الفصل العاشر

«العالم ينهار!» هذا ما صاح به سكرتير الدولة في الفاتيكان عندما وصل الخبرُ إلى رومة في الصباح التالي، وتَغدو بروسية منذ ذلك الحين حليفةَ أمير اللصوص فيكتور إمانويل وتنال معه نصرًا على صاحب الجلالة الرسوليِّ، فيُعَدُّ ذلك إثمًا قاتلًا، وفي يوم المعركة يُنتخب في بروسية مائةٌ وأربعون نائبًا محافظًا قبلَ معرفة خبرها، وفي اليوم التالي يُكلِّم بسمارك وليَّ العهد حول الصلح، وستهدف خُطبة العرش إلى السِّلم، «ومع ذلك سنؤلِّف جامعةً لدول شمال ألمانية؛ لتكون أولَ خُطوة نحو الوحدة الألمانية»، والخطَّة واضحة في ذهنه، ويسنتجد بوليِّ العهد تنفيذًا لها؛ فقد هزَّ ذينك الرجلين ما قامَا به من عمل جليل معًا على الرغم من نفسَيهما، وتُقرِّب معجزةُ الساعة الراهنة بينهما، ويسودُهما ضَرْبٌ من التفاهم الصامت، ويُلبِّي وليُّ العهد دعوةَ بسمارك إلى العشاء للمرة الأولى منذ سنين.

والآن يعرف بسمارك حقيقة الشعب الذي لم يعلم عنه شيئًا عمليًّا منذ أيام شُونْهاوْزِن، وكيف رآه؟ «إن رجالنا رُوَّعٌ١ طُوَّعٌ شُجَعاء وُدَعاء مُحِبُّون للنظام، وكان رجالُنا جياعًا لابسين ثيابًا مُبتلَّة نازلين أرضًا مُخضلَّة، وكان نومهم قليلًا وأُنسُهم كثيرًا، ولا يَعرف رجالُنا النهب ولا الحرق، ويدفع رجالُنا ثمنَ ما يبتاعون، وهم من الخبز الكارج٢ يأكلون، ولْيتأصَّلْ خوف الله في أفئدة الشعب خشيةَ زوال تلك الأمور»، هذه هي الكلمات التي قالها بسمارك في كتاب أرسله إلى زوجه، وهي كلمات صِدقٍ ووليدةُ ملاحظة، فكأن بسمارك يتكلم بها عن مُزارعيه، وكأن بسمارك الشريف يطلب بها طاعة وتضحية قبل كلِّ أمر، وكأن بسمارك السَّريَّ يرى الفضائل التي تبهره صادرةً عن تقوى الله فلا تُفسَّر بين البروسيين بغير هذا، أجَل إنه مخلص في تأثُّره، ولكنك لا ترى في الحقيقة جسرًا بينه وبين الشعب، وبسمارك مع أنه رئيس الوزراء لا يطلب لنفسه معاملة خاصَّة؛ ففي الليلة التي تلتْ معركة كُونيغْراتْز نام على «ما هو أصلح قليلًا من دِمْنَة»٣ نام على مقعد عربة بين الجرحى في العَرَى٤ بلا تِبْنٍ، وذلك إلى أن تبيَّنَ دُوكٌ رئيسَ الوزراء فأخذه لينام فيما هو أحسنُ من ذلك المكان.
وصِلاتُ بسمارك مع القادة تجعلُه نَزِقًا، فمما يَشُقُّ عليه ولا يُطيقُه أن يُصدِر هؤلاء أوامرَ فيصمتَ، ومما حدَث في ليلة من تلك الليالي أن أيقظه رجلٌ ليُخبرَه بأن الملك يُريد ركوبَ حصانٍ في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل ليَحضُر مناوشةً، فصرخ من فراشه غضبان قائلًا: «يا لَغيرة هؤلاء القادة الشاربي الجِعَة! فهم يودُّون إطلاعَ الملك على مناوشة في الساقة،٥ فأُمنَع من النوم مع شدَّة احتياجي إليه!» ويبدأ كفاحه للحربيين بهذا الاستهلالِ الهزليِّ، ويكتب إلى زوجه من فوره بعد النصر قولَه لها: «إذا لم نُفرط في مطالبنا، وإذا لم نَحِدْ عن الاعتقاد بأننا غيرُ فاتحين للعالم كان لنا من السِّلم ما يستحقُّ الهمَّ، ولكننا إذ كنَّا فرحين خائرين في آنٍ واحد، كان من واجبي الجَحود أن أُروِّيَ الخمر المختمر بالماء فأذكِّر القوم بأننا لا نعيش وحدنا في أوروبة، حيث تقوم ثلاث دول تَكرهنا وتحسدنا!»
وفيما كان بسمارك يسمع ما تقوله أوروبة منتبهًا كان القادة يُسمعون صليلَ سيوفهم زاحفين عامدين إلى فِينَّة، ويُعقد مجلسٌ حربيٌّ في كزِيرْ ناهُورَهْ، ويَصِل بسمارك متأخرًا، ويُطلعُه الملك على الأنباء ويُنتَظر وصول المدفعية الثقيلة في أسبوعين، ثم يُسار إلى فِيَنَّة، ويَرتجف بسمارك ويقول: «خمسة عشر يومًا!» وبسمارك ليس سوى مُقدَّم، وليس على كتفَيه من السمات ما يسطَع كثيرًا، ولا قولَ حول الشريط الأحمر، ويجلس ناظرًا إلى الخريطة ويُنصت له الجنرالاتُ إنصاتَ تهكُّم، فينصح بعدم ضرْب فِيَنَّة بالمدافع وينصح بالذهاب إلى بِرِسْبُرْغ وعبورِ نهر الدانوب، فيكون وجهُ العدوِّ إذ ذاك إلى الشرق على وضْع غير ملائم، أو يتقهقر إلى هنغارية مغادرًا فِيَنَّة بلا قتال، ويُبصر الملكُ الخريطةَ، ويؤيد اقتراح بسمارك: «وتُقبَل الخطة على مضَض، وكان همِّي الوحيد مصروفًا إلى اجتناب كلِّ ما يؤذي صِلاتنا بالنمسة في المستقبل، وكلِّ ما يَنكأُ القُروح٦ من الذكريات الجارحة، ومن شأن دخول الجيش البروسيِّ فِيَنَّة ظافرًا أن يُسدِّد ضربةً هائلة إلى كرامة النمسة مماثلةً لتَرْك مُلك قديم قهرًا، ولا أشكُّ في أننا — كفردريك الأكبر — نكون مضطرِّين في الحروب القادمة إلى الدفاع عما نستولي عليه الآن في ميدان الوغى، ومن المنطق التاريخيِّ أن نحارب فرنسة بعد محاربتنا النمسة في الوقت الحاضر».
وتمضي بضعةُ أيام فيُعقد في هذه المرة مجلسٌ حربيٌّ آخرُ في برون،٧ فيُنظَر في مصالحة فِيَنَّة، فيقول بسمارك هادئًا بحضرة الملك: «إذا غادر العدوُّ فِيَنَّة وارتدَّ إلى هُنغارْية وجب علينا أن نتعقَّبه، وإذا عبرنا نهر الدانوب وجب علينا أن نبقى على ضفَّته اليمنى لتعذُّر السير على الخيل من ذلك المضيق الهائل، والرأيُ حينئذٍ أن نزحف إلى الآستانة ونُؤسِّس إمبراطورية بيزنطية جديدة تاركين بروسية وشأنَها!»

ومن النادر أن يتجلَّى هدوءُ ذكاء بسمارك بأوضحَ من ذلك، وبسمارك وحده قد دعَا إلى تلك الحرب، وبسمارك وحده قد فرضها، ولكن تلك الحربَ ما كادت تُكسَب في معركة واحدة حتى رفض الدوام عليها، حتى وقف حركاتها؛ وذلك لأنه أبصر في الأفق حربًا أخرى، أبصر حربًا يُحمَل عليها طوعًا أو كَرهًا، ويُعمِل ذهنَه بعد المعركة بعشرة أيام فيرى مصالحةَ النمسة بلا غُنمٍ ولا ضمٍّ، والذي يُغري الجنرالاتِ بفِيَنَّة هو نزواتُ أفئدتهم، والذي يحفز بسمارك إلى رأيه ذلك هو كونُه قطبًا سياسيًّا، لا كونُه قائدًا عسكريًّا أبرع من الجنرالات، وبسمارك عليه أن يُنفِّذ خطَّته من غير أن يُكدِّر الملكَ الجنديَّ، وولهلم في الحقيقة لم يرضَ بذلك لقول جنرالاته له إن الميجر بسمارك خوَّارٌ، فهنالك تذرَّع القطب السياسيُّ بسمارك الذي تُرك هو ومصادرُه الخاصة بوسائلَ أخرى فحاول متهكِّمًا أن يقوِّيَ الوضعَ الذي ألمع إليه في المجلس الحربيِّ السابق.

والواقع هو أن العاهل الفرنسيَّ كان يضغطه؛ ففي عشيَّة كُونِيغراتز عرضتْ فِيَنَّة البندقية على الإمبراطور نابليون الثالث إذا ما وقَف الزحف الإيطالي، ويفاوض الإمبراطور منفردًا بدلًا من التدخُّل مع الدول الأخرى، ويَعرِض على المركز البروسيِّ في بوهيمية أن يتوسَّط في سبيل السِّلم، ويتنفس بسمارك الصُّعداء! قبولٌ سريعٌ، وعدمُ طلب شيء من النمسة، وتسويةُ المسألة الألمانية بواسطة غولتز في باريس، ويستعدُّ بسمارك كما يقول: «لحَلْفِ يمينٍ لذلك الغوليِّ على مذهب هنيبال.» ويظهر في الحال بِنيدِيتِّي الذي تُرك يمرُّ من قِبَل حرَسٍ قليلِ الدُّربة، فيقف قريبًا من وِسادة بسمارك كأنه طيفٌ حقيقيٌّ، وهنالك يُبدأ بتبادُل البرقيات مع باريس، وكان يلوح زوال الخطر؛ وذلك لأن بسمارك كان يحاول أن يُحوِّل الدول العظمى، ثم أتت دولةٌ عظيمةٌ لتتدخل على غير انتظار، فظهر ملك بروسية.

حقًّا أن وِلْهِلْم دخل الحرب «لمقاصدَ دفاعية» والآن بعد أن ذاق هذا العاهل المسالم طَعْمَ النصر، وبعد أن حرَّضه جنرالاتُه؛ تحوَّل إلى طامع في التوسُّع، ومع أن الواقع هو أنه لولا قلمُ بسمارك ما استلَّ أحدٌ سيفًا يُصرِّح الملك مُغاضِبًا بأنه لا ينبغي للقلم أن يُبطِل ما ناله السيف، فيطالب بواسطة نابليون الثالث بشِلِيسْوِيغ وهُولْشتَاين وبزعامة بروسية على ألمانية وبغرامة حربية وبتنزُّل جميع أولياء الأمور المخاصمين، ومنهم ملك سكسونية، عن عروشهم وبضمِّ جميع تلك الأقاليم، فهذا هو السهم الذي أطلقه وِلْهِلْم نحو باريس، ولكن بسمارك أطلق سهمًا آخر من كِنانته، فعلى السفير أن يُقدِّم تقريرًا عن أثر تلك المطالب في فونتنبلو، وذلك «لأنني أعتقد أن من الممكن أن نصِلَ إلى اتفاق مع الإمبراطور بتعديل تلك الشروط تعديلًا معقولًا مقبولًا عندنا».

ويضغط نابليونَ الثالثَ وزراؤُه، «ويُهَزُّ في الحقيقة ويُسقَط في يده تمامًا»، وماذا يعمل؟ هو قد اقترف خطأً، فيجب الإبقاءُ على النمسة وسكسونية، وتَضطرب فرنسة ضد شَيْد إمبراطورية ألمانية، والرأيُ إذن أن يُفصَل الجنوبُ عن الشمال ولو ظاهرًا، ويبدو القيصر في الميدان فيقترح عقدَ مؤتمر، ويَعني هذا أنه يُريد الربح أيضًا، وتظهر العدوى التي ودَّ الطبيب عدمَ شمولها، وتستحوذ حُمَّى الضمِّ على وزارات أُوروبة، ويُعلَن تفشِّي الهَيضة٨ بالجيش البروسيِّ، ويتوقف على الهيضة عدمُ اشتعال حرب كبيرة.
وليُعقد الصلح مع النمسة في هذا اليوم إذن! لا في الغد إذن! ولا تجوزُ المجازفةُ بالنصر ثانيةً في سبيل خصامٍ حول كيلومتراتٍ مربعةٍ وملايين نقودٍ إذن! «فكلُّ شيءٍ يَعوق تسوية الأمر أملًا في نَيل فوائدَ ثانويةٍ يكون قد وقع على الرغم مني»، وإليك بِنيدِيتِّي مرةً أخرى؛ فهو يتكلم عن ضفَّة الرين اليسرى، ويَسحره الغالب بدلًا من أن يَطفِر٩ عليه، ويَلمع الغالب بدلًا من أن يقطع ويقمع، «والآن لا أقبل أيَّ تصريح رسمي، وإن كنتُ مستعدًّا للمناقشة في كلِّ ما يروقك، ولفرنسة كلُّ الحقِّ، ولنبحثْ في الوسائل التي يُحقَّق بها هذا الرأي، ولا تستطيع بروسية أن تُقطِع أرضًا بعد النصر، ويمكننا أن نبحث في إمكان صنْع شيء في أمر بلاتينة الرَّين، وأبسطُ شيء لدى فرنسة هو أن تُحدِّق إلى بلجيكة»، ويُفتن بِنيدِيتِّي بذلك فيُبرِق إلى باريس ناصحًا بالقبول، ويوصَل إلى اتفاق. وفي ٢٧ من يوليو سنة ١٨٦٦ يُعقَد مجلسٌ حربيٌّ في قصر نِقُولسبرغ، ويُعدُّ كلُّ أمرٍ، ولا يبقى غيرُ إقناع الملك.
وفكرتُ في الأمر من جميع نواحيه فقرَّرت أن أجعل قبول السِّلم التي تعرضها النمسة مسألةَ وزارة، وكان الوضعُ صعبًا؛ فما كان جميع الجنرالات إلا كارهين لترك دَور النصر ذلك، وما كان الملك في ذلك الحين إلا عُرضةً لتأثير مستشاريه الحربيين الدائم، فيُصغِي إلى نصيحتهم أكثر مما إلى نصيحتي، وما كنتُ أَقدَر من غيري على البصر بالمستقبل وبما يَصدر عن العالم من حُكم في الأمر، ولكنني كنت الشخصَ الوحيد العتيد الذي يفرض عليه منصبُه الشرعيُّ أن يكون صاحبَ رأي وأن يجهر به وأن يُدافعَ عنه، وما كنتُ أجهل أنهم يُلقِّبونني بكويستِنبِرغ١٠ في المقرِّ العام، وما كان هذا ليَروقَني كثيرًا.

تلك هي أخطرُ ساعاتٍ في حياة بسمارك، وليس مجلسُ الحرب أصعبَ شيء عليه، بل كانت الأيام التي سبقتْه، فكان عليه أن يُكوِّن فيها قرارَه فيشعرَ فيها بالمسئولية التاريخية أشدَّ أوقاته حرجًا، وبسمارك في تلك الأوقات وللمرة الأولى ولهذه المرة وحدها في الحقيقة كان مستقلًّا استقلالًا تامًّا، فلمَّا مضت أربع سنوات أوجب مختلفُ العوامل في فِرساي ضياعَ قدرته على المبادرة والبتِّ وحده، واليوم في المسألة النمسوية تُبصر بسمارك منفردًا، وفيما تراه يقضي نُهُرَه كلَّها في المفاوضات لِما يجب من تمام كلِّ شيء على يده؛ تراه يقضي لياليَه ساهرًا مفكِّرًا في أجمل ما يُعمل، ولو كان بسمارك ممن يُذعنون للملك وللقوَّاد لأمكنه دومًا أن يُقدِّم تقريرًا أو أن يستقيل عند الضرورة فينقذَ سُمْعتَه أمام البلاد والحفدة، ولكن بسمارك إذا ما قَرَّرَ فرض وجهة نظره فاحتمل تبعة ذلك وحده كملك مُطلق عارفًا أن نجاحه هو شفيعه وأن فلاحه سببٌ للصفح عنه.

وكان بسمارك مريضًا في ذلك الحين، وكان لذلك عاجزًا عن إبدائه مظاهرَ مؤثِّرةً ببِزَّته الرسمية الزرقاء وبتقلُّدِه حُسامَه، وكان الألم يُلمُّ ببسمارك فيَلزم غرفته مرتديًا رداءً مدنيًّا ويستقبل في غرفته الملكَ والقواد آتين من نزهة صباحيَّة كانوا يقومون بها في الهواء الطلق راكبين خيلًا، وبسمارك كان من الجُرأة مع ذلك ما يشرح لهم به عِلل قناعته، ويريد العسكريون متابعة الحرب، وينحاز الملك إلى رأيهم، ويظلُّ بسمارك وحيدًا، «ولم تُقاوِم أعصابي تلك العواملَ التي تؤثِّر فيَّ أيَّامًا ولياليَ، فأنهض صامتًا، وأذهب إلى غرفة نومي المجاورة وأبكي بكاءً شديدًا، وأسمع في تلك الأثناء انفضاض مجلس الحرب في الحجرة القريبة».

وحدَث له مثلُ ذلك منذ سبع عشرة سنة حينما كان يتكلم من فوق المنبر، وكانت آخرُ كلمات خاطب بها المجلس في ذلك الوقت هي: «إذا كان الوطنُ الألمانيُّ الموحَّدُ يُبلَغ على ذلك الوجه في الحقيقة، فإنه يأتي زمنٌ أشكُر فيه لمُبدِع نظام الأمور ذلك، ولكن هذا يتعذَّر عليَّ الآن.» وكان النائبُ بسمارك يُغالب هذه المعضِلة منذ سبعَ عشرةَ سنة، فيَنظر إليها عن كثَب تارةً وعن بُعد تارةً أخرى، وبسمارك حلَّ العُقَد، وبسمارك شَدَّها ثانيةً، وبسمارك حلَّها مرةً أخرى، وبسمارك في ذلك كلِّه يتعقَّب فكرة، لا كخياليٍّ ولا كمثاليٍّ، بل كمجاهد يعمل دومًا عملَ المستقتل على إزالة حجَر العثرة؛ أي على تقويض النمسة ذات اللغات السبع، وذلك بالهزوء والتهكُّم والتلقين والمنطق، واليوم يُدَحرج حَجَرَ العثرة وتُفتح الطريق، والكفاية فيما كان من حِقد، والكفاية فيما أُتي من تخريب، والآن وقت البدء بالبناء.

ولكن مليكه يقف مرةً أخرى في طريقه، والملك منذ سبعة عشر عامًا كان قد منعه من القضاء على الثورة التي عرض عليه أن يناهضَها بفلَّاحي شُونْهاوْزِن وبما هو أقوى من هذا الجيش الرمزيِّ، أي بعزمه الحازم، وكان ملك ذلك الوقت جبانًا، ثم أصبح مجنونًا فمضى لسبيله،١١ ويَحُلُّ وِلْهِلْم محلَّ أخيه، وينتحل مثل سلطانه، ووِلْهِلْم ليس بالجبان ولا بالمجنون، ووِلْهِلْم لم يُرِد القتال مع ذلك، ولم يكد وِلْهِلْم يرى ما كان قد رفضه يَسِير وَفْق فائدته حتى أعرض عن البناء وطمَح إلى الفتح، ويجلس بسمارك هنالك مواجهًا له مريضًا مُهرَّمًا لابسًا ثيابًا مدنية، وما كان الملك ولا القوَّاد ليروا فيه «مُوجِد نظامِ الأمور الجديد»، فيُعرِبوا له عن شُكرهم، ولم يساور بسمارك غضبٌ حينئذٍ، ولم يُهدِّد بسمارك بالاستقالة آنئذٍ، وبسمارك لم يَنبِس بكلمة وإنما يقتصر على الانزواء بعيدًا من عيون خصومه وآذانهم فيَسكُب من الدموع الكثيرة كما صنع منذ سبع عشرة سنة، ومن ذا الذي يقدِر في القصر هنالك على إدراك ما في هذا المسرح من منظر روائي مؤثِّر مُذكِّر بالمآسي الكلاسيَّة؟١٢

بيد أن الوقت ليس وقتَ عرض للمشاعر، ويرتبك الملك قليلًا وينهض ويَتبعُه قُوَّادُه إلى خارج الغرفة، ويظلُّ بسمارك في حجرة نومه وتَخنُقُه العَبراتُ ويسمع وقْعَ أرجلهم عند رحيلهم، ويعرف بشعوره الدِّبْلُمِيِّ ماذا يعني هذا، ويتمالك ويكتب ويُبيِّن الأسباب التي سيَّرته ويلتمس أن يؤذَن له في الاستقالة إذا لم يُجَب إلى ما أراد، وفي الغد يذهب إلى الملك حاملًا كتابَه بيده فيعلم في بَهْو الاستقبال آخرَ الأخبار عن الهيضة ومدى انتشارها فيُبصِر أنها ستشتدُّ في شهر أغسطس بهنغارية؛ نتيجةً لقلة الماء وكثرة الفاكهة الناضجة، فيجِد في غوائل الصحة العسكرية ما يُقوِّي عوامله السياسية، ويدخل على الملك، ويُبيِّن له أن النمسة إذا ما ضُربت بقسوة لم تلبث أن تحالف فرنسة، وروسية أيضًا، فتنتقم من بروسية، وأن هدْم النمسة يُسفر عن ثغرة تكون بابًا لثورات جديدة، وأن بروسية غنية عن النمسة الألمانية، «فجمْعُ النمسةِ الألمانية مع بروسية ليس عملًا صائبًا، فلا تَصبر فِيَنَّة على سلطان برلين، وعلينا أن نُسرع في تسوية الأمور بسرعة، وذلك قبل أن يكون لدى فرنسة من الوقت ما يُصبح لها من الصلات الوثيقة بالنمسة أكثر مما مضى.»

ويُصرِّح الملك بعدم كفاية هذه العوامل، ويُصِرُّ على تنزُّل النمسة عن سِيلِيزْيَة وأن يُؤخَذ من الدول الألمانية الأخرى قِطَعُ أملاك، ويَرُدُّ الوزيرُ جميعَ هذا، ويُحذِّر وِلْهِلْم من بَتْر شيءٍ من تلك الدول لِما يوجبُه ذلك من انتقام حلفاء لا يُوثق بهم، ولكن الملك ضابطٌ، وليس الملكُ أكثر من هذا، والملك يريد ألا يقف زَحْف الجيش الظافر، والملك لِما لم يجد ما يَدْحض به براهين بسمارك هَزَّ كتفَيه هازئًا وصاح قائلًا: «لا يجوز للجاني ألَّا يُجازَى! ويمكن أولئك الذين أَضلَّهم أن يَنجوا بسهولة!»

بسمارك : ليس لنا أن نقوم بوظائف القاضي، والسياسةُ الألمانية هي التي نُبالي بها، وليست منافسة النمسة لبروسية بالتي تستحقُّ العقاب أكثر من منافسة بروسية للنمسة، وعملُنا الرئيس هو أن نُؤسِّسَ وحدة ألمانية بزعامة ملك بروسية أو أن نخطوَ الخطوات الأولى نحو هذه الغاية.
وما كان بسمارك ليُجاوزَ هذه الجُمَل الثلاثَ القومية العادلة المُبدعة، وما كان بسمارك ليصوغها مُجدَّدًا، وكان بسمارك يعلم — كما نعلم اليوم — ماذا يَعني حجزُ ثمانية ملايين من الألمان عن إمبراطورية خضعوا لها منذ ألف عام، وهل كان بسمارك يعلم أيضًا أنه يفضُّ بذلك تلك النمسةَ التي سيعتمد عليها كثيرًا في قادم الأيام؟ كان دَمْل الجرح أعظم مُنية لبسمارك، فلم يُردْ ضمًّا ولا تعويضًا، وكان رُغْبُ بسمارك الوحيد هو إيجاد اتحاد صائب بين دول ذات أمور مشتركة، ويَعدِل بسمارك عما يُنال بالمدافع، ويضع بسمارك العقلَ فوق القوة، وبسمارك في نِقُولْسبُرغ يدنو بذلك المِنهاج من المبدأ السياسيِّ في القرن العشرين.

غير أن الرجل الذي يواجهه بسمارك قد وُلد في القرن الثامن عشر، غير أن وِلْهِلْم يَقصُر عن إدراك بسمارك، فيقول هذا: «إن من المتعذر أن أستمرَّ على عَرْضي، وأترك الغرفة معتقدًا ردَّ دعواي.» وأول ما يدور في خَلَد بسمارك هو أن يَلحق بفرقته ضابطًا، وأن يداوم على حرب يَعُدُّها حماقةً حاملًا سيفَه، ومُثبِتًا أنه لا يفتقر إلى شجاعة، ويعود إلى غرفته «في حال روحية أسائلُ نفسي فيها طرفة عين، عن أن الأفضل في الارتماء من النافذة الواقعة في الطبقة الرابعة، وما كنتُ لألتفت عندما سمعتُ فتح الباب، وإن خطَر ببالي أن الشخص الداخل هو وليُّ العهد الذي مررتُ أمام غرفته حين عودتي إلى غرفتي، ويضع يده على كتفي ويقول لي: تَعرف أنني كنتُ ضدَّ الحرب، وقد أبصرتَها ضرورية فغدوتَ مسئولًا عنها، فإذا كنتَ تعتقد أن غايتها بُلِغت وأنه لا بدَّ من عَقْد الصلح؛ وجدتَني مستعدًّا لمعاضدتك ولدعْم وجهة نظرك لدى والدي.»

ويمضي نحو نصف ساعة فيرجع وليُّ العهد فردريك إلى بسمارك هادئًا، ويقول له: «وافق أبي على ما ترى بعد جدال طويل.» ويُشرِّف وليَّ العهد تأييدُه لقضية خصمه، ويدلُّ هذا التأييد على مقدار اتِّباع الملك لوزيره، والملك يكتب على هامش مذكِّرة بسمارك مُغاضبًا: «بما أن رئيس وزرائي تركني أمام العدوِّ فلا أَقدِر على استبدال غيره به في هذا الوضع، وبما أن ابني جادلني في الأمر فوجدتُه على رأي رئيس الوزراء؛ فإنني أراني مُضطرًّا — مع الأسف الشديد — إلى قَضْم هذه التفاحة المُزَّة موافقًا على صُلحٍ مُخزٍ بعد ذلك النصر الباهر.»

ويشابه ذلك إحدى الروايات الهزلية حيث تُبصِر سيِّدًا شائبًا يودُّ أن يرقُص فيمنعه طبيبُه من ذلك مهدِّدًا بتركه، ويتعذرُ على ذلك الشيخ أن يستبدل بذلك الطبيب طبيبًا آخر فلم يرَ بُدًّا من قبول نصيحة ابنه، ويومئ إلى الجَوقة وتقف الموسيقى.

١ الرُّوَّع: جمع الأروع أو الرائع، وهو الذي يُعجبك بحُسنه أو شجاعته.
٢ كرج الخبز: فسد وعلَتْه الخضرة، والعامة تقول عفن.
٣ الدِّمْنة: المزبلة.
٤ العرى: الناحية، الساحة.
٥ الساقة: مؤخرة الجيش.
٦ نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ، والقرح: أثر السلاح بالبدن.
٧ برون: قاعدة مورافية.
٨ الهيضة: الكوليرا.
٩ طفر: وثب.
١٠ كويستِنبِرغ: عضوٌ في مجلس الحرب الإمبراطوري، كما جاء في رواية فالنشتاين لشيلر.
١١ مضى لسبيله: مات.
١٢ Classique.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤