الفصل السادس

وقف بسمارك في مدرسة القرية بفارزين، وأشار إلى المواقع في الخريطة، ويوضح للصبيان كيف صُنِعت ألمانية وكيف كانت فيما مضى، ويضعُ لأحد الأولاد سؤالًا، ويغضب لأنه لم يَنلْ جوابًا، ويرتجف المعلم قليلًا بجانب بسمارك؛ حذرَ أن يسأله أيضًا.

وفي أثناء تلك الأشهر الأولى، وبعد خدمة الدولة أربعين عامًا، يحاول المُبعَد أن يستأنف حياةَ شريف في الريف، فيستدعي الخَوَلَ١ والمستصنعين والنواطير والرُّعْيان، وفي كلِّ أسبوع يزور المدرسة ليُعلِّم صبيان قريته ببُوميرانْيَة ما لا يريد أن يتعلمه أبناء برلين منه، ويضجر ضجرَ الشريد أينما كان فيكتب إلى صديق له قولَه: «وَدَدتُ في شبابي أن أتمثَّل نفسي في مشيبي خليًّا متمايلًا حاملًا مِبضعَ تطعيمٍ بيدي.» أفلم يكن هذا مُبتغاه منذ عشرين سنةً أو تزيد؟ وعليه أن يتعلَّمَ ذلك، والآن يشعر مع عُسرِ سجيَّته بأن «المحطة الحاضرة هي أقلُّ ملاءمةً من كلِّ محطة تقدَّمتْها».

وبسمارك — مع الزمن — يعودُ غيرَ مكترث للتطعيم ولا للصبيان ولا للنواطير ولا لمصنع الورق، وبسمارك على ما لديه من وقت فراغٍ ومن عطلٍ من الأشاغيل الرسمية، وبسمارك مع بلوغه ما ابتغاه منذ طويلِ زمنٍ؛ لا يصبر على تخصيص نفسه لإدارة أملاكه الواسعة وثروته الكبيرة، حتى إنه إذا ما قرأ لم يُبالِ بغير ما يلائم مصيره، وهو يتبين من مذكِّرات نابليون خيالَه الخاصَّ، وكتاب الانقلاب لزُولَا هو كلُّ ما يُعنَى به من كُتُب هذا الكاتب، وعنده أن يوليوس قيصر «يمكنُه أن يكون كثيرَ الملاءمة لزماننا، وبروتوس هو من الأحرار الوطنيين».

وتتمتع حَنَّة بحياة هدوء، وتشعر بالرَّبو٢ وكثيرٍ من الأوصاب في الغالب، وترغب عن الذهاب إلى الينابيع المعدنية لكيلا تترك رفيقَها وحده، وهي إذا ما دار الحديثُ حول عزله — وهذا ما يقع كثيرًا — التهبتْ غضبًا وأخذتْ تسبُّ، وما خطبُ هربرت؟ لقد لَزِم جانب أبيه الشائب، ويبلغ الأربعين من عمره ويبقى عزيبًا، ويفقدُ خدمته، ويكره الزراعة، ويجهل أمور الفلاحة، ويُملأ مرارةً باطنية، ويُنغِّص والدُه عليه عَيْشَه للمرة الثانية، ويعنُّ لأبيه أن من الممكن أن يروق ابنَه منصبُ سفير، بيدَ أن الأب والابن لم يلبثَا أن أبصرَا عُسْرَ ذلك، ويرى بسمارك دُنُوَّه من الثمانين مع عدمِ وجود ذرِّيَّة له من الذكور ومع شدة شعوره الأسريِّ، فهربرتُ أعزبُ، وبيل ليس له من الولد سوى البنات، ويتكلمُ بسمارك عن إحدى بنات بيل، فيقول: «يا ليتني أعرف الرذيلَ الذي يتزوجها فتُبذِّر معه نقودي ذات يوم!»

وتَهِنُ العظام منه، أجل، لا يزال حَسَنَ السمع والأسنان والهضم، ولا يحتاج إلى نظارات قوية، غيرَ أنه إذا أراد الركوب وُضعت له مرقاةٌ ورفع السائس ساقه اليمنى؛ تسهيلًا لاستوائه على ظهرِ فرسه، ولا يُطيق حتى اليوم من يبدو فوقه، ولا يزال كما كان طالبًا يناجز مَن يلوح التماعُهم أكثر منه، وهو يقول لبارونٍ طويل كلَوح الخشب فيُعيره فروةً قصيرة: «حقًّا إنني لا أحب أن يكون ضيوفي أطولَ مني.»

وفي سِنِيه العشر الأخيرة يُصبح بسمارك حادَّ الطبع أكثر من قبل: «فأنا مجموعةُ أعصاب، وكان ضبطُ النفس أصعبَ الأمور في حياتي»، وهذا ما أجاب به عن سؤال مصورِ ألوانٍ: هل هو المستشار الحديديُّ حقًّا؟ والذي عرف تأثير حاله النفسية في حاله البدنية أحسنَ من سواه هو الكاتب الخياليُّ فِيلبراند، فلما زاره أبصرَه من الباب مستلقيًا وحده على مُتَّكأ، «فوجده غارقًا في تأملاته، ووجد وجهه الأحمر ضاربًا إلى صفرة، ووجد ملامحه مسطَّرة متكرِّشة، وكان يلوح أنه جالسٌ بين الأنقاض مفكرٌ في السنة التي كانت شاهدة على سقوطه وفي كنودِ الحياة، ولكنه ينهض ويُقبل عليَّ بقامته الطويلة وقورًا … ويعود إليه شبابُه في ذلك الوقت القصير، ويقف نظري ما يَنِمُّ عليه بصرُهُ الثاقبُ من صموت وترقُّب وتفرُّس وتأمُّل عميق فيما يقع تحت عينيه وما يدور في خَلَده».

وأظهرُ ما يوصَف به بسمارك في تلك الأيام هو ما عند المفكِّر من نظر بعيد؛ وذلك لتواري الأمور في الوقت العتيد وراء مدى الرؤية، وكما نُزع السلاح من يد هذا الوَلُوع بالكفاح، وكما عاد دماغُه لا يكون مركزَ الوحي السريع كالبرق فيُحرِّكه عزمٌ قاطع؛ مُنعت عيناه من ألوف الجُمَل المكتوبة التي كان يمكنه أن يُنقِّب بهما فيها، فيختار ما يطيب له منها، وإن هذا الرجل الذي كان يصبو في أثناء نشاطه على الدوام إلى الإقامة مرة أخرى بغابات فتائه الهادئة؛ يألم الآن من احتماله هذه الحياةَ التي كان يحلُمُ بها.

والحقُّ أن المبعَد يشعر بأنه يعيش في صحراء، ويعيش مُبغِضُ الناس الكبير هذا وحيدًا، وكان يشكو من فتحِ باب مكتبه دومًا مدة ثلاثين سنةً فصار الآن يَئنُّ من عدمِ فتح إنسانٍ لبابه مرة واحدة في كل أسبوع تقريبًا، وبسمارك يقول: «لديَّ صحفٌ، لا أناسٌ، ولي ملايينُ من الأصدقاء، ولا أكاد أجد صديقًا.» ويصفُه فرنسيٌّ بعد سقوطه بقوله: «إنه يرتجفُ من فوره في بعض الأحيان، ويقول — كما لو أفاق من حُلُم: أنسى عَطَلي من عمل أقوم به.» ويراه رجلٌ من حرسه القديم، فيقول إن الأمير «محتاجٌ إلى مَن يُصغي إليه.»

ويأتي كيزرلِنغ الذي هو آخر مَن بقيَ حيًّا من أصدقاء بسمارك والذي لم يَدْعُه بسمارك مرة واحدة في السنوات العشر الأخيرة من سلطانه إلى زيارة المُبعَد، ثمَّ يذهب إلى همبُرغ ليُقيم بها ويعود إلى فرِدْرِيكْسرُوه فيبقى فيها يومًا واحدًا — أو يومين — وتكتب إليه حَنَّة في همبرغ، فترجو منه أن يُطيلَ إقامتَه بفرِدْرِيكْسرُوه وتقول له: «إنك تقوم بأحسن ما يُعمل لنا نحن البائسين الذين فقدوا كلَّ إيمان بأيِّ إنسان كان تقريبًا، ونحن الذين ترونهم شديدي الثقة بمودتكم المحبَّبة، ونحن الذين يُنعِشهم حبُّهم الشامل الذي يرتبطون به فيكم، أبرِقُوا بأنكم آتون فتَسُرُّون صديقَكم القديم.» وتكتب حَنَّة بالأسلوب البِياتيِّ المسرِف، وتُخادع حَنَّة نفسَها كما حاولت صُنْع ذلك، ولكننا نُبصر من خلال الأسطر حقيقةَ وحدتهم القاسية.

والمقاطعةُ شديدة، ولم يقصده في البداءة سوى نفر قليل من الأجانب للاستطلاع في الغالب، ومن هؤلاء الأجانب نذكر أمريكيًّا من ملوك الخطوط الحديدية لم يَرَه بسمارك من قبل، فلمَّا وصل هذا الأمريكيُّ أخذ ينفُض غبارَ السفر عن نفسه فسمع صوت خُطَا مُضيِّفه الثقيلة صاعدًا في الدرج، ويدخل المضيِّف ويجلس بجانب الأجنبيِّ الذي كان يُعنَى بزينته، ويقول له: «إنكم أول شخص أُبصره في هذا الأسبوع لِما هو واقعٌ من مقاطعتي التامة، ولا يرغب أحدٌ في الاتصال بي؛ فالناس يخشَون أن تُذكَر أسماؤُهم في الصحف زائرين لي، فلا يَروقُ ذلك عاهلَنا الشابَّ الجالسَ على العرش، ومن الناس مَن يُجاوز فرِدْرِيكْسرُوه في كلِّ يوم من غيرِ أن يراني مع أن الناس منذ شهر كانوا لا يَمرُّون عليَّ في شوارع برلين بلا تحية؛ فالكلاب تَتبع من يُطعِمها.»

وغيرُ قليلٍ عددُ الرجال الذين يذكرون تقبيلَ بسمارك إياهم عند انصرافهم، وليس هؤلاء فقط من الشبَّان الذين يشعر الشِّيبُ بحبٍّ لهم، غير أن مشاعر عوامِّ بُومِيرَانْيَة أطيبُ من مشاعر ذوي البصائر من أهل برلين، وقد قال فلَّاحٌ في فارزين للخوليِّ: «دَعُوه يأتي إلى هنا؛ فهو يستطيع أن يعتمد علينا!»

ولم يلبث كِيزِرْلِنْغ وبوشِر أن تُوُفِّيَا بعد اعتزال بسمارك، ويحزن عليهما لخلوِّهما من الأثرة ولصداقتهما الخالصة، وفي الحين بعد الحين تزوره السيدة فون سبِيتْزِنْبِرغ وحسناء من صواحبِ الأملاك المجاورة، ويُرحَّب بلِنباخَ وشوِينِنْجِر لما عندهما من أحاديثَ مسلِّيةٍ لبسمارك، لا لمواهبهما، وذلك ما يعرفه مكس ليبرمان فيرفُض دعوةً إلى فرِدْرِيكْسرُوه مع أنه المتفنِّن الوحيد الذي استطاع أن يرسم لبسمارك صورة رائعة في ذلك الدور، ولكنك إذا عدَوت زوج بسمارك وأخته وأبناءه لم تجدْ في العالم مَن يأبه بسمارك لحياته، حتى إن أخلصَ خَدَمه ماتوا فلم يحُلَّ محلَّهم أحدٌ، حتى إن تيراس الثاني مات حينما كان سيِّدُه في الثمانين من سِنِيه، فعزم هذا السيد على عدم اقتناء أيِّ كلب آخر درءًا لألم الدفن عنه.

وهكذا يهجر بسماركُ الكلابَ في نهاية الأمر بعد أن هجره الرجالُ.

١  الخَوَل: جمع الخولي، وهو القائم على المال الذي يدبِّره.
٢  الربو: علةٌ تحدثُ في الرئة فتجعل التنفسَ عسيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤