الفصل التاسع
ويطالع بسمارك في منزله بشونْهاوزِن — كلَّ يوم — أنباءَ اجتماع ممثلي بروسية للمرة الأولى في مجلسٍ أهليٍّ بين حماسة القوم، ويساور دماغَه وفؤاده دافعٌ إلى العمل، ومن المؤسف أن كان الأكبر منه سنًّا في برلين هنالك يتمتعون بصحة جيدة فيَحولوا دون أخْذه مكانَه تحت الشمس، وما عليه إلا أن يُزحزح أحدهم عن محلِّه وصولًا إلى بُغيته، ويزعم أن البارون الذي انتُخب للرئاسة الأولى لا يستطيع أن يجلس نائبًا لهذا الانتخاب فيحتجُّ على بقائه نائبًا لدى أصدقائه ببرلين، ويرفع هؤلاء أكتافهم تهكُّمًا، ويسألونه عن سبب مغادرته بوميرانيَة، ويزيد حقده، ويذهب مغاضبًا إلى خطيبته، ويتنادر حول الأمر مصرِّحًا بعُدوله عنه من فَوره.
وأخيرًا يمرض أحدُ فرسان سكسونية في برلين، ويحثُّه أصدقاء بسمارك على التخلِّي عن مكانه لهذا حتى عند تحسُّن صحته، ولا جرمَ أن بسمارك ذو ضِلع في هذا اللعب؛ وذلك لما كان من إعلانه «شديدَ رغبته في أن يغدوَ عضوًا في اللَّنْدتاغ»، ويُهرَع بسمارك إلى برلين ويدخل قاعة المجلس، وحدث ذلك في سنة ١٨٤٧ حين كان أوتوفون بسمارك في السنة الثانية والثلاثين من عمره.
ويُبصر بسمارك جميعَ الولايات من الرِّين حتى مِيمِل ممثَّلةً هنالك، فيجد في ذلك رمزًا إلى الوحدة البروسية، بيدَ أن الذي يُساور أحسن الرءوس في تلك الردهة هو الخيالُ الألمانيُّ لا الخيال البروسيُّ؛ وذلك لأن كلَّ لبيب يَنظر إلى المستقبل كان في تلك الأيام حُرًّا في مشاعره مملوءًا شوقًا إلى الوَحدة الألمانية، ويستحوذ مبدأُ الوَحدة الألمانية على الملِك مع سابق مَقْت أبيه لهذا المبدأ، ويبدو الشعب وأكثرية المجلس الشاملة نُصراءَ الملك في ذلك على حين ترى أنصار العرش الأوفياء ليسوا غيرَ ذوي مشاعرَ بروسية، وفي ذلك المجلس المؤلَّف من خمسمائة عضو لا ترى سوى سبعين محافظًا، وهؤلاء المحافظون السبعون غير قائلين بالوَحدة الألمانية.
ويشعر بسمارك بأنه منفرد؛ فقد كان مركزُه الاجتماعيُّ يُرغبه في الانحياز إلى الملك، وكانت مشاعرُه الشخصية منذ صباه تحفزُه إلى معارضة الأحرار فيُوجب كِلا الأمرين عدم تعاونه مع أيِّ واحد من الحزبين، وتبلغ عناصر مزاجه الأساسية — أي الزَّهو والشجاعة والحقد — درجةَ الهيجان، ويبحث في الجلسة الثالثة في مسألة إنشاء مصرفٍ للفلَّاحين مع ضمان الدولة، ويرفض المحافظون اللائحةَ، ويطلب بسمارك أن يتكلم للمرة الأولى فيدافع باختصار عن الحكومة ضدَّ حزب اليمين، ويدافع عن حزب اليمين ضدَّ الأحرار، وتنطوي خطبتُه الأولى تلك على هجوم؛ أي تنطوي على مهاجمة الاتجاهَين. ويكتب إلى خطيبته متكبِّرًا متأثرًا قولَه: «إن من الغريب أن يُرى ما يُبديه الخطباءُ من إقدام إذا ما قيس بأهليَّاتهم، وأن يُرى ما يُظهِرونه من قِحَة في محاولتهم فرضَ تُرَّهاتهم على مجلس كبير كذلك المجلس. ألَا إن الأمر يُثيرني أكثر مما كنت أنتظر.» ثم يتكلم عن «ذلك الهياج السياسي الذي يَضغطني أكثر مما كنت أتوقع».
ولم يحدث في حال حتى في حال لواعج الحب أن أعرضَ بسمارك عن ارتيابه إعراضَه في تلك الحال، ولم يحدث أن أثار بسمارك أناسٌ أو آراءٌ إثارتَه بذلك المقدار، ولمَ بلغ بسمارك من الهيجان ذلك الحدَّ في ذلك اليوم؟ لم تكن تلك المناقشة سببَ ذلك ما دام لا يبالي بالفلاحين أبدًا، وكذلك أمرُ بروسية وأمرُ ألمانية مما لا يُقِضُّ عليه مضاجعَه، وإنما الذي أهمَّه هو ميدان المباراة، هو معترك أفخم الأساليب، وفي الصباح يقصد اللَّنْدتاغ ويكتب إلى خطيبته غير مرة، ومن غير سخرية، قوله «يجب أن أذهب إلى الصراع.»
ويجرؤُ شريفٌ من حزب من الأحرار، وكان هذا الحزب يحتوي بعضَ الأشراف، على الجهر بأن الحقد على الفاتحين لم يكن حافزًا للبروسيِّين في حركتهم سنة ١٨١٣؛ وذلك لِما لم يكن لدى قوم كثيري النُّبل كالبروسيين من حقد قوميٍّ، والأمر كان أحسن مما عليه الآن مع ذلك، لاستناد الحكومة إلى الشعب آنئذٍ، وينطوي هذا وإن خلا من الصراحة على المبدأ الشائع في ذلك الحين والقائل إن الشعب ذهب إلى الحرق وقتئذٍ إنقاذًا لنفسه، وإنه لهذا السبب نال في سنة ١٨١٣ حقَّ إقامة حكومة شعبية، ويناهض بسمارك مثلَ هذا المبدأ، وما يبدو الآن نتيجة ثوران غيظٍ فجائي فقد أُعدَّ بدقة في الحقيقة، وتوجد مسودَّته، ويصرخ قائلًا: «إن من السُّخف أن تُعزَى حركة الأمة في سنة ١٨١٣ إلى سبب غيرِ الخِزي الذي أصابنا به وجود عدوِّ في بلادنا، وعندي أن من الإضرار بالمبدأ القوميِّ أن يُقال بعاملٍ سوى العار الذي يفور به الدم، وسوى الحقد الذي يخنق جميع المشاعر الأخرى، وإن من الإنكار لكلِّ شعورٍ بالشرف أن يريد أناسٌ آخرون بعد دفاع شخصٍ أمام ضرباتٍ تُسدَّد إلى كيانه، استخراجَ منافع أخرى كما لو كان ذلك الدفاع قد تمَّ في سبيل هذه المنافع.»
ويُصغي أصدقاؤُه إليه، ويُسقَط في أيديهم، ويكون كفاحُهُ الأول ضربةَ سيف في الهواء ما دام الخطيب الذي تقدَّمه لم يقُل شيئًا من ذلك.
ويعدُّ جميعُ المتطوعين في حرب الإنقاذ وجميعُ أبناء هؤلاء حتى أناسٌ من المحافظين ذلك إهانةً لهم، «فيَعلو الاحتجاج والتذمُّر والضجيج»، كما ورد في المحضر، وينبري خطيبٌ آخرُ له فيُجيبه عن قوله بأن حبَّ الوطن — لا الحقدَ — هو الذي دفع الشعب حين كان أوتوفون بسمارك صغيرًا فلا يَقدر على تقدير ذلك، فيا لَلْخطيب من خصْم شخصي! ويَخفِق قلبُ بسمارك سرورًا! ويرتقي المنبر مرةً ثانية، «ويكون صخبٌ، ويدعو الرئيس إلى السكون، ويرتفع احتجاجٌ»، فهنالك ولَّى بسمارك المجلسَ ظهْرَه ساخطًا، وقد كان أحدثَ أعضائه سنًّا، وأخرج جريدة من جَيبه وقرأ بنفسه إلى أن عاد الهدوء، ثم قال: أجلْ، إنه لم يكن قد وُلِد حين حرب الإنقاذ، غير أنَّ أسفه على ذلك قد قلَّ بعدما أُتيَ به اليوم من إيضاحٍ قائلٍ إن استعباد بروسية في ذلك الزمن كان نتاجًا محليًّا لا أمرًا فرَضه الأجنبي.
ويأتي بسمارك ضربة أخرى في الهواء؛ فقد قال صديق من حزبه: «إن مما لا يُدرك أمرُه أن يَجعل امرؤٌ بارعٌ مثلُه من نفسه موضعَ سخرية بهذا المقدار.» ويقول للخطيب قريبٌ حامل لوسام الصليب: «إن الحقَّ بجانبك لا ريب، بيد أن ذلك مما لا يُباح به.» ويقول بِلانكِنبُرغ: «لا يُعَتِّم الضرغام الذي يَلعق الدم هنا أن يزأرَ على نغَمٍ آخر!» وينتقد المؤرخ الشابُّ سبيل تلك الخطبة في جريدته بقوله: إنه لا يمكن فصل الإصلاحات عن الحريَّات بمثل تلك المماحكات.
والحقُّ بجانب سِيبِل، والحقُّ مع جميع النقَّاد، ومنهم بِلانكِنبُرغ، ولكنك لا تجد واحدًا منهم استطاع أن يُدرك السببَ الحقيقيَّ في تعريض بسمارك نفسه لمثل ذلك الهزوء، وهو أن العبقريَّ يُصادم الجميع دومًا عند ملاقاته أولَ مرة، ومما لا ريب فيه أنه أعدَّ خُطَبَه، وفي هذا علةُ فَلَتِ الزِّمام من يده، ومما لا ريب فيه جهلُه لسُنن الزمان فأغضب أصدقاءه، غير أن ما كان وراء ذلك من شدَّة الحقد الموجَّه إلى أولئك الذين يأبَون مقْتَ الفرنسيين أكثرَ مما إلى الفرنسيين أنفسهم، ومن الشجاعة التي جرؤَ بها، وهو المجهول الأمر أن يصعَد في المنبر بين الشغب للمرة الثانية ومن الازدراء الذي ولَّى المجلس به ظهره، أمورٌ أظهرته في ذلك النضال مكافحًا، ويكتب إلى خطيبته قولَه: «لقد أثرتُ في الأمس زوبعةً عظيمة من الاستياء بخُطبة غير تامة الوضوح حول حركة سنة ١٨١٣ الشعبية، فجرحتُ بهذه الخُطبة غرورَ كثير من رجال حزبي، فأسفر ذلك بحُكم الطبيعة عن تألُّب جميع المعارضة ضدِّي ونُباحها عليَّ، وكانت البغضاء شديدةً، وقد يكون قولي الحقَّ سببًا لها، وقد عُيِّرتُ بفتائي وبأمور أخرى.»
وعلى ما في رسائله إلى خطيبته حنَّة من رقَّة، تكتسب هذه الرسائلُ لهجة التقارير مقدارًا فمقدارًا، وتُصاب حنَّة بمرضٍ شديد ويُصلِّي من أجلها، غير أنه يظلُّ «في مركزه» ويَعِد بعيادها في عيد العنصرة، ويُخلف الوعد، ويكتب إليها قولَه: «لا أُبيِّن لكِ السببَ في أنني لم أسْطِع أن أجيء؛ لِما في ذلك من عدم فائدة، وإنما أذكر لكِ أن أهمَّ شئون البلاد هي موضوع البحث، وقد يتوقف الأمر على صوت واحد. ومما يؤلمني أن تكون المسافة بينكِ وبين اللَّنْدتاغ خمسين فرسخًا، وأنتنَّ أيها النساء غريباتُ الطبع؛ فالأصلحُ أن يُتَّصل بكُنَّ مشافهةً لا كتابةً.» ولا ينبغي تأجيل الزواج، وعلى حنَّة أن تمرَض هادئةً في البداءة وإلا اعتُقد «وجودي مِكْسالًا في رينفيلد، ولا أستطيع أن أشاركَك بحرِّيَّة كما يجب قبل أن نتزوج.»