! لم ترتجف يداي، كأني ألمس أشلاء متمزقة من جثمان؟ لِمَ تسري الرعدة من كفي لذراعي للصدر، وتنفذ في القلب، فيخفق كالمجنون؟ تذكرت الحشرات التي تُبتر أعضاءٌ من جسمها، فتتركها وتمضي. هل تتلفت وراءها لتتحسسها وتدفق فيها، هل تحاول أن تعيدها لمكانها أم تشمها وتلعب بها؟ وبماذا تشعر أُم تنظر في وجوه أولادها الذين يموتون أمام عينيها؟ هل خلقت لغة تستوعب هذا الموقف، وتعبر عن هذا الإحساس؟ أخذ الصدر يرتج كبابٍ يطرقه الزوار الملثمون في الليل، مرت أصابعي على الأوراق تتحسَّس ملمسها، تتذوقها وتشمها، وتضعها على الأذن، كأنها قواقع تفشي سر البحر، وتهمس بنجوى الأمواج، وصل الشلال إلى حنجرتي، تسلق أحبال الرقبة، ثم تفجر وتناثر من عيني، بللت الدمعات خدود الأوراق، انساب بكاء الناي من الجدران، هذا تعب العمر ورق مصفر، ورق مصفر، ثمر مر، ثمر مر. كنت كأني المحكوم عليه بأن ينضح ماء من بئرٍ ليصب ببئر، لا البئر امتلأ، ولا انطفأ الظمأ الحارق كالجمر، تعب العمر، تعب العمر. تبدو الأوراق، الكلمات، كأسراب النمل الخارج من جحر. تشعر بالزلزلة القادمة على نور الفجر، فتعاف جحور الكلمة، وكهوف الشعر، وتزور كهوف الفقراء، وتلسعهم بالسر، وتفتش عن مأواها في بيت العمل الحر! تعب العمر.

– تتعب وحدك، تبكي وحدك، وتنام كما ودعتك وحدك، كجنينٍ في جوف الرحم فلا تتحرك.

رسول الصوت يبارك سمعي كحنان الناي، أتوقف، أنشغل بتقليب الأوراق، أتذكر وأفكر.

– يا ولدي، تعب العمر حصاد.

– أرفع وجهي نحو الوجه الناصع عند الباب. يتألَّق خلف الشجرة كالبدر وراء سحاب.

– أمي، ها أنت ترين حصاد العمر؛ كم هو مُر.

– في عينيك فحسب، ارفع وجهك، كلمني.

جمعت الأوراق، أخذت أحصيها، أردت أن أرفعها إليها، هتفت بها.

– هل ألقي الذنب عليك، أم ألقيه على نفسي، بلدي، زمني؟

– ومتى تتحرر من أسر الذنب؟

– لن أنسى يوم وداعك آخر مرة. يا للعصفور الطائش في قفص القلب!

أجري كي ألحق بالعربة، أجمع كتبي، مسوَّداتي، كومة أحذية وجوارب وملابس رتقت ثقوبًا فيها بيديك، ولقيماتٍ من بعض الزاد الكلمات المنثورة والمنظومة في مسبحة الرغبة والفكرة، أو في عقد الثرثرة عن المستقبل والثورة، أزمات الفن وأوجاع الشعب، في منتديات السمر الموصول مع الصحب، أهرب من ناموس القرية، من سأم الزمن الميت، من رعب الأب، تضعين القبلة فوق جبيني، فوق الخدين، أسرع لا ألتفت لقلق العينين، ولا أشعر بالمرض الزاحف نحو القلب، تقفين على الباب وداعًا للطير النازح للغرب، سافر في طلب الحكمة، ها هو يرجع بحصاد الرحلة، أوراق لا تشبع نملة.

– أذكر، لم نتلاقَ وأودت بي العلة. سافرت وجئت، زرت القبر، قرأت القرآن، ذهبت بعينٍ مبتلة، أقسمت تصون العهد وترعى، يوم وداعك، حق القبلة. ظلت روحي معك تراقب نومك، سهرك، خيبة أملك في نفسك، بلدك، فيمن حولك، تكتب تكتب ما يمليه عليك القلب.

– أكتب، أقرأ، يشقيني صمت الشعب، وضياع الكلمة في قاع الجب.

– ما ضاعت كلمة حق أو كلمة صدق. لم لا تخرج من هذا القبو؟

– فشلي، خيبة أملي في الخلق.

– لم تظلم نفسك؟ إني أشعر نحوك بالزهو.

– فشلي كالجبل على صدري ووجودي هَمٌّ، أبكي ضيعة عمري، ضيعة جيلي في سوق الوهم، بين الحاكم والحارس والشرطي العابس ضاع الحلم ضيعة.

– قم واروِ الأرض بعرقك واروِ بذورك بالدم. اطرح أشواك العقم. ماذا تنتظر؟

– لقد شاب الشعر، جفت أغصان العمر، وشاخ الورق الذابل واصفر. فإلى أين أفر؟

– يا ولدي الصبر، ستدور الدورة يا ولدي، ويطل ربيع مفترُّ الثغر، وتمر يداه على شجرتك، فتخضر.

– تخضر؟

– ويجيء الفجر، ربي.

– أمي، ما زال الوقت.

– قد قُضي الأمر. أوشك ديك الفجر يؤذن فتفيق الطير.

– انتظري، مدي يدك.

– سيجيءُ الفجر، الفجر.

يتوارى الوجه، وينسحب النور، ووراء الشجرة يبقى صمت الجدران تختلج ستار. ينقر عصفور لوح زجاج النافذة، يطل قليلًا، ثم يطير تتكاثف الظلال، وترقص في غيبة الشعاع، يفتح باب خلفي يرعد صوت غاضب: ليمض المجهول إلى المجهول ليس لديه هوية، لا اسم ولا عنوان، أفسد عقل صبي ساذج، أغوى المشرفة على الحمام، وأساء لسمعتها ولسمعة هذا الفندق، فليطرد من حرم المطلق. فليطرد من حرم المطلق لن نقبله، حتى يصبح نفسه. حتى يتحقق بالسر الأكبر: كن إياك ومت لتكون.

لمست يد كتفي، هتفت: أنت؟ همس: أنا أعرفك، تعال.

أخذني من يدي، دل خطاي في الظلام نحو الباب، سرنا نتعثر بين ظلال ورسوم، وتخرفش تحت أقدامنا الأوراق الصفراء، صرخ فجأة: حاذر! العقرب خلفك! ألمح عينيه تلمع كالجمر، وتتربص بك، أجر، أجر. فتح الباب بسرعة، خرجت إلى الشارع، الليل بدأ يزحف، ونسيم رطب يستقبل وجهي ويبلل شعري، يقف على الباب لا ينسى عزف اللحن الساحر. يسألني في لطفٍ: إلى أين؟ أضع يده بين يدي، وأضغط عليها: هل أعرف من أين أتيت لأخبرك إلى أين؟ يربت كتفي وينظر في عيني: سأكون في انتظارك، وأعزف لك عندما تولد مرة أخرى! أغتصب ضحكة: تكفيني مرة! أرى النادل مقبلًا يلوح بصينية تقفز منها يمامةٌ تقف على كتفي. يشتد الجوع ببطني والظمأ في فمي، وفجأة تلدغني العقرب، تلدغني العقرب.

صنعاء، يوليو ١٩٧٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤