الفصل السابع عشر

ويمضي أسبوع فيُنطَق بخُطَب العرش في برلين وباريس معًا، إنباءً للعالم بأن العدوَّ حمَل الأمة على امتشاق الحُسام؛ فالله الذي كان نصيرًا لحقِّ أجدادنا سيكون نصيرًا لحقِّنا، وهلمَّ جرًّا، ويدعو كلٌّ من البرلمانين ناخبيه إلى السلاح، ويتصرف كلٌّ من البرلمانَين في نقود ناخبيه، ويُحرِّق كلٌّ من البرلمانَين الأُرَّمَ١ على الآخر من غير عِرفان بالعدوِّ ومن غير حقدٍ عليه، وفي شهر يوليو ذلك وفي كلٍّ من البلدين يتجمع ضدَّ الحرب — ولأول مرة في التاريخ الحديث — بعضُ الناس على شكل جماعات، لا على شكل جماهير، ومن باريس يخرج نداءٌ موجَّه إلى عُمَّال جميع الأمم حاوٍ للكلمة الآتية، وهي: «يرى العمال أن حربًا تهدِف إلى هيمنة دولة أو إلى تأييد أسرة لا تكون إلا حماقةً جارمة»، ويُردِّد غيرُ بيان وغيرُ منشور ذلك المعنى، ويتجاوب عبرَ الرَّين أصداءُ ما يُلقى في مجلس سكسونية وبافارية الاشتراعية من الخُطب، وفي بروسية وحدَها لم يجرؤ أحدٌ على الكلام بذلك الأسلوب، وكلُّ ما استطاعه الخطيب الاشتراكيُّ ببرلين هو خفضُه الجناحَ دفاعًا عن الفرنسيين ضدَّ نابليون الثالث موصيًا بشَهر الحرب على هذا الإمبراطور، ثم أعلن مجلسُ العمَّال الدَّوليُّ العامُّ أن على العمال أن يشتركوا في حرب دفاعية ألمانية، وأن عليهم أن يقاوموا كلَّ محاولةٍ لتحويل هذه الحرب إلى حرب هجومية.
ويكون للشعور بأن فرنسة هي الفريق المعتدي بالغُ الأثر في الجذريِّين٢ بالمجالس، وفي باريس وبعد خُطَب تِيار وغَنبِتَّا النارية لا يرفُض قروض الحرب سوى عشرة أصوات، وفي برلين يمتنع ليبكنخت وبيبل عن التصويت مجتنبين الدفاعَ عن سياسة بسمارك وسياسة نابليون الثالث، وتجد بين الديمقراطيين الاشتراكيين مَن انتقد ذلك الوضع، فتقرأ في جريدة اشتراكية قبل كلِّ شيءٍ قولَها: «إن انتصار نابليون يعني انكسارَ العمال في جميع أوروبة، ويعني تجزئة ألمانية تمامًا، وتقضي مصلحتُنا بالقضاء على نابليون، لانسجامها مع مصالح الشعب الفرنسيِّ.»

وتقرأ في هذه الجريدة الشعبية بعد ثلاثة أيام: «دَعُوا القيصريةَ الألمانية والقيصريةَ الفرنسية تتنازعان الأمورَ هما والرأسمالية، وليس لنا — نحن الصعاليكَ — ما نعمله في الحرب!» وفي الغد يَصدُر منشور معاكس لذلك، ويدورُ حديثُ الشعب حول «ملكيَّة ليبكنخت»، وإن كان هذا قد صوَّت ضدَّ القروض.

ويُبدي كارل ماركس سِعةَ بصرٍ أوروبية فيكتب إلى إنجِلس من اليوم الأول: «إن ترتيل نشيد المارسلياز هو جدٌّ في هزلٍ كجميع الإمبراطورية الثانية، ولا فائدةَ لبروسية من القِرْديَّات القائلة إن يسوعَ هو ملاذي ومرتجاي والتي تُعدُّ مارسيلياز الألمان فيتغنَّى بها وِلْهِلْم الأول وبسمارك عن يمينه ووزيرُ الشرطة ستيبر عن شماله، ويظهر أنَّ الألمانيَّ الفلسطينيَّ سعيدٌ بأن له من الحظِّ في الوقت الحاضر ما يُطلِق به العِنان لعبوديته الفطرية، ومَن ذا الذي كان يظنُّ إمكانَ اتفاق مثل ذلك التعبيرِ النظريِّ لحربٍ قومية في ألمانية بعد سنة ١٨٤٨ باثنتين وعشرين سنة؟» ولكن تَحَاوُر المُبعَدَين لا يزال بلا صدًى.

وكانت عواطفُ أوروبة مع فرنسة خوفًا من بروسية، ويرى بسمارك أن يُوجِّه الرأيَ العامَّ الإنكليزيَّ حيث يُريد فيُرسل إلى جريدة «التايمس» صورةً عن مشروعِ معاهدةٍ سلَّمه بِنيدِيتِّي إليه في أثناء مسألة اللوكسنبرغ، فيَنُصُّ على رضا نابليون بالوحدة الألمانية إذا ما أُطلقتْ يدُه في ضمِّ بلجيكة، ويُسأل بِنيدِيتِّي رسميًّا، فيقول إن الفكرة هي لبسمارك وإن بسمارك هو الذي أملى تلك الوثيقة، ويُجيب بسمارك عن ذلك بأنه بحَث في الأمر مع نابليون مرارًا وبأنه إذا لم يَنشر الوثيقة في الساعة الحاضرة فإن الإمبراطور يقترح — لا ريب — إجابتَه إلى رغائبه على حساب بلجيكة وذلك بعد إتمام استعدادِه الحربيِّ، وذلك تجاه أوروبة العَزلاء، وذلك مع الاستناد إلى مليون جنديٍّ؛ أي وفقَ ما اقترح بسمارك نفسُه قبل إطلاق العيار الناريِّ الأول في سنة ١٨٦٦.

ومن الصحيح ما ذكره بِنيدِيتِّي، وإذا ما صدَّقتْه أوروبة دَلَّ ذلك على عِلمِ الناس بما يُتِمُّ بسمارك عملَه به من الدهاء، ويكتب إنجِلس قولَه: «وللأمر حسنةٌ واحدة، وهي تنظيفُ الثياب القذِرة علنًا، ولا بدَّ من خاتمة للمكايد بين بسمارك وبونابارت.»

والأمرُ الذي لم يعرفه أحدٌ في ألمانية، (وذلك لأنه لم يُعلَن إلا في سنة ١٩٢٦ حينما نُشِرت مراسلة الملكة فيكتورية) هو: كيف أن النفور الأعمى من بسمارك أدَّى إلى حَوك الأميرة فيكتورية البروسية الإنكليزية المولِد وزوجِها للمكايد ضدَّ الوطن، ولمَّا وضعت الحربُ أوزارَها زار وليُّ العهد إنكلترة، فكتبت الملكةُ فيكتورية في يوميَّتها ما يأتي:

أُوسْبُرْن، ٣٠ من يوليو سنة ١٨٧١، نهارٌ رائع، غداءٌ في الخيمة، اجتماعٌ بفريتز الجميل وحديثٌ حول الحرب، هو حسنٌ، هو أنيسٌ، هو طيِّبٌ، هو يمقت بسمارك مقتًا شديدًا، هو يقول إن بسمارك نشيطٌ ذكيٌّ، ولكن مع خُبث وخُلوٍّ من كلِّ مبدأٍ، هو يقول إن بسمارك صاحبُ السلطان والإمبراطورُ الحقيقيُّ، هو يقول إن بسمارك غيرُ محبَّب لأبيه «وِلْهِلْم» مع عجز أبيه عن عمل شيءٍ ضدَّه، ويرى فريتز أن المعاهدة التي نشرها بسمارك على أنها من اقتراح بِنيدِيتِّي هي من صُنْع بسمارك ونابليون معًا، ويَشعر فريتز بأنهم يعيشون على بُركان فلا يُدهِشه أن يحاول بسمارك شَهْر الحرب على إنكلترة ذات يوم!

فهذا هو شكرُ وارثِ عرش آل هُوهِنْزُلِّرن للرجل الذي كسَب له تاجًا إمبراطوريًّا تشرئبُّ إليه الأعناق!

والناس — كما حدث في سنة ١٨٦٦ — قائلون لسياسة بسمارك ما سوَّغت المدافع — التي لم يُصوِّبها بعدُ — سَيرَه، ويمكن ذلك الضابط الذي خاطب بسمارك مساء معركة كُونِيغْراتز أن يُكرِّرَ بعد المعركة الأولى قولَه: «إنك من العباقرة ما دام الفوز قد كُتِب للهجوم الأول، فلو عبَر العدوُّ نهر الرَّين لغدوتَ أكبر المجرمين!»

وعلى ذلك القطب السياسيِّ أن يتدخَّل في هذه المرة أيضًا؛ أي بعد بضعة أسابيع، ففي الليلة التي عقبَت معركةَ سيدان التمس التَّعِسُ وينبفن٣ من مولتكه أن يُبقيَ على الجيش الفرنسيِّ وأن يقهرَ الأمة الفرنسية بكرمه، فهنالك توسَّط بسمارك قائلًا: «لا يمكنُ الاعتمادُ على شُكر أميرٍ ولا على شُكر قوم ولا على شُكر الأُمَّة الفرنسية، ولا ثبات لوضْع الفرنسيين العامِّ؛ فالحكومات والأُسر تتغير عندهم على الدوام، ومَن يَقبض على زمام الأمور منهم لا يَرَ أن يرتبط في عهد من جاء قبله، والفرنسيون قومٌ حُسَّد، فلا يزالون يَنفَسون علينا نَصْرَنا في معركة كُونِيغْراتز مع أنَّ ذلك لم يُضِعْ لهم حقًّا، وما هو الكرمُ الذي يُنتظرُ منهم فيحمِلَهم على العفو عن نصرنا في سيدان؟» ويُطلب تسليمُ الجيش بأَسْره تسليمًا مطلقًا بلا أسلحة ولا رايات.

فبِمثل ذلك العبوس يبدأُ بسمارك سياستَهُ ضدَّ الجمهورية الفرنسية القادمة مُبصرًا قُرْبَ إعلانِها، وهو لا ينفكُّ يُبدي غلظةً في أثناء أشهُر المفاوضات الستة المُقبِلة، ويتَّخذ بسمارك سياسةً قاسية، وينتحل بسمارك سياسةَ الفاتح، ويَحِيدُ بسمارك عن السياسة التي اتَّبعها في نِقُولْسبُرْغ، وقد ذكر بسمارك أحدَ الأسباب التي يتمسك بها وهو عدمُ ثبات حكومات باريس، وسيأتي دَور الأخرى، وتَحفِزه هذه السياسة إلى ضمِّ اللورين، ولهذه السياسة نتائجُ لا تُحصى.

وفي اليوم الثاني من شهر سبتمبر يستدعيه نابليون باكرًا، فيجتمعُ به على الطريق في عَرَبة مُحاطًا بضبَّاط راكبين خيلًا، «وكان مُسدَّسي على زُنَّاري، فلما وجدتُني وحيدًا أمامه وأمام ستة ضباط ألقيتُ نظرة على سلاحي ذلك غيرَ قاصدٍ على ما يحتمل، ومن المحتمل أن وضعتُ يدي عليه بغريزتي، ومن المحتمل أن أَبصر الإمبراطورُ ذلك لِما رأيتُ من اغبراره مع الاصفرار»، ويتجلى اجتماعُ الرجلَين وأخلاقُهما في تلك الساعة كما لو كان الأمر في رواية؛ فالغالبُ يجد نفسه من فَوره تجاه عدوِّه، وإن شئت فقُل رجلًا تجاه ستة فيَقبِض بحركة طبيعية على مسدَّسه الذي يحمله للضرورة، والمغلوب يلاحظ وهو في عربته تلك الحركةَ فيصفرُّ وجهُه، وكلَا الرجلين يعرِف أنه لن يُطلَق عيارٌ ناريٌّ هنالك، وكلا الرجلين يتأثَّر بغريزته كأنه يتوقع إطلاقَ عيارٍ ناريٍّ في كلِّ دقيقة.

وإذا عدوتَ هذه المقدمة وجدتَ اجتماع الرجلين في كوخٍ حقيرٍ على جانب الطريق غيرَ ذي بالٍ. والفروسيُّ المتحرِّز بسمارك قال عن ذلك — بعد زمن — إنه «حديث رقصٍ موسيقيٍّ»، وبسمارك في ذلك الاجتماع وافق الإمبراطورَ، ولكن بعد الأوان، على أنَّ كليهما كان راغبًا عن الحرب، والمُبغض الأكبر بسمارك لم يحاول شهوةَ انتقام في تلك الساعة كما كان يصنع في أحوالٍ أخرى، ولم يكن المخاطَب، ولم يكن غرامون هو الذي يشكو ضعفَه ضارعًا، بل نابليون الذي وصفَه بسمارك منذ ثلاث عشرة سنة بأنه رجلٌ لا وزنَ له مع طيبة، ولم يَكره بسمارك نابليون قطُّ، وبسمارك وإن خشيَ الإمبراطورَ أحيانًا كان يسعى في اكتسابه على الدوام، وبسمارك يمكنه الآن أن ينظر إلى خصمه المقهور نابليون كما ينظر الرجل إلى امرأةٍ تمنَّاها طويلَ زمنٍ فنالَها في نهاية الأمر فصار لا يَمُنُّ عليها بسوى الشفقة.

وإذا نظرتَ إلى جوهر الأمر أبصرتَ أنَّ هذا الإمبراطور الأسيرَ مصدرُ زَعْجٍ لبسمارك، وبسمارك هو الذي قال في المساء بعد المعركة وبعد استسلام نابليون بما عُرِف عنه من وميضٍ ذهنيٍّ: «والآن يجب علينا أن ننتظر طويلَ زمنٍ ليتمَّ الصلح.» وبسمارك يخشى حتى ما تصير إليه الأمور من نصيحة بالسير على غِرار ما حدث بعد معركة كُونِيغْرَاتْز، ومن نصيحة باجتناب أيِّ تقدُّم عسكريٍّ آخر، ومن نصيحة بالبقاء في القسم الذي احتُلَّ من فرنسة حتى الآن! وذلك لأنه قُضِيَ على جيشِ العدوِّ، أو لأن هذا الجيش قد استسلم، أو لأنه حُوصرَ حصارًا تامًّا؛ وذلك لأنه لا بدَّ من انقسام الأمة الفرنسية إلى أحزاب فتُذعِنُ عن ضَعْف، ولو عَمِل بسمارك بتلك الآراء في ذلك اليوم كما صنَع قبل أربعةِ أعوام لكان هذا تتويجًا لسياسته في نِقُولْسبُرْغ، ولكنه إذا كان قد وجَد مصاعبَ في حمل الملك والقوَّاد على العدول عن دخول فِيَنَّة كان من المتعذر أن يُقنِع هؤلاء بالابتعاد عن باريس في هذه المرة، وكان أركان الحرب على حذرٍ تجاه مثلِ تلك الحماقات المدنية! وكان ذلك المدنيُّ يعرف أنَّ رَفْعَه إلى مرتبة جنرالٍ منذ أيام كُونِيغْرَاتْز لا قيمة له، وفيما كان بسمارك يدخل القِطارَ الذي يُسافر فيه إلى الجبهة سَمِعَ بوديلسكي يقول في الحُجيرة المجاورة: «أخذْنا حِذْرَنا في هذه المرة، فلن يستطيعَ بسمارك أن يدخل بيننا!»

والذي يدفع بسمارك — قبل كلِّ شيءٍ — هو الرأيُّ العامُّ الألمانيُّ الذي كان يخشى دخول فِيَنَّة بعد معركة كُونِيغْرَاتْز أكثر من رغبته في ذلك، فصارت الصحافةُ الألمانيةُ تطالب الآن بضمِّ الألزاس «ضمانًا تِجاه هجومٍ يقوم به أعداؤنا التقليديُّون في المستقبل».

والاشتراكيون وحدهم هُمُ الذين صرَّحوا بأنَّ الحرب انتهت بسقوط نابليون، وتُعلن الجمهورية بباريس في اليوم الرابع من سبتمبر، ويُعرَب عن عطفٍ على هذه الجمهورية في تظاهرات شعبية كثيرة تقعُ في ألمانية في اليوم الخامس من شهر سبتمبر، ويُمكن القول باشتمال كُلِّ عددٍ من جرائد العمَّال بعد ذلك الحين على عناوينَ كبيرةٍ مثل: «صلحٌ عادلٌ مع فرنسة! لا ضمَّ! مجازاة بونابارت وشركائه!» وتتداول الأيدي في جميع ألمانية بيانًا بقلم كارل ماركس يُنبئ فيه بأن ضمَّ الألزاس «يؤدي إلى عداوة قاتلة بين البلدين وإلى هُدنة لا إلى سِلم»، وهنالك يقف جنرالٌ في المؤخرة أعضاءَ لجنة الحزب ويُرسلهم إلى إحدى القلاع مقرَّنين في الأصفاد،٤ ويُوقَف يوهان جاكوبي أيضًا لِما كان من إلقائه خُطبةً في كونيغسبرغ حمَل فيها على فكرة الضمِّ فيهُزُّ هذا أقوياءَ الديمقراطيين هزًّا عنيفًا، وكان ماركس قد كَتَبَ في منتصف شهر أغسطس يقول: «يظهر أن مصدرَ التَّوقان إلى الألزاس واللورين طبقتان: إحداهما هي طبقةُ الندماء في بروسية والأخرى هي طبقةُ وطنيِّي الجِعَة في جنوب ألمانية، ويُعَدُّ ذلك أعظمَ مصيبة تُصاب بها أوروبة ولا سيَّما ألمانية، وعلى البروسيين أن يعلموا من تاريخهم الخاص أنه لا ضمانَ ضدَّ حرب انتقامٍ يقوم بها عدوٌّ مقهورٌ بتقسيم بلاده … إلخ.» ورأيٌ مثلُ هذا مما يلوح قولُ بسمارك به في بَدء الأمر.
قال بسمارك مؤكِّدًا في خطبة العرش عند اشتعال الحرب: «يُدعى الشعبُ الألمانيُّ والشعب الفرنسيُّ، وهما اللذان يرغبان في التمتع ببركات الحضارة النصرانية وبرخاءٍ كبيرٍ، إلى تنافسٍ نجيع٥ أكثرَ مما إلى تنافس مُسلَّح مضرَّج بالدم، وقد عرَف أولياءُ الأمور في فرنسة كيف يستغلُّون كرامةَ جارنا الشعبِ العظيم الصالحةَ الحساسةَ ويُسيئون استعمالها وفقَ مآربهم الخاصة وشهواتهم الشخصية.» ولا تجد رجلًا في العالم يمكنُه أن يتكلَّم بصراحةٍ ولباقة كما صنع بسمارك في اليوم الأول من الحرب مخاطبًا العدوَّ وأوروبة معًا على ذلك الوجه، ولا تجد قطبًا سياسيًّا فرَّق بوضوح بين أُمة وحكومتها كما فعل بسمارك على ذلك الوجه، والشيءُ الوحيد الذي كان بسمارك لا يُفكِّر فيه في تلك الساعة المُلحَّة — على ما يحتمل — هو انهيارُ نابليون مولًى ورجلًا بسرعة، وبسمارك حتى عند إدراكه مثلَ تلك العاقبة الحائقة٦ قد غاب عنه — لا ريب — تقديرُ ما يمكن أن يكون لذلك من الفعل في فريقٍ من أبناء بلاده.

وفضلًا عن ذلك بدأ بسمارك بيانَه بالكلمة الآتية، وذلك حينما وَطِئتْ قَدَمَا الملك وِلْهِلْم أرضَ فرنسة في منتصف شهر أغسطس: «بما أن الإمبراطور نابليون هجَم بحرًا وبرًّا على أرض الأُمَّة الألمانية التي كانت ترغب — والتي لا تزال راغبةً — في العيش بسلامٍ مع الشعب الفرنسيِّ …» وفضلًا عن ذلك أصدر فردريك شارل أمرًا يوميًّا جاء فيه: «لم يُسأل الشعبُ الفرنسيُّ عن رغبته في شَهر حرب طاحنة على جاره، فلا داعيَ إلى الحقد.»

ثم ماذا حدَث؟ مضتْ خمسةُ أسابيع على تلك البيانات فجاء إلى المقرِّ العامِّ للغالب أولُ وزير لخارجية الجمهورية ليطلب هدنةً في أثناء انتخاب نُوَّابٍ لمجلسٍ وطنيٍّ، أفلم يكن لدى جول فافِر ما يأمُل به أن يكون الفارقُ الواضح بين نابليون وشعبه أكثرَ من جملة بسيطة؟ أفلم يكن لدى خصوم تلك الحرب في البلدين ما يرَون به أن ذلك الشعب أقام الدليلَ على مناحيه السلمية بإسقاطه حكومتَه المِحرابَ٧ ورفعِه خصومَها إلى السلطة مُحوِّلًا النظامَ الإمبراطوريَّ إلى نظام جمهوريٍّ تحويلًا أساسيًّا؟ أفلم يكن تِيار وفافِر قد حكمَا على الحرب في يوم الفصل مع رفقائهما الذين رفضوا الموافقة على القروض فتسلَّمَا الآن إدارة الجمهورية؟
ومن المؤسف أن كان النظرُ لا يُطبَّق على العمل في كلِّ وقتٍ وإن أدَّى اكتسابُ اثنتَي عشرة معركةً إلى فَرْق، فبسمارك الذي كان قد أعرب في خطاب العرش عن عطفه على الشعب الجار العظيم لأنه ضُلِّل مِن قِبَل أناسٍ يسيرون وراء مصالحهم الخاصة، وبسمارك الذي قال في بيانٍ أذاعه في منتصف شهر أغسطس: إن الألمان لا يزالون راغبين في سِلْم مع فرنسة، هو بسمارك الذي أصدر نشرتَين لتُبلَّغَا إلى السفراء فصرَّح فيهما بأن الأمة الفرنسية بأسرها هي المسئولة عن حرب الفتح، وفيما كان فافِر يذكر لبسمارك أنَّ الفرنسيين طردوا إمبراطورهم المِحرابَ وأنهم يريدون السِّلم وأنهم يُقدِّمون تعويضاتٍ؛ قال بسمارك لرسولٍ مغامر أَرسلتْه الإمبراطورةُ أوجيني إليه:
لا نكترث لشكل حكومتكم؛ فلو كان نابليون ملائمًا لمصالحنا لأعدناه إلى باريس … ولو كنتُ واثقًا بأن سياستكم هي سياسةُ فرنسة لحمَلْت الملك على الرجوع غيرَ مطالب بأرضٍ ولا بدانقٍ،٨ ولكنكم لا تُمثِّلون سوى أقلية لا يُؤبَه لها، ولا نرى فيكم ولا في أيَّةِ حكومةٍ تَخلفُكم أيَّ ضمانٍ لنا، ولنا أن نُفكِّر في سلامتنا المقبلة، فنطالبَ بجميع الألزاس وبجزءٍ من اللورين مع مدينة ميتز.
وكان واقفًا هنالك جول فافِر المحامي الشاحبُ اللون والغليظ الشفتين والصاحب لِلِحْيَة شعثاء كبيرة، فيأخذ «معطفَه المِغبار٩ وعَمْرتَه١٠ المتجعِّدة»، ويقول: «إننا لن نتخلى عن ذراعٍ من أرضنا ولا عن حجرٍ من حصوننا!» ويروقه بسمارك الغضوب مع ذلك فيقول عن هذا السياسيِّ الألمانيِّ: «إنه وقورٌ عنيف، فتُلطِّف عُنفَه بساطةٌ طبيعية وبعضُ البشاشة، وقد قابلني بالحُسنَى، وبأدب ومن غير تصنُّع وغِلظة، وهو لم يلبثْ أن أَظهَر طلاقةَ وجهٍ وأريحيَّةً فلم يفارقه ذلك حتى نهاية الاجتماع.»
وكان لِما طَرأَ على بسمارك من حالٍ نفسية جديدة نتائجُ خطرةٌ في نصف قرن، وكان يمكن بسمارك أن يحمِل الملكَ على السلْم على الرغم من جميع القوَّاد كما يَنِمُّ عليه تاريخُ الأشهُر الآتية، وما كان من ذهابه إلى أن سلامة الرَّيخ تكون بالتنزُّل عن الألزاس واللورين فيدلُّ على إظلام ذهنه، ولمَّا تمضِ سنةٌ على إسرار بسمارك إلى كِيزِرْلِنْغ بقوله:

وفضلًا عن ذلك أسألُ: ماذا تكون النتيجة إذا ما كُتِب النصر لبروسية على فرنسة؟ ولنفترض أن الألزاس غدَتْ قبضتنا، فيجب علينا إذ ذاك أن نُحافظ على فتحنا بأن تكون لنا حاميةٌ دائمة في ستراسبُرغ، وهذا وضعٌ متعذِّرٌ؛ وذلك لِما يتفق لفرنسة من حلفاءَ في نهاية الأمر، ولِما يكون لنا بهذا من سوء حالٍ حينئذٍ.

ولدينا قولٌ آخرُ لكارل ماركس وهو «تكون هُدنةٌ بدلًا من السِّلم!» وبسمارك قد أبصرَ الحربَ آتية لا ريبَ فيها، وكان يَسُرُّ بسمارك أن يرى هذا؛ وذلك لأن الربح الذي كان يطمعُ فيه من الحرب هو بناءُ الرَّيخ، وما كانت أفكار بسمارك ورغائبه لتُوجَّهَ ضدَّ جار لأنه جارٌ مُتبرِّم، وكاد الفرنسيُّ ينسى في خمس وخمسين سنةً الغزوَ الألمانيَّ الأخير، وأعصابُ فرنسة لم تضطربْ في السنوات الأربع الأخيرة إلا لتوَسُّع بروسية، ولا تَجِد في أية مذكرة من مذكرات بسمارك ولا في أية خُطبة من خُطَبه ولا في أية رسالة من رسائله ولا في أيِّ حديثٍ من أحاديثه الخاصة كلمةَ العدوِّ التقليديِّ، أجلْ إنه لا يحبُّ الفرنسيين، ولكن مَن هو الذي يُحبُّ؟ والآن — بغتةً — وخلافًا لبياناته الأخيرة يجد بسمارك أن من غايات الحرب سلامةَ الرَّيخ التي هي وليدة هذه الحرب، ومن ثَم تُبصِر تبدُّلًا تامًّا في المبادئ الأساسية لسياسته العالمية، فقد تَحوَّل بسمارك الباني إلى بسمارك الفاتح.

وتسأل أوروبة: لماذا لا تكون تانِك الولايتان محايدتَين ما دامتَا راغبتَين في الحياد، وعن هذا يُجيب بسمارك مؤخَّرًا في تصريحٍ ألقاه في الرَّيشتاغ حيث يقول:

يعني ذلك إقامةَ سلسلةٍ من الدول المحايدة من البحر البلطيِّ إلى جبال الألب، فيؤدي هذا إلى تعذُّر هجومنا على فرنسة برًّا … إن من عادتنا أن نحترمَ المعاهداتِ والمحايدات (بخٍ بخٍ!) … ولفرنسة الوقايةُ من ناحيتنا إذن، وذلك على حين ليس لنا من الوقاية البحرية شيءٌ ما دام أُسطولُنا أضعفَ من أسطول فرنسة.

وهذا سببٌ ثانويٌّ، والسبب الرئيسُ هو أنَّ بلجيكة وسويسرة ترغبان في البقاء دولتَين مستقلَّتَين محايدتَين مع أن الألزاس واللورين لا تُريدان ذلك.

… ومما يجب توقُّعُه هو أنَّ العناصر الفرنسية تظلُّ كما هي في ذَينك البلدين زمنًا طويلًا، فتبقى إلى أمدٍ بعيد مرتبطةً في فرنسة بمصالحها وعواطفها وذِكرياتها، فإذا ما وقعتْ حربٌ فرنسيةٌ ألمانية جديدة أثَّرت هذه العواملُ في تلك الدولة المحايدة الجديدة، ولا نجد ما يُفعَل إذن غيرَ وضْع ذينك البلدين وما فيهما من حصون تحت السيطرة الألمانية وغيرَ الدفاع عنهما كصَياصٍ١١ ألمانية في وجه فرنسة، فبذلك نعوق بدْءَ كلِّ هجومٍ فرنسيٍّ منتظرٍ على ألمانية لعدة أيام.

وعداوةُ السكان كانت أولَ حائل دون تحقيق ذلك الرأي، وكان يوجد مليونٌ ونصفُ مليونٍ من الألمان لهم ما للألماني من المزايا، فكانوا يعيشون بين أبناء أُمَّةٍ لها مزايا أخرى غير تلك، فكان لهم بذلك مقامٌ مرموق، وإن من خُلُق الألمانيِّ أن تكون له أفضليةٌ على أقربِ جارٍ إليه، وكان يوجد خلفَ أهل الألزاس واللورين باريس مع سنائها وفرنسة مع عظمتها ووحدتها، فإذا ما واجهوا أبناءَ جِلدتهم من الألمان قالوا إن باريس لنا! وجودُ هذا النفور أمرٌ لا ريب فيه، وعلينا أن نتغلَّبَ عليه صابرين، ولدينا، نحن الألمانَ الآخرين، وسائلُ كثيرةٌ، والحُكم من دأبنا على العموم، وحكمُنا يكون قليلَ الحكمة في بعض الأحيان، ولكنه يكون مع الزمن أكثرَ إنسانيةً وأدعى إلى الخير من حُكم أولياء الأمر بفرنسة (ضحك) … ولكن لا ينبغي لنا أن نتمدَّحَ فنقولَ إننا سنصِل إلى تلك الغاية بسرعة فنرى المشاعرَ الألمانية في الألزاس تحوَّلت فصارت كما في تُورِنْجيَة.

ومن خلال جميعِ تلك العوامل المعقولة الصائبة تُبصِر اكتراثَ القطب السياسيِّ ولو جَرُؤَ هذا القطبُ السياسيُّ بعد صلحٍ ظافرٍ أن يقول لبني قومه عند الكلام عن أسلاب الحرب: إنه لا معدلَ عن أخذِها لأقام دليلًا آخرَ على أنه لم يحتفظ بها بلا طولِ رويَّة وإنعام نظر، ولِمَ أخذها؟ صَرَّحَ بسمارك بعد سنوات كثيرة لممثلي ولايتَي الألزاس واللورين بأنه ضمَّهُما على الرغم منه وعملًا بضغط القُوَّاد العسكريين.

تجدُ الأسباب الأولى في مزاجِ الجيش وقوَّاده؛ فالحقُّ أن معاركَ كبيرةً وخسائرَ عظيمةً كانت هنالك، وكان العدوُّ سيِّئَ الاستعداد، فلا يستطيعُ الدفاعَ عن حصونه طويلَ زمنٍ، وكان الأمراء والجنرالات سُكارى النصر، فأضِفْ إلى ذلك كلِّه مقتَ بسمارك لجيرانه المتكبِّرين الذين لا يحتملون قيامَ دولة قوية عبرَ الرَّين مساويةٍ لدولتهم، وهذا إلى العاملِ الألمانيِّ القوميِّ القائم على شعور بسمارك بأن ألمانية مُعرَّضةٌ لخطَر هجومٍ فرنسيٍّ جائرٍ، وكان ملكُ ورْتِنبرغ قد بيَّن لبسمارك — ذات مرةٍ — أنَّ ضعْف البلاد من تلك الناحية ممَّا يَعُوق اتجاهَ جنوب ألمانية نحو الوحدة، وبسمارك قد عرَض الأمرَ على الرَّيشتاغ بقوله: «إن الطرف الذي تدخُل به زاويةُ الألزاس في ألمانية بالقرب من فيسِنْبرغ يَفصِل بالحقيقة جنوبَ ألمانية من شمالها بأكثرَ مما يوجبه خطُّ نهر المِين السياسيِّ.» بيدَ أن هذه الملاحظةَ الواقعية تنطبق على الألزاس وحدها، وهي لا تنطبق إلا على قسمٍ من هذه الولاية.

وبسمارك — فضلًا عن ذلك — سخِر من الأقاويل الوحديَّة الألمانيَّة التي زُعِم أنها أَلهبَت الحماسةَ خلف خطِّ القتال، فقال: «إن الحصون هي التي نحتاج إليها؛ فالفكرةُ القائلةُ بألمانيَّة الألزاس هي من اختراع الأساتذة.» وكان بسمارك يعلم أن وضْع الأمير الناخب الأكبر تِجاه لويس الرابع عشر هو السببُ الرئيس في ضياع الألزاس، وأنه ليس لآل هُوهِنْزُلِّرن أدنَى ادِّعاء ممكن بهذه الولاية، وقد اعترف بسماركُ بما في ضمِّ اللورين من خطَر، فقال في اليوم السادس من سبتمبر: «لا أُريد ضمَّ اللورين، ولكن الجنرالات يَرون أنَّ مِيتْز ضروريةٌ وأنها تعدِل قوة ١٢٠٠٠٠ جنديٍّ.» ولم يَلبث بسمارك أن أفضى إلى دِبلُميٍّ إنكليزيٍّ بقوله: «لا نطمع في الألزاس ولا في اللورين، ويمكن فرنسة أن تحتفظ بهما على أن يتعذَّر عليها اتخاذُهما نقطتَي ارتكاز في حرب تقوم بها ضدَّنا، وإنما نحتاج إلى ستراسبُرغ وميتز.»

ولكن أهمَّ سببٍ حفز بسمارك إلى ذلك الضمِّ البادي الخطر هو فكرةُ الرَّيخ التي كانت في دور التكوين، ويلوح لبسمارك أنَّ قلوبَ الناس القاسية تَلين وتصير مرنةً ﺑ «غضبة عامة»، ثمَّ إن هنالك عهدًا بين الحلفاء الألمان بأن تكون تلك الولاية مشتركةً بينهم، فرأى بسمارك أن زواج شمال ألمانية بجنوبها يبدو جليًّا لهما بتعاونهما على تربية هذا المولود الجديد.

وفي يوم سيدان قال أمينُ سرِّ بسمارك دِلبروك كلمتَه: «من أرض الرَّيخ (ولايتي الألزاس واللورين) يَلِد الرَّيخُ (الإمبراطورية الألمانية).»

١  فلانٌ يحرق عليك الأُرَّم: إذا تغيَّظ فحَكَّ أضراسه بعضها ببعض.
٢  Radicaux.
٣  وينبفن: قائد الجيش الفرنسي في معركة سيدان المشهورة.
٤  مقرنين في الأصفاد: مشدودين في الأغلال.
٥  النجيع: النافع.
٦  حاق بهم العذاب: نزل بهم.
٧  المحراب: صاحب الحرب، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
٨  الدانق: سدس الدرهم.
٩  المغبار: ما يعلوه الغبار.
١٠  العَمرة: كل شيءٍ يُجعل على الرأس من تاجٍ وعمامةٍ وغيرهما، والبرنيطة هي المقصودة هنا.
١١  الصياصي: الحصون، وكل ما يُمتنع ويُتحصن به فهو «صيصة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤