الفصل السادس

قامت قائمة الخصام بيني وبين ريتا، وانقلب حبُّها إلى عداء، وغَدَتْ تترصَّد الفرص للانتقام مني، والتنكيل بي، وغدوت أهرب منها، ولا أطيق رؤيتها، وبعد ذلك الهيام والوَلوع بها صرت احتقرها وأقسو عليها، وأذهب إلى الحانات والنزهات مع الغيد الحسان قصد التشفِّي منها.

وبينما كنت ذات مساءٍ في غرفتي تتناوبني الأفكار المُهيِّجة، ويُثِير بي الحب عوامل الغضب، جاءني كتاب من البارون يقول فيه: «إنَّ هنري مريض على شفا الموت فاحضر حالًا.» فقمت من ساعتي، وسرت إلى بيت فركنباك مُسرعًا حتى دخلته، فرأيت هنري مُوسَّدًا على سريره بلا حراك، والطبيب إلى جانبه يسقيه الأدوية والعقاقير، فلما رآني استبشر، وقال: إنني في احتياج عظيم إليك، ولو أمهلت ساعة لمات هنري؛ لأنه مريض بالدفتيريا، ويجب أنْ نُجْرِي له عملية جراحية للحال، ثم أخذ بين يديه مُدْيَة مسنونة، وقال اقفُل الباب دون أهل البيت؛ كي نجري العملية بهدوء وسكينة، ففعلت كما أشار، فقال: أمسك رأسه ولا تدعه يتحرَّك كثيرًا؛ لأن ذلك يضر به، فأغمضت عيني، وأمسكته على أن قلبي كاد يتفتَّت حين جرى دمُه على يدي، وسال من أطراف أناملي مثل نهرٍ مُتدفِّق، واضطربت يداي وقلبي، ولما أتمَّ درتيل العملية مدَّده على السرير، وقال الحمد لله قد شفي هنري، فنظرت إليه فوجدت تنفُّسَه معتدلًا ودمه جاريًا مجراه، وكانت تحوم على ثغره اللطيف ابتسامة جميلة كابتسامات الملوك، فابتهج قلبي، وسكن هائجه، وانزاحت عنه سحب الأحزان، وكأن حياتي رُدَّت إليَّ فقلت: يا للعجب! كيف تتجاذبني العوامل المتضادة؟! وكيف تنتابني المفاعيل المُتعاكِسة؟ ألا إنني بالأمس كنت أطلب موت هذا الطفل وأتمنى هلاكه، فلماذا أنا الآن مسرور بخلاصه فرحٌ لشفائه؟

ولما بشَّر درتيل البارونة بنجاح العملية، أقْبَلَتْ إلى غرفة الولد وقبَّلته، ثم ركعت على سريره، وجعلت تُصلِّي، وتحمد الله الذي أبقى لها ولدها الوحيد الذي يربط قلبها بقلب من تهواه، فقال لها درتيل: إنني أنام عنده في هذه الليلة لأتفقد حالته في الليل، فقالت: سيكون كذلك، وأنا ذاهبة الآن؛ لأبشِّر البارون.

وبقيت ريتا تعتني بابنها، وتسهر عليه إلى أن نَقِهَ وشُفِي وعاودته نضارته، وغدت صحته أحسن مما كانت سابقًا، فجاءت ريتا تشكرني على اعتنائي بهنري، ومساعدتي الطبيب في العملية التي أجراها، فلاطفتُها واحتفلت بها، وبقينا برهة نتبادل الحديث الرقيق، وبعد ما كان جرى بيننا من الجفاء والخصام انصلحت الحال بيننا واعتدلت.

ورأيت هنري مع نعمة في المنتزه، فلما رآني قال: بابا، بابا، فاقتربت منه وقبلته، واحتملته على يدي، وجعلت أداعبه، فكان يمد يديه إلى جيبي، ويمسك سبالي، ويعض أناملي، ويرمي برنيطتي، وبقي معي كذلك نحو ساعتين، وكنت أرى الزهور أقل منه جمالًا ورقةً، وأرى النجوم أقل منه تألقًا وبهجًا، ولا جَرَمَ فإن الحب كان يُريني إياه كذلك.

وبينما أنا جالس في وقت من الأوقات جاءني من جونريت هذا الكتاب:

أكتب إليك لأسألك أن تكتب إلينا وتطلعنا على أحوالك؛ لأن لويزا مشتاقة إليك، تود أن تستطلع أخبارك، وهي مريضة طريحة الفراش، أصبحت شاحبة اللون خائرة القوى، وحل السقم محل ذيَّاك الجمال الفتَّان، وتلك الطلاقة الطبيعية، بل غدت مثل رسم دارِسٍ أو هيكل من العظام متداعٍ، وقد عادها الطبيب مرارًا، فلم تنجع بها أدويته، وقرَّ قراره أخيرًا على أن فكرها هو عِلَّة دائها، وأنه لا بُرْء لها إذا لم تترك الأوهام التي في رأسها.

وكانت تأخذني عوامل الشفقة عليها، فأهمُّ أن أدعوك إلى انجة لأزوجكما عندي، ولكني لا ألبث أنْ أرى هذا الرأي فاسدًا ضعيفًا؛ لأن البارون وعد لويزا بصداقٍ، فإذا تزوَّجت بغير علمه ربما تمنعه ريتا أنْ يفي بوعده، وإنني أؤمل أنْ ينتهي هذا المُشكِل عن قريب.

فأخذت الكتاب وذهبت إلى البارونة، وأخبرتها بأن لويزا مريضة، قد أشرفت على الموت، وسألتها أنْ ترْأَف بحال تلك الصبية التعيسة، فقالت: إنَّ ما تطلبه مناط الثريا أقرب إليك منه، وإدراك السهى أهون منه عليك، وأنا لا أستطيع إلَّا مقاومتك وخصامك؛ لأنك تركتني شَرْوَى عصافةٍ في ملعب الأهواء، وإنني أشكر الله الذي رزقني منك ولدًا يقيِّد قلبك بقلبي، وإن هذا الولد أنقذني من ارتكاب جريمة القتل، ثم قالت: أتعلم ما قال لي درتيل يوم كان هنري مريضًا؟

– لا.

– قال: إنَّ حياة هنري بين يدي، وإذا شئتِ فإني أشفيه.

– إن درتيل لصٌّ.

– أترى كيف أنك لا تزال غيورًا علي، فكيف تريد إذن ألَّا أغار عليك أنا، اعلم أنك إذا تزوجت بلويزا رغمًا عني فإنني أقتلك وأقتلها وأقتل نفسي، وأتخلص من هذا العذاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤