الفصل الرابع والعشرون

استطاع وجدي أن يغري زوجته بالإكثار من الحفلات؛ يدعو لها كل صاحب سُلطة. وهذه الحفلات لا تكلف المأكل والمشرب فقط، وما هو بقليلٍ، وإنما تكلف معها ملابسَ لكل حفلٍ. وقد استطاعت ناهد في غمرة هذه الحفلات أن تبيع أملاكها جميعًا، وراحت تشتري بأثمانها مجوهراتٍ لا يعرف زوجها عنها شيئًا، ودبرت ناهد أمرَها أحسن تدبير، وراحت تفحص الأشخاص الذي تعرَّفت بهم في حفلاتها، واختارت أخطرهم شأنًا، وساعدها الحظ فكان أيضًا أشدهم غباءً، فألقت عليه شباكًا قنَّاصة لا تفلت صيدًا.

وكان من الطبيعي أن يظن نفسه ساحرَ نساء، وهادمَ قلاع، وفاتحَ حصون، وما كان ذا فكر ليُمعن به النظر، وليتبيَّن أن التي يتوهم أنه سحرها؛ إنما هي التي سحرته، وأن القِلاع التي هدمها كانت بلا جدران إلا بابًا على الصحراء، فهي مُفتَّحة من جميع جوانبها، ومن ثم فلا حصون هناك لتُفتح.

أغرته ناهد، وقبِل الإغراء وأعدَّ لها — وما كان أيسر هذا بالنسبة إليه — شقَّةً كانا يلتقيان بها، وما هي إلا لقاءات قليلة حتى واجهَتْه ناهد.

– لا يمكن أن يستديم الحال هكذا.

– لماذا؟

– أتحسب أن أمرنا لن يُعرف؟

– لا يمكن أن يُعرف.

– إذن اطمئنَّ، لقد عُرف فعلًا.

– كيف؟

– أنت في نومة.

– أنت التي تتوهمين أشياءَ لا ظلَّ لها من الحقيقة.

– يا حبيبي فكِّر، أنت شخصية مهمة جدًّا، كيف يمكن أن تكون تنقُّلاتك مطلقة هكذا من غير عيونٍ حوالَيْك؟

– ماذا؟

– أتشك في هذا؟

– انتظري انتظري، يظهر أنك على حق.

– كيف؟

– بالأمس .. نعم لك حق .. فعلًا.

– ماذا حدث بالأمس؟

– قال لي كلامًا مبهمًا فيه هذا المعنى.

– مثل ماذا؟

– مثل ماذا؟ مثل: كل واحد منكم حرٌّ، وأنا عارف أن كثيرين منكم لهم ليلى يهيم بها.

– أرأيت! ولكن ماذا يعني بليلى؟

– لعله يقصد ليلى المجنون.

– أو غيرها.

– سأله أحدنا أي ليلى تقصد؟

– قال: لك حق.

– ماذا قال؟

– قال ليلى، ناهد، أو جواهر، لا يُهم.

– أرأيت؟

– فعلًا.

– إذن ماذا ترَين؟

– طالما أنَّا في مصر لا أمانَ لنا.

– وماذا تريدين؟

– أسافر.

– إلى أين؟

– إلى الخارج.

– وأنا؟

– أنت ستجد أن الاتصال بي في الخارج أسهل من الاتصال بي هنا، الطيَّارات كلها تحت أمرك. أقيم في فرنسا أو سويسرا أو إنجلترا، وكل شهر تأخذ أسبوعًا أو أكثر، أو قل إجازة، ونكون على حريتنا.

– متى تستطيعين السفر؟

– الآن إذا استطعت أنت.

– ووجدي؟

– اتركه لي.

– سأسافر.

– مع السلامة.

– إلى الأبد.

– ماذا؟

– وهل تعتقد أنني أصرف هذه المبالغ؛ لأبقى في مصر؟

– وأنا؟

– أنت حر.

– أنا مستقبلي في مصر.

– مع من؟

– مع هؤلاء الذين نعرفهم.

– أنت مستقبلك الحقيقي في بيع رجولتك.

– ماذا تقولين؟

– لا تدَّعي الدهشة، أنا عارفاك، وأنت تعرف أنني عارفاك.

– وافرضي.

– الستات اللواتي يشترين رجولتك تركن مصر.

– بعضهنَّ ما زال هنا.

– هؤلاء لا يدفعن ما يكفيك.

– مع وظيفتي في الاتحاد الاشتراكي.

– والمخابرات.

– وتعرفين هذا أيضًا؟

– أنت لا يكفيك هذا جميعه.

– إذن؟

– سافر.

– وأرضي هنا؟

– وماذا سيجري لها؟ ستبقى وستظل تدخر رِيعها، وتنفق من ريع أعمالك.

– أسافر معك؟

– لا، في الخارج لا يمكن.

– لا يمكن ماذا؟

– كنت هنا أشتريك لتكون ستارًا، أما في الخارج فأنا لا أحتاج لهذا الستار، والنقود في الخارج لها قيمة أخرى، إنها في الخارج عملة صعبة.

– ماذا تعنين؟

– العقد بيننا انتهى.

– ولكنك لا تستطيعين السفر من غير إذني!

– وجدي، هل أنت جاد؟

– طبعًا لا.

– إذن؟

– تكلمين الذي سهَّل لك السفر يرفع درجتي.

– في المخابرات أم في الاتحاد الاشتراكي؟

– المخابرات أهم.

– لا مانع، العِشرة على كل حال لا تهون.

– تظاهري أنني لن أوافقَ على السفر.

– تقصد الطلاق؟

– كله واحد.

– هناك فرق.

– لم نختلف، قولي إنني لن أوافق على الطلاق، إلا إذا أرضاني هو، وضحك عليَّ بترقية.

– أتظن أنني أحتاج لدروسك؟

– آسف. نسيت نفسي.

– فعلًا.

•••

وسافرت ناهد، وحمل حقيبة المجوهرات صديقها ذو السلطان، وسلَّمها لها في الطائرة. وكانت التذكرة إلى لندن، وكانت هذه التذكرة هي نهاية العلاقة بينهما؛ فقد قدر لصاحب السلطان أن يفقد سلطانه، فلم يعد يستطيع السفر، والشيء الذي مات دون أن يعرفه هو أنه، باليقين والقطع، كان لن يجدها في ذلك العنوان الذي اتَّفقا على اللقاء فيه بلندن.

لم يكن عجيبًا إذن أن يَستقبل أسامة، عند اعتقاله، وجدي جالسًا على مكتبه في مبنى المخابرات العامة.

ولما كان أسامة يعرف وجدي ويعرف قصته جميعًا؛ البادئة بمولده والمارة بزواجه، والتي لم تنتهِ بعدُ؛ لم يجد أسامة أي غرابةٍ في هذه الابتسامة الفاجرة التي لا تُبالي بشيءٍ، والتي في نفس الوقت توضح أي درَك من الوَضاعة ابتدع صاحبها.

– أهلًا أسامة بك.

– أهلًا.

– ألا تذكرني؟

– آسف.

– أنا وجدي، وجدي عبد المحسن، والدي ووالدك كانا صديقين، ونحن تقابلنا كثيرًا، ولكنك تنسى.

– فعلًا كثيرًا.

– أم تراك تنسى حين تحب أن تنسى؟

– المؤكد أن طريقة الدعوة، أو الاستدعاء التي تفضَّلت بها عليَّ، تجعل الإنسان ينسى أشياء كثيرة، حتى التي لا يحب أن ينساها.

– وهل كثير علينا أن تعطينا بعض وقتك؟

– يا أستاذ …

وأدرك وجدي أنه يصر على تجاهله، ولكنه لا يُعنى كثيرًا برأي الآخرين؛ فهو يكمل في ابتسامته الفاجرة.

– وجدي، وجدي يا أخي.

– المؤكد أن هذا ليس هو موضوع الحديث الذي تريدني فيه.

– طبعًا هناك ما أريد أن أكلِّمك فيه.

– أنا تحت أمرك.

– أصبحتَ المحاميَ الأول في كل القضايا السياسية، يا أسامة بك.

– وهل هذا ممنوع؟

– المظهر لا يَليق.

– ما المظهر الذي لا يَليق؟

– كأنك تأخذ من العهد موقفًا مضادًّا.

– يا سيدي، أنا أترافع في القضايا التي يرى العهد أن يسمح للمحامين بالترافع فيها، والقضايا الأخرى لا يترافع فيها أحد؛ فماذا يضير أن أكون أنا المحامي أم غيري؟

– خفِّف من قبول هذه القضايا. يكفيك قضايا الجنايات، وخصوصًا قضايا المخدرات.

– يكفيني من أي جهة تقصد؟

– القضايا الجنائية، وخاصةً قضايا المخدرات أتعابها كبيرة.

– سيادتك شهادتك في القانون؟

وأوشك وجدي أن يغضب بهذا التجاهل الكامل من أسامة؛ فهو واثق أنه يعرفه كل المعرفة، ولكنه تماسك.

– في القانون، أنا خريج دفعة …

– لا يهم، المهم أنك خريج حقوق. أترى أن المحاماة أتعاب فقط؟ ألا ترى فيها أي شيءٍ آخر؟

– طبعًا طبعًا، هذا لا شك فيه، واجبك نحو العدالة ونحو موكِّليك.

– الذي تقوله صحيح، ولو خلا من رنَّة السخرية يصبح هو الحقيقة.

– أنا لا أسخر، أستغفر الله!

– المهم، المطلوب منِّي الآن ألَّا أقبل قضايا سياسية؟

– والله يُستحسن.

– أهذا كل شيءٍ؟

– ألف شكر.

– تسمح لي؟

– تفضَّل.

وقام أسامة، وأوصله وجدي إلى باب الغرفة، وصافحه مرة أخرى، وأغلق الباب، وأخذ أسامة طريقه إلى الباب الخارجي. ولكن ما هي إلا خطوات قلائل؛ حتى وجد نفسه محاطًا بقوة من الشرطة، ثم أُغلقت عليه أبواب السجن.

•••

مكث أسامة في السجن، لا يعرف شيئًا عن تُهمته، ولا تعرف أسرته عنه شيئًا.

كان الذي رآه أسامة في السجن بعضًا مما كان يسمعه، ولم يقع عليه هو تعذيب جسماني؛ فهو لم يكن يُخفي شيئًا يريدونه أن يبديه، ولكنه عُومل كما تُعامل الكلاب الجَرباء، وكانت هذه المعاملة مع ما يرى الآخرين يَجْرعونه نوعًا من التدليل والرفاهية.

انصبَّ عذاب الآخرين على نفس أسامة، حتى لقد كان يُخيل إليه أنه يُعذب عذابهم أجمعين، ولم يكن يشعر بنَسمة فرح إلا حين يموت أحد المسجونين، فيحس أسامة أن إنسانًا أنقذه الله من براثن الغيلان المتَّشحة بجلود الآدميين. والعجيب أن أسامة كان يحس أن الذين يقومون بالتعذيب في حاجة إلى الشفقة؛ لأنهم هم أنفسهم ما هم إلا أصابع الحاكم، يفترس بها آدمية البشر وإنسانية الإنسان، ويتمنَّى الموت للمسجونين جميعًا ولنفسه قبلهم، ويذكر قول المتنبي:

كفَى بك داءً أن ترى الموتَ شافيًا
وحَسبُ المنايا أن يكُنَّ أَمانيا

وكان يعجب؛ أيستطيع الحاكم أن ينام؟! أتستطيع أصابعه هذه أن يهدأ لها ضمير؟! وما هي إلَّا أيام؛ حتى رأى في وجوه الذين يقومون بالتعذيب علاماتٍ لم يكن قد تعرَّف عليها أول الأمر، وكيف لإنسان أن يرى على وجه وحشٍ قسماتِ آدميٍّ ويتعرف عليها؟ علامات لم يشهدها على وجوه بشر قبل اليوم.

لقد تغيرت ملامح البشرية في وجوههم؛ انقلبوا إلى جنس من المخلوقات غريب عن الأجناس التي يعرفها الكون ولا يألَفُها الناس؛ نوع من المخلوقات لا هو إنسان ولا هو حيوان، ولم يستغرب هذا الذي تبيَّنه؛ فالإنسان لا يستطيع أن يصبَّ هذا العذاب جميعه على مخلوق آخر، إنسانًا كان هذا المخلوق أو كان حيوانًا.

والحيوان حين يُهاجِم الفريسة لا يقدر أنها إنسان أو هي حيوان، وإنما يرى فيها طعامه وهو يريد أن يأكل، أو يرى فيها عدوه وهو يدافع عن نفسه، فالحيوان المفترس المتوحش طبيعيٌّ ومعقول في كل هجوم يقوم به وعمله جميعه له مبرِّره ومعقوليته، فما هذا الجنس إذن الذي يعمل في هذه السجون؟ وأين صنعه العهد؟ وكيف ركبه؟ ومن أي مادة تكوَّن هيكله وضميره؟ إن المتفرس في وجوههم يرى مادة جديدة من المخلوقات يشك كثيرًا أن تكون يد الرحمن قد مسَّتها. إنما هم كالحاكم الذي يأمرهم سرطانات بشرية، خلايا تفجرت من طين بلا روح، ومن شرٍّ بلا خير، ومن مادة متوحشة عجنها إبليس، وخلا تركيبُها من ضميرٍ أو قلب أو شعور.

مرَّ بأسامة شهر وثانٍ، وأوشك الثالث أن يكتمل، فإذا لغطٌ يشبُّ في السجن، وهمهمات وجمجمة، وهمس يفضي إلى همس، ورءوس تميل في براءة، وتعتدل في أسًى وجزع. إنها حرب يونيو، وفُتحت أبواب السجون لا لتخرج أحدًا، وإنما لتبتلع آخرين عرَف منهم أسامةُ كثيرين. ورآهم وهم يُجلسونهم القرفصاء فلا تحتمل سيقانهم، فأغلبهم جاوز الشباب وأصبح يتوكأ إلى الشيخوخة، وما تحتمل سيقانهم ما يريدونهم عليه، ولكنهم جلسوا القرفصاء، ورفعوا أيديهم فوق رءوسهم كقرود يدرِّبها عفريت من الجن.

الوجوه غير البشرية وغير الحيوانية فيها رُعب، وفيها حيرة وفيها جزع؛ إنها تخاف من المسجونين. المسجونون عُزل وبلا سلاح، وها هم أولاء جالسون القرفصاء، وأيديهم فوق رءوسهم، والسجانون بيدهم الأسواط، وبيدهم أدوات التعذيب الكهربائية والحديدية، وبيدهم دائمًا الأسلحة النارية والمدافع السريعة الطلَقات.

ولكن المسلَّحين بآلات التعذيب، وبالأسواط وبالبارود والمدافع، يخافون من هؤلاء العُزَّل الجالسين القرفصاء والواضعين أيديَهم فوق رءوسهم.

أهو موقف الحق الأشمِّ أمام الظلم الخسيس؟ أم أن الخلايا السرطانية، من أعوان السرطان الأعظم، قد أصابتها روح من البشرية ألقَتْها إلى نفوسهم أنباء الحرب؟ لا أحد يدري!

•••

مرت أسابيع قلائل بعد الخامس من يونيو، وأُفرج عن بعض المسجونين، وكان أسامة من بينهم.

خرج فوجد أمواله جميعًا تحت الحراسة، والبقية الباقية من أموال زوجته، بل إن أموال خديجة وُضعت تحت الحراسة، وصدر الأمر الخاص باسم حرم المرحوم راشد برهان. ولست أدري هل ارتجفت يد المارد الرعديد، وهو يضع تحت الحراسة أموال ميِّتٍ أصبح في ذمة الله، أم أنها كانت ثابتةً متبجحةً؟ أغلب الأمر أنها لم ترتجف؛ فالرجفة لا يبتعثها إلا بقية من آدمية، وهيهات! ولو عرفوا الحق لتبيَّن لهم أن خديجة لم ترِثْ عن زوجها شيئًا، وإنما كان مالها هو ما بقِي لها عن أبيها، ولكن ما الفرق؟! والعجيب، ولو أن أي شيءٍ لم يكن عجيبًا في ذلك الزمن، أن أمر الحراسة يقول «حرم المرحوم». كيف تجرأ مُصدر الأمر، وخطَّ كلمة توحي بالرحمة؛ ليوقع بها قرارًا لا يتصل بأي رحمةٍ؟! إن أغلب مواد القانون تقضي بأن يُعاقب المذنب بغرامة قدرُها كذا من المال، أو بسجن قدره كذا من الشهور أو السنين. فالغرامة المالية إذن تستوي عند القانون مع العقاب الجسماني، وهكذا يصبح الاستيلاء الكامل على مال شخصٍ ما حكمًا بالإعدام المدني، وبلا محاكمة.

ومن عجبٍ أن يصدروا حكمًا بالإعدام المدني على شخصٍ مات فعلًا! كيف يريدون أن يقتلوا من مات؟ القانون يُسمِّي هذا الجريمة المستحيلة؛ لأن القتل لا يكون إلا لحياة، ولا سبيل لأحد أن يقتل ميتًا، ولكن ذلك العهد لم يكن شيء مستحيلًا عنده.

لم يأبه أسامة، وإنما عاد إلى مكتبه، وواصل طريقه في الحياة، وواصلت الحياة طريقها إلى جانبه؛ صعبة عنيفة، ولكنها شريفة، وتسير.

•••

حين تفجر الحقُّ في مصر، وحين أعاد الحكم أموال الناس إليهم، وحين انشرخ الظلام عن الصباح، وحين عادت الحياة إلى الحياة أحسَّ أسامة أنه استطاع أن يجتاز الأزمة الطاحنة: ربما استطاع أبي أن يركب الموتسيكل السيدكار، وربما عجزت أنا أن أجد في بعض الفترات درَّاجة أتنقل عليها، ولكن أبي استطاع أن يسير فوق الأزمة على موتسيكل، واستطعت أنا أن أسير عليها بقدمي.

ولم ينكس أبي رأسه، ولم أنكس أنا رأسي للطغيان. عجبًا! ألم يكن هو أنا وأنا أربأ بشرفي أن يدنِّسه ذهب الطغيان أو يذله تعذيبه؟ من يدري؟! لعل روحه تلبَّستني! أو ربما، لا أدري، ربما كنت أنا شجاعًا! من يدري؟ من سيذكر أنني لم أنحنِ، لم أنافق، لم أذلَّ؟ وماذا يعنيني أن يذكر ذلك أحد؟ يكفي أنني أنا أذكر هذا لنفسي. وحسبي فوق الحسب أنني أستطيع أن أواجِه نفسي، لا أخافها ولا أستخزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤