البحتري وشعره

البحتري وأبو تمام

أيها السادة:

حياة البحتري أوضح من حياة أبي تمام بعض الشيء؛ لأنها كانت أطول من حياة أبي تمام كثيرًا، فلم يكد أبو تمام يتجاوز الأربعين سنة، أما البحتري فقد عاش أكثر من ثمانين عامًا.

ولم يروِ الرواة عن تمام بن أبي تمام إلا خبرًا واحدًا عن أبيه لا قيمة له،١ وأكثر ما نعرفه عن البحتري رواه ابنه أبو الغوث يحيى، ولم يعرف التاريخ عقبًا متصلًا لأبي تمام، ولكنا نعرف أن أبناء البحتري قد أعقبوا من بعده، وأن من أبنائه من كانت له الرياسة في ناحية حلب أيام المتنبي، وقد مدحه المتنبي، فكل هذه الأشياء تجعل علمنا بحياة البحتري أوضح من علمنا بحياة أبي تمام.

كان البحتري محبوبًا، وكان أبو تمام محسدًا كثير الخصوم؛ ذلك لأن فن البحتري في الشعر كان قريبًا إلى نفوس الذين قرأوه، أما فن أبي تمام فكان غريبًا بعض الغرابة أو شديد الغرابة، فضاق به كثير من الناس، ونفرت أذواقهم العربية الخالصة من فنه هذا المعقد، الذي لا يخلو من إغراق والتواء.

أبو تمام يمتاز بأنه حتى في شعره الفني الخالص يتحدث إلى العقل، ويضطر الإنسان إلى أن يفكر، ويجدَّ في التفكير ليتفهم المعاني ويلائم بينها وبين ذوقه الخاص، أما البحتري فمطبوع ذهب في أغلب شعره مذهب القدماء، الذين جددوا المعاني، وحافظوا في الألفاظ والأساليب، فبينما كان أبو تمام يتصل بمسلم ويتأثره في البديع، وفي الملاءمة الموسيقية بين المعاني والألفاظ، ثم يزيد عنه تعمق المعاني والبحث عن غرائبها، كان البحتري مطبوعًا يتأثر أبا نواس وغيره من الشعراء في العصر العباسي أولئك الذين كانوا يأخذون ألوانًا من الاستعارة إذا عرضت لهم، ولا يتكلفون إلا تكلفًا يسيرًا جدًّا.

مولده ونشأته

وُلِد البحتري في أوائل القرن الثالث الهجري سنة خمس أو ست ومائتين، ولما شب اتصل بأبي تمام، وكان أبو تمام في ذلك الوقت قد عُرِف واشتهر أمره، وكان له مجلس في حمص حينما كان يتصل بأهل حمص، فكان شعراء حمص يأتونه فينشدونه أشعارهم، وكان البحتري من الذين أتوه وأنشدوه، سمع له أبو تمام وأعجب به وأظهر الرضا عنه، فلما انصرف الشعراء استبقى البحتري وقال له: أنت أحسن من أنشدني، فحدثني عن حالك، فشكا له البحتري فقرًا وسوء حال، فكتب له أبو تمام كتابًا إلى أهل معرَّة النعمان ينبئهم أن هذا الرجل، أو هذا الشاب على حداثة سنه، نابغة بارع في الشعر، ويوصيهم به خيرًا، فلما قرءوا الكتاب عُنوا بالشاعر وجعلوا له مرتبًا قدره أربعة آلاف درهم كل عام.

ومن ذلك اليوم أخذ البحتري يحس أنه خليق أن يرتفع بشعره إلى منزلة أرقى من المنزلة التي وصل إليها، والتي بقي لنا شيء من أخبارها، فيحدثنا بعض العلماء أنه رأى البحتري في منْبج وهو يدخل المسجد من باب ويخرج من باب، ينشد الشعر في طريقه واقفًا على الحلقات، ثم يخرج من المسجد فيمدح باعة البصل والباذنجان، ثم ارتقى فمدح أمراء الولايات وقواد الجيوش في العواصم، ثم انتقل إلى بغداد فاتصل بالخلفاء العباسيين؛ اتصل بالواثق والمتوكل ومن بعدهما، ومدح هؤلاء الخلفاء جميعًا، وهجا منهم اثنين، ومدح الذين كانوا يتصلون بالخلفاء من الوزراء والأمراء والقواد وهجا منهم أربعين.

مدحه وهجاؤه

كان إذن كثير المدح كثير الهجاء، ولكن الرواة والنقاد الذين عاصروه والذين أتوا بعده متفقون على أنه كان ضعيف الحظ من الهجاء، وأن ابنه أبا الغوث لما رأى إجماع الناس على الغض من فن أبيه الهجائي أراد أن يدافع عن أبيه، فزعم أن الهجاء الجيد من شعر أبيه قد ذهب وضاع؛ وذلك أنه حين حضره الموت دعا ابنه وقال له: «إني قد هجوت كثيرًا من الناس، فخرق هذا الهجاء فإني هجوت لأغيظ من غاظني وقد شفيت غلتي، وانقضت الآن حاجتي من هذا الفن، وأنا منصرف عن هذه الدنيا، وللناس أعقاب يورثهم آباؤهم الخير والشر، فأنا أخاف عليك شر هذا الهجاء.»

وعلى ذلك خرق أبو الغوث هجاء أبيه، ولكن صاحب الأغاني يقول: قد يكون هذا حقًّا، ولكن هذا أيضًا لا يصنع شيئًا، فما بقي من هجاء البحتري لا يدل على أنه كان بارعًا في فن الهجاء.

موازنة بينه وبين أبي تمام

نعرف من أخبار البحتري شيئًا قليلًا، ولكنه يكفي لتشخيص حياته، أما من الناحية الشعرية، فقد استطاع بعضهم أن يفضله على أبي تمام، ويحدثنا صاحب الأغاني أن شيوخه كانوا يختمون به الشعراء، وأول ما نلمح في شخصية البحتري أنه كان يحب الوفاء لأبي تمام خاصة، والذين اصطفوه وأحسنوا إليه بعد ذلك.

كان الناس في عصره يختلفون أيهما أشعر: أبو تمام أو البحتري؟ وسئل البحتري عن هذا عند ابن المعتز — وكان أبو العباس المبرد حاضرًا في المجلس — فقال البحتري: أبو تمام هو الرئيس والأستاذ، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولا ينفعني أن يقدمني الناس عليه ولا يضره ذلك، فقال أبو العباس: أبى الله يا أبا عبادة إلا أن تكون شريفًا من جميع جوانبك.

من وفائه

وشهد له النقاد أنه كان في هذا وفيًّا كريمًا يعرف لأستاذه حقه عليه، ولا يغره إكبار الناس له وتقديم المتعصبين له على أبي تمام، وكان أيضًا وفيًّا للذين أحسنوا إليه، ولكن بشرط أن يكون هذا الإحسان قد اقترن بشيء من الحب والمودة، فالذين يحسنون إلى الشعراء يختلفون، فمنهم من أحسنوا إلى الشعراء؛ لأنهم مدحوهم وأثنوا عليهم، وهم يشترون المدح والثناء، وليس بين الشعراء وبين هؤلاء الناس إلا ما يكون بين المشتري والبائع. ومنهم من يحسنون إلى الشعراء لمودة وصداقة تصل بينهم وبين هؤلاء الشعراء؛ ولهذا كان البحتري وفيًّا لبعض الذين أحسنوا إليه، غادرًا لبعضهم الآخر.

مدح محمد بن يوسف الطائي المعروف بأبي سعيد الثغري ومدح ابنه سعيدًا، وأكثر من مدْحهما والثناء عليهما، ثم قُتلا فرثاهما وأكثر من رثائهما، فكان رثاؤه لهما أجود من مدحه إياهما، وقد سئل البحتري عن ذلك فأجاب: إنما ينبغي أن يكون الرثاء أجود من المدح؛ لأن الرثاء هو صفة للوفاء؛ ولأن المدح الذي يُبتغَى به العطاء والمال يمكن أن يكون جيدًا ويمكن أن يكون رديئًا؛ لأنه صدر عن حاجة، وأما الرثاء فصادق اللهجة، يعبر عن هذا الوفاء وهذا الإخلاص.

وعلى عكس هذا سئل شاعر آخر كان يمدح قومًا فيجيد، ثم رثاهم فلم يبلغ في الإجادة في رثائهم ما بلغه في مدحهم، سئل في ذلك فقال: كنا نمدح للعطاء ونحن نرثي للوفاء، وينبغي أن يكون الرثاء شيئًا آخر، وهو بهذا يبرئ نفسه من الحق الثقيل.

وأنتم ترون الفرق بين هذين المذهبين: أحدهما يرى أن الوفاء ثقل يجب أن يتخفف منه الإنسان، والآخر يرى أن الوفاء دين يجب أن يُؤدَّى بأحسن ما يُؤدَّى الدين في صدق وإخلاص، وكان البحتري على ما يظهر من أتباع المذهب الأخير.

من أخلاقه

ولكن البحتري لم يقف عند هذا الخلق الذي نحمده، وإنما كانت له أخلاق أخرى يظهر أنها لا تستحق الثناء الكثير إن لم تستحق اللوم أو ما هو أكثر من اللوم، وربما كان مصدر هذا أن البحتري قد اتصل برجال السياسة ومدحهم فلقي منهم خيرًا، ولقي منهم شرًّا أيضًا، فسخر منهم جميعًا وأنكرهم وازدراهم ومقت سلطانهم، واتخذهم وسيلة للثروة والغنى، ورأى أنهم لا يصلحون لأكثر من هذا.

هو والمتوكل

اتصل البحتري بالمتوكل فمدحه وأحسن مدحه، وربما كان أجود شعر البحتري ما قيل في مدح المتوكل، وقتل المتوكل والبحتري ينادمه فرثاه البحتري رثاء جميلًا، وفي هذه القصيدة يقول هذا البيت الخالد:

أكان وليُّ العهد أضمر غدرة
فمن عجبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادرُهُ

ذلك أن المتوكل قُتل في مؤامرة خطيرة، اشترك فيها ولاة العهد فيما يظهر، هذه القصيدة التي رثى بها البحتري صديقه وسيده المتوكل، يظهر فيها وفاءً شديدًا للمقتول، وسخطًا شديدًا على الذين قتلوه، ومنهم ولي العهد.

هو والمنتصر والمستعين

ولكن لم يكد يتولى المنتصر حتى مدحه البحتري وأثنى عليه، وما دالت دولته حتى هجاه، ووُلِّي المستعين فمدحه وأكثر من مدحه، ولما خُلِع المستعين هجاه وأسرف في هجائه إسرافًا لا يُحتمَل من رجل كريم.

مع القواد والأمراء والوزراء

ثم لم يقف اضطراب البحتري عند الخلفاء، بل صنع مثل هذا مع القواد والأمراء والوزراء، ويحدثنا الرواة أنه هجا من هؤلاء أكثر من أربعين كان قد مدحهم جميعًا، وإنما هجاهم حين تنكرت لهم الأيام، مدح كاتبًا من كتاب المستعين هو شجاع، ثم لما غضب المستعين على شجاع وسجنه أسرف البحتري في الشماتة به، ودخل على المستعين وأنشده قصيدة يحرضه فيها على قتله واستصفاء أمواله.

وأقبح من هذا في أخلاق البحتري أنه مدح أكثر من عشرين رجلًا من كبار الأشراف في بغداد وغيرها في ذلك العصر، فلما تغيرت حالهم ودالت دولتهم نقل هذه المدائح عنهم إلى غيرهم، ومحا أسماءهم وأثبت مكانها الأسماء الجديدة، فهو إذن لم يكن يتردد في بيع شعره كأقبح ما يبيع الشعراء أشعارهم.

أضف إلى هذا أن الدنس الخلقي لم يكن مقصورًا على طبيعته وخلقه، ولكنه اتخذ مظهره الخارجي مرآة له، والرواة يحدثوننا أنهم لم يعرفوا رجلًا كان أدنس ثوبًا ولا أوسخ آلة من البحتري.

إعجابه بنفسه

وكان على هذا شديد الإعجاب بنفسه، مفتونًا بها فتنة لا تُعرَف، حتى كان إذا أنشد شعره بين يدي الخلفاء أنشده في شيء من التيه والعجب، يغيظ حتى الخلفاء أنفسهم.

كان إذا أنشد الشعر صنع كما كان يصنع رجل من قادة الديمقراطية في القرن الخامس في أثينا هو «كليون» فمشى عن يمين ومشى عن شمال، وتقهقر وتقدم، وحرك عنقه يمينًا وشمالًا، ومال برأسه ألوانًا من الممال، وحرك ذراعه ويديه، وهز كمه هزًّا عنيفًا، والتفت إلى الناس وهو يقول: «ما لكم لا تستحسنُون؟ لا تقولون: أحسنت وأجدت؟»

ويقال إنه أنشد ذات يوم قصيدته المشهورة التي يمدح فيها المتوكل والتي مطلعها:

عن أي ثغر تَبْتسم
وبأي طرف تَحْتكم

فجعل ينشد ويضطرب هذه الألوان من الاضطراب، مائلًا إلى اليمين مرة وإلى الشمال مرة، حتى اغتاظ المتوكل وكان إلى جانبه شاعر هو الصَّيمري فقال له: ألا ترى يا صيمري ما يفعل هذا الرجل؟ فبحياتي إلا غظته. فقال الصيمري: مرْ كاتبك أن يأتي ويكتب، وجاء الكاتب فأملى عليه قصيدة طويلة تجدونها في الموشح وتجدون بعضها في الأغاني — وأعتذر إليكم أني لا أستطيع أن أنشدها؛ لأنها في غاية القبح — وأخذ الرجل ينشد هذه الأبيات حتى قطع على البحتري إنشاده، فاستخذى واغتاظ وولى مغضبًا حتى خرج من القصر، والمتوكل يضحك ويصفق وأهل القصر من حوله يضحكون ويصفقون، وذهب البحتري بعد ذلك إلى أحد أصدقائه وقد ملكه حزن وغم شديد، واستشار صاحبه وقال: ما ترى في أن أرحل إلى بلدي بغير استئذان الخليفة؟ فقال له صاحبه: لا تفعل؛ إنَّ الملوك يمزحون بما هو أكثر من ذلك، ثم سار به إلى وزير الخليفة الفتح بن خاقان فطمأنه وأشار عليه أن يبقى، وجدَّ حتى عاد، فقرَّبه من المتوكل.

هذه القصة وأمثالها تبين لنا أن البحتري، على ما لاحظنا من تذبذبه في السياسة واتخاذه الشعر وسيلة للعيش، كان مفتونًا بنفسه شديد الإعجاب بها، وكان في الوقت نفسه ضعيفًا، فلو كان إعجابه يصدر عن إكبار في نفسه لاكتفى بما أصابه، ولما احتاج أن يستشير أو يتردد، ولأصبح فارتحل إلى مدينته في الشام وعاش بها، ولكنه كان لا يستطيع أن يرحل عن قصور الخلفاء؛ لأنه كان في حاجة متصلة إلى المال والثناء، والإعجاب والتقرب من الخلفاء.

منزلته في الشعر

ومع هذه العيوب في أخلاق البحتري لا أعرف شعرًا يخدع الناس عن صاحبه كشعر البحتري، فالذين يقرءون شعر هذا الرجل يُفتَنون بأشياء مختلفة؛ يُفتَنون أولًا بجمال اللفظ، وربما كان البحتري أظهر الشعراء الذين احتفظوا بجمال الديباجة العربية كأحسن ما يحتفظ الشاعر بجمال هذه الديباجة في القرن الثالث الهجري، ولم يخطئ شيوخ صاحب الأغاني حين ختموا به الشعراء؛ لأن هؤلاء الناس كانوا من الأدباء المحافظين في الأدب، فكما كان أبو عمرو بن العلاء يختم الشعراء بجرير، كان هؤلاء الناس يختمون الشعراء بالبحتري، والواقع أن ما كان يمتاز به جرير كان يمتاز به البحتري في القرن الثالث الهجري.

ثم نعجب من البحتري؛ لأنه كان في أكثر شعره مطبوعًا يرسل نفسه على سجيتها، لا يتعمق ولا يتكلف، وقد لا يروق شعره المتعمقين الذين يلتمسون اللذة الفنية بعد الجهد، ولكن هؤلاء المثقفين الذين يحبون الجهد والعناء قليلون، فإذا كان لا يعجبهم البحتري فقد كان يعجب غيرهم من جمهور الناس، كانوا يلتمسون عنده اللذة المريحة؛ ذلك أنه كان لا يصنع صنيع أبي تمام في الغوص وتكلف الاستعارات النادرة، وإنما كان يرسل نفسه على سجيتها إرسالًا، ويعبر عن عواطفه كما يعبر الناس جميعًا حين يحبون أو يبغضون، فليس غريبًا أن يجد كل إنسان من معاصريه مرآة لهذه العواطف التي يشعر بها في حياته، وفيما يختلف عليها من ظروف.

له في مدح المتوكل

ويكفي أن تسمعوا لهذه القصيدة التي يمدح بها مولاه المتوكل لتروا أن الذين كانوا يحبونه ويفتنون به كانوا معذورين بعض الشيء في هذا الحب والإعجاب ولتروا لونًا من ألوان هذا الفن الشعري الذي اختص به البحتري في القرن الثالث الهجري، هذه القصيدة كأكثر قصائد البحتري تنقسم إلى قسمين؛ أحدهما غزل يتخذه وسيلة إلى المدح كأنه يهيئ به نفسه لهذه المعاني التي يقصدها في المدح وهو يهيئ به الخليفة والذين يسمعون من حوله:

لي حبيبٌ قد لجَّ في الهجر جدَّا
وأعاد الصُّدود منه وأبدَى
ذو فُنون يريك في كل يوم
خلقًا من جفائه مستجدَّا
يتأبَّى منعًا، وينعم إسعا
فًا، ويدنو وصلًا، ويبعد صدَّا
أغتدي راضيًا، وقد بتُّ غضبا
نَ، وأمسي مَوْلًى، وأصبح عبدَا
وبنفسي أفدي على كل حال
شادنًا لو يمس بالحسن أعدَى
مر بي خاليًا فأطمع في الوصـ
ـل وعرَّضتُ بالسلام فردَّا
وثنى خده إليَّ على خو
ف فقبلتُ جلنارًا ووردَا
سيدي أنت، ما تعرضت ظلمًا
فأُجَازى به، ولا خنتُ عهدَا
رقَّ لي من مدامع ليس ترقا
وارث لي من جوانح ليس تهدَا
أتُراني مستبدلًا بك ما عشـ
ـتُ بديلًا، أو واجدًا منك ندَّا
حاشَ لله أنت أفتن ألحا
ظًا وأحلى شكلًا وأحسنُ قدَّا

ثم ينتقل إلى المدح كما هي عادته من غير تخلص فيقول:

خلق الله جعفرًا قيِّم الدنـ
ـيا سدادًا وقيِّم الدين رُشدَا
أكرمُ الناس شيمة وأتمُّ النـْ
ـنَاس خلقًا وأكثر الناس رفدَا
ملك حصَّنتْ عزيمتُهُ المُلـ
ـكَ فأضحت له مغاثًا وردَّا
أظهر العدل فاستنارت به الأرْ
ضَ وعمَّ البلاد غورًا ونجدَا
وحكى القطر، بل أبرَّ على القطـ
ـرِ بكف على البرية تندَى
هو بحر السماح والجود فازدد
منه قربًا تزدد من الفقر بعدَا
يا ثمال الدنيا عطاء وبذلًا
وجمال الدنيا ثناء ومجدَا
وشبيهُ النبيِّ خَلقًا وخُلقًا
ونَسِيبُ النبيِّ جّدًّا فجَدًّا
بك نستعتب الليالي ونستعـ
ـدي على دهرنا المسيء فنُعدَى
فابقَ عُمر الزمان حتى نؤدي
شكر إحسانك الذي لا يُؤدَّى

فأنتم ترون في هذا الغزل وفي هذا المدح لفظًا كأسهل ما يكون اللفظ الشعري وكأحسنه اختيارًا وأجوده انتقاء.

ولكنكم على ذلك لا ترون تكلفًا للبديع، ولا تعمقًا في الاستعارة، ولا إغراقًا في هذه المحسنات اللفظية، وإن رأيتم شيئًا فهو تكلف لطيف يخلب الأذن ويعجب السمع ويستهوي النفس.

هذا التقسيم بنوع خاص في هذا البيت:

يتأبى منعًا، وينعم إسعا
فًا، ويدنو وصلًا، ويبعد صدَّا

إذا أردتم تحليل هذا البيت فلن تجدوا فيه شيئًا، فهو يقول إن حبيبه يتأبى أحيانًا ويصل أحيانًا، وهو معنى شائع، ولكن الجمال لا يأتي من المعنى وإنما يأتي من هذا التقسيم، فهو قد أتى بأفعال أربعة، وعلل كل فعل بمصدر من المصادر فقال:

يتأبَّى منعًا، وينعم إسعا
فًا، ويدنو وصلًا، ويبعد صدَّا

هذه الأفعال التي يلي بعضها بعضًا ولا يفصل بينها إلا المصادر، هي التي تحدث شيئًا من النغم الموسيقي فتصرف عقولنا عن أن نفكر فيما وراء هذه الأفعال ويُخيَّل إلينا أن في البيت شيئًا كثيرًا مع أن البيت لا شيء فيه.

والبيت الآخر:

أغتدي راضيًا وقد بتُّ غضبا
ن، وأمسى مولى وأصبح عبدًا

أي شيء في هذا البيت أكثر من أنه يلائم البيت الذي سبقه؟! فإذا أنعم إسعافًا ودنا وصلًا فالبحتري راضٍ، وإذا تأبَّى وصد فالبحتري غضبان أو حزين، وليس في البيت أكثر من هذا، ولكن انظروا إلى هذا التقسيم، وهذه الموسيقى من هذه الأفعال التي لا يفصلها سوى هذه الصفات: «أغتدي راضيًا وقد بت غضبان … البيت» ولاحظوا أن هذه الأفعال تعجبنا؛ لأنها تقسيم الوقت، فهو في الغدوة راضٍ، وقد كان في الليل غضبان، وهو في أول النهار عبد، وفي آخره مولى.

والواقع أنكم عندما تقرءون شعر البحتري في مدح المتوكل، فلن تجدوا معنى نادرًا مطلقًا، ولا معنى واحدًا مبتكرًا، بل هي معانٍ مألوفة أسرف فيها الشعراء حين مدحوا، فأنتم مضطرون إلى أن تعجبوا به لا لسبب، إلا أن الشاعر أجاد انتقاء اللفظ، فانظروا إلى قوله:

خلق الله جعفرًا قيم الدنـ
ـيا سدادًا، وقيم الدين رشدا
أكرم الناس شيمة، وأتم النـْ
ـنَاس خلقًا، وأكثر الناس رفدا

فهو لا يزيد عن أن يقول: إن المتوكل أكرم الناس شيمة، وأتمهم حسنًا وخلقًا، وأكثرهم عطاء، وأي خليفة بل أي ملك مدحه الشعراء ولم يصفوه بهذا؟ بل أي إنسان مدح بأقل من هذا؟ وإنما هذا التقسيم نفسه هو الذي يبعث في نفوسنا هذا الإعجاب.

قصيدة أخرى له في مدح المتوكل

انظروا إلى قصيدة أخرى تشبه هذه القصيدة، وهي في مدح المتوكل، فسترون فيها شيئًا جديدًا، وهو متانة اللفظ إلى جانب الجمال الفني، وستجدون جزالة ومتانة لا تجدونهما في القصيدة السابقة، وهي تأتي أولًا من هذه القافية، فقد اختار الضاد، وهي أضخم حرف في اللغة العربية، ولأمر ما سُمِّيت العربية لغة الضاد:

أيها العاتب الذي ليس يرضى
نم هنيئًا فلست أطعم غمضا
إن لي من هواك وجدًا قد استهـ
ـلك نومي، ومضجعًا قد أقضَّا
فجُفُوني في عبرة ليس ترقا
وفؤادي في لوعة ما تقضَّى
يا قليل الإنصاف كم أقتضي عنـ
ـدك وعدًا إنجازه ليس يُقضى
فأجزني بالوصل إن كان أجرًا
وأثبني بالحب إن كان قرضا
بأبي شادنٌ تعلق قلبي
بجفون فواتر اللحظ مرضى
عزَّني حبه فأصبحت أبدي
منه بعضًا وأكتم الناس بعضَا
لست أنساه باديًا من قريب
يتثنى تثني الغصن غضَّا
واعتذاري إليه حتى تجافى
ليَ عن بعض ما أتيت وأغضى
واعتلاقي تفاح خديه تقبيـ
ـلًا ولثمًا طورًا وشمًّا وعضَّا

ثم ينتقل إلى المدح مرة واحدة فيقول:

أيها الراغب الذي طلب الجو
دَ فأبلى كوم المطايا وأنضى
رُدْ حياضَ الإمام تلقَ نوالًا
يَسَعُ الراغبين طُولًا وعرضا
فهناك العطاء جزلًا لمن را
مَ جزيل العطاء والجود محضا
هو أندى من الغمام وأوفى
وقعات من الحسام وأمضى
دبر الملك بالسداد فإبرا
مًا صلاحُ الإسلام فيه ونقضا
يتوخى الإحسان قولًا وفعلًا
ويطيع الإله بسطًا وقبضا
وإذا ما تشنعت حوله الحر
ب وكان المقام بالقوم دحضا٢
ورأيت الجياد تحت مثار النـْ
ـنَقع ينهضن بالفوارس نهضا
غشي الدراعين ضربًا هذاذيـ
ـك وطعنًا يودع الخيل وخضا٣
يابن عمِّ النبيِّ حقًّا، ويا أز
كى قريش نفسًا ودينًا وعرضا
بنت بالفضل والعلو فأصبحـ
ـتَ سماء، وأصبح الناس أرضا
وأرى المجد بين عارفة منـ
ـك تُرجَّى وعزمة منك تُمضى

ماذا يعجبنا من هذه القصيدة؟ إذا التمسنا المعاني التي نلتمسها عند أبي تمام لم نجد شيئًا يُذكَر، فليست هناك معانٍ قيمة تضطرك أن تقف عندها وأن تفكر فيها وتعجب بها، وأن تقول إن البحتري قد اخترعها، جاء هذا الجمال من أمرين ظاهرين، أولهما هذه المتانة التي استطاع البحتري أن يجعلها في الألفاظ، فهذه الألفاظ تملأ الفم وتقرع الأذن، ولكنها تملأ الفم دون أن يضيق بها الفم، وتقرع السمع دون أن تؤذيه، فهي جزلة رقيقة في وقت واحد، لا غرابة في لفظ ولا شذوذ ولا استغراب.

والمصدر الثاني لهذا الجمال ما عُنِي به البحتري بنوع من أنواع البديع، هو المقابلة بين نوم الحبيب وبين سهده هو، وما يشبه ذلك في القصيدة كلها.

وعلى هذا النحو عندما تحللون هذه الأبيات تجدون جمالًا يرجع إلى حسن اختيار الألفاظ، وإلى الملائمة فيها بين الرقة وبين الجزالة والمتانة، أما المعاني فهي عادية مألوفة يحسها كل واحد أحس الحب، وكل واحد رغب في القرب من الخلفاء والملوك، فمن يحس الحب فلن يتحدث بأقل من أنه يسهر طول الليل ولا ينام، ومن أن الهوى قد استهلك نومه، وأقض مضجعه، ومن أن هذا الحبيب لا ينصف، ومن أن الحبيب شادن جميل، وأن العاشق ألح في الطلب ثم أمكنته فرصة من هذه الفرص السعيدة، التي يظفر بها العاشق أحيانًا، فأخذ يقبل تفاح الخدين ويشمه ويعضه.

فإذا ما أراد المدح فبمَ يمدحه إلا بأنه كريم جواد، شجاع لا حدَّ لشجاعته، عدل لا حدَّ لعدله، قد أظهر الإسلام وأعزَّه؟

ثم إذا مدح خليفة من بني العباس لم يكن بدٌّ من أن يمدحه بقربه من النبيِّ، ولكن اللفظ هو مصدر هذا الجمال.

ثالثة في مدح المتوكل أيضًا

انظر إلى قصيدة أخرى جاء جمالها من اللفظ والوزن، والبحتري من الذين ذهبوا مذهب أبي نواس وشعراء القرن الثاني من اختيار هذه الأوزان الخفيفة، ولعله إنما اختار هذه الأوزان وشُغِف بها؛ لأنه أراد أن يكون شعره ملائمًا لهذه البيئة السهلة المترفة، التي كانت تعيش في قصور الخلفاء والأمراء، هؤلاء الناس الذين كانوا متى فرغوا من أعمال الدولة التفتوا إلى لهو يسير، لا كلفة فيه ولا مشقة:

مُخلفٌ في الذي وعدْ
سيل وصلًا فلم يجدْ
وهو بالحسن مستبدْ
دٌ وبالدل منفردْ
يتثنى على قضيـ
ـب ويفترُّ عن بردْ
قد تطلبت مخرجًا
من هواه فلم أجدْ
بأبي أنت ليس لي
عنك صبرٌ ولا جلدْ
ضاق صدري بما أجنـْ
ـنَ وقلبي بما وجدْ
وتغضَّبت إن شكو
تُ جوى الحب والكمدْ
واشتكائي هواك ذنـ
ـبٌ فإن تعفُ لا أعُدْ

ثم يثب إلى المدح، والمدح هنا له ظرف خاص، فهو يريد أن يمدح الخليفة ويشجعه؛ لأن المتوكل كان قد ضاق بجوار الموالي من الفرس والترك، وود لو يستطيع أن يعيش بين العرب في الشام:

قد رحلنا عن العرا
قِ وعن قطبها النكدْ
حبذا العيش في دمشـ
ـق إذا ليلها بردْ
حيث يُستقبَل الزما
نُ ويُستحسَن البلدْ
سفر جددت لنا الـْ
ـلَهْوَ أيامه الجددْ
عزم الله للخليـ
ـفةِ فيه على الرشدْ
ملك تعجز البريـْ
ـيَة عن حلِّ ما عقدْ
يا إمام الهدى الذي احـ
ـتاطَ للدين واجتهدْ
سِرْ بسعد السعود في
صحبة الواحد الصمدْ
وابقَ في العزِّ والعلوْ
وِ لنا آخر الأبدْ

فماذا تجدون في هذه القصيدة من المعاني الغريبة؟ لا شيء إلا هذه العاطفة الحلوة التي يحب البحتري أن يظهرها حين يمدح الخليفة، وهي عاطفة الرجل الذي يرى أن الخليفة يريد أن ينتقل إلى بلاده، ويُحس أنَّه يريد أن يقيم في هذه البلاد التي يحبها ويألفها، نحس هذه العاطفة دون أن يصرح بها في قوله:

قد رحلنا عن العرا
قِ وعن قطبها النكدْ
حبذا العيش في دمشـ
ـق إذا ليلها بردْ

نحس من هذا حنينًا من البحتري إلى بلاده، فقد كان البحتري سوريًّا حقًّا وُلِد ونشأ في سوريا، وأظهر في شعره حبه لها.

لون آخر من شعره في مدح المتوكل

أكان شعر البحتري كله كهذا الشعر يخدع بالألفاظ وجمالها وحسن اختيارها وبعض هذه الأنواع البديعية اللفظية؟ أم كان للبحتري شعر آخر لا يخلو من تعمق يؤثر في النفوس؛ لأنه لا يمس نفس البحتري وحده، بل هو يمس النفس الإنسانية في جميع العصور، وفي جميع الظروف التي قال البحتري فيها هذا الشعر؟

الواقع أيها السادة أن شعر البحتري إن كان قد غلب عليه الجمال اللفظي الخداع، وهذه المعاني التي يحسها الناس في غير مشقة ولا كلفة، والتي لا بقاء لها ولا ثبات، فقد وُفِّق البحتري إلى شعر آخر، تتغير العصور والظروف وهو باقٍ خالد؛ لأنه يصور خلاصة الحياة، وأريد أن أضرب مثلًا من هذا الشعر قصيدة مدح بها المتوكل وأثنى عليه بمناسبة، وهي أن قبيلة من قبائل العرب في الجزيرة هي قبيلة تغلب اختصمت وثارت بينها حرب تشبه هذه الحروب التي كانت بين العرب في الجاهلية، ثارت هذه الخصومة فكادت قبيلة تغلب يفني بعضها بعضًا، حتى عُنِي المتوكل بهذه الحروب، وكلف وزيره الفتح بن خاقان أن يصلح بين المتحاربين، وأعاد الأمر إلى ما كان عليه، فإذا قرأنا هذه القصيدة أُعجِبنا بها، وسترون في هذه القصيدة أن البحتري لاءم بين الجزالة العربية وبين البديع كما أنه عُنِي فيها بأن تكون وحدة مرتبة ترتيبًا منطقيًّا معقولًا لا مضطربة، ولا يستطيع القارئ أن يثب بين أجزائها، ولكنه مضطر أن يقرأ أجزاءها متوالية، فينتقل من الجزء الأول إلى الذي يليه ثم إلى الثالث وهكذا.

في الجزء الأول من هذه القصيدة التي أراد فيها البحتري أن يكون أعرابيًّا ومجددًا في وقت واحد، الجزء الأول فيه غزل غير متكلف من جهة المعنى ولكن يظهر فيها التكلف اللفظي بعض الشيء، أما المطلع فليس بذي قيمة، أما الأبيات التي تليه فهي قيمة:

مُنى النفس في أسماء لو يستطيعها
بها وجدها من غادة وولوعها

تجدون في هذا البيت غموضًا وشيئًا من الغرابة، والواقع أنه عندما نفسره لا نجد وراءه شيئًا:

وقد راعني منها الصدود وإنما
تصد لشيب في عذارى يروعها

لا يعجبنا معناه، ولكن الذي يعجبنا هو اللفظ في فعل «راع» في أول البيت ثم «يروع» في آخره:

حملت هواها يوم منعرج اللِّوى
على كبد قد أوهنتها صدوعها

ثم ينتقل على طريقة الأعراب إلى ذكر الناقة والطريق التي يسلكها:

وكنت تبيع الغانيات فإنما
يذم وفاء الغانيات تبيعُها
وحسناء لم تحسن صنيعًا وربما
صبوت إلى حسناء سيء صنيعُها
عجبت لها تبدي القلى وأودُّها
وللنفس تعصيني هوى وأطيعُها
تشكى الوجي والليل متلبس الدجى
غريرية الأنساب مرتٌ بقيعُها٤

في هذا البيت غرابة لفظية ولكنكم تحسون موسيقى في الشطر الأول منه ثم يقول:

ولست بزوار الملوك على الوجى
لئن لم تجل أغراضها ونسوعُها٥
تؤم القصور البيض من أرض بابل
بحيثُ تلاقى غربها وبديعُها
إذا أشرف البرج المطل رمينه
بأبصار خوص قد أرثت قطوعُها

والبرج: قصر من قصور المتوكل في سُرَّ من رأى:

يُضيء لها قصد السرى لمعانه
إذا اسودَّ من ظلماء ليل هزيعُها

إلى هنا تغزل البحتري مقتصدًا، ووصف الطريق والغاية مقتصدًا؛ لأنه يريد أن يصل إلى المدح إذ يقول:

نزور أمير المؤمنين ودونه
سهوب البلاد رحبها ووسيعُها
إذا ما هبطنا بلدة كر أهلها
أحاديث إحسان نداه يُذيعُها
حمى حوزة الإسلام فارتدع العِدَى
وقد علموا أن لن يُرام منيعُها
ولما رعى سرب الرعية ذادها
عن الجدب مخضر التلاع مريعُها

ونلاحظ هنا أنه تعمد عيبًا من هذه العيوب التي يحبها الشعراء وهو الزِّحاف، وكان يجب أن يقول «البلادي» بالمد لكي يستقيم الوزن، إلى أن يقول:

علمت يقينًا مذ توكل جعفر
على الله فيها أنه لا يضيعُها

انظروا هذا التكلف وهو تكلف لا شك من أضعف تكلفات المولدين؛ إذ تعمد أن يذكر اسم الخليفة كاملًا وهو «جعفر المتوكل على الله»، وهو يظن أن في هذا النوع من التعبير شيئًا من الظرف، ومن غير شك قد كان ظنه صادقًا، وليس من شك أن الذين سمعوه قد أحسوا بهذا الظرف، أما أنا فلست أرى فيه شيئًا من هذا الظرف، ولست أدري أيوافق القراء والنقاد على هذا أم يخالفونني … ثم يقول:

جلا الشك عن أبصارنا بخلافة
نفى الظلم عنا والظلام صديعُها٦
هي الشمس أبدى رونق الحق نورها
وأشرق في سر القلوب طلوعُها

أما الإجادة الفنية فتبتدئ من البيت الآتي:

أسيتُ لأخوالي ربيعة إذ عفت
مصايفها منها وأقوت ربوعُها
بكرهيَ أن باتت خلاء ديارها
ووحشًا مغانيها وشتى جموعُها
وأمست تساقي الموت من بعد ما غدت
شروبًا تساقي الراح رفهًا شروعُها٧

تصوروا الحياة البدوية وقد وقع الشر بينها وأُرِيقت فيها قطرة من دم ومتى أُرِيقت قطرة من دم البادية فقد وقع شر مستطير، فأبى الذين أصابهم الضر إلا أن يثأروا لأنفسهم، ثم يأبى الذين أخذوا منهم بالثأر إلا أن يثأروا لأنفسهم أيضًا، ويأبى الذين أخذ منهم بالثأر إلا أن يثأروا لأنفسهم ثانيًا، وهكذا كما نرى في قوله:

إذا افترقوا عن وقعة جمعتهم
لأخرى دماءٌ ما يُطَلُّ نجيعُها٨
تذم الفتاة الرود شيمة بعلها
إذا بات دون الثأر وهو ضجيعُها
حَمية شعب جاهلي وعزة
كليبية أعيا الرجالَ خصوعُها
وفرسان هيجاء تجيش صدورها
بأحقادها حتى تضيق دروعُها

ثم انظروا مع هذا المعنى إلى هذه الألفاظ المختارة، ألفاظ في غاية المتانة محببة إلى النفس، انظروا إلى هذا البيت:

تُقتل من وتر أعزَّ نفوسها
عليها بأيد ما تكاد تُطيعُها

بهذا البيت جمع البحتري أرقى ما يمكن أن يشعر به البدوي في هذا الظرف وما عند العرب من طبيعة، فهم يقتلون النفوس، ولكنهم بعد هذا كله وفوق هذا كله من الناس يحسون عواطف المودة والقربى، وهم أيضًا يحسون الثأر للشرف والرقة لعاطفة القربى، ثم انظروا إلى هذين البيتين اللذين استطاع البحتري أن يثبت بهما أن فن البديع أو أنواعه، إذا استطاع الشاعر أن يحسن استخدامها كانت مصدر جمال قوي رائع:

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعُها
شواجر أرماح تقطع بينهم
شواجر أرحام ملوم قطوعُها

انظروا إلى هذه الأبيات، ماذا تجدون فيها؟ دعوا ما في الألفاظ من الجمال الفني الخالص وقفوا عند المعاني، فستجدون أن البحتري قد تجاوز العصر الذي كان يعيش فيه، وعبَّر عن معانٍ إنسانية رائعة يحسها الناس في كل وقت، وفي جميع الظروف.

بعد هذا ينتقل البحتري إلى الجزء الأخير وهو الثناء على المتوكل؛ لأنه استطاع أن يُصلح بينهم:

فلولا أمير المؤمنين وطوله
لعادت جيوبٌ والدماء رُدُوعُها
ولاصطلمت جرثومةٌ تغلبية
به استُبقِيَتْ أغصانها وفروعُها
رفعت بضبعَيْ تغلب ابنة وائل
وقد يئست أن يستقل صريعُها
وكنت أمين الله مولى حياتها
ومولاك فتح يوم ذاك شفيعُها
لعمري لقد شرفته بصنيعة
إليهم ونعمى ظل فيهم يشيعُها
تألفهم من بعد ما شردت بهم
حفائظُ أخلاق بطيء رجوعُها
فأبصر غاويها المحجة فاهتدى
وأقصر غاليها ودانى شسوعُها

انظروا إلى لفظة «شسوع» هنا، وقد أراد البحتري أن يكون بدويًّا فجاء بالسين بعد الشين فلم يعجبني:

وأمضي قضاءً بينها فتحاجزت
ومخفوضها راضٍ به ورفيعُها
فقد رُكِزت سمر الرماح وأُغمِدت
رفاق الظبا مجفوها وصنيعُها
فقرت قلوبٌ كان جمًّا وجيبها
ونامت عيونٌ كان نزرًا هجوعُها
أتتك وقد ثابت إليها حلومها
وباعدها عما كرهت نزوعُها
تعيد وتبدي من ثناء كأنه
سبائب روض الحزن جاد ربيعُها
تصُد حياء أن تراك بأعين
أتى الذنب عاصيها فلِيمَ مطيعُها
ولا عذر إلا أن حلم حليمها
يسفه في شر جناه خليعُها
بقيت فكم أبقيت بالعفو محسنًا
على تغلب حتى استمر ظليعُها
ومشفقة تخشى حمامًا على ابنها
لأول هيجاء تلاقى جموعُها
ربطت بصلح القوم نافر جأشها
ففر حشاها واطمأنت ضلوعُها

في هذه القصيدة تجدون فنونًا من الجمال، تجدون أولًا هذه الأعرابية الواضحة التي فيها شيء من الجفوة، ولكنها جفوة نحبها ونستعذبها؛ لأنها تصور لنا حياة الصحراء وما فيها من شعور بهذه الغلظة الساذجة التي تلائم الطبيعة وقد ضقنا ذرعًا بالحياة الحضرية، ثم تجدون فيها هذه الألفاظ الضخمة التي لم يَرقَّ منها لفظ رقة تجعله شديد السهولة في السمع، وإنما هي الرقة التي تحببه إلى النفس، وإلى جانب هذه الرقة الجزالة التي ترفعه عن الابتذال، ثم هذه الطريقة التي سلكها في هذه الأبيات:

وقد راعني منها الصدود وإنما
نصد لشيب في عذارى يروعُها
وكنت تبيع الغانيات فإنما
يذم وفاء الغانيات تبيعُها
وحسناء لم تحسن صنيعًا وربما
صبوتُ إلى حسناء سيء صنيعُها

هذا النوع من الترشيح للقافية في الشطر الأول يعجبنا أيضًا؛ لأنه يثير في نفوسنا شيئًا من الموسيقى والجمال، ثم هذه المطابقات والمقابلات التي سردها، في بساطة ويُسر من غير أن يكلف نفسه مشقة، أو أن يكلفك مشقة، وبالطريقة التي يُخيَّل إليك بها أن هذا الشعر أيسر ما يمكن، فإذا عمدت إليه وجدت تقليده عسيرًا.

فأنتم ترون أن شعر البحتري ليس هو بهذا الشعر الذي يمكن أن يقال فيه إنه مطبوع سهل من جميع وجوهه، كما أنه ليس من السهل أن يقال فيه إنه شعر سهل يسير، وإنما أخص ما يمتاز به هذا الشعر أنه مطبوع في أكثره، وقد تظهر فيه صنعة حلوة في كثير من المواضع، ولكن البحتري قد يحتذي حذو أستاذه أبي تمام ويمعن في تقليده، لا من ناحية اللغة العربية وآدابها فحسب، بل من النواحي العلمية والفلسفية التي كانت شائعة في هذا العصر، والتي كان حظ أبي تمام منها عظيمًا، والتي يظهر أن البحتري كان مقتصدًا فيها، فإذا عمد البحتري إلى تقليد أستاذه أبي تمام تورط في ألوان من السخف، وفي ألوان من الرداءة.

•••

لم تُختم حياة البحتري ختامًا حسنًا، فقد رثى بعض أصدقائه بأبيات انتهزها أعداؤه فرصة فشنعوا عليه واتهموه بالزندقة؛ لأنه يصف الدنيا فيقول: إن الذي يتأمل الدنيا يراها وإن كانت من صنع صانع واحد، يخيل إليه أن ما فيها خلق حكيم وخلق أخرق، والرجل معترف قبل هذا أن الدنيا إنما هي من خلق خالق واحد، وهذه الأبيات هي:

أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد
لها، ومتى حدَّثت نفسك فاصدقِ
أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التـْ
ـتَجمع إلا علة للتفرقِ
أرى العيش ظلًّا توشك الشمس نقله
فكِس في ابتغاء العيش كيسك أومقِ
أرى الدهر غولًا للنفوس وإنما
يقي الله في بعض المواطن من يقي
فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى
وعرج على الباقي فسائله لم بقي
ولم أرَ كالدنيا حليلة وامق
محب متى تحسن بعينيه تطلقِ
تراها عيانًا وهي صنعة واحد
فتحسبها صُنعَيْ حكيم وأخرقِ

شاعت هذه الأبيات وشنع عليه بها أعداؤه، وقالوا يذهب مذهب الفرس الذين يدينون بإلهين، إله للخير وإله للشر، وكان سلطان العامة قد عظم، فأشفق البحتري على نفسه وقال لابنه: هلم بنا يا بني نخرج خرجة من بغداد إلى بلدنا، نقيم فيه حينًا ثم نعود إلى بغداد، وخرج مع ابنه إلى مَنبج بالشام، ولكنه لم يعد فقد مات بمنبج، وقد نيف على الثمانين.

خاتمة

حياة البحتري المفصلة مجهولة أو كالمجهولة، ولكن شعره مهما يكن أمره، ومع أني لا أتردد ولا أحتاط في أن أقدم عليه شعر أبي تمام، بل لا أتردد ولا أحتاط في أن أقدم أبا تمام على معاصريه جميعًا.

مع هذا كله، فشعر البحتري من أجمل ما ترك لنا الأدب العربي العباسي، كل ما أتمناه أن أكون داعيًا لكثير من الذين لم يتعودوا قراءة الشعر العربي القديم أن يقرءوه، وأنا أعدهم بأنهم سيجدون فيه لذة لا تعدلها لذة.

١  انظر كتاب الأغاني لأبي الفرج.
٢  دحضًا: أي زلقًا.
٣  هذاذيك: أي قطع بعد قطع، والوخض: الطعن غير المبالغ فيه.
٤  الوجي: الحفي. وغريرية: نسبة إلى غرير، فحل من الإبل. ومرت: لا نبات فيها.
٥  الأغراض: جمع غرض، وهو للرحل كالخزام للسرج. والنسوع: جمع نسع، وهو حبل من أدم يُنسَج عريضًا تُشَد به الرحال.
٦  صديعها: صبحها.
٧  الرفه: أن ترد الإبل الماء كل يوم متى شاءت. والشروع: الإبل الداخلة في الماء.
٨  يُطَل: يُهدَر. والنجيع: الدم يضرب إلى السواد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤