الفصل الثاني عشر

«حقًّا إنني خياليٌّ عاطفيٌّ بطبيعتي؛ فالذين يصفونني يقترفون خطأً بتصويري رجلَ عنفٍ»، ولا ريب في أن بسمارك يَصفُ وجهًا من طبيعته في هذه الكلمات، ومن عادة بسمارك في شبابه أن كان يُبدي — في الحين بعد الحين — شعورَ النافر من الحياة على طراز بايرون، وبسمارك وإن مُلئ بحبِّ الكفاح في كهولته، كان أميلَ إلى السوداء في شَيبتِه، وما أبصره بسمارك في صباه فقد حُقِّق بأكثرَ مما كان ينتظر، وما كان من دوام اضطراب فاوست واستمرار قِحَة مِيفِيستوفِل فقد أثبت له بُطْلَ ما فعل، ولو حدث أن معلمًا غبيًّا أراد إقناع تلاميذه بأنه لا فائدة من كلِّ جُهدٍ نفسيًّا ما وجَد خيرًا من بسمارك مثالًا كلاسيًّا،١ ولكنك لا تجد بين مَن هم حوله مَن يُدرك هذه الأحوالَ النفسية فيرحِّب بها، وتقول حَنَّة للوسيوس:

«فقَدَ أُوتُو صوابَه عندما انتحر خادمُه هنري بإطلاق النار على نفسه، فصار لا ينام وصار يقضي جميعَ وقته في التفكير في المآسي، وفي مثل هذه الأحوال نُبدي ضروبَ الغباوة مع الكلاب وغير الكلاب ترويحًا له.» وهكذا لا يُدرَك أمر بسمارك فلا يُسار معه كما يجب، وعلى ذلك الوجه يعيش بسمارك بين مَن يُحبُّونه، غير أنَّ تلك الأفكارَ القاتمة تأتي في الوقت المناسب، ومن ذلك أنه لمَّا بلغ الثانية والستين من سِنِيه وفي أحد الأيام وحينما كان في أَوْجِ سلطانه وبعد أن التزم جانب الصمت حينًا من الزمن مفكِّرًا متأمِّلًا نَطَق بالكلمات المؤثرة الآتية: «ما أقلَّ ما اتَّفق لي من فرَح وارتياح بفعل ما قمتُ به من عمل! فلم يُحبَّني أحدٌ من أجل ذلك ولم أجعلْ أحدًا سعيدًا بذلك، ولا أستثني من ذلك نفسي ولا مَن هم أعزاء عليَّ.»

ويُحتَجُّ عليه، ويقول مستمرًّا غير ملتفت: «أجل، إنني جعلتُ من البائسين أُناسًا كثيرين، ولو لم أَكُ هناك ما اشتعلت الحروبُ الثلاث، وما قُتل ثمانون ألف جندي، وما لبِس آباءٌ ولا أقرباء ثيابَ الحداد، وإلى الله قدَّمتُ حسابي عن ذلك، ولم أَجِد من جميع ذلك غيرَ سرورٍ قليل، أو إنني لم أجد مما صنعتُ سرورًا قليلًا ولا كثيرًا، بل وجدتُ بدلًا من ذلك كدرًا وهمًّا ونصبًا.» وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يتكلَّم فيها على ذلك الوجه، فقد روى هُولْشتاين وبوشر عنه أمورًا مثل تلك كثيرة، وهنا نُبصِر مرةً أخرى مظاهرَ للروح اللوثرية التي تَنشد المسئولية، لا الهرب منها، وهنا نُبصِر أيضًا ادِّعاء الوصوليِّ الذي لا يُدرك البروسيون الخُلَّص أمرَه كالملك أو رون.

وفي أوقات الملل تلك يتوجَّه إلى ميدان السياسة في بعض الأحيان، وهنالك يتجلى العُجب، وفي سنة ١٨٧٧، وفي إحدى أمسياته البرلمانية، قال على مسمعِ عشرين شخصًا أو أكثر: «إذا ما ذهب رجلٌ إلى الصيد باكرًا فصار يُطلق النار على أيَّة طريدة يُبصرها، وإذا ما قطع بضعة فراسخ فأصمَى طيرًا برِّيًّا، وإذا ما قضى نهاره في القنص فملأ كيسه بالطرائد، وإذا ما دنا من منزله فبدا جائعًا ظامئًا تعبًا، فلم يفكِّر في غير الراحة، فلا يمشي خطوةً واحدة صيدًا لزوجين من الحَجَل، بيدَ أنه إذا ما جاء هذا المنهوكَ رجلٌ وقال له إن في الغابة هِلَّوفًا٢ تحرَّك دمُ الصياد في عروقه فنسيَ نصبَه وجاب الغاب طلبًا للقنيص، وإذا سألتم عن أمري قلتُ لكم إنني ما فتئتُ أصطادُ منذ الفجر، ولم أعُدْ إلا متأخرًا ولم أعُدْ إلا تَعِبًا تاركًا للآخرين اصطيادَ الأرانب والحِجلان، ولكنكم إذا ما أنبأتُموني بأنكم رأيتم خنزيرًا برِّيًّا كان لي شأنٌ آخر.»

وبسمارك بعد مثل ذلك التعب يصير مرحًا إذا ما ساوره سابقُ مجونه، وهنالك يبدو مِيفِيسْتُوفِل الحقيقيُّ مُسِرًّا بقوله الآتي إلى أقرب صديق له في الغاب: «كنت أظنني أريبًا عندما كنت شابًّا، ولكنني أعتقد الآن أنه لا سلطان لأحدٍ على الحوادث، وأنه لا أحد عظيمٌ أو قويٌّ، ومما يُضحكني أن أُمدَح بأنني حكيم بصير مؤثِّر في العالم تأثيرًا كبيرًا، وفيما يتساءل الدخلاء عن المطر أو الصحو في الغد يُلزَم مَن كان في مثل وضعي بأن يُقرِّر وجودَ مطر أو صحْو في الغد؛ ليسير وفقَ قراره، فإذا ما أصاب المحَزَّ قال جميعُ الناس: يا لَه من صاحب بصرٍ حديد! يا له من رجل موهوب! وإذا ما أخطأ ضربه جميعُ العجائز بعصِيِّ المكانس، ولو لم أتعلَّمْ من ذلك غير التواضع لكفَى!»

هذه الكلمة تُشابه ما كان قد قاله لعدوِّه أرنيم مُغاضبًا، هذه الكلمة قالها لصديقه مُوتْلي، هذه الكلمة تنطوي على عدمية عميقة، هذه الكلمة تشتمل على اعتراف رجلٍ ذي شعور عالٍ بنفسه، وقائل هذه الكلمة التي نطَق مُسارًّا بها يُنكر كلَّ ادعاء بوجود مزية شخصية له، وقائلُ هذه الكلمة يُقرُّ — وهو في ذروة المناصب — بأنه جبريٌّ كما كان في مقتبل شبابه، وقائلُ هذه الكلمة يَصِل الآن وبعد سلوك سُبُل ملتوية وطُرُق ذات مكاره إلى حظيرة الاتضاع التي يستترُ تحتها هزوءُ مَن يزدري الرجال.

وفي تلك الأحايين تُشرق أسرَّة وجهه، وتعود إلى المغامر روحُه فيغتبط بذلك، ويشتركون ذات مرة في وليمة يُقيمها مكتري فارزين، ويُسمَع من الباب نوريٌّ يُغنِّي، ويُرسل إليه قدحٌ من رحيق الشنبانية، ويدخل مع قيثارته وينحني أمام بسمارك كما ينحني بسماركُ أمام مليكه، ويُنشد أغنيةً عن الشباب والحبِّ ويشرب نخْب الأمير وينصرف مغرِّدًا، وتسأل حَنَّة عن الوجه الذي يُساعَد به على قضاء حياة منتظمة، فيقول بسمارك: «لا يؤدِّي هذا إلى خدمة رجلٍ مثله، فحبُّه للحرية أعظمُ من رغبته في العيش المنظَّم، أعظمُ من رغبتنا نحن الناس فيما نُسمِّيه سعادةً.» ويسكت بسمارك ويُنعِم النظر في وجهة ذات النوري كما لو كان آيةً على سابق فتائه، ثمَّ يقول: «حقًّا إن هذه حالٌ محسودة! حقًّا إن هذه حياةٌ محسودة!»

ولتجدنَّه أحرصَ الناس على الحياة مع ذلك، و«لتجدنَّه ككلِّ شخص عاديٍّ في ذلك»، ويكون على واحدةٍ من تلك النُّصَب فيُحدِّث أخاه عن شعوره حول مسألة الحياة بقوله: «تزيد سنواتُنا الأخيرة سرعةً كما تزيد سرعةُ الحَجَر عند سقوطه، ولا أقول إن هذه الحركة المتزايدة أمرٌ يسرُّني، وإني — وإن كنت أذهب إلى أن كلَّ يوم راهنٍ هو آخر أيامي — أراني عاجزًا عن عدِّ هذا الذهاب أمرًا سارًّا، والحياةُ شيءٌ مُحبَّب إليَّ، لا لأن ضروب الفوز الخارجيِّ هي التي تُرضيني وتَسحرني؛ بل لأنه يشقُّ عليَّ كثيرًا أن أُفصَل عن زوجي وأولادي، وكان الحظُّ حليفي في منصبي الرسميِّ، وأقلُّ من ذلك أمري في شئوني الخاصة، غير أن أكثر ما بارك لي به الربُّ فأضرَعُ إليه أن يُديمَه هو السعادةُ المنزلية والرفاهة البيتية وصحةُ أولادي البدنية وعافيتُهم الأدبية، وليس عندي من الأسباب ما أشكو منه إذا سلمتْ هذه الأشياء كلُّها.»

وما يسعى إليه بسمارك من جعْل حياة أولاده رغيدةً فينمُّ على أثرته، ويصف صديقٌ لأسرته ابنتَه «بالغرابة أكثر مما بالجاذبية»، فتُصبح مع السنين غليظةً ظاهرًا وغبيَّة باطنًا، وتراها شاردةَ الفكر ساخرةَ المزاج، وتراها غافلةً رَفْلاء،٣ وتراها من عدم الترتيب ما وجَد معه أُولِنْبُرْغ في السفارة، التي غادرتها هي وزوجُها رانْتُز ومنذ قصير وقت، وحول سريرهما اثنا عشر كرسيًّا خيزُرانيًّا وثلاثة أقراصٍ من المعجونات أنصافُها مأكولات، وما وجد معه في جميع الرُّقَع هنالك نُثارَ عصافيرَ وخنازير وعُلَبَ ورقٍ لوضْع القُبَع، ويقول بسمارك لصديقته سِبيتْزِنْبِرغ: «أراني في الغالب على خلاف مع ماري، فإذا عدَوْتنا وعدَوْت زوجها وأولادها وجدتها غيرَ مكترثة لأحد، فهي مكسالٌ، وفي كسلِها سرُّ عدم اكتراثها.» ويُذكر له أن ابنته لا تُشاطره مشاعرَه فيجيب عن هذا بقوله: «وقُلْ مثلَ هذا عن زوجي؛ ولهذا ناحيتُه الحسنةُ، وأجدُني في منزلي عائشًا في جوٍّ آخر.»

وإذا نظرتَ إلى ابنَيه وجدتَهما مساعدَين لأبيهما حينًا من الزمن ووجدتَ هربرت وحدَه مساعدًا له، وهربرتُ وإن كان أقلَّ الأخوين موهبةً، أكثرهما نشاطًا، وأذكى الأخوين بيل كسولٌ، ويتزوج بيل ابنةَ عمه، ولا يُؤذن لهربرت في الزواج بمَن يهوى فؤادُه، وكلا الأخوين شِرِّيبُ خمر، وكلا الأخوين يموتُ كهلًا؛ أي في الخمسين من عمره، ولم يَظهر في آل بسمارك عبقريٌّ قبل أُوتو، وجدُّ أوتو لأُمِّه هو الرجل الممتاز بين آل مِنكِن، ويُسفر تزاوج العنصرين عن ظهور عبقريٍّ فريد، عن ظهور أوتوفون بسمارك، ثمَّ يبدو الانحطاطُ في أولاد هذه الداهية الذين يلوحُ أنهم وَرِثوا عن أبيهم عدمَ الاعتدال وعن أُمِّهم قلةَ التضحية.

ولا يكادون يُدخلون إلى بيت أبيهم ما هو جميلٌ أو مليح، أجَل حاول أكبرُهما ذلك ذات مرة، ولكن ما وقع من محاولته معارضةَ والده في بعض تصرفاته؛ أدَّى إلى كفاح خرَج الابن منه مغلوبًا.

وتم قطع العلاقات السياسية بالمحافظين منذ زمن طويل، ولم يبقَ من ذلك سوى ذكريات الحقد القديم حينما أُولع هربرت بالأميرة كارولات وغَدا خِدْنًا لهذه السيدة التي انفصلت عن زوجها بعضَ الانفصال، وتطلُب الطلاق؛ لتُصبح زوجًا لهربرت، أو كنَّةً لبسمارك — على الأصح — ويبلغ الأمر من هذه السيدة ما تَميلُ معه إلى انتحال البروتستانية وصولًا إلى هذا الغرض، وهي لِما عليه من جمال باهر، ولأنها من أُسرة ممتازة، (وإليزابتُ هذه هي ابنة الأمير هاتِزفيلْد تراشِنْبِرغ)، يُنظَر إلى طلاقها بعين الإغضاء، وأبو هربرت بسمارك لِما كان من تربيته ولدَه هذا البالغَ ثلاثين سنة من عمره ليسيرَ على غراره مرتبةً ووظيفةً يكونُ لديه من الدوافع ما يُوافِق به على ذلك الزواج.

بيدَ أن لإليزابت أختَين، إحداهما متزوجةٌ بالجنرال فون لُوئه، والأخرى متزوجةٌ بناظر القصر فون شِلِينِتْز، أي بعيَّابَي بسمارك الأكبرَين، وكان شلينتز نجيَّ أوغوستا منذ سنوات كثيرة، وكان لوئه أخًا للشريف الذي هو أحدُ المفترين على بسمارك، وهل ينبغي لهذين الرجلين أن يكونَا عدِيلَين لهربرت؟ أفلا يجبُ في هذه الحال أن يُدعيَا إلى وليمة العُرس أو إلى حفلةِ التعميد في المستقبل على ما يحتمل؟ وهل يكون بيت المستشار حليفًا لتلك الأُسَر البغيضة التي تكلَّم في منازلها جميعُ الساخطين بالعيب ضدَّه والتي يرى هؤلاء سهامهم فيها ليُوجِّهوها إليه، والتي ازدهر فيها كلُّ افتراءٍ عليه والتي تحوَّل فيها كلُّ حسدٍ إلى مكايدَ مُهلكة؟ أفلا تستتر مؤامرة تحت أمر الغرام ذلك؟ فالانتقام والشكُّ والحقدُ والاحتراسُ أمورٌ حملتْه على منْع ذلك الزواج.

واتخذتْ تلك الحسناء بعضَ الخُطا نحو الطلاق من أجل هربرت، وثَرثرَتْ بعض الصحف كلامًا حول الموضوع، وتشاجرتْ تقريبًا هي وآلُها في سبيل ذلك، وبَدَتْ خياليةً عاشقة بأكثر مما يُقرُّه أقرباؤُها في البلاط فاستأجرت مسكنًا في بلازُّومُودينا بالبندقية، وإذا قابلنا الرسائلَ التي كتبتها من هنالك إلى هربرت بالرسائل التي كتبها هربرت إليها؛ بَدا لنا أنها كانت حاسبةً وأنه كان إحساسيًّا، أجل، إنه شديد العاطفة على ما يحتمل، غير أنَّ خوفَه من أبيه القويِّ واحترامَه لوالده القدير أعظمُ من عاطفته تلك.

وبعد إعلان الطلاق يكتب هربرت إلى فيليب أُولِنْبُرْغ قائلًا: «سأذهب في أول شهر مايو إلى البندقية لأرَى إمكانَ تنظيمِ الأمور بيننا على وجهٍ تكون به الحياة أمرًا مقبولًا، فإذا عدتُ قمتُ بآخرِ محاولة تجاه والدي، والذي يبدو لي أنَّ تلك المسألة هي مسألةُ حياة وموت، والله يعلم ماذا يحدث! ويلوح لي أنَّه يستحيل عليَّ تخصيصُ ما بقيَ لي من الحياة للأميرة.»

وبعد يومين «قال لي والدي مؤكِّدًا دامعَ العينين: إنه عازم على عدم الحياة إذا تمَّ ذلك الزواج، ومن قوله إنه يكتفي بما اتفق له من عيشٍ حتى الآن، ومن قوله إنه يجد له سُلوانًا في جميع كفاحه بما وضعه من آمالٍ فيَّ، فإذا زالت هذه الآمالُ كان ذلك خاتمةَ أمره، ومما علمتُه أنه أبدى كثيرًا من غمِّه وهمِّه لثلاثة أشخاص أو أربعة في أثناء حديثه، وأخبرني اثنان من الأطباء أن حالة والدتي الصحيةَ خطرةٌ، وأن كلَّ إزعاجٍ قويٍّ لها يقضي عليها، وفي الناحية الأخرى تُبصِر الأميرة المسكينة الوحيدة التي لم تكَد تدخل دور النَّقَه والتي تنتظر زواجي بها والتي قد تقع مريضةً إذا قيل لها إن هذا الزواج متعذر في الوقت الحاضر، وإذا فارقتُ هذه الحياة جعلتُ وضْعَ الأميرة صعبًا وأورثتُ أحبَّائي كربًا».

وبعد يومين آخرين «قال لي والدي إن مما لا يُلائم شرفه أن يرتبط اسمُه بالزواج في هاتزفيلد وكارولات ولوئه … إلخ، وإن مثل هذا الأمر إذا قيل حول امرأةٍ لم تَسطعْ هذه المرأة بسببه أن تكون كنَّةً له، ومن قوله إن عليَّ أن أفكِّر في أنني لا أحملُ الاسم من أجل نفسي فقط وفي أن كلَّ شيءٍ يمسُّ اسمي يؤثِّر فيه وفي أخي كما يؤثِّر فيَّ؛ ولذا فسيقاوم ما أَهدفُ إليه بما أُوتِيَ من قوة! وتقول الأميرةُ في كتاب تُرسله إليَّ إن كلَّ حلٍّ آخرَ غير الزواج أمرٌ مستحيلٌ تجاه كلام الصحف الفاضح، ولولا مقالات الجرائد تلك ما رغبْت في الزواج! ولأبي وجهة نظر أخرى …

وأضفْ إلى ذلك منْعِي مغادرةَ دائرتي، وضرورة انتظاري مرورَ عشرة أشهُر حتى يمكن زواجي قانونًا إذا لم يأذن لي أبي، وعدمَ استطاعتي تقديمَ شيءٍ إلى الأميرة، وتعديلَ قانون البكورة بموافقة الملك تعديلًا ينصُّ على منْع الابن الذي يتزوج امرأةً مطلقة من الإرث، وعدم تصرُّف والدي في غير مُلْكَين كبيرين وإمكانَ عدم بقاء ميراثٍ لي، ولا أرى كبير أهمية لهذا الأمر ما دمتُ أشعرُ بأنني لا أعيش طويلًا بعد الزواج وما دمتُ أُبصر أن قَطْع صِلاتي بأبويِّ يقودني إلى القبر، وإذا متُّ بعد الزواج بقصير وقتٍ خسرتِ الأميرةُ نصف الدخل الذي يجب على الأمير كارولات أن يؤدِّيَه إليها وفقَ ما نُصَّ عليه في العقد فلا يكون لديها آنئذٍ ما يكفي لعيشها، ويظهر أنه لا مخرج من المأزق، وما يساور والدي من مرارةٍ حاضرة إزاء الأميرة فلا يجعلني أفترض إمداده إياي بأيِّ مال، ووالدي يقولُ إن الأميرة إذا حملت اسمَه ساقه هذا إلى الانتحار، ولا أجدُ من الكلمات ما أُعبِّرُ لكم به عن مقدار تحطيم والدي إياي بحديثه ذلك، ولا يُمكنني أن أنسَى قلب والدي لحسابي رأسًا على عقب».

وبعد أسبوع من ذلك «تُذكِّرني الأميرة في كتاب تُرسله إليَّ بقول التوراة: «لأجل هذا يترك الرجل أباه وأمَّه ويلزم امرأته …» ومن المتعذر أن يبقى سفري إلى البندقية مكتومًا؛ فآل الأميرة — وبعضهم مستهترٌ مع الأسف — يعملون على نشْر أحاديث عن رحلتي في الجرائد، وهم كآل كارولات لا يودُّون غيرَ وقوع الزواج لأسبابٍ مالية وخلاصًا لهم من التزاماتهم، وللأمير كارولات — على الخصوص — توفيرٌ ماليٌّ كبير إذا تم الزواج، ومحامي أُسرته هو الذي كتب المقالات الصحافية الأولى حول الموضوع، ويقول لي أبي إنني إذا ذهبتُ إلى البندقية ذهب معي، وإنه أميَلُ إليَّ وإلى منع هذا الزواج من مَيله إلى الرَّيخ، وإلى أعماله وإلى ما بقيَ من حياته، فهو لن يدَعني أسافر وحدي بأيِّ ثمن كان، وهو سيكلِّمُ الأميرةَ في الموضوع، وقد بلغت محادثات والدي إياي في الأمر من رَبْكي ما صرتُ معه عاجزًا عن عمل أيِّ شيء كان، ولن أكون سعيدًا بعد اليوم ولو ليوم واحد، وهنالك ثرثرةٌ حول صِلاتي بالأميرة منذ سنين، وقد حامت الظنونُ في الصحف حول صِلاتي بالأميرة منذ سنين فصار من الشرف أن أتزوجَها ولو زال وَلُوعي بها، ويختلفُ والدي عني، ولكن لا أستطيع أن أتخذ وجهةَ نظرٍ أخرى، وعليَّ أن أضحِّيَ بشرفي في سبيل أبويَّ! وكيف أستطيع العيش مع هذا الكدر؟»

ولم يَظهرْ شيءٌ تُحلُّ به العقدة، وتَقطَع إليزابت صِلتَها بهربرت مبلِّغةً إليه احتقارَها له جاعلةً مَن يُخبره سَيْرَ كلِّ شيء على ما تروم، ويُسقَط في يد هربرت، ويقول: «يؤلمني ظهوري غيرَ أهلٍ لما وُضع فيَّ من ثقة أوحَيت بها، وألوم نفسي على ما حدث، ولا أجِد ما أحترم به نفسي، وكلُّ ما بقيَ لي من الحياة يبدو لي مثلَ سكَّة لا نهاية لها بين صفيْن من الصَّفصاف، فأراني مع تعبي مداومًا على السير في الرمل مبصرًا استمرارَ الأمر على هذا النمط.»

وهكذا تجد هربرت وحده هو المعذَّب، وهكذا تجد هربرت وحده هو الذي يُثير عاطفةَ مَن يقرأ تلك الرسائل الروائية، وكان يُعرَض على أبيه في سالف أيامه ما يطيب له من نساء كثيرات ليتزوج إحداهن، ولكنه كان يتملَّص في كلِّ مرةٍ حين حلول ما تتبدَّد به أحلامُه من أيام، ولم يحاوَل بجدٍّ ربْطَه في عهده لما كان من مغامراته حوالي العشرين من عمره عاطلًا من المال والمنصب، والآن يورِّط ابنَه في وضْعٍ مماثل، والآن يجب على الابن أن يُكفِّر عن الأب.

والحقُّ أنه يَسهُل لَومُ هربرت على تركه الأمور تسير من ذلك الدرب وأنه يصعب بيانُ مخرجٍ آخرَ من ذلك المأزق، وهربرت قد أذعن عند وعيد أبيه الجبَّار.

وسلوكُ السيدة مثاليٌّ؛ فهي قد سارتْ قُدُمًا نحو الطلاق حملًا لصاحبها الحسيب على تزوُّجها، وهي لم تألُ جُهدًا في إلزامِه بالانضمام إليها في البندقية معتقدةً أن هذا يُسفِر عن فضيحة لا يبقى له معها غيرُ اختيار النَّجْد الذي يصيرُ به اقترانُهما أمرًا شرعيًّا، وهي تتخذُ نصوصَ التوراة حجةً لها، وهي لا تريد العيش في كوخ عن زواجٍ حُبِّيٍّ، ولا الإقامةَ بمغنًى في الرِّيفييرا عن حبٍّ غير زواجيٍّ، وهي لا ترغب في هربرت وحده، بل هي ترغب في اسمه وفي مُلكه أيضًا، والآن حينما وجدتْ أنها مخطئةٌ في حسابها نبذَتْ سابقَ حُبِّها وراءها ظِهْريًّا مستأنفةً عيشَها الغراميَّ مع أخْدانٍ آخرين.

ويقف خلفها أولئك الذين يصطادون في الماء العكر، ولا يُقصِّر أولئك في زيادة الارتباك شدَّة، ومنهم زوجٌ يودُّ الإفلاتَ من الدفع، ومنهم أختان تُوقدان نار الخصام بنشر مقالات فاضحة بذيئة في الصحف، وصولًا إلى مصاهرةِ بيتٍ تكرهانه، ويَبرز الجميع طمَعًا في الربح وطمعًا في المال من هذا الزواج؛ وذلك لأن الزواج إذا تمَّ لم يكن هنالك ما يَحفِز الأختين إلى الاكتراث لأختهما القليلة الجدِّ؛ وذلك لأن الزواجَ إذا تمَّ وضَع الطاغيةُ يده في أيديهما ووجَد لأبنائهما وظائفَ، وقد يُحقَّق أقصى الآمال فلا يُذلِّل هذا الجبَّار تلك العقباتِ فيتابع وعيدَه ويستعفي، وهنالك تكون إليزابت قد عَمِلت ما لم تعملْه رايشغلُوك في حياتها كلِّها، ويكون أمرُها كأمر تلك الأمير الحسناء التي جاء في إحدى الأساطير أنها رأتْ قتْلَ التِّنِّين القديم ووضْعَ رِجْلِها الصغيرة على رأسه المخيف بعد فوزها.

figure
بسمارك في سنة ١٨٩٠.
غير أن التِّنِّين مؤلِّف،٤ فهو يعرف جميع حِيَل أعدائه، وهو يعرف جميع سمومهم وما يجب اتخاذُه من ترياق،٥ وكيف ذلك؟ إنه عبَّد وذلَّل دولَ أوروبة، فكيف يخضع لتدابير امرأةٍ مغناجٍ غيرِ غنيَّة؟ دخَل الدِّبلمِيُّ الأكبر ميدانَ الكفاح وجال فخرج منصورًا.

وماذا نقول عن هربرت؟ كان هربرت وديعًا وَجِلًا من أبيه مُجلًّا له محترمًا لسنِّه راغبًا في التراث عاجزًا عن كلِّ عمل مستقلٍّ غيرَ ميَّالٍ إلى حرية السَّير، ويمثِّل أبوه دورَ الأب الشديد، فهو يُصرح مع القَسَم بأنه يستقيلُ ويعدل عن تسيير دفَّة الدولة ويقتل نفسَه ما لم يُذعن ابنُه، وهو يُعلن أنَّ هذه البلايا تُودي بحياة الأمِّ — كما قال الأطباء — وهو يبدو رئيسًا رسميًّا لهربرت فلا يستطيع هذا المرءوس الخادم أن يتزوج بغير موافقةِ رئيسِه المخدوم، وهو يَبرُز صاحبًا للميراث فيُهرَع إلى الإمبراطور الذي أنعمَ عليه بتلك الأراضي حتى يحقَّ له تعديلُ صكوكها بما يبقى به هربرت عند دوام جماحه فقيرًا مدَى حياته مقتصرًا في عيشه على النفقة المشروطِ على زوج تلك الحسناء الأول أن يؤدِّيَها إليها.

وليس ذلك كلَّ ما في الأمر، فقد مضتْ سنواتٌ كثيرة بعد شباب بسمارك، وبسمارك في شبابه كان ذا تجريب كبير في تلك الأمور، وهو يعرف كيف يربط الرجل نفسَه بعهودٍ في ليلة يقضيها في قصْر قوطيٍّ بين ذراعَي خليلته؛ ولذا لا ينبغي لهربرت أن يذهب إلى البندقية؛ ولذا لا مناصَ من ذهاب الأب أوتو مع الابن هربرت إلى البندقية إذا توجَّه هذا الأخيرُ إليها، والابن هربرت دِبْلُمِيٌّ، والابن هربرت تلميذٌ للرأي العام، أفلا يَحسُب هربرت ما في الوضْع المضحك من خزيٍ؟ هو يغدو إلى الأبد محلَّ سخرية أوروبة إذا أبدَى المراسلون والمصوِّرون والمغنُّون بسمارك الشائب، وهو ينزل من زورق بندقيٍّ بسرعة إنقاذًا لابنه العاشق.

ولكن هنالك ما يعود إليه المضطهد غيرَ مرةٍ، وهو ذلك العهدُ الأدبيُّ الذي ارتبط فيه نحوها، فلولا هذا الارتباطُ الأدبيُّ ما ورَّطت الأميرة نفسها في شين الطلاق لتلهوَ كما تهوى، وللمصارع الدَّرب بسمارك ما يصدُّ به عن كل طعنة، وبسمارك يقول إن تلك المطلَّقة هيِّنةُ الفضيلة، واسمُها اليوم مقرون باسم هربرت، ومن الممكن أن كانت في المس مقترنةً بشخصٍ آخر، ومن الممكن أن تقترن بشخص آخر في الغد، وفي الواقع أن الاسم لا يستحقُّ الدفاع، ولا يريد من ناحيتِه أن يُقرَن اسمُ بسمارك باسم لوئه واسم شِلِينِتْز، وإذا كان الشرف هو المقياسَ وجب أن يكون شرفُ بسمارك هو الراجح.

وكيف؟ آلهوى؟ أَوَخْزُ الضمير؟ أَكَرَامة الابن البِكر؟ يُذلِّل الشباب هذه الغوائل! فإلى الأمام!

١  Classique.
٢  الهلوف: الخنزير البري.
٣  الرفلاء: مؤنث الأرفَل، وهو الأخرق في كل عمل.
٤  المؤلف: الذي أكمل الألف.
٥  الترياق: دواء يدفع به السموم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤