الفصل التاسع عشر

ناهد فكري سيدةٌ عجيبة في المجتمع المصري؛ إنها ليست من طبقة الأمراء، وأبوها ليس وزيرًا ولا هو رئيس وزارة، إنما هو رجل عاش عمره يؤدي عمله كموظف في وزارة المالية.

وكان طريقه في الحياة يفرض عليه أن يعرف ذوي الشأن في السياسة والمجتمع، ولكنه هو نفسه لم يكن يحب أن يخوض المجتمع أو يدَّعي السياسة. هو رجل موظف، وهو موظف أمينٌ شريف لم يسمع أحد عنه شيئًا يشوب سمعته بسوء، وزوجته هي ابنة عمه وجدان هانم قرني، وقد كانت سيدة من خيرة السيدات، ليس لها في الحياة إلا زوجها وبيتها وابنتها ناهد وابنها سعيد، وكانت السيدة لا تترك سجادة الصلاة إلا لتقوم بشئون بيتها، وكان من الطبيعي أن يرسل ابنه وابنته إلى المدرسة، فقد كان من هذا الجيل الذي اعتبر التعليم ضرورة لا غنى عنها للفتى أو الفتاة على السواء.

وأتمَّ سعيد الدراسة، واشترى له أبوه سيارة؛ فإن موارده لم تكن قائمة على مُرتب الوظيفة، وإنما كانت الوظيفة لمجرد أن يكون موظفًا، فقد كان يجلُّ نفسه أن يكون بلا عملٍ مهما يكن غناه؛ هذا الغنى الفاحش الذي تركه له والده.

لقد كان فكري الزيني يملك ثماني عمارات إلى جانب تسع قطع أرض فضاء، جميعها صالح للبناء، وكانت كل قطعة منها لا تقل عن العشرين فدانًا ويصل بعضها إلى خمسين فدانًا. ولكن فكري لا يتصور أن تكون وظيفته في الحياة مالكًا فقط.

فقد كان يرفض أن يرود المجتمعات، ويرفض كما ذكرتُ لك أن يعمل بالسياسة، فإذا خلت حياة الغني من مجتمع أو سياسة أصبحت فراغًا لا يطيقه أحد.

لم يكن عجيبًا إذن أن يشتري فكري لابنه سعيد سيارة، ولم يكن غريبًا أيضًا أن يختار سعيد أفخم سيارة في ذلك الحين، وقد كانت «باكار» وكان لها غطاء يرفعه عن نفسه أو يسدله كيفما يعنُّ له.

ولكن فكري لم يقدر أن ابنه حين اشترى السيارة كان قد أعدَّ لنفسه الوسيلة التي يموت بها.

هكذا شاء القدر ونزلت الفاجعة عليه وعلى زوجته قاصمة توشك أن تخلع جذورهما من الحياة، ولولا أن تعلقا بالإيمان، ولولا هذا اللطف الخفي الذي تبطِّن به السماء الفواجع؛ لكان الجنون أقل ما ينتظر الرجل الطيب وزوجته المتوكلة على الله.

وهكذا انفردت ناهد بوالديها، فكانت تصنع كل ما لا تستطيع فتاة في سنِّها وفي مجتمعها أن تفعله.

الملابس غاية في الفخامة، السيارة دائمًا من آخر طراز، الزينة يقوم بها أعظم المتخصصين، وأدوات الزينة تأتي من أعظم الأنواع، وإذا لم تسعفها بها القاهرة — وقد كانت من أعظم الأسواق العالمية — أسعفتها بها باريس أو لندن أو أي بلدٍ في العالم.

وامتدت صداقات ناهد مع كل رواد المجتمع الذين كانوا حينذاك من بنات وأبناء الأمراء، فإن تواضعوا فمن أبناء وبنات رؤساء الوزارات أو الوزراء أو وكلاء الوزراء، وقد كان لهم في هذه الأيام دويٌّ وطنين، ويمكن أن يكون رواد هذه المجتمعات من مجرد الأغنياء، ولكن حتِّم عليهم حينئذٍ أن يكون آباؤهم وأمهاتهم هم أنفسهم من رواد الصالونات؛ يدعون إلى بيوتهم كما يدعوهم الناس، وإلا فلا مكان لهم أو لأولادهم في هذه الأبهاء.

ولم يكن فكري ولا كانت الست وجدان ليفكرا أن يردوا هذه الصالونات، ومن المؤكد أن أحدًا منهما لم يكن يفكر أن يدعو إلى مثل هذه الحفلات.

ولكن العجيب — وهذا ما جعلني أبدأ هذا الفصل — أن السيدة ناهد سيدةٌ عجيبة في المجتمع.

كيف يسمح أبوان لا شأن لهما بصالونات المجتمع ومباذله لابنتهما أن ترود هذه المجتمعات، ولا يمنعانها.

وكيف استطاعت هذه الفتاة بمفردها، ودون عون من دعوات توجهها مثل الدعوات التي تتلقاها، أن تفرض نفسها على المجتمع بهذه القوة وهذا الجبروت؟

لا يستطيع المجتمع أن يدعو جميع أعضائه في كل دعوة، وإنما هناك دائمًا نوع من الاختيار، والذي دُعي هذه المرة عند فلان يستطيع فلانٌ آخر ألَّا يدعوه في المرة اللاحقة.

إن أي بيت من البيوت، التي تصطنع هذه الدعوات لا تستطيع أن تحتمل أكثر من عددٍ معين، يمثِّل على أحسن تقدير عُشر هذا المجتمع، أو واحدًا على عشرين منه.

ولكن مهما تكن الدعوات قليلة، ومهما يكن البيت صغيرًا فلا بد أن تتصدر الليلة ناهد فكري.

أي سحر فيها؟

إنها جميلة، لا شك في ذلك، ولها هذا العطر السحري الذي يجتذب العيون والقلوب؛ فهو عطرٌ ممزوج بجسمها، تكوَّن معها وهي بعدُ جنين، لا تشتريه ولا يستطيع أحد أن يشتريه، فيه هذه الخاصية التي لم يستطع أحد أن يكشف سرها، وإنما هي تأسر في غير عقل، وتستولي على المشاعر في غير منطق، وكل ما عليها من عطور وملابس، وما صنعه البشر بشعرها من تلافيف أو بوجهها من زينة؛ لا قيمة له مع هذا العطر الذي منحته لها الطبيعة، والذي لا يعرف أحد مأتاه، والذي نحمد الله أن أحدًا لا يعرف مأتاه، وإلا أصبح الرجال، جميع الرجال، عبيدًا أو مجانين، وأصبحوا جميعًا — ولا شك في هذا — عصاة.

ولكن أهذا العطر هو الذي يجعلها تتصدر الحفلات جميعًا؟ كيف؟ إذا قبلنا ذلك في الحفلات التي يقيمها الرجال، فكيف بنا أن نقبله في الحفلات التي تقيمها النساء؟ إنها هناك مهما يكن جنس الداعي؛ رجلًا كان أو كانت امرأة، عجوزين كانا أو كانا من الفتيان.

وهذا السحر فيها تمتاز به اثنتان أو ثلاث فتياتٍ أخريات، وهن أيضًا يستقبلن الدعوات، وحين يجتمعن ينشقُّ الحفل عن مباراة في الجمال والأنوثة، لا يهم أحدًا مَن الكاسب فيها ومن الخسران، فالمؤكد أن المدعوين جميعًا هم الكاسبون.

ولكن أولئك الفتيات كثيرًا ما تؤجَّل دعوتهن، وكثيرًا ما تخلو منهن الحفلات إلا ناهد. إنها دائمًا هناك، هذا هو العجب.

والمجلات تتابع هذا المجتمع في إصرار، وما زالت تتابعه. لم تستطع ثورة حطمت كل المعايير والمقاييس والقيم القديمة أن تُحطِّم أهون ما في هذا المجتمع من متابعة المجلات لأخبار الصالونات.

وقد هشمت الثورة من كان يؤم هذه الصالونات، ولكنها في نفس الوقت أخرجت للصالونات قومًا آخرين.

وإن كان المجتمع المهشَّم قد أدرك معنى الصالون، ومعنى الأبيوسون والشينوا، ومعنى الرفق في الغزل، والكلمة تهمس ولا تقذف، واحتساء الخمر بحذر حتى لا يفلت الزمام، إلا قلة هزيلة منهم كانوا مرضى. وإن كان المجتمع الذي هشمته الثورة يعرف معنى الموسيقى الحالمة أو الصاخبة، ويعرف كيف يمسك بأدوات الطعام الفضية أو الكريستوفل أو المستجلبة من شيفيلد وميبل أندوب ويجيلها على الأطباق السفرة أو الليموج، فلا تسمع لها إلا همسًا كهمس المحبين.

فإن المجتمع الجديد يعرف كيف يشتري أغلى الأشياء، ويقذف بها في صالوناته، لا يفكر في مواءمة بعضها لبعض، فهذان كرسيَّان حديثان في غاية الغلاء موضوعان إلى جانب أريكة أبيسون، وهذه منضدة من النوع الحديث المرتفع الثمن إلى جانب كرسيٍّ مرسوم على نمط لويس السادس عشر، والخمر في المجتمع الجديد أنهار، والشاربون يعبُّون عبًّا ويعلُّون وينهلون ولا يحتسون؛ فهم يريدون أن يسكروا لا أن يشربوا، والمجتمع الجديد يخصص حجرات للمخدر ذي الدخان أو المخدر الذي يُبتلع، فالسُّكر عندهم هو الغاية، وهم يملكون إليه الوسيلة.

والأطباق غالية الثمن، والأدوات ما زالت فضية، ولكن إذا مُدَّ الطعام نشبت أمامك معركة بين أدوات الطعام والأطباق.

وعلى الحالين المجلات عندنا تهتم بهذا المجتمع، كانت تهتم بالمجتمع الراحل، وهي اليوم تهتم بالمجتمع الذي أخذ مكانه.

وفي أي مجتمع تسطع ناهد فكري لتكون نجمة كل المجلات، فإذا هي في بعض عام أعظم شهرة من كواكب السينما جميعًا.

وحين أقبل الإصلاح الزراعي كان أبوها قد انتقل إلى العالم الآخر، بعد أن جعل ناهد مالكة لكل ما يملك، وحين أصبح المجتمع الجديد هو المجتمع المعتمد المُعترف به راح مجتمع ناهد القديم يلملم أذياله ويتخفَّى في الْتياع، ويبتعد عن أضواء آلات التصوير بل عن أضواء الشمس إذا استطاع.

والعجيب أن ناهد استطاعت في مقدرةٍ فائقة أن تغرب من المجتمع القديم لتشرق في المجتمع الجديد، وإن كانت في المجتمع القديم شمسًا من ثلاث شموس أو شمسين فهي في هذا المجتمع شمسه الرفيعة المتألقة التي تنفرد بسمائه.

تلك هي قصة ناهد مع المجتمعَين، ماذا عن ناهد في بيت أبيها، ذلك الرجل الجاد وأمها تلك السيدة الودود التي لا تعرف إلا البيت والصلاة؟

كان أمر الوالدين عجبًا، حاولا بكل ما يملكان من جهد أن يقفا بين ابنتهما وبين الطريق الذي اختارته، ولكنها كانت كالفرس الجموح، وحين طالت المناقشات بينها وبين أبويها وأوشكت أن تضيق بها وجدت وسيلتها من قريب.

كان وجدي موجودًا في كل دعوة تلبِّيها ناهد، وكان جماله الواضح يجعله دائمًا ملتقى اهتمام، وكان وجدي قد أعدَّ نفسه لهذا المجتمع، فعرف كيف يكون سهلًا في حديثه، يسير به على سطح الأمور ولا يغوص في أعماقها، إن دخل في نقاش استطاع أن يقنع كل من يحادثه أنه صاحب الحق الأصيل، وهكذا كان يترك الآراء تشتجر وتتشابك وهو يقف منها موقف المؤيد لكل رأي، فقد أدرك من المجتمعات التي هيأتها أمه أن من لا رأي له هو أقرب الموجودين إلى قلوب الحاضرين.

ولكل إنسان في الحياة هدف ومتجه، وما كان وجدي ليفكر مطلقًا أن يكون صاحب مكانة في الحياة العامة، وإنما كان هذا المجتمع بالذات هو غايته وهدفه، حتى شهادة الحقوق التي حصل عليها كان يعتبرها وسيلته إلى هذه المجتمعات وليست وسيلته — لا قدر الله — إلى قضاء؛ واقفًا كان هذا القضاء أو كان جالسًا.

وحين شبَّ وجدي عن الطوق وعرف قصة ميلاده تقبلها في هلع أول الأمر، ثم أمعن النظر فيها فإذا هو يخرج بها إلى رأي استقر عليه وارتاح له، لقد أعجب بأمه غاية الإعجاب؛ فليس عليها من بأس في رأيه أن تصل بينها وبين أبيه عزت وهو من هو جمالًا، لقد رآه وقد زحفت الغضون إلى وجهه ولكنها لم تستطع أن تعدو على جماله، وحين مات عزت فكر أن يسير في جنازته ولكنه خشي أن يتغامز عليه المشيِّعون، فاكتفى بدموع تحدرت من عينه في طي الكتمان، ولم يكن يدري يومذاك لماذا يبكي؛ فأبوه عزت له أبوة أساءت إليه أمام الناس ثم هو لم يشعر منه بحنان، وجمود الأبوة يجعل الأبناء يكرهون آباءهم أكثر من كراهيتهم لأعدائهم، فالمفروض أن العدو لا يرحم، والمفروض أن الأب رحمان وعطوف وحنون كله إشفاقٌ، وقلبٌ يخفق بابنه، وروح ترفرف حيث يتحرك أبناؤه.

فإذا لم يرحم فقد خرق نواميس البشر، وإذا قسا بغير عدالةٍ فقد قلب مواقع الأفلاك، أما إذا جحد ابنه فكان عنده هملًا لا وجود له فهو قد مزَّق أستار البشرية وانحط عن درك الحيوان.

ولكنه بكاه.

كان وجدي إذن يرى أن لا بأس على أمه أن تقيم بينها وبين أبيه عزت صلة، فشأن السيدة المُطلقة أن تبحث عن سند لها في الحياة، وإذا لم يتوفر السند الشرعي فإن وجدي يرى أن لا بأس عليها أن تبحث عن سندٍ غير شرعي، فإذا كان جميلًا فالعذر إذن ممهد لها.

ويرى وجدي أن أمه كانت ذكية حين ألحقت نسبه إلى عبد المحسن باشا؛ فهي تختار لابنها. ومن حقها أن تختار له الأب الأحسن. ومن أحسن من عبد المحسن باشا؟ وجعلت الطفل شرعيًّا.

وليقل الناس بعد ذلك ما يقولون. لقد فاز بناءً على حكم القضاء بأبٍ باشا وبثروةٍ جديرة بالبشاوات. وهكذا استطاع وجدي في قدرة لا تتأتى إلا لنوعٍ خاص من البشر أن يعجب بأمه لأنها ذكيةٌ ويعجب بأبيه الذي صنعته له المحكمة لأنه باشا وبأبيه الذي فرضته عليه الحقيقة والطبيعة وأحاديث الناس؛ لأنه جميلٌ ولأنه قادر على أن يجعل النساء يحببنه، فوجدي في نظر نفسه يجمع المجد من ثلاثة أطراف، إن كان أهل المجد، والشاعر الذي تحدث عن أطراف مجده يجمعون المجد من طرفَين اثنين على أكثر تقدير، والغالبية العظمى إن كان لهم مجد يتفاخرون به فهو لا يزيد عن طرفٍ واحد.

وخاض وجدي المجتمع بهذه الثقة الهائلة بنفسه وبميلاده، وكثيرًا ما كان يغبط نفسه؛ لأن الكثيرين ممن يخوضون هذا المجتمع يحتاجون إلى جهد جهيدٍ من ثقافة خاصة، ودربة في التعامل وممارسة لهذه الحياة، واختلاط بالأسرات، وزمن طويل حتى يتحقَّق لهم آخر الأمر شهرة بين أبناء هذه المحافل. أما هو فقد وجد شهرته سبقَتْه إلى محافل هذا المجتمع جميعها، ولم يكن يضيق حين تعرفه بعض السيدات بأخرى قائلة: «وجدي ابن نجاة.» مقنعًا نفسه أن الأم صديقة السيدات، ومن الطبيعي أن يُنسب إليها عندهن، ولا يريد وجدي، أو هو لا يهمه، أن يتشكَّك في السيدة التي تقدمه على هذه الصورة أنها إنما تتخلص من حيرةٍ بين الحقيقة القضائية والحقيقة التي تعرفها هي ويعرفها الجميع، ويؤكدها هذا الشبه بين الابن وبين أبيه الحقيقي.

قالت له ناهد: أظن أنني كبرت، وأنت أيضًا، على هذا اللف والدوران.

– أي لفٍّ ودوران؟

– وكبرنا أيضًا على الاستعباط.

– والنتيجة؟

– قل أنت ماذا تريد.

– ما دمنا قد وضعنا شروطًا للعبة، فيجب علينا أن نلتزم بها جميعًا.

– حسنًا، لن ألفَّ معك. أهي محاولات منك لاجتذابي إليك، أم أنت جادٌّ في هذا الغزل، وهذه النظرات التي أصبح الجميع يتندَّر بها؟

– هذا يتوقف على معنى الجِدِّية.

– لا يختلف اثنان في معناها.

– ولكن نحن قد نختلف.

– أمختلفان نحن عن الناس؟

– المؤكد أنني لم أسمع أن مثل هذا الحديث دار بين اثنَين قبلنا.

– لأنك دائمًا تُدير أحاديث أخرى.

– وأسمع أحاديثَ أخرى أيضًا.

– استطعت في فرح هالة فقط أن تُقيم علاقة بينك وبين بهيرة.

– أما زلتِ تذكرين؟

– أنا لستُ مثل بهيرة؟

– هذا مؤكد.

– أنا أعرف أنك طلبتَ أن تتزوج بهيرة.

– أمي التي طلبت.

– لم يكن حبًّا إذن؟

– بداية استلطاف.

– والذي تفعله معي الآن؟

– ماذا تريدينه أن يكون؟

– أنا لا أمانع في الزواج.

– وأنا أرحِّب به.

– على شرط.

– كل الشروط مقبولة.

– أن يعيش كلٌّ منَّا بالطريقة التي تروقُ له.

– أمعقول أن تقولي هذا؟

– هذا ما سأفعله.

– في استطاعتك أن تفعليه دون أن تذكريه.

– لا أحبُّ الخداع.

– ربما كنت أحبه.

– لعلك احتجت إليه.

– كل الناس تحتاج إلى بعضِ الخداع.

– ولكن بعض الناس تحتاج إلى الخداع الدائم.

– لقد قبِلتُ الشرط.

ولم يتردد فكري بك في قبول خاطب ابنته، رغم أنه يعرف كل شيء عن تاريخ حياته، بل إن وجدان هانم رحبت بوجدي؛ فقد كان الأب والأم كلاهما يخافان كل الخوف ألَّا تتزوج ابنتهما بعد أن أصبحت حديث المجلات وأبواب المجتمع، وكان فكري بك في أخريات أيامه، وكان يخشى كل الخشية أن يترك ابنته بلا زوج، فيزداد سفورها على الحياة. وهكذا تمَّ الزواج في سرعة، واستقلَّت ناهد ببيتها، ولم تعد رقابة أمها أو أبيها تلاحقها.

وسرعان ما استقرَّت الحياة بينها وبين وجدي، بل سرعان ما تفَاهَما، لم يكن طريقاهما متباعدَين، كان الهدف واحدًا، ولكن كلًّا منهما كان يسلك الطريقَ لحسابه الخاص.

لم تمضِ شهور على الزواج، حتى كان فكري الزيني قد لقِيَ ربه، ولم تمضِ شهور أخرى، حتى صدر قانون الإصلاح الزراعي. وشمَّر وجدي عن ساعد الجد وشمَّرت معه ناهد، فإذا بيتها ملتقى الأرباب الجُدد أو أنصاف الأرباب من الأتباع. واستعملت ناهد كل وسائلها من سحر الأنوثة، وعطر السماء، وتخاضع اللفظ، واختيار الإشارة، ورسم الابتسامة، وافتعال الغضَب، واصطناع الحفلات، وصناعة الإبهار.

واستعمل وجدي كل ما حبَتْه به الطبيعة من اصطناع الغباء، وقبول كل الأوضاع، وتوطيد الصداقات، مهما يكنْ ثمن الصداقة من عِرض أو سُمعة، فما يَعنيه العرض، ولا قيمةَ عنده للسُمعة، فهو من هو عرضًا وسُمعةً بحكم الميلاد.

لقد كانت ثروة أبيه من الأرض الزراعية، وقد استطاع بمواهبه هذه أن يُبقيَ عليها كاملة، لم يتسلم منها الإصلاح الزراعي شيئًا، وقد أعانه على تلفيق الأمور حامد عبد البديع.

ومن هذه الأبواب التي تفتَّحت لحامد على يد وجدي وأخيه جابر، الذي كان على صلةٍ قديمة ببعض الأرباب الجُدد، استطاع حامد أن يُنقذ أرض يحيى، ويتقاضى ثمنًا لذلك عشرين فدانًا من أرض يحيى، يصحبها أيضًا عرض يحيى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤