الفصل الرابع عشر

كانت الوحدة الألمانية قد أُقفِلَ عليها في صندوق الاتحاد بفرانكفورت تحت حماية مِترنيخ، بيدَ أنَّ اللهب الأكبر الذي كان جميع محبِّي الوطن من الألمان يتدفَّأُ به منذ حرب الإنقاذ لا يزال يُومِض١ مع سكون، وكان يُدارَى سرًّا في أصغر أجزاء ألمانية وأدقِّها بدلًا من أن يُثار ببأس، فكنتَ تراه محاطًا بأبخرة خانقة منبعثة من «غُرَف نظام الحكم الرصاصية بفِينَّة» وتندلع النار الثورية من باريس مرةً أُخرى فتجاوز نهر الرين وتنظر أوروبة مبهوتةً إلى انتشار الحماسة السياسية حتى بين الألمان، فإمَّا أن يكون هذا الوقت هو الذي تُحقَّق فيه الوحدة الألمانية بجانب الحرية وإما ألَّا يكون أبدًا.
وذلك عملٌ جلَل، وذلك فعلٌ هائلٌ؛ لاقتضائه انتزاعَ الحرية والوحدة من أُسَر إقطاعية مسَلْسَلة مستعبدة، وكان الأُمراء والعسكريون ورجال الدواوين وأصحاب السلطان معارضين للحرية، وكان الخلافُ بين بروسية الألمانية الحديثة والنمسة اللاألمانية في ثلاثة أرباعها عقبةً كئودًا٢ في وجه الوحدة، وهكذا خُتِمت حركة سنة ١٨٤٨ بنزاع بين الملكيِّين والديمقراطيين، وبين كبراء الألمان وصُغَرائهم، وإن انتهت بغنًى في الأفكار وبإقامة حريات ظاهرة على جناح السرعة في «دساتير» كُلٍّ من الإمارات الألمانية، وهكذا لم يكد عامان صاخبان يمضيان على ذلك التاريخ حتى بُعثت المعبوداتُ المحلية الألمانية مرة أخرى.

ولم يَبقَ من مساعي كنيسة بولس (مجلس فرانكفورت الوطني)، ومن مرسومها في الحقوق الألمانية، ومن قوانين هذا البرلمان القومي الأول، ومن مبادئ دستوره ونظرياته، غير قُصَاصة ورق بلا تنفيذ، فقد نسَفت النمسةُ وأعداءُ بروسية الآخرون كلَّ شيء منذ البداءة، وذهبتْ جميعُ الجهود في توحيد ألمانية أدراجَ الرياح، ويُعاد تأليف البُندِشتاغ القديم في حِمَى النمسة، وتصدُر دعواتٌ رسمية إلى افتتاحه في صيف سنة ١٨٥٠.

وما خَطْب بروسية؟ لقد رفَض فردريك وِلْهلم الرابع تاجَ ألمانية التالدَ الذي عُرض عليه، فبحث عن الملجأ في روائيَّته على استحياء، وتقتصرُ مزاعمُه حول زعامة ألمانية على جَمْع دويلات ألمانية الشمالية في اتحادٍ جمعًا غيرَ ثابت، وينحلُّ برلمان إرفورت تجاه وعيد النمسة وروسية، وينطوي رفضُ إرسال مندوبين إلى البُندِشْتاغ في فرانكفورت (الذي حُلَّ بالإجماع في سنة ١٨٤٨) على استفزاز.

ولم يكن حاكمُ النمسة الجديد الأمير شوارْزِنبِرغ ليُطيقَ الإبهام، فلما انتحل ناخبُ هِس الأميرُ — الذي أتعبه العملُ وفقَ ما نصَّ عليه دستور دويلته من مراقبة — نظامَ فِينَّة الحكوميَّ فأثار بهذا كبيرَ استياء في دويلته تلك، ضمِن له شوارْزِنبِرغ الحمايةَ من البُندِشْتاغ، أو يمكن المرء أن يتمثَّل تحدِّيًا أوقحَ من هذا بعد الثورة بقليل زمن؟ وتحتجُّ على ذلك بروسية التي هي رئيسةُ الاتحاد المنسوبة إليه هِس، ويلوح شبَح الحرب، وتبدو بروسية نصيرةَ الحرية! وتنظر ألمانية إلى تصرُّف بروسية ذلك بعين الارتياح ذات حين، ويحمل القائدُ والوزير ببرلين — رادووِيتز — جِذْعَه على عُنُقه رجلًا لا قيصرًا، وتُصوِّب النمسة وبافارية سلاحَهما نحو الكتائب البروسية، ويلوح دنوُّ الساعة التي تزِن به الدولتان المتنافستان قوتَهما في القتال من أجل زعامة ألمانية، والتي تَجُرَّان بها الجامعةَ الألمانية القديمة إلى الهاوية، وكان ذلك في شهر نوفمبر سنة ١٨٥٠.

ويُدعى بسمارك إلى الجيش المحلي ضابطًا وإلى المجلس نائبًا، وإنه لفي طريقه إلى برلين إذ يصعد إلى عربته عمدةُ قريةٍ شائبٌ، اشترك في حرب الإنقاذ سنة ١٨١٣، فيسأله: «أين الكتائب الفرنسية؟» ويُدهَش هذا المقاتلُ القديمُ حين يعلَم أنَّ العدوَّ في هذه المرة هم النمسويون لا الفرنسيون، ويصل بسمارك إلى برلين ويزور وزير الحربية قبل غيره، ويعلم أن الكتائب البروسية هي من التفرُّق بما تُسلَّم معه برلين إلى العدوِّ بعد شهر الحرب، ويَعِد بسمارك ببذل جهده قبل اجتماع المجلس في الإيصاء بالاعتدال؛ وذلك لِما يَنجُم عن الخُطَب النارية من تدهورِ الأمور، ولِما تحتاج إليه بروسية من الوقت، ويتفق الملازم فون بسمارك مع الوزير على تأجيل لَحْقِه بكتيبته، ويكتب إلى قائده قوله: «لقد استيقظت أمس صباحًا فوجدتُني مصابًا بصداع كبير فلم أذهب …» وهذا من أجل نفسه ومن أجل خادمه.

ويتحمَّس الأمير وِلْهلم للحرب، ويُعجَب برادووِيتز الذي يعتزل الخدمة، ويُروَى أنه حلَّ حُسامه من حِمالته وطرحه على قدمَي أخيه قائلًا مع القسم: «لا يستطيع المرء أن يخدم بشرف تحت إمرتِك!» حتى إن رئيس أركان الحرب — مولتكه — كان يرى أن لدى بروسية أربعَمائة ألف جندي مستعدٍّ للقتال، «وأنَّ أسوأَ الحكومات لا يقدر على سَوق أولئك القوم إلى البوار، فستقبض بروسية على زعامة ألمانية على الرغم من كل شيء، ولكنك لا تُبصر على وجه البسيطة أمَّةً أشقى من الشعب الألماني!» بيدَ أن رادووِيتز يُسجِّل قُبيل وفاته وفَور سقوطه «رؤيا سنة ١٩٠٠»، فنقرأ فيها قوله: «أرى بعْثَ الإمبراطورية الألمانية برئاسة بروسية، وستعودُ فرنسة إلى حدودها الطبيعية بفَقْدها الألزاس، فلا يكون لديها ما تخافُه لهذا السبب»، وعلى ما كان من بصر هذا الرجل بسياسةِ بسمارك كان بسمارك يدعوه بداهية بروسية الداعر.

وما هي علةُ انحياز بسمارك إلى ناحية السِّلم؟ أفيعتقد عجزَ بروسية الحربيَّ؟ إن من المحتمل أن يكون السببُ الحقيقيُّ في ذلك هو ارتياعَه وارتياعَ الوزراء المحافظين من حول الأحرار وطَوْلهم،٣ فكان الرأي عندهم — كما عند الملك — أن يُقتفى أثرُ الرجعية النمسوية أكثرَ من اقتفاء أثر المبادئ الثورية في الوحدة، ويُعِدُّ بسمارك خَيلَه وأحذيتَه للحرب ثم ينقُض فعله طورًا بعد طور، فيلوح مذَبذبًا كالمُعلَّقة، ويُبدي لزوجه شاكيًا كونَ الدسائس دون سواها هي التي تُقرِّر مصير سبعين مليونًا من الآدميين، وإذا ما سَلِمت السِّلم مثَّل دَورَه في الأمر على ما يحتمل، «والآن تكون الحرب عملًا سخيفًا إلى الغاية، فسيكون من نتائجها منذ البداءة أن تَزلَق حكومتُنا فرسخَين نحو الشمال».
وينهمك من فَوره في أسلوب الخطبة التي يتوقَّع أن يُلقيَها في الأسبوع القادم، فيقول إنه من الإجرام أن يُساقَ مئاتُ الألوف إلى الموت بلا ضرورة، وينسى — وهو أكثر الكُتَّاب بُعدًا من التكلُّف في رسائله — مَن يوجِّه إليه قولَه: إن بروسية ذاتُ رخاء حتى الآن، وأولئك هم الذين سيُفيدون من النصر، فإذا ما كُتب لنا الفوز بمعونة الديمقراطيين عرَض هؤلاء جُروحَهم على الملك كأنهم قائمة لم تُدفع قيمتُها، ولا أستطيع أن أكون عَصيَّ الدمع عندما أُفكر فيما تكون قد أُصيبت به كرامتي وبَهجتي وبَيضتي،٤ ولَشدَّ ما أُسكِر الشعب البروسي المخلص المقدام المكرَّم برحيق «شرف بروسية!»
ولم يحدُث أن كتب فارسُ الأسلوب ذلك إلى غريب، بَلْهَ٥ زَوْجَه، بمثل تلك اللهجة، ويرسُم مسوَّدةً لخُطبته، وبعد بضعة أيام تبدو الحربُ قريبةً ويأمر بإحضار خَيله وسلاحه على جناح السرعة، ويكتب كفارسٍ، كرجلٍ يُسَرُّ من مغامرة، ويُمضي رسالتَه للمرة الأولى بالكلمة «لكِ إلى الأبد»، ويكتب إليها في حال أخرى قولَه: «لمَّا يمضِ من الزمن ما أتشوَّف فيه إلى أُلْهِيَّات الريف.»
«أولئك هم الذين سيُفِيدون من النصر»، فهذا هو ما حدا بالصَّلِف الطِّرْماذ٦ بسمارك إلى معارضة حرب مؤدية إلى الوحدة الألمانية تحت سلطان بروسية وضد النمسة، وتمرُّ أيامٌ قليلة من ذلك الحين فيُجنح للسِّلم بضَغط من روسية، وذلك كما كتب بسمارك في شَيبته: «لأن إمبراطور النمسة الشابَّ كان يروق الروسَ أكثر من ملك بروسية.» ويذهب الوزير الجديد — مانْتُوفِل — إلى أولْمُوتز ويُنبئ شوارْزِنبِرْغ بعدول بروسية عن الزعامة، ولا بدَّ من تأليف البُندِشْتاغ الذي نبذتْه بروسية منذ عامين فتكون الزعامة للنمسة في فرانكفورت.

وتثور بروسية — أو الشعب البروسي — ويُطلَب عزْلُ مانْتُوفِل وشَهْرُ الحرب، وما كان الشعور بالشرف القومي ليُثير إنسانًا مثل إثارته بسمارك المخلص لبروسية والمناهضَ للنمسة على الدوام، والآن بعد ذلك الانتكاس من ذا الذي يجب عليه أن يَمقُتَ خَصمه ويودَّ مَحوَه؟ حقًّا إن بسمارك حقود، وبسمارك وإن أمكنه أن يشايعَ مغلوبًا لا يستطيع أن يشايعَ غالبًا.

ولم ينشَبْ بسمارك أن عرَف من التفصيل ما يجرَح عِزَّته؛ فقد علم أن الأمير النمسويَّ يقيم بالطبقة الأولى من الفندق في أولْمُوتز ومعه حاشيةٌ عظيمة، على حين يُقيم الوزير البروسي ومعه خادمان بالطبقة الأرضية من ذلك الفندق ممثِّلًا دَور مُكْتَرٍ٧ حقير، ويشعر بسمارك لا ريب بأن شوارْزِنبِرْغ اعترف لأصدقائه بأن النمسة تهدف إلى إهانة بروسية ثم إلى هَدْمها.
ولكن ماذا حدث؟ نهَض بسمارك الصوَّال المنافح ليُلقيَ خطبةً طويلة في اللَّنْدتاغ يدافع فيها عن الحكومة وعن أمْر أولْمُوتز، فكانت هذه آخرَ خطبة نطَق بها في إبَّان نيابته وأكبرها خطرًا، قال بسمارك:
ولمَ تَشهَر الدول الكبرى الحربَ في هذه الأيام؟ إن الأثرة — لا التأثُّرَ — هي السببُ الصحيح الذي يحفز إحدى الدول الكبرى إلى الحرب، مع أن تلك الدولة تمتاز من أية دولة صغيرة كانت، يَسهُل على رجل الدولة أن ينفخ في صُور٨ الحرب على حين يتدفَّأ أمام الموقد أو يَنطِقُ من فوق هذا المنبر بخُطَب فخمة رنَّانة تاركًا للجنديِّ الذي يُسفَك دمُه بين الثلج أن يكسبَ النصر والمجد. والويل لرجل الدولة الذي ليس لديه من أسباب شَهْر الحرب ما يكون ذا قيمة بعد أن تضَع الحربُ أوزارَها. والحربُ إذا ما انتهت كان لكم بعدها وِجهاتُ نظر مختلفة حول مسائلها، وهل يكون عندكم بعد ختام الحرب من الشجاعة ما تَدْنون به من الفلَّاح الذي يُنعِم النظر في حقله المحروق، أو من الرجل ذي العضو المقطوع أو من الوالد ذي الولد المفقود، فتقولوا له: أجلْ، إنك لاقَيت من الآلام ما لاقَيت، ولكن كُن قرير العَين معنا، فقد أُنقِذ دستورُ الاتحاد!

ويلتفت بسمارك إلى الشمال بعد تلك الجُمَل الساخرة اللاذعة، فيقول إن القوم يبحثون عن شرف بروسية، ومما يقضي بالعجب أن يُولَع فريقُ الأحرار بذلك على الخصوص، «فأنتم لا تُوَفَّقون لتحويل هذا الجيش، الذي مثَّل في ١٩ من مارس دَورَ المغلوب إلى جيش للبرلمان. فهذا الجيش سيظلُّ جيشًا للملك وسيجد شرفَه في الطاعة، وليس الجيش البروسي محتاجًا إلى إثبات بسالته والحمد لله، وإنما أَنشُد الشرف البروسيَّ قبل كلِّ شيء في عدم اتفاق بروسية مع الديمقراطية اتفاقًا شائنًا.» ثم يتكلم بسمارك عن النمسة فيقول: «إنها دولة ألمانية لها شرف السيطرة على شعوب من أصل أجنبي قهَرتْها جيوش ألمانية. وإني أَعُدُّ النمسة ممثلةً ووارثة لدولةٍ ألمانيةٍ قديمة امتشقت السيفَ الألمانيَّ مع المجد والفخار.»

ذلك ما قاله بسمارك ابنًا للخامسة والثلاثين من سِنِيه، مُتِمًّا كلامَه بصَبِّ اللعنات على مَن يودُّون أن يُضَحُّوا بالدم البشريِّ في سبيل دستور الاتحاد؛ أي في سبيل الإمبراطورية الألمانية بغير النمسة؛ أي بما اضطُرَّ إلى التضحية به بعد ستِّ عشرة سنة وصولًا إلى تلك الغاية، وذلك ما دافع به بسمارك عن خضوع بروسية لأولْموتز، وليس لدينا من الوثائق الخاصة ما يُبيح الذهاب إلى أن تلك الخطبة هي أمرٌ سياسيٌّ يستتر وراءَه أفكارٌ حربية مضمرة وآراءٌ لا نمسوية مبيَّتة، ولمَ سار بسمارك على ذلك الدَّرب إذن؟ ذلك لأن الأخَوين غِرْلَاخ ومانْتوفِل وبرانْدبُرغ وجميعَ مستشاري الملك ووزرائه كانوا ضدَّ الحرب ومن القائلين للنمسة، وإن شئتَ فقُل لفِينة التي كانوا يَعدُّونها معقلَ الرجعية الحصين، وكان بسمارك يرى أن يتَّبعهم ما وجدهم موطئًا لرقيِّه، وهنالك الوقت الذي يحالف فيه الحكومةَ والملك بين عشيَّة وضحاها بأن يُلقيَ خطبةً طويلة ملائمة لهما، فبهذا ينال قِسطًا من السلطان، وهو إذا ما نال السلطان غدَا نافعًا لبلده وفقَ ما يرى، وتلتقي مشاعرُ آل بسمارك الإقطاعية التالدة وحرصُ ِآل مِنكِن الطريف فيحفزه هذا إلى الدفاع عن أمر أولْمُوتز.

وأحسنَ بسمارك التقديرَ، فكَفتْ خطبتُه للدلالة عليه كسياسي، وإن الرجل الذي استطاع في أزمة الخزي القومي تلك أن يُدافع مغامرًا عن هذا الخزي لحريٌّ بأن يُمثِّل البلاد في البُندِشْتاغ حيث يصبح لِزامًا عليه أن يتعاون هو والنمسة من جديد، وبسمارك كان قد قدَّر ذلك منذ سنتين حين قال: «على الأمور أن تسير سيرًا سيئًا قبل أن تتحسن، ولا بدَّ من انقضاء عامين أو ثلاثة أعوام قبل أن يكون لأمثالي وأمثال كليست مكانٌ في خدمة الدولة.» ويَحِلُّ الوقت، فلم تكد أربعةُ أسابيع تمرُّ على خُطبته تلك حتى عُرضت عليه وزارة أَنْهالْت، وفي ذلك يقول في كتابٍ إلى زوجته بأسلوبه المعهود: «لم أَسْعَ إلى الأمر حتى الآن تاركًا إياه لله، وإلا فالمقام جذَّاب، وإن الدوك غبيٌّ، وإن الوزير هو الدوك، وإن من المغريات أن أقوم بشئون الحكم هنالك كدوكٍ مستقل؛ أي في جميع وادي السِّلْكة القريب خطوتين من الهارز.»

ولم يحدث أن كتب كلمة «الحُكم» والآن — بتلك الكلمة — يُنزل ضربة كما لو كانت من مِطرقة، فترنُّ في الغابة الرِّوائية التي يحاول أن يتمثَّلها، ويُبصر أن أمر أَنْهالت غيرُ مُجدٍ، ويَحارُ فيما يصنع، ويتردد بين إمساك حوذيِّ٩ شُونْهاوزِن وتسريحه، ويرى أن يبيع شُونْهاوزِن، ثم يعود فيقول كشريف ساخر: «يلوم لي أن البيعَ عملٌ طائشٌ، وإن كان من المحتمل أنني اتخذتُ هذه الخطوة لأسبابٍ لا وزنَ لها أمام المولَى.»

ثم يُحصي المناصبَ التي بلغها رُفقاءُ حزبه، ويريد ترْك إدارة الأسداد، «ولكنني لا أودُّ أن أكون سيِّدًا في غير شُونْهاوزِن وكنيبهوف ورِينفيلد. ولو كنَّا واثقين بالبقاء في شُونْهاوزِن لرأيتُ أن أُغيِّر الحوذيَّ، وإذا ما اضطُررت إلى الخدمة في مكان آخر أبقيتُ هِيلدِبراند الذي أَلِفتُه.»

أفي الخدمة؟ يعتقد من يسمع ذلك أمر رجلٍ خسِر منصبًا فيبحث عن سواه طلبًا للرزق، كلَّا، وإنما ذلك هو شريف يتمتَّع بنصيب من الثراء فلم يُطِق — قط — خدمةَ إنسانٍ، وقد حاول كلَّ شيء فرفَض كلَّ شيء لكيلا يُطيعَ إنسانًا، وهو قد بلَغ من الانسياق بعجلة السياسة ما عجَز به عن تكوين رأيٍ له في الحياة الخاصة، فأضحى اضطرارُه إلى قضاء بضعة أيام في شُونْهاوزِن بغير زوجه «كثير الهَول»، فعدَل عن ذلك وإن كان لديه من الأعمال ما يستلزم حَلًّا هنالك، والآن ليس عنده ما يكفي للتحديث عن برلين، ولا عن البلاط على الخصوص، ويعود إلى الرقص بعد بضع سنين فيُثير هذا غيرةَ حنَّة الوحيدة في رينفيلد فلا تكاتبه بغير واسطة ابن عمٍّ، بيدَ أنه يُصالحها من فَوره، ويروي لها قولَ الملك بعد الرقص: «تَرْنو١٠ الملكةُ إليك منذ نصف ساعة من غير أن تُلاحظ ذلك!» وفي مرة أخرى يكتب بسمارك إلى حنَّة كتابًا يُحدِّثها فيه بوَجدٍ عن روعة الرَّدهة البيضاء مع مَن فيها من ألوف السيدات المتبرِّجات والرجال ذَوِي البِزَّات، فيقول لها: «إن الشِّعر كلَّ الشِّعر والخيالَ كلَّ الخيال في سماع الموسيقى والجلوس على أريكة وَثيرة بين نخيل وعيون ذات خرير، وفي النظر إلى أمواج الغرور من عَلٍ.»
أجلْ، إن مِيفيسْتوفِل١١ لم يَزُل عنه، وإنما انتحل وضْع جليس الأمراء، ويمثِّل دَور هذا الجليس في كتبه الأهلية، فلما كان مُلحَقًا عسكريًّا ببطرسبُرْغ نقَل إلى زوجه كثيرًا من مجاملات قيصر روسية وقيصرتها فختَم كلامه بقوله: «إن ذلك جميل، ولكنني أفضِّل عليه إقامتَنا الهادئةَ معًا في هذا البيت، في كنيبهوف التي تَروقُني أكثرَ من كلِّ حُظوة لدى الملوك.» ويكتب ذلك من قصر الملك في برانْدبُرغ، ولا شيءَ يمنعهما من الحياة بدَعَة في كنيبهوف، بيدَ أن عيش البلاط ليس بالذي يُزدَرى، ويكون حلم بسمارك أروعَ الحقائق إذا نُقِل قصر الملك إلى منزله فيضع السياسة والسلطان في جناح ويضع الهدوء وحنَّة في جناح آخر.

ولا غروَ إذا ما شكا إليها حياةَ الهَرْج في برلين، مع أنه يودُّ ألَّا يُحرمَها الآن، «وإليكِ صورةً عن حياتي: ففي يوم السبت أقضي ما بين الساعة العاشرة صباحًا والساعة الخامسة مساءً في المراسم وأُفاوض في الساعة السابعة رئيسَ الغرفة التجارية البحرية وأقلِّب الوثائق وأفحص الحسابات حتى الساعة العاشرة، ثم أقابل مانْتوفِل فيدوم تناول الشاي وحَوْك المكايد إلى منتصف الليل، ثم آوي إلى بيتي فأكتب كتبًا إلى زمرة الناخبين، ثم ألزم سريري في الساعة الثانية من الصباح، وفي يوم الأحد أستيقظ في الساعة السادسة، وأقضي ما بين الساعة السابعة والساعة التاسعة في المفاوضة حول المنصب الوزاريِّ في أنْهالْت-بِرنبُرْغ، ويستمر وعظُ بوشل حتى الساعة الحادية عشرة، ويستمرُّ الحديث مع وزير الداخلية حتى وقت الظهر، وتستمرُّ الزيارات حتى الساعة الثالثة، فإذا حلَّت الساعة السادسة واجهتُ غولتز وكلَّمته في أمر فوَّضه إليَّ أمير بروسية، ثم أكتب حتى الساعة التاسعة، ثم أجتمع بستولْبِرغ، ثم أذهب إلى فراشي في الساعة الواحدة صباحًا.»

وفي نهاية الأمر — أي في ربيع سنة ١٨٥١ — يحمل الجنرال غِرْلَاخ الملك على إرسال بسمارك إلى فرانكفورت، ويقول غِرْلَاخ: إن هذا التعيين من عمله، ونفترض أنه مقدَّمًا، بحَث مع صديقه بسمارك في الأمر مليًّا حول اتِّباع وِجهته في البُندِشْتَاغ من قِبل بسمارك — رضيعِه السياسي كما كان يَعُدُّ — ويجاوز هذا التعيين، الذي كان يدور في خَلَد بسمارك — والذي لم يفتأْ بسمارك يحوك من أجله الدسائسَ منذ شهور — آمالَ بسمارك المعقولة، وإن كان دون ما تصبو إليه غطرستُه بمراحل، وفي بروسية كان لا بدَّ — لإدخال مثل ذلك العبقري إلى الدواوين بمِرقاة الخدمة — من إبداء «الحكومة المكنونة» كثيرًا من اللباقة في سنين طويلة ومن مكايدَ في البلاط والوزارة غير قليلة.

وهنالك يصف لزوجته — بسذاجة سياسية كبيرة — ما كُلِّلت به من النجاح جهودُه التي بذلها في ذلك السبيل، فكان أمره وهو الجوَّال غير المؤذي كصيَّاد الطيور هنري الذي عُرِض عليه التاج حينما كان يحتَبل١٢ العصافير، وإلى حنَّة يكتب قولَه بعد عودته من عندها إلى برلين: «إن كلَّ إنسان يتكلم حول تعييني لفرانكفورت، واليوم قد ذُكر الأمر في فوسيش زايتُنغ، ولكنني لا أعرف شيئًا عنه.» وفي اليوم التالي يكتب إليها قولَه: «حقًّا إنهم يودُّون تقليدي منصبًا سياسيًّا، وأودُّ — فضلًا عن ذلك — مقامًا ذا ديمومة فأستطيع أن أُرتِّب نفسي معكِ يا ملاكي. ومن الممكن أن يحبَط الأمرُ لهذا الشرط، وسأترك من فَوري منصبًا لا أستطيع أن أعيش فيه مع أسرتي.» وفي كلِّ حال «يجب عليَّ أن أترك عاداتي الطيِّبة، وأن أترك أملي في العيش معكِ ومع الأولاد بهدوء كالذي اتفق لنا في شتائنا الأول، وهذا لأمدٍ بعيد ما رزَحْتُ تحت ذلك النِّير، ولا ريبَ في أن الربَّ سيفعل ما يُلائم نفوسنا، ألا إنني لم أُعرب عن أمل مطلق، ولا يضيق صدري.» وفي الغد يكتب إليها قولَه: «عزيزتي، أصبح ذهابي إلى فرانكفورت ضربةَ لازبٍ تقريبًا، وذلك مع التعويض، وإن كان لأجل مسمًّى.»

والربُّ هو الذي يُعيِّن مصير بسمارك في مكان غِرْلَاخ، وما كتبَه حول المنزل والأسرة، وحول رغبته في منصبٍ دائم، وحول هَوان العمل تحت «النِّير» حين كُتِب له النجاح فأمور حقيقية؛ وذلك لأنه وإن كان يحتمل حياةَ العمل بلا راحة، يحتمل الراحةَ بلا عمل، فلمَّا سأله مانْتُوفِل بعد يوم عن قبوله المنصب أجابه بقوله البسيط: «نعم»، ولكنه لم يكَد يثق بأمر تعيينه حتى أُنشط زَهْوُه من عقاله بعد أن ظلَّ مكبوتًا زمنًا طويلًا، وهكذا يذهب إلى الملك.

الملك : لقد بلغتَ من الجرأة ما تَقبَل معه منصبًا في الخارج من غير سابق تجربة.
بسمارك : إنك — يا صاحبَ الجلالة — مصدرُ الجرأة بتفويضك ذلك المنصبَ إليَّ، ولك يا صاحب الجلالة، ألَّا تُبقيَني في ذلك المنصب إذا لم أُثبتْ أنني ابنُ بجْدَته، ولا أرى المنصب فوق طاقتي ما لم أُجرِّبْه، وإذا كان لديك يا صاحب الجلالة من الجرأة ما تأمر به كان لديَّ من الجرأة ما أُطيع به.
الملك : لنجرِّب إذن.

وقبل ثلاث عشرة سنة من تلك المحاورة التي أعادت بسمارك إلى خدمة الدولة؛ كان بسمارك قد اعتزل الخدمة بأن بلَّغ الرئيس الأول بواسطة الحاجب أن يذهب بلا عودة، واليوم يكتب إلى زوجه قائلًا: «إنكِ تألَمين من أنَّ أولياء الأمور لا يجدون عملًا لي، وإليكِ الآن ذلك المنصب الذي هو أهمُّ ما في خدمنا الدِّبلُمِيَّة فوُسِّد إليَّ فوق ما كنتُ أنتظر وفوق ما كنت أودُّ.»

وعلى ما كان من إظهاره في ذلك الكتاب تحريض زوجه إياه على مطالبته بالتقدُّم، وألمِها من عدم تعيينه حتى ذلك الحين؛ داوَم على قوله هادئًا: «إنني لم أطلب هذا المنصب، والمولى هو الذي أراده، وما عليَّ إلا أن أقبلَه، ولا أستطيع أن أتملَّص منه. ومن النذالة رفضُه. وإني لَأدعُو رَبَّ الرحمة من صميم فؤادي أن يُهيِّئَ كلَّ شيء من غير إلقاءٍ بسعادتنا العتيدة إلى الخطَر ومن غير إضرارٍ بروحي.» وينتقل في الأيام القليلة الآتية إلى ضربٍ آخرَ من الآراء فيوصي بإحضار سُتْرته الحريرية وفُروده التي لا يستطيع أن يقوم بمنصب دِبلُمِيٍّ بدونها، وهو يُنبئ زوجَه بأنه لا يبقى في منصب من الدرجة الثانية إلا لبضعة أشهُر ثم يغدو سفيرًا بسرعة.

والآن يأتي دَور حنَّة في بَثِّ الشكاوى، وهو يُجيب عن ذلك بقوله: «ولمَ هذا الغمُّ، أجلْ، إن العيشَ في بلد أجنبي مبهجٌ، ولكنني أكاد أبكي عندما أفكِّر في حياة الريف الهادئة معكِ ومع الباقين، في تلك الحياة التي أُبصرها حُلمًا لطويلِ زمن على ما يحتمل والتي تبدو لي رائعةً إلى الغاية في الساعة الراهنة. وطِّني نفسَكِ على قضاء الشتاء معي بين الأصحاب، وإلا فأين أُدفِّئ فؤادي؟ ومن المحتمل، ومن الراجح، أنني لا أقصد وطني لسنوات كثيرة إلا زائرًا مستعجلًا مأذونًا، غير أنني جنديٌّ لله فيجب أن أذهب إلى حيث أُوجَّه، وما يصنعه الله فهو جميلٌ، وليكن هذا المبدأ رائدَنا في المستقبل، وأشعر بشوقٍ عظيمٍ إليكم كلِّكم وإلى الربيع الأخضر وإلى الحياة في الريف؛ فقلبي حزين، واليوم وقت الظهر ذهبت لمقابلة الجنرال غِرْلاخ، وإني لأتلقَّى منه معلوماتٍ عن المعاهدات والملوك؛ إذ رأيتُ تحت النوافذ نموَّ شجيرات الكَسْتناء والليْلَك التي تُحرِّكها الرياح، إذ سمعتُ تغريد البلابل فخُيِّل إليَّ أنني معكِ عند نافذة غرفة الطعام وأن الرصيف هو الذي أبصرتُ، فلم أدرِ ماذا يكون غِرْلَاخ، وقد أخذتُ كتابكِ أمس مساءً، وقد بلغت من الشجَن١٣ والحنين إليكم جميعًا ما سكبْت به عَبَراتٍ كثيرةً حين قصدْت السرير. وفي فرانكفورت يُدفَع إليَّ في الوقت الحاضر ثلاثمائة تالير راتبًا، وأَبدُو مستشارًا خاصًّا عمَّا قليل، وأَعُدُّ ذلك سخرية يجازيني الله بها على ما كان من تهكُّمي بالمستشارين الخاصِّين. ويا ليتني أضمُّكِ بين ذراعيَّ، ولو دقيقة واحدة، فأُعرِب لكِ عن درجة حبِّي لكِ وأسألكِ العفو عن كلِّ سيئة فَرطَتْ مني يا فؤادي. ويزعجني ذلك التمييز المفاجئ، وأودُّ أن أكون بجانبكِ أكثرَ مما في أيِّ وقت، وأحبُّكِ أكثر مما في أيِّ وقت يا حبيبتي!»
تلك هي الأفكار المتضاربة التي تتجاذب ذهنَه إقبالًا وإدبارًا، وليُلْقِ الربُّ الحنَّان، وليُوجِبْ عطفٌ مضاعف، سكينةً في قلب ذلك النصراني المكروب عند تحقيق مقاصده، والعزوف عن الاعتراف الصريح بغاياته على ما فيها من صواب وأدب ومناسبة، وماذا؟ أبسمارك خائف؟ لا ريبَ في عدم وجَلِه من السلطان ومن الكفاح، ومن المحتمل أن تكون قد أخافتْه تلك المِرْقاة الإدارية التي نفَر من منظرها أيام شبابه، وهو يجزَع منها وإن لم يتسوَّر ذُروتَها بعد، وهو يَفزَعُ من آمرِه، ومن رَفْع تقرير إليه والمثول بين يديه إذا ما حمله عليه، وتأبى كبرياؤه الإذعان، وفي هذا سرُّ شوقه المفاجئ إلى الحياة الريفية الهادئة التي هجرها منذ سنين، وفي هذا سرُّ رغبته الثائرة في العثور على السعادة والسلام بين ذراعَي حنَّة، غير أن غِرْلاخ حاضرٌ، فيزوِّد تلميذه بالنصائح ويحثُّه على السفر وإن لم يكن لذلك آخرُ، ويضيف الدِّبلمِيُّ الحديث بسمارك الذيلَ الآتي إلى كتاب يُرسله إلى زوجه:

ليكن عنوان رسائلك إليَّ بعد الآن: فرانفكورت سورلومين، فون بسمارك، المستشار الملكي الخاص بالسفارة البروسية.

١  أومض: لمع خفيفًا.
٢  الكئود: الصعبة الشاقة المصعد.
٣  الطَّولُ: القدرة.
٤  البيضة: ساحة القوم.
٥  بله: دع، اترك.
٦  الطِّرْماذ: النفاخ المفتخر بالباطل.
٧  المكتري: المستأجر.
٨  الصور: البوق.
٩  الحوذي: سائق المركبة.
١٠  رنا إليه: أدام النظر إليه بسكون الطَّرْف.
١١  مِيفيسْتوفِل: اسم للشيطان جعله غوتة مألوفًا في رواية فاوست.
١٢  احتبل الصيد: أخذه بالحبالة؛ أي المصيدة.
١٣  الشجن: الحزن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤