الفصل الرابع

عيَّن الملك بسمارك عضوًا في مجلس الأعيان، فقال في كتاب أرسله إلى أخيه بسبب النفقات: «حقًّا إن ذلك حُمقٌ، ولكن ذلك لِمدَى الحياة؛ فهو سيقوِّي وضْعي وسيُزوِّدني بنفوذ في الحكومة، ومما يجادَل فيه فائدةُ ذلك وإمتاعُه، والجواب السلبيُّ هو ما أميل إليه في معظم الأوقات وإن كان يأتي حينٌ يستحوذ عليَّ الطموح وحبُّ الوطن فيه فأُلقي السمع فرضًا لآرائي السياسية، ويا ليتني أقبض على الدفَّة لمدة ستة أشهر.» ويهجُر الحزب والمجلس على عجَل، ويرفض إعادةَ انتخابه، ويُفيد من وضْعه الثنائيِّ ببرلين، مُتغيِّبًا في وقت يجب على أصدقائه أن يُصوِّتوا فيه ضدَّ الحكومة ويجب عليه أن يصوِّت فيه ضدَّ أصدقائه.

ويعتذر عن مصادفته أحرارًا في مطعم ببرلين، وعن جلوسه حول مائدتهم نحو ربع ساعة، فيقول راضيًا: «حقًّا لقد أفسدتُ شهوتهم، فقد لطمتُ مُداريًا خدَّ أحدهم وكبستُ مداريًا على يد آخرَ منهم وبدَوت أنيسًا نحوهم، ومما طابتْ به نفسي ما أبصرتُه من الحقد الذي كانوا ينظرون به إليَّ!» بيدَ أنه على غير وئام مع حزبه الخاص أيضًا؛ لِما كان من معارضته لأيِّ تغيير في الدستور؛ وذلك لأنه «كفَّ عن مضايقة الحكومة فصار بالتدريج إناءً يشتمل على ما يُرضي وليَّ الأمر قبل كلِّ شيء»، وهكذا يُعدِّل أساليبه، حتى إنه في عُقر داره يبارك لِما كان يكرهه، وهو يسأل: هل من الحكمة أن يظلَّ رجعيًّا إلى الأبد؟ أفلا يؤدي هذا إلى انحياز بعض الدويلات إلى النمسة بدلًا من أن تُصبح هذه الدويلات صديقةً لبروسية بفضل بعض الحريات؟ فمن أجل ذلك يدَع مجالس برلين مع منازعها الديمقراطية تتكلم عن ألمانية على الدوام؛ لِما في ذلك من جعْل بروسية مألوفة في الرَّيْخ كزعيمة.

ويرى هذا البروسي «بسمارك» أن من الخير لبروسية أن تكون لها زعامة ألمانية الصغرى، وهو يُصرِّح بقِحَةٍ ولَّادة: «كما أنني أكره أن يُضحَّى بالحقوق في سبيل السياسة في وطني الخاص أجد عندي من الأثرة البروسية ما لا أبالي معه بحقوق هانوفر.» وإن ألمانية الكبرى من الأحلام، وإن الاتحاد الألماني ميِّتٌ، أو يوشك أن يموت، وإن إرادة صغار الأمراء لا تَعدو حدَّ الكلام، وتلوح جامعة الرَّين في الأفق مرة أخرى، ويسأل بسمارك غِرْلاخ: «وما الذي يحملك على الاعتقاد بأن دوك بادن الأكبر ودوك دارْمِستاد الأكبرَ وملكَ وِرْتنبِرْغ وملكَ بافارية مستعدُّون لتمثيل دَور لِيُونِيداس؟١ وهل تظنُّ أن الملك ماكس قال لنابليون في فُونتِنبلو إنه لا يجاوز حدود ألمانية أو النمسة إلا على جثَّته؟»

ويغدو عارفًا بألمانية في غضون ذلك؛ فهو حينما قَبِل منصبه اشترط لنفسه أن يزور جميع قصور أولياء الأمور بألمانية، فكادت معارفُه الشخصية بذلك تُصبح كاملة في بضع سنين، وهكذا يصير عالمًا بالأمراء والوزراء وأصحاب الصحف ومَن إليهم من أرباب الدَّسِّ والمكايد، وهكذا يطَّلع على كلِّ شيء فيروقه ذلك إلى الغاية، حتى إن الرسائل التي يكتبها من خلال ضوضاء برلين يُدبِّجها يَراعه كما لو كانت بقلم شابٍّ مُداعِب.

ويولَع بالسياحة، ويسيح أكثرَ مما يجب، ويسيح وحدَه على الدوام، وإذا كانت رسائلُه إلى زوجه تُختم عادةً برغبته في أن يكون بجانبها؛ فلأنه رجلٌ يجب أن يُوَكِّد دومًا مشاعرَه التي يرى أن يصونها، ويزور بروكسل وأمستردام وكوبِنْهاغِن وبودابِسْت وباريس، والآن، حين يستطيع أن يسافر للمرة الأولى عظيمًا حاملًا مالًا وألقابًا يُستقبل في كل مكان كأجنبي وجيه، فيُسَرُّ بهذا الشكل من التنقل كثيرًا، وبينما تكون حنَّة في سويسرة مع أولادها وأبوَيها يستلقي بسمارك على شاطئ نوردِرني «مُدخِّنًا حالِمًا أو مفكِّرًا في إنترلاكِن»٢ غير أن أحبَّ شيء إليه هو أن يُدعى إلى الصيد في دانيماركة أو كورْلاند مثلًا، «وإذا ما أَصمَيتُ وَعْلًا في الغد كان لديَّ من الوقت ما أقفِز فيه إليك، فلن أغادر هنا قبل أن أوفَّق لهذا.»

ويبلغ سروره بالحياة ذُروتَه في تلك الأسابيع؛ لِما شعر به من رجوع شبابه إليه، ومن أُوسْتِند يكتب مغتبطًا: «إن ما أشعر به من خَلْقي في أحسن تقويم يجعلني فخورًا بعَرض نفسي على نساء العالم، وعلى ما يساورني من هذا الشعور أفضِّل على ذلك أبعدَ جَنَّة، حيث لا يبدو غير الرجال في الزِّيِّ الذي عنَيتُه آنفًا، ولست بالذي يحتمل السُّحُب الندية على بدنه.» أو إنه يذهب في ليلة من ليالي يوليو على زورقٍ فوق نهر الرَّين، ويَسبح على ضوء القمر حتى الموزيتورْم، ويتمتع بسِحر العُزلة، ثم يجلس مع صديق أمام رحيق الرَّين ويتفلسف حول رُوسُّو والربِّ.

والموسيقى هي وسيلة أخرى لهدوء الأعصاب، ويُدخِّن ويسير ذهابًا وإيابًا على حين يعزِف كُودِل من أجله، وله في ذلك بهجةٌ وإن كان يَكره الفِرَق الموسيقية، فلا يذهب إليها أبدًا، «ولتُعرَض الموسيقى عليكم طليقةً كالحُبِّ، ولا أُطيق القعود مضغوطًا»، وهو يرغب عن المقامة لأربعة مغنِّين؛ لِما فيها من حصْرٍ له، وهو لا يحبُّ التنوع، وهو لا يرتاح إلا إذا عزَف الموسيقيُّ عن ظهْر القلب؛ فهنالك تتعاقب الصُّوَر أمام عينَيه، فيرى نفسه دَومًا، فإذا ما أبان أحاسيسَه بعد العزف نَمَّ على رجل فعَّال، وقد قال بعد سماعه الأباسْيوناتا (لبتْهوفِن): «إن هذا هو صراع الحياة البشرية وزفيرها. إنني أَبسُل٣ كثيرًا عندما أسمع هذه الموسيقى.» وقد يذهب به الخيالُ إلى مدًى بعيدٍ، فيرى بعد سماع لحْن لمنْدِلسِن: «فارسًا من فرسان كرومويل يصول تاركًا عنان حصانه على عنقه فيظنُّ أنه يبحث عن حَتفه»، فيقول: «إن هذا الرجل بائسٌ حقًّا.» ويقول بعد سماعه توشيحًا لباخ: «إن الرجل كان متردِّدًا في البداءة، ثم شقَّ طريقه بالتدريج، فانتهى إلى إيمان ثابت بهيج.»

ويرجع ذلك الرجل الغامض الأمر إلى بتهوفن على الدوام، وقد قال: «إن بتهوفن هو المفضَّل عندي، وهو أكثر من سواه ملاءمةً لأعصابي.» وإننا لننفُذ فؤاد بسمارك حينما نسمع قوله معترفًا: «تسوقني الموسيقى الجيدة إلى أحد الاتجاهين المختلفين، تسوقني إلى الحرب أو إلى الشعر الرِّعائي.» وهو في ذلك الدور ينحني إجلالًا للموسيقى، ويعزِف كودل على البيان ذات مرة، وفيما هو يعزِف إذ يرى في المرآة دُنوَّ بسمارك من كرسيِّه رويدًا رويدًا ومدَّ يدَيه فوق رأسه لبضع ثوانٍ، «ثم يجلس بسمارك بالقرب من النافذة فيُسرِّح طَرفه في الشفق ما دمت أعزِف.» ويمكن ردُّ تلك الثواني القليلة التي يقضيها في الوجد والغيوب والتسليم والتجرُّد إلى نوبٍ سوداء كانت تستولي عليه في الأيام السابقة عندما يكون وحده فتَسْحره.

وهو لم يدَعْ شبابه يعود إليه إلا في أحوال نادرة، وهو لمَّا زار ثانيةً فِسْبادِن التي قضَى فيها حياةَ جهل منذ عشرين سنة لم يَبْدُ حاملًا ذكرياتٍ جميلةً تجاه النساء اللائي كنَّ يُعاشرْنه عِشْرة ذات بهجة، وهو لم يتكلم مُتحسِّرًا عن سوى «الأيام التي كان رحيق الشباب يَجيش فيها على غير جَدْوى فيترك ثُفلًا تافهًا، وأين، وكيف، تعيش إيزابل لورين ومس رُسل الآن؟ ولا أدري كيف يمكن إنسانًا يُفكِّر في نفسه فلا يعرف — أو لا يريد أن يعرف — شيئًا عن الربِّ، أن يحتمل حياته مع سأمِه وغمِّه؟ ولا أعلم كيف صبرتُ على ذلك في الماضي، وإذا ما وجب عليَّ أن أعيش الآن كما في السابق بغير الله وبغيركِ وبغير الأولاد لم أرَ لمَ لا أنزِع عني الحياة كقميصٍ قذِر، وأشعر بما يشعر الإنسانُ به في يوم رائع من شهر سبتمبر، حين ينظر إلى اصفرار أوراق الشجر، فأجدُني سليمَ البنية مسرورًا مع قليل سوداء وحنينٍ إلى الوطن ورغبةٍ في مشاهدة الغاب والبحر والمروج وشَوقٍ إليكِ وإلى الأولاد ممزوجًا بغروب الشمس وإيقاع بِتْهوفن.»

والآن يبدو الإيمان الدينيُّ والشعور المنزلي فيه أقوى مما في أيِّ زمن مضى، وهو إذا ما خشِيَ الكفر فلفزعِه من العزلة، وهو ينظر إلى أيام فتائه بحقد غريب وعِداء مستهجن يجد بهما ما يُعينه على مسامحة تقدُّمِه في السنِّ، ويجيء في كتاب إلى أخيه: «أرتعشُ تجاه بلوغي الأربعين من عمري، فهذا يَعني انتهائي إلى ذروة الجبل ثم انحداري إلى الوادي المؤدِّي إلى سِرداب شُونْهاوْزِن، ويُخيَّل إلى المرء دومًا أنه في أوائل الحياة وأن أمامه ما جلَّ منها. ويَعسُر على المرء أن يَفرُغ من مزاعم الشباب، والمرء إذا ما سجَّل عُمره ﺑ ٣، ثم أتبَع اﻟ ٣ ﺑ ٩، كان عنده ما يُعين على ذلك الوَهم أيضًا، وما الحياة إلا كقَلْع الضروس بمهارة، ولا نفتأ نعتقد أنه لا بدَّ من مجيء ما يَطيب إلى أن نُبصر مع الحَيرة انتهاءَ ذلك منذ زمن، وإن شئتَ فسِرْ على غراري فشبِّهْ ذلك بظهور اللحم المشوي مع الكوامخ على عجَلٍ وإثارة علائم اليأس على وجوه الضيوف.»

هنا تهكُّم وهنالك لومٌ يوجِّهُه إلى نفسه، فيحملُها على ضرْبٍ من الصبر والتسليم يقاوم به عطشَه الشديد إلى الحياة، وما يكون من انتظار لُبِّ الحياة فيجعل هذا الفاوستيَّ المزاج لا يعفو عن الربِّ، وعنده أنَّ ما صنعه لا يعدِل شيئًا، والخلاصُ كلُّ الخلاص في السلطان، ويبلغ الثانية والأربعين فيسأله كُودِل: «ألَا تشعر بأن أمواج الحياة أقوى لديك مما كانت عليه أيام كنتَ طالبًا؟» ويسود صمتٌ، ويُجيب بعد لَأْيٍ: «كلَّا … بلى … إذا ما استطعتُ أن أتمتع بالحياة كلِّها كما أُريد … ولكن من المفزع أن يُبدِّد المرءُ قواه بإمرة سيد لا يُطيعه المرءُ إلا مستمدًّا العونَ من الدين.»

ولا يَنِمُّ هذا الاعتراف الخفيُّ الذي يسير عليه آخرون من ذلك الطِّراز على جزَعِ نفسه فقط، بل يَنِمُّ أيضًا على نوعِ إيمانه الذي يَدْعمه بولائه للملك حتى يَشُدَّ كلٌّ منهما أزْرَ الآخر، ومن قوله في ذلك الحين: «إن النصرانية وحدَها هي التي تستطيع أن تُنقذ الأمراء من وجْه تفسيرهم للحياة؛ وذلك لأننا إذا ما نظرنا إلى الوضع الذي جعلهم الله فيه وجدْنا النصرانيةَ تحفزهم إلى البحث عن الوسائل التي يبلغون بها حياةً أطيب مما هم عليها وأحكم.» وهكذا يَعِنُّ لبسمارك أن يهزأَ بمبدأ العروش الشرعية مُثبِتًا أن جميع دول أوروبة من أصل ثوري، وهكذا يرفَع بسمارك الربَّ عند احتياجه إليه ويَخفضه إذا ما حال دون سبيله، واليوم يُحاور زوجتَه التقية فيجرؤ على القول لها: «قد أُطعِم عدوِّي إذا جاع، ولكنني إذا أحببتُه كان ذلك في الظاهر.» ويودُّ أن يقوم الأسطول بهجوم على غير مسوِّغٍ حقيقيٍّ، ويعتذر عن رغبته هذه بقوله القاسي: «إن ما يُزهَق بذلك من النفوس هو ما يُزهَق قبل أربعين عامًا على كلِّ حال.»

ويُذعَر لودفيغ فون غِرْلاخ البِياتِي إذ يرى انتحالَ ابنه الروحيِّ بسمارك لذلك الأسلوب المكيافيليِّ فيُبلِّغ قريبَه كليست رِستوف إنذارَه: «دَعوا إيمانَ بسمارك يكون حارًّا، ولا تَدَعُوا زهْوَ الدنيا يستهويه؛ فبسمارك من رخام كارَّار٤ الكريم، هو قطعةٌ بديعة قُدَّتْ للعالَم والشيطان اللذَين لا يَسهُل عليهما أن يُسرِّحَا فريستَهما … علِّموه قواعد الدين!» وهو مع ذلك قد علَّم بسمارك السياسةَ الواقعية منذ زمن طويل.

وتبلغ معضلةُ الفارس النصراني «بسمارك» أقصى حدٍّ لها في مبارزة، ويَصفُه منافسُه في المجلس، فِينْكِه، وذلك من فوق المنبر بالدِّبلُميِّ الذي يُرَدُّ عملُه في التاريخ إلى سيغار الكونت تون وبالعاجز عن الاختيار، ويجيب بسمارك عن ذلك بأن فينكِه فاقد التربية فيدعوه هذا إلى المبارزة، ويرجع بسمارك ذلك العِداء وتلك المبارزةَ إلى المحادثة الحادة التي وقعت في شهر مارس سنة ١٨٤٨ حول خِطط أُوغوستا الماكرة، وعند صلاة المساء يسأل بسمارك القسِّيس هازئًا أسئلةً عن صواب إصابته الهدفَ عند إطلاقه النارَ في الصباح، «وكان الجوُّ جميلًا، وكانت الطيور تُغرِّد على نور الشمس، وتزول أفكاري الكئيبة عند دخول الغابة.» وهنالك وُجِد من حاول مرةً أخرى إصلاحَ ما بين المتبارزَين، ويتمُّ الاتفاق على أن يكتفيَ كلٌّ منهما بإطلاق عيارين فقط، ثمَّ يُتَّفق على إطلاق كلٍّ منهما عيارًا واحدًا فقط، ثمَّ يُذهَب إلى تسوية الأمر بأن يَعتذر بسمارك عما فاه به فيأبى ذلك، ويأخذ كلٌّ منهما مكانَه «وأُطلق النار غير غاضب وأُخطئ الغرض، ولا أُنكر أنه مازجني شيءٌ من الغمِّ عندما أبصرتُ من خلال الدُّخان بقاءَ خصمي واقفًا، فلم أقاسم الحضورَ سرورَهم، وقد أزعجني خفْض عدد الطلقات التي نتبادلها فودَدتُ دوام المبارزة، والله يعلم ماذا يُخبِّئُ لفينْكِه.»

وفي ذلك التقرير الذي لا مِراء في صحة ما ورَد فيه من دلالة على المعاشرة، ما دام قد أُرسل إلى حماته بأسلوب تقيٍّ، ترى ما بين بسمارك المكافح الشديد الشكيمة وبسمارك النصرانيِّ من تناقض، ومن المباح إطلاقُ النار، ولكن من المريب أخلاقًا أن يُسدِّد الفَردَ، وعلى الصائد ألا يُساورَه غضبٌ إذن، ومما يُزعج الصائد مع ذلك أن يُبصر الطريدة واقفةً سليمةً بعد تبدُّد الدخَّان! ولا يَردُ خاطرَه سؤالٌ عن السبب في سلامة نفسه أيضًا، فالذي يُهِمُّ ذلك الضاربَ الساخط «بسمارك» هو ما يُبيِّته الربُّ لفينكِه، لا العاملُ الذي ظلَّ به «بسمارك» حيًّا، ففي هذه الحال — كما في أحوال أخرى — يبدو أنه يحقد على عدوِّه أكثرَ من حبِّه لنفسه.

وما كانت حنَّة لتصفحَ عنه قبل انقضاء زمن، فهي تُحبُّ الدَّعة بقدر ما يُحبُّ الصراع، وهي عاطلةٌ من جميع الصفات الجوهرية التي تُؤهِّله لمثل ذلك النزاع؛ أي عاطلةٌ من الطموح وروح المصاحبة وحُسن الصحة، وهي مريضةٌ في الغالب، وهي لم تكن مريضةً فقط؛ لوضْعِها أولادًا تُعنَى بهم، على خلافه، ليلَ نهارَ؛ ولأنها تقضي في سبيل تربيتهم ساعاتٍ وشهورًا من كلِّ سنة، وهي ذات عينَين ضعيفتين، وهي مضطرَّة إلى قصْد المنتجعات الصحية، وهي تطالب بأن يُوطَّأَ لها كلُّ شيء في الرحلات والمجتمعات، وهي لِما ليس لديها من القوة ما تقوم به وحدها في تدبير المنزل؛ تلجأ إلى بسمارك في حفظ النظام بين الخدَم وتسريح بعضهم وإمساك ما بقيَ منهم وفي ابتياع الرِّياش والأواني فيُسَرُّ بما يجده من عمل في ذلك ملائمٍ لِما شبَّ عليها مالكًا للأراضي، وبسمارك — مع أن لديه ما ليس لديها من الأعمال الكثيرة — تراه يلتمس منها أن تُراسلَه، وفي المراسلة تُبصرها متقلبةَ الأطوار، فلا تعرف كيف تُوزِّع وقتها.

ولا يؤثِّر فيها ما يحرِص عليه فيوفَّق لصُنعه، ولا تكتم استنكارها لحياته الدنيوية، وتكتب في ساعة أزمةٍ إلى صديقها كودِل كتابًا تقول فيه: «ليتنا نذهب إلى شُونْهاوْزِن فلا نُبالي بسوى أنفسنا وأولادنا وأهلينا والمخلصين من أصدقائنا؛ فما أكثرَ سروري بذلك! ولا ريب عندي في أنه يعود إلى سابق نضارته إذ ذاك، وهو عندما بدأ تلك الحياةَ الدِّبْلُميَّة، البائسةَ العاصفة التي لم تأتهِ بصالح، لم يجِد فيها غيرَ الغمِّ والخِصام والحسد والكُنود، وهو لو نَفَضَ عن رجلَيه العزيزتَين غُبارَ ذلك الكدَر العقيم، وهو لو ترك جميع تلك السخافات التي لا تلائم خُلقَه القويم الكريم لغدَوتُ سعيدةً راضية، ولكن من المؤسف أنه لا يفعل ذلك؛ لِما يراه من ضرورة خدمة «الوطن المحبوب»!»

ولا نُبصر بذلك الكتاب ما يدور في خَلَدها التقيِّ النقيِّ من الأماني فقط، بل نُبصر به أيضًا مقدارَ ظهورِه مفخرةً لها، وليس من خداع في ذلك، وأيُّ شيء يكون طبيعيًّا عنده أكثرَ من أن يوصف سموُّه الخُلقيُّ العتيدُ نفعًا له وللآخرين، ومِن أن يُصرَّح بأن خصومه أو زملاءه أو رؤساءه الذين هم دونه براعةً أكثرُ منه مخادعةً! ولا مِراء في أن امرأة تكون من الدهاء ما تُوجِّهه معه نفسيًّا، أو تكون من الطموح ما تَدفعه معه إلى ضروب المكايد؛ تغدو ثقيلةَ الوطأة مع الزمن، وما فُطِر عليه بسمارك من بصَر بالأخلاق فجعله يختار — صائبًا — حنَّة بُوتْكامِر زوجًا له؛ فهي قد أحبَّته دون سواه، وما فُطرت عليه من عواطف فلم يحفزها إلى انتقاده ولا إلى عبادته إلهًا، فهي قد أَسَرتْ فؤادَه ولم تطلب منه أمرًا ولا عبقريةً.

وما يجب عليها أن تصنعه فقد علَّمها إياه بسهولة، وهو لم يُعلِّمها أكثر من ذلك، ويكتب إليها في الأيام الأولى قولَه: «وأنتِ يا بُنيَّتي، يجب أن تعرفي الجلوس في البهو رزانًا وقورًا، وأن تَظهري فَطونًا ذاتَ لَقانية٥ مع أصحاب السعادة.» وتتعلم الفرنسية والفروسية، وهو إذا ما طالبها بشيء يجده كثيرًا عليها لم يُعتِّم أن يستردَّ ما طلَب، حتى إنه يتكلم عن نفسه مُغاضبًا لما فرَط منه، «فلقد تزوجتُكِ لأحبَّك في الله وعلى حسَب احتياجات فؤادي؛ ولكي يكونَ له بين الغرباء مكانٌ يقيه شديدَ الرياح، ولكي يكونَ لي ملجأ آوِي إليه لأَدْفأَ عند وجود البرد والزوابع في الخارج.» بيدَ أن الدِّبلُميَّ لم يَلبَث أن بدَا، فهي إذا ما عبَّرت عما في نفسها غاضبةً واجدةً على الرجال قال لها بسبب جواسيس البريد إنه لا ينبغي لها «أن تُرعِد كتابةً ضدَّ بعض الناس على ذلك الوجه؛ وذلك لعَدِّي مسئولًا عما تكتبين، وهذا إلى وجود جَور فيما تكتبين عن أولئك. ولا تكتبي إليَّ شيئًا يمكن الشُّرطي أن ينقله إلى الملك أو إلى الوزير. ولا تَنسَي أن ما تَهمسين به إلى شارْلوت في حمَّامك يُنقَل إلى الملك في قصر سانسوسي مع المبالغة.»

ولم يُكلَّل بدء أمرها في البلاط بالنجاح، ولم يصدُر هذا الخطأ عنه أو عنها، فقد دُعيَ إلى نزهة في باخرة على نهر الرَّين، ويُحضِرها معه ليقدِّمَها إلى الملك والملكة، غير أن «صاحبَي الجلالة جَهِلاها مع أننا قضينا عدة ساعات — جميعًا — في لجنة صغيرة على المركب، ولم تكن الملكة في عافية فلم يكن لديها من النشاط ما ترعاها به، وتُعرِض أميرة بروسية عنها عمدًا، وعلى ما كان من محاولة الأمير أن يلاطف زوجي التي أُهمِلت على ذلك الوجه أثبتَت زوجي تمسُّكَ أبيها البوميراني بالنظام الملكيِّ بما سكبتْه من العَبَرات. وإن ما أنتم عليه من النُّبل يجعلكم تُقدِّرون ما يُساورني من الألم بسبب ما أصاب زوجي من الإهانة التي أَعُدُّها أشدَّ من كلِّ ما أصاب به. ومن الطبيعيِّ أن حاولتُ إقناعَها بأنه لم يُحَطَّ من قيمتها وبأن ذلك من عادات البلاط.»

figure
بسمارك في سنة ١٨٥٥.

ويمكننا أن نتمثَّل الفصلَ من تلك الشكوى اللَّبِقة الواضحة التي كاشف بها صديقَ الملك، ومما لا ريب فيه أن حنَّة لم تألُ جُهدًا في إثباتها، حين العود من السفر، أن تلك الحياةَ هي متاعُ الغرور، وأنها لا تفي بمرامه، وقد نستنتج من ذلك أن أميرة بروسية أبدتْ غطرسةً لا تُطاق، وتظهر حقيقةُ بسمارك بمغادرته السفينةَ الملكية في أول موقِف، ونفترض وجودَ أفكار لديه حول النساء العظيمات المنيرات اللاتي يَتَّخذ نحوهنَّ ما حسُن من الأوضاع في مثل تلك الأوساط.

وبسمارك يُعطي حنَّة كلَّ ما تريد، وبسمارك يُعنَى بالجزئيات عنايةَ الرجلِ العارف بالنساء، فلما أوصى زميلَه بباريس أن يشتريَ شالًا كشميريًّا ذكرَ له أدقَّ الأوصاف عن اللون، ويسأل أختَه ذاتَ مرة أن تبتاع لحنَّة ثوبًا أبيضَ متموِّجًا يبلغ نسيجُه عشرين ذِراعًا، وأن يكون ذا مروحة مموَّهة بالذهب كثيرةِ الخشخشة لدى استعمالها وإن كان يكره مثل هذا الصوت. ويبحث في باريس عما تحلُم به من العصافير الزرق، فتذهب جهوده أدراجَ الرياح. ويبلغ من المسايرة لها ما يحمِل معه سلسلةً ذات أوسمة متدلِّية تُهديها إليه على نفوره من ذلك؛ وذلك لأن مما «يُؤلمها كثيرًا أن تراني راغبًا عن حمل مثل هذه الأدوات».

وبسمارك يَظهر ذا وُدٍّ لأنسبائه، وهو يُحدِّث بعطفٍ عن حَمِيه، وهو يحبُّ زياراتِهم لعدة أسابيع، وهو يتكلم عن «الدُّوَيلة التي نُؤلِّفها لنا من سبع أرواح. ولا تخلو هذه الدنيا من الغمِّ والهمِّ، والأفضلُ للإنسان أن يكون فاترًا في الشارع أكثرَ مما في منزله الخاص.»

١  لِيُونِيداس: ملك إسبارطة فيما بين سنة ٤٩٠ وسنة ٤٨٠ قبل الميلاد، وهو بطل مضيق الترموبيل (في تسالية)، حيث أجاد الدفاع أمام الفرس فهلك ببسالة مع ثلاثمائة إسبارطي شجاع.
٢  إنترلاكن: مدينةٌ صغيرة في سويسرة.
٣  بسل: شجع.
٤  كارار: بلد إيطالي مشهور برخامه الأبيض.
٥  اللقانية: سرعة الفهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤