الفصل الأول

هي قصةٌ ذات عروقٍ بعيدة في أغوار الزمن، لست بطلًا من أبطالها ولكنني أحبُّ أن أحكيها. كيف أحكيها وأنا لست واحدًا من أبطالها؟ هل يهمك كثيرًا أن أكون من أبطالها ما دمت سأرويها لك؟ لن أقول لك إنها من واقع الحياة فلا أحب أن أكون سخيفًا إلى هذا الحد، ولكنني في الواقع لست أدري إن كنت أنت تحب الرواية من واقع الحياة أم من واقع الخيال. يقول الروائيون: إن أهم شيءٍ في العمل الفني أن يكون مقنعًا، ولا يهم من بعدُ المصدر الذي يصدر عنه، ولكن الحياة حين تؤلِّف لا تحاول أن تقنع، إنها تؤلف وتنفذ مؤلَّفها على الحياة، وعلى صلات الناس بعضهم ببعض، وعلى بدايات حياتهم وعلى نهايتها، ولا يعنيها في شيءٍ أن تكون مُقنِعة أو غير مقنعة. والناس؟ الناس جميعًا في كل مكان شهودٌ في كل قصة وأبطالٌ في كل قصة، وقد تُلهيهم الأحداث عن محاولة الفهم، وقد يفكرون، والذين يفكرون هم الأغبياء؛ لأنهم لن يبلغوا من تفكيرهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم من طمأنينة، بل هم سيزدادون حيرة وقلقًا، بل قد يزدادون سُخطًا وتبرمًا، ولا تُعنَى الحياة في كثير أو قليل بحيرتهم أو قلقهم، أو سُخطهم أو تبرُّمهم.

تجرِّبُ فيهم وما يَعلَمُون
كتَجرِبة الطبِّ في الأَرْنبِ

ولكن هل تجرِّب فيهم الحياة حقيقة كتجربة الطب؟ إن الطب حين يجرِّب يحاول أن يصل إلى نتيجة معيَّنة من تجربته، فإلى أي نتيجةٍ تحاول أن تصل الحياة؟ يبدو أنني سأصبح غبيًّا كهؤلاء الذين يفكرون! عادة ساذجة عادة التفكير هذه، وكلما ازداد التفكير عمقًا يكون صاحبه أكثرَ سذاجة.

فالأذكياء وحدهم هم الذين يعرفون ألا أمل أن يصلوا بتفكيرهم إلى نتيجة مؤكدة واضحة المعالم، ولكنْ هناك أنواع من التفكير لا بأس بها؛ منها ذلك التفكير الجاد الخطير الذي كان يستغرق راشد بك برهان، وهو جالس بمكتبه الضخم في سرايه الواقعة بشارع خيرت. كان راشد بك يريد أن يسافر إلى أوروبا، وهو يبحث عن مواعيد السفن المسافرة، وهو حريصٌ على أن يسافر على أول باخرة؛ فقد تشوَّق إلى باريس وإلى أصدقائه هناك. ولست في حاجة إلى ذكاء لتعلم أن هؤلاء الأصدقاء إنما هنَّ صديقات، ولكن الحشمة تحتِّم أن نكتبها أصدقاء، إنهن كثيرات هؤلاء الأصدقاء. كان اليوم هو السبت، وقد وجد راشد بك سفينة في طريقه إلى مرسيليا في يوم السبت الذي يليه، وكان لا بد له أن يُبلغ السيدة والدته عن هذا السفر؛ حتى تشرف على تجهيز ملابسه، وترى ما الذي يحتاج إليه قبل أن يسافر، وكان لا بدَّ له أيضًا أن يستقلَّ القطار إلى التفتيش ليُلقي نظرة نهائية على حسابات الزراعة، ويأخذ ما حصَّله حمزة أفندي البلاشوني من إيراد الأرض. وقام راشد بك إلى والدته، وراح يصعد السلم إلى الطابق الأعلى في هدوء وفي تفكيرٍ عميق. كان السلم يفضي إلى بهوٍ عريض شامخ الأعمدة عميق الفخامة، تقوم فيه الأرائك الضخمة عليها القطيفة المزركشة القادمة من جنوا، وكانت والدته قد أنشأت لنفسها في هذا الطابق غرفةً للجلوس تستقبل فيها صديقاتها، وكانت أمه جلفدان هانم أفندي تحب أن تجلس في هذه الغرفة، حتى وإن لم يكُن لديها صديقات تستقبلهن. وهكذا لم يكن راشد بك محتاجًا أن يتخلَّى عمَّا يفكر فيه ليتجه إلى الغرفة، إنما هو يقصد إليها دون وَمضة من تفكير، إنه يعلم أنه سيفتح الباب وسيراها في كرسيها الكبير المجاور للمرآة التي تواجه الباب، يعلم ذلك ولم يفكر فيه. لقد كان مشغولًا بما يحتاج من نقود في باريس، وبما سيجده عند حمزة أفندي البلاشوني. ويفتح الباب، أمه بجانب المرآة، والمرآة ما زالت تواجه الباب. ولكن، ما هذا الجمال الذي يقف بجانب صورتي في المرآة؟ من هذه؟ كيف لم أرَها قبل اليوم؟ وكيف كان يمكن أن أراها؟ طبعًا سترفع اليشمك إلى وجهها، لقد بقِيت العينان، تكفيني العينان، جمال الدنيا كلها في هاتين العينَين! لم يحسَّ راشد بك بالأعين الأخرى التي تعلقت به، ولا أحس بعيني أمه التي أدهشها وقوفُه بعد تأكُّده من وجود حريم معها، لم يحسَّ شيئًا من هذا، وإنما ظل رانيًا إلى العينين اللتين تُطلَّان من فوق اليشمك، وطالت به الوقفة حتى اضطرت الأم آخر الأمر أن تقول: فيه حاجة راشد بك؟

وانتبه راشد بك فجأة، لينحني قائلًا وهو يقفل الباب: عفوًا هانم أفندي.

ويعود إلى مكتبه ويجد جدول البواخر ينتظره، فيطويه في هدوء ويضعه في الدرج الأسفل من مكتبه، ويمدُّ رجليه على المكتب، ويزيح طربوشه إلى الوراء ويستغرق مفكِّرًا في لا شيء.

•••

حين يسمع أقدام السيدات تعبر فناء السراي، يقف إلى الشباك وينظر إليهن وهن يركبن العربة التي تجرها أربعة خيول مطهَّمة، ولم يلتفتْ إلى العربة ولا إلى الخيول وإنما تثبَّت نظره على التي تسير خلفهنَّ جميعًا، فلم يشكَّ لحظة أنها أصغرهن، وأنه لا بد لها أن تكون خلفهن جميعًا، إن قوامها أكثر جمالًا من عينيها. أكان لا بد أن يكون لهذه السراي سلَّم للحريم وآخر للرجال؟ أكنت أريد أن أراها عن قُرب؟ وماذا ينفع القرب؟ إن جمالها لا يحتاج إلى كثير من إنعام النظر، إنها جميلةٌ، أو هي فاتنة لا شك في ذلك، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أخطبها؟ هكذا مرة واحدة؟ وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟

– هانم أفندي.

– إنها ابنة عثمان باشا فكري.

– لا يفوتك شيء.

– وقْفتك أمام الباب كانت طويلة.

– عيناها.

– نعم جميلة.

– أنت موافقة؟

– لا مانع.

سكت راشد بك ولم يسأل أمه عن شيءٍ. وعمَّ يسأل؟ ابنة عثمان باشا فكري، الأمر إذن لا يحتاج إلى سؤال. أما ثروته فمعروفة، كانت ألفَي فدان بقِي منها بضعة فدادين بعد البذَخ الذي كان يعيش فيه، وراشد بك لا يحتاج إلى مال؛ فثروته لا يحصيها العد، وإن كان هو يجيد إحصاءها ويعرف كل خافية منها، وعثمان باشا رجل ذو مكانةٍ مرموقة في الحياة المصرية، ولا شك أنه تولَّى ابنته بالتربية المعهودة، فهي تجيد التركية والفرنسية وعزف البيانو واختيار الملابس واستقبال الناس وتنسيق الأثاث وإعطاء الأوامر للخدم، ولا داعي إذن للسؤال، ولكن أمه.

– لم تسأل عن خديجة؟!

– اسمها خديجة؟

– يقولون إنها متحرِّرة في آرائها.

– كم عمرها؟

– بينك وبينها خمس عشرة سنة تقريبًا.

– أنا لست كبيرًا.

– ولست صغيرًا.

– ست وثلاثون سنة اكتمال الرجولة.

– وعشرون سنة بداية الأنوثة.

– ولكنها ابنة عثمان باشا فكري.

– الأنوثة لا شأن لها بعثمان باشا فكري.

– ما رأيك؟

– لن نجد خيرًا منها.

– فلماذا المناقشة إذن؟

– أريدك أن تعرف.

– إذن؟!

– أخطبها لك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤