الفصل الثالث

شابٌّ يجوب السوق بِخُطًا بطيئةٍ ووقارٍ مصنوعٍ، وما عليه من نحافة فيكفي وحده ليجذب الأبصار إليه. هو يلبس رداءَ الزينة وعَمرَة١ غريبة الشكل، هو يُدير عصاه حول رأسه، هو يضع غليونًا٢ طويلًا في فمه، فإذا ما نادى «أريل» فرك ركبته كلبٌ ضخمٌ أصفرُ، هو يتوجَّه إلى جامعة غوتِنجن فيمثُل أمام رئيسها الذي دعا إليه التلاميذ بسبب سلوكهم غير اللائق ولباسهم غير المناسب، ويمرُّ بعض رفقائه بالقرب منه لابسين ثيابًا عاديةً وعمراتٍ تقليدية ملوَّنة فيضحكون، ويتحدَّاهم تلميذ السنة الأولى ذلك من فوره، ويسوي أسَنُّهم الأمرَ، ويكون لما يبديه من عزم في هذا الفصل الأول بالغ الأثر، ويُدعى، ويُعرَض عليه أن ينتسب إلى الفرقة، ولا يلبث أن يصير عضوًا فعَّالًا فيها.
والمباغتة كانت مقصده الأول عند وصول إلى جامعة غُوتِنجِن، ولدينا وصفٌ حيٌّ له في الرواية التي دبَّجها يَراعُ رفيقه في الطلب الأمريكي جون لوثروب مُوتلِي، فنشرها بعد سنواتٍ قليلة من ذلك الحين، وبسمارك في هذه الرواية هو أُوتوفون رابِنمارك، وموتلي يقول: «هو شابٌّ صغير … هو لم يُتم السابعة عشرة من سِنِيه، ولكن مع نُضجٍ في السجية … هو يعلو جميع من عرفتهم علوًّا لا يُقاس به غيره … ومن النادر أن رأيت من هو غير خلَّاب أكثر منه … وإن سَمَت دِرايته … بدأت أظنُّه حسن المظهر نوعًا ما، فوجدتُهُ ذا شعر أَشْعَثَ وسطٍ بين الأحمر والأسمر، ووجدت وجهه أنمش، ووجدت عينيه عاطلتين من اللون في المركز فتخُفُّهما شريطةٌ حمراء كما يبدو، ووجدت نَدْبَةً كبيرة، بقيةً لمبارزةٍ جديدةٍ، ممتدةً من أرنبته٣ إلى حافة أذنه اليمنى ومُخاطة بأربع عشرة غرزة … وقد حلق أحدَ حاجبيه حديثًا فدلَّ وجهه على خُلق عجيبٍ فريدٍ في بابه، وقد كان وجهه نحيلًا غير كامل النموِّ، ولكن مع طول مُحتمل … وكان يلبس مِعطفًا مشوَّشًا بلا طوقٍ ولا أزرار خاليًا من الشكل والهندام، وكان يلبس سِروالًا وحِذاءً ذا كعب حديدي وذا مِهماز هائل، وكانت قَبَّته،٤ وتكاد تَعْطَل من الرَّبطة، منثنيةً على كتفيه، وكان شعره متدليًا على أذنيه وعنقه، وكان تعهُّد شاربيه غير المُعيَّني الهيأة يوجب إكمالَ جهاز محيَّاه،٥ وكان يحمل حول صدره حسامًا عظيمًا.»

ومما رواه مُوتلي — أيضًا — أن «رابِنمارك» كان يعزِف على البِيان والكمان، وأنه كان يتكلم بأربعِ لغات، وأنه يعبِّر عما في نفسه بفطنة إذا ما كانا وحدهما معًا.

ومن قول بسمارك: «إنني بمثل ذلك السلوك والسبِّ وما إليه؛ كنت أريد الانتساب إلى أحسن فرقة، ولكن جميع ذلك ليس سوى لعبِ صبي، وقد كان لديَّ وقت واسع، وقد أردت جلب رفقائي إلى هنا كما أقود الناس فيما بعد.» ومن قوله مع اليمين إنه لن يموت قبل انقضاء عشرين سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فهو إذا ما بلغ هذا كانت أمامه اثنتا عشرة سنة أخرى، ومن قول ذلك الروائي الفتى بعد ذلك الفصل: «تُبصر جوهرَ بطلٍ يُبذَر هنا»، وذلك قبل أن يُكشف هذا الجوهرُ للمرة الأولى بعشر سنين.

وما في طالب السنة الأولى ذلك من إقدام وكبرياءٍ وفُجورٍ وهَيَف وعُنف مع سلامة نفس، فيناقض مع عند التلاميذ الآخرين، وهو يُدعى في الحانة بكِندسكوبف وكسُّوب وأشيل، وهو يُعرف بالشذوذ وبالبروسي الشرقي وبالذي لا يُجرح. وهو يدلُّ على «غنى صُوانِه» بمِعطفه الأخضر التفَّاحي ذي الرَّفرفين الطويلين وبسترته المُخملية المزيَّنة بأزرار صدفية. لا بلُبس النسيج الصوفي المُخطط والقُبعة — على حسب عادة تلاميذ ذلك الحين — وهو بعد أن يشرب كثيرًا من خمر الرين ومادِر يغادر الحانة؛ لِيستحمَّ في النهر ليلًا. وهو يُعزَّر على الدوام من أجل تدخينه بلا إذن ومن أجل ما يأتيه من شِجار وشغب. وهو يحتقر دروس الأساتذة بأكثر مما يصنع رفقاؤه، وهو ينام دومًا عاريًا؛ لِما يؤدي إليه الكتَّان من تهييج بشرته، وهو يُجتنَب الهزوء به لما يوجبه ذلك من إثارته فورًا، فيخرج في كل مرةٍ من الصراع منصورًا، وهو قد قام بخمسٍ وعشرين مبارزةً في فُصُوله المدرسية الثلاثة الأولى، فلم يُجرح في غير واحدة منها، فله بذلك عظيمُ تأثيرٍ في الأسنِّ منه، وله بذلك سريع بلوغ لغايته، فيُخشى جانبه.

وعلى المائدة، حيث يُفضِّلُ أن يتغدَّى، يتكلم بخمس لغات، والسيد البوميراني ذلك لا يعاشر غير غرباء لذلك، ويتخذ من فوره صديقين فيظلان ثابتَين مدى حياته؛ وذلك لِما لا يكون بينه وبينهما من نُفُور سياسي كما بينه وبين الآخرين الذين خالطهم في شبابه، وذانك الصديقان هما: موتلي الأمريكي المَرِح الكيِّس٦ الطليق من كل وهم، والكونت كِيزِرْلِنْغ الكورلندي الزاهد الرشيد، ويبقى هذان الرجلان صاحبين وحيدين لبسمارك حتى شيبته، ويصبح مولي الذي لم يكتب إلا في عهد فَتائه٧ مؤرِّخًا وسياسيًّا، ويصبح كيزِرلِنغ عالمًا طبيعيًّا فلا يشترك في الحياة العامة. وكلا الرجلين أسنُّ من بسمارك وأهدأ وأنسق، ويجد بسمارك فيهما ما يعوزه من التواضع وما ليس لدى الألمان الذين يعرفهم من الحرية، وكلا الرجلين لم يكن عضوًا عاملًا في «الفرقة».

وما افتُرِض دراستُه له من الحقوق فمن شأنه أن يجعل منه سياسيًّا، وكان من آمالِ أُمِّه ذات الحرص أن ترى ابنها يسير على غِرار أبيها. وفكرٌ كهذا من سِمات الطبقة الوسطى، وهو جدير بآل مِنْكِن، وهو غريب في الحقيقة عن آل بسمارك الذين لم يخدُم أحدٌ منهم مليكه بغير السيف حتى الآن، والأمُّ لذلك لم تجد ما يَحْفِزها إلى مناهضة ولدها، وللولد هذا لم يكن غيرُ قليل ميلٍ إلى وظيفة ضابط، وكان من الممكن أن يكيَّف كما يُراد في سنوات الفجور المترجحة بين السابعة عشرة والعشرين من عمره؛ لِمَا لم يكن لإرادته أي وجهة في ذلك الدور.

وبسمارك من الناحية السياسية أيضًا كان من عدم الاكتراث ما لا يسير معه وراء ميوله الأولى، فهو منذ البداءة قد اجتنب جمعيات الطلبة الذين كانوا يشربون ويُنشدون على شرف الإمبراطور والإمبراطورية؛ «لأنهم كان يذُمُّون ما يرى ذلك الطالب من المبارزات وشُرب الجِعَة»، والذين كانت تعوزهم أوضاع الجمعيات الصالحة، وهو قد اعتزل الأوساط التي كانت تشاطر وحدها في ذلك الحين فكرة الرَّيخ سائرًا مع مزاجه ومناحيه، ولكنه إذا ما حدث أن استُهزئ حول المائدة بالتلاميذ البروسيين — وهذا ما يندر وقوعه في هانوفر — لم يلبث أن يدعو إلى المبارزة ستةً من رفقائه مدافعًا عن قرار بلوخِر في واترلو بحرارةٍ فيقول بعضهم: «إن تلميذ الصف الأول يتكلم كما في زمن فريتز القديم!»

وما كان لِيُباليَ بالمسائل القومية كما يلوح، وما كان ليحضُر درس أشهر الأساتذة في هذا الموضوع، وكان يحبُّ أن يشارك رفقاءه الأمريكيين في احتفالهم بيوم الاستقلال وأن يشرب معهم نخب الحرية، ولكن أحد هؤلاء يتكلم عن انقسام ألمانية فيراهِن بسمارك على خمس وعشرين زجاجةً من خمر الشنبانية بأن الوحدة الألمانية ستتحقق في خمس وعشرين سنة، فمن يخسر الرهان يجاوز البحر ليشربها مع الآخرين، وهو لم يُخطئ في غير ثلاث عشرة سنة من العدِّ.

والشكل هو الذي يُعنى به في كلِّ شيءٍ وقبل كلِّ شيءٍ، فيقول لأخيه الملازم آنئذٍ: «لا تكتب إلى المنزل بقسوة، فبلاط كنيبهوف أكثر استعدادًا للكياسة السياسية والمُدالسة٨ الدِّبْلُمِيَّة مما للغلظة العسكرية.»

ويُكلِّف المظهر والملبس وطِراز العيش مالًا كثيرًا، فلما قضى سنةً في الجامعة «حدثت أمورٌ غيرُ مستحبَّة بيني وبين والدي الذي كان يرفض أداء ديوني … وما كانت قِلة النقد بالأمر الخطير ما دمت أتمتع باعتبارٍ ماليٍّ واسع أستطيع أن أعيش به داعرًا، والمسألة هي أنني أبدو شاحبًا مريضًا، فإذا غدوت في البيت في عيد الميلاد عزا والدي ذلك — بحكم الطبع — إلى قلة الغذاء، فأصرِّح له إذ ذاك مؤكِّدًا مندفعًا بأن اعتناقي الإسلام أحبُّ إليَّ من موتي جوعًا، ويُقضى الأمر.» أفلم يولد التلميذ الذي يكتب ذلك دِبلُميًّا؟ فما ترى من مداراة الرجال ووزن الأسباب واستغلال الوضع وتسويغ كُلِّ عملٍ مع جعل الخصم مسئولًا فينطوي على جميع عناصر الدِّبلُميَّة، ولم تكن الأمُّ التي أضناها سلوك ابنها لتدرك وجودة غريزة صادقة توجِّه طموحها من أجل أوتو.

ويعود إلى المنزل ذلك الفتى، البالغ من العمر ثماني عشرة سنة، مريضًا مُضنًى فاقد النشاط، كالشابِّ غوتة، فيستردُّ عافيته بفضل راحته الريفية وأطعمته البيتية، فيُريد أن يستمرَّ على دراسته، ببرلين في هذه المرة مع سابق قنوط أمه منه «وأمِّي تُفضِّل الآن أن ألبس البِزَّة العسكرية الزرقاء وأُهرع إلى الدفاع عن الوطن في باب الهال؛ وأنهضُ من الفراش متأخِّرًا في هذا اليوم، فألوِّح لها راغبًا عن أية دراسة كانت.» أجل، إنه راغب عنها، غير أنه رغبته في البزَّة العسكرية أقلُّ مما في الدراسة، ويعاشِر ابن عمٍّ له اسمه بِلَانْكِنْبُرْغ ويعاشر رونَ الشابَّ، ويلاقيهما بعدئذٍ في أحسم الأوقات، ولكن مع بقاء كِيزِرلِنغ وموتلي رفيقَيه المفضَّلَين، ويسكن مع موتلي، ويُسَرُّ إذ يرى هذا الأمريكي لابسًا قبَّة على طريقة بايرون مع شيءٍ من الألمانية، فيُترجم فاوست أو حين يَركُز هذا الأمريكي رجليه على قضيب النافذة فيرى الناسُ من الأسفل خُفَّه الأحمر، ولا يفقد بسمارك وعيه إلا بعد أن يكون قد جادل صديقه ذلك هزيعًا٩ من الليل، فيلجأ هذا الصديق في الصباح إلى البحث حول «إمكان مقايسة بايرون بغوتة»، وما يتصف به موتلي من الجمال والنَّجَل١٠ والظرف والأُنس، فكان يجذب إليه الألمان. وقُل مثل هذا عن كِيزِرْلِنْغ الذي كان بسمارك يُعجب بحسنه وأُلفته ونبوغه في العزف على البِيان أكثر مما بذكائه، والحقُّ أنه كان يستطيع أن يدقَّ على ألحان بتهوفن عدة ساعات. وألحان بتهوفن هي التي كانت تحرِّك ساكن ذلك التلميذ المنهوك.
ويلوح أنه لا دواء لبسمارك، ولا يتفلَّت شيء من هزوئه حتى نفسه على الأقل، ويقول في كتاب إلى صديق له: «أنتظرُ فأعيش هنا كنبيل وأغدو ذُخرًا ثمينًا وأتكلم الفرنسية كثيرًا وأقضي معظم وقتي في شئون زينتي وأقضي ما يبقى منه في الزيارات وفي صحبة صديقتي القديمة القنِّينة، وأقضي المساء في الصف الأول من دار التمثيل فأُبدي أقصى ما يمكن من المُجون … وهكذا أتبرَّم بما فيه الكفاية … ومن غوتِنْجن تجِد هنا ذلك المِكسال (ش)، وهنا تجد دوحة١١ الأريستوقراطية التي يعوزها كلُّ شيءٍ لتصنع رجلًا، لتصنع حاجبًا، لا قُفلًا أمام فوهة، وهنا تجدها مغتبطةً بمعاشرة ثلاثين ابنَ عمٍّ لها فلا ترى ما يُؤخذون عليه … هم لا يأكلون ولا يشربون، فماذا يصنعون إذن؟ إنهم يَعُدُّون أجدادهم!»

وهل يمكن احتقار الرجال بأبعدَ من ذلك؟ إنه يزدري الطبقة والصِّلات والبطالة والتكلُّف لديه ولدى قريبه، ولكنه لا يُبدي أيَّ رغبة في إصلاح نفسه، وهو في فؤاده أَسِفٌ على ضعفه فقط، وما يبقى له بعد ذلك؟ صَلُّ السيف والزواج!

واسمعْ ما يكتبه من مزرعة أبيه: «وها أنا ذا أُفكِّر في رفض وزارة الخارجية، فأتلهَّى بسيفي أيام الطلب، ثم أتزوج فأُنجب بأولاد وأحرث الأرض وأقضي على عادات فلاحيَّ بأن أقطِّر مقاديرَ كثيرة من المُسكِرات، فإذا ما قُيِّض لك ذات يومٍ في خلالِ عشرِ سنين أن تزور هذه البقعة من العالم وجدت ضابطًا زراعيًّا بادنًا ذا شاربَين كبيرين شاتمًا مُقسِمًا أن يهزَّ الأرض كارهًا للفرنسيين ضاربًا كلابه وخدَمَه بقسوة عندما تُغضبه زوجته، وسألبس سِروالًا من وَثْرٍ١٢ فأجعل من نفسي أضحوكةً في سوق الصوف بستتين، فأقوِّم شاربيَّ بالبَرم وأبيع صوفي بثمن أقلَّ مما يجب بتاليرين١٣ عندما أُخاطَب بالسيد البارون، وسأشرب نَخْبَ الملك في عيد ميلاده وأرفع صوتي بقولي «يعيش!» وسأُكثِر من الشُّرب وسأتكلم عن الغِلال وعن الخيل على الدوام.»

ويكره بسمارك الزواج فيَقيه ذلك منه، ولا تُناقض هذه الكراهيةُ خِطباتِه المكررة، بل جاء حَلُّ هذه الخِطْبات دليلًا على تلك الكراهية، ويروي موتلي أن بسمارك «يخضع في أمر الحب لغرائزه من غير كبير اكتراث.» وهو في الوقت نفسه «يقع في أشراك الغرام دومًا.» وفي تلك الأيام يقول لنا بسمارك إنه كان يزاول أمور الزواج «أو إنه كان عليَّ أن أفعل ذلك لو كانت ميولي الحسية تدوم زمنًا طويلًا، ولكنَّ الأجمل هو أنني أزدري النساء ببرودة في كل وقت، فيخدع الناسُ أنفسَهم على هذا الوجه.»

ويبلغ العشرين من عمره فيُعدُّه معيدٌ، فيجاوز بنجاح امتحان النقابة، ويزاول القانون في محكمة برلين البلدية لقليلِ زمن، ويزيد اشمئزازُه من مثل هذه الحماقات، وهو لم يواظب على ذلك لكيلا يُكرَه على الجندية من فوره؛ وذلك لقوله: «إنني قاومتُ ظافرًا رغائبَ أبويَّ الملحَّة في ذلك المِضمار.» وهو على ما لا تجِد له ندًّا١٤ في السباحة والمُسايفة، ينفِر من التمرين العسكري، وهو على العكس يُذعن لأمر الذهاب إلى المحكمة، «وليس لديَّ كبير شوقٍ إلى ذلك الذهاب، بيد أن والديَّ يودَّان ذلك، والحقُّ معهم لِما قد يؤدي إليه ذلك من تقدُّمي.» وفي قاعة لهوِ المحكمة يُعجب أمير بروسية بقامة القانوني الشابِّ أوتو، وقد كان عمره ضعفَي عمر أوتو، فيسأله: «لِمَ لا تكون جنديًّا؟»
بسمارك : ذلك لِما لا أنتظره من ارتقاء في الجيش يا صاحب السموِّ الملكي.
الأمير : والآن أشكُّ في أن يُكتب لك تقدُّم في ممارسة القانون.

ومن خلال هذه المحاورة الأولى بين وِلهلم وبسمارك، ومن خلال تلك الكلمات المتبادلة في قاعة لَهْو، نُبصِر اختلاف طبيعتَيهما؛ فأحدهما جنديٌّ من كلِّ وجه، والآخر على خلاف ذلك، وفيما ترى الأمير يُدهَش من عدم انتفاع رجلٍ جميلِ المظهر بمظهره في أجمل مِهَن الدنيا؛ ترى ذلك الرجل يُوارِب فيكلمه عن عدم الرقيِّ، وتمضي أعوام ويكتم أوتو السبب الحقيقي من وِلهلم في الغالب مداريًا شعورَ وِلهلم العسكريَّ.

ومع ذلك تُبصر برلين وعملها الرسميَّ ومنظرَ فُقهائها المتنافسين ومنظر حياة المحكمة وتأملات المهنة، مما يُخرج ذلك القانونيَّ الناشئ من جحوده، فيرى ما يمكن بلوغُه من المعالي، ويُطلع واحدًا أو اثنين من أصدقائه للمرة الأولى على شيءٍ من طُمُوحه الخفيِّ المستتر خلف مجونه، وهو قد أكثر من الحديث حول ذلك ما ادَّكَر١٥ معه كِيزرلِنغ كلماتِه الآتيةَ بعد عشرين سنة: «لا غُنيةَ عن الدستور في طريق الشرف الظاهر هذا، ولكن أليس على المرء أن يكون تقيًّا باطنًا؟» ويُضيف إلى ذلك قوله متبسمًا: «لقد أردتُ أن أزور حملة أوسمة الصليب حاجًّا حكيمًا.»

وعلى ذلك أفلم يُبصِر بسمارك البالغ عشرين عامًا من عمره ما لا يُبلَغ بدونه شيء في أيامنا ببروسية الحديثة؟ هنالك دستورٌ يزدريه في صميم فؤاده، وهنالك تقوَى تَعوزه في الحقيقة، وتنطوي تلك الذكريات على صدق لا مِراء فيه، وما وصفه كِيزرلِنغ في ذلك الحين، كما صنع الحاجُّ الحكيم، فيدل على درجة حُلُم صديقه بما تنمُّ عليه الأوسمة من سلطان إن لم يدلَّ على حُبِّه لهذه الأوسمة نفسها، ولكن هل على المرء أن يكون تقيًّا في باطنه؟ هذا يعني أن على المرء أن يكون تقيًّا، وهو إذ ليس كذلك كان ذلك «هُراءً» فدعْنا نملأ كئوسنا إذن.

وإذا أردنا أن نعرف أن ما في قلب بسمارك هو خصمٌ لطموحه، وإذا أردنا أن نرى زهوه الثابت الذي يُناهض به ذلك الطموح؛ لم يكن علينا إلا أن نستمع إلى حديثه الكتابيِّ مع صديقه الثالث شَرْلاخ الذي عرفه منذ أيام غوتِنْجن والذي كان يراسلُه صريحًا، ولكن على قلَّةٍ، والذي كتب إليه أيام تمرينه المهنيِّ يقول له معترفًا: «إن ما كان من إكراه طموحي — الذي كان أقلَّ عنفًا تجاه وجهة أخرى — إياي على مهنة لا عهدَ لي بها سابقًا يحفِزُني إلى سلوك سبيل لا مثيل لها في حياتي فأتخذُ جميع الوسائل التي أجدها نافعة لتقدُّمي، ولا أدري هل أنت مقيمٌ على الابتسام من حماقتي وأنت خلفَ قدَح من خمر شَرْلاخبِرجِر،١٦ ألَا إن هذه هي حالٌ نفسية لا أمنع نفسي من وصفها بالسعادة مع عدم أسفٍ عليها، ألَا إنني بلغت في هذا الحين من الافتتان بالعمل ما يساورني معه سرورٌ لا نفعَ فيه كضياعٍ للوقت.»

ولكنه لم ينشَب أن يرى ذلك كلَّه موجبًا للسخرية، فقد أضاف إليه قوله: «إنني إذا رجعت البصر إلى حياتي وجدتها أمرًا موجبًا للرِّثاء في الحقيقة، وأقضي نهاري فيما لا يُهمُّني من الدراسات، وأُبدي في أوساط المحكمة والموظفين المسائية ارتياحًا لا أُحسُّه أو أرغب فيه لعدم دناءتي، ومن الصعب أن أعتقد أنَّ بلوغي التام للغايات التي أسعى إليها ونَيلي أكبرَ لقب وأعظم وسام وأرقى مقام في ألمانية مما يمكن أن أُكافأَ به على ما ألاقيه من حصرٍ ماديٍّ وأدبيٍّ ناشئٍ عن مثل ذلك العيش، أجل، إنني أشعر في الغالب بضرورة استبدالي المحراث بالقلم وكيس الصيد بالمحفظة، غير أن صُنع ذلك يروقني على الدوام.»

وهكذا يناهض عُجبُه الموروث عن أبيه ما ورِثه عن أُمه من طموح ويطاردُهُ في زاوية، وإذ إن ما فيه من ثقة بنفسه يصرفه عن الشكِّ في نجاح ما يبدأُ به من أمر فإنه يبصر منذ البداءة عدمَ وجود قيمة جوهرية لذلك النجاح.

والآن يبحث عن النجاح مع ذلك، فتراه يحسب أسرع الوسائل لنَيله، ويقدِّم نفسه إلى الرَّين ويستقرُّ بالمنزل صيفًا بأَسْره للمرة الأولى في حياته، مُعدًّا فيه أجوبةً عن وثيقتَي امتحان؛ تمهيدًا لارتقائه في النقابة، ويصنع ذلك عن عزم، لا عن كبير أثرَة، ويصنع ذلك لأنه غادر المدينة ووجد نفسَه هادئةً مطمئنة في نهاية الأمر.

ويبلغ ذلك السيدُ الحاديةَ والعشرين من سِنِيه، فانظرْ إليه في شُونهاوزِن حيث عاد أبوه الآن، «فهنالك تُبصر بناء ذا ثلاثين غرفة، وتُبصر اثنتين من هذه الغرف ذاتَي أثاث، وتُبصر زرابيَّ شرقيةً رائعة رثَّة، لا يكاد لونُها الأصلي يبدو، وتبصر ما لا يُحصيه عدٌّ من الجِرذان، وتُبصر مواقدَ تلعب فيها الريح، أي تُبصر قصر أجدادي الذي يهدف كلُّ شيءٍ فيه إلى إنماء السوداء. أي تُبصر قصر أجدادي الذي تُعنى به قهرمانة واهنةٌ ممرِّضةٌ لوالدي البالغ من عمره خمسًا وستين سنةً ملاعبةٌ له، والآن أُعدُّ نفسي للفحص، وأستمع للعنادل،١٧ وأتمرَّن على الرماية، وأقرأ كُتُب فولتير ورسائلَ سبينوزا في الأخلاق … وتروي لي طاهيتُنا القديمة أن الفلاحين يسألون عني بقولهم: ماذا يصنع معلمنا الشابُّ المسكين في هذه الدنيا؟ ولذا لا تجدني راضيًا عن شيءٍ كوجودي هنا، وأنام ستَّ ساعات فقط، وأشعر بلذة في المطالعة؛ أي أتمتع بأمرين كنت أظنُّ تعذُّرهما عليَّ، وأعتقد أن سبب جميع هذا هو ما كان من شدة غرامي في الشتاء الأخير … ومما لا يروقني أن أُفصَل على ذلك الوجه عن هدوئي الفلسفي وعن تهكمي. واهًا! واهًا! ستقول: ذلك ولَعٌ تعِسٌ، تلك عُزلة، تلك سوداء … إلخ، والدنوُّ ممكن، ولست مُبالٍ بشيء مع ذلك، وأُحلِّل عِلل الحُبِّ وَفقَ مبادئ سبينوزا حتى أعالجه باعتدال في المستقبل.»
ويجمع بسمارك فؤادَه القلِق للمرة الأولى ولبضعة أسابيع، بعضَ الجمع تحت دَوح١٨ الزَّيزفون والبلُّوط وتحت أنظار أبٍ طيِّب، وبفضل عناية فلاحة أريبة، وبفضل عملٍ متصل، فعاد مزاجه لا ينمُّ على خلْع عِذار، بل يدلُّ على رصانة، وكأن سبينوزا يبارك ذلك، فلا يرى تعليمَ المحلِّل بفطرته غيرَ أساليب التحليل.

وينال بسمارك أحسنَ شهادة وأطيب توصية فيذهب إلى إكس لا شابِل حيث أرادت أمُّه، ورئيس هذه المستعمرة البروسية الجديدة كان من آل أرنيم الذين يرجع أصلهم إلى المارش القديم، وأمُّه تلك رأت أنه إذا ما قضى هنالك أكثرَ من سنتين سار على أثر جدِّه مِنكِن.

١  العَمرة: كل شيء يُجعل على الرأس، من تاج وعمامة وغيرهما.
٢  Pipe.
٣  الأرنبة: طرف الأنف.
٤  Collar.
٥  المحيَّا: الوجه.
٦  الكيِّس: الظريف الفطن.
٧  الفتاء: الشباب.
٨  دالسه: خادعه.
٩  الهزيع من الليل: الطائفة منه أو نحو ثلثه أو ربعه، وقيل ساعة منه.
١٠  النجل: اتِّساع العينين.
١١  الدوحة: الشجرة العظيمة.
١٢  الوثر: قطعة من أدَم تقد سيورا.
١٣  التالير: ضربٌ من نقود ألمانية ثمنه ٣٫٧٥ فرنكات.
١٤  الند: النظير.
١٥  ادَّكَر: ذكَر.
١٦  خمرٌ مشهور من بلاد الرين.
١٧  العنادل: جمع عندليب، وهو طائرٌ صغير الجثة حسن الصوت.
١٨  الدَّوح: جمع الدوحة، وهي الشجرة العظيمة المتسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤