المحبة

حينئذٍ قالت له الْمِطْرَة: هات لنا خطبة في المحبة.

فرفع رأسه ونظر إلى الشعب نظرة محبة وحنان، فصمتوا جميعهم خاشعين، فقال لهم بصوت عظيم:

fig2
المحبة.
إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها،
وإن كانت مسالكها صعبة متحدِّرة.
وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها،
وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.
وإذا خاطبتكم المحبة فصدِّقوها،
وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعًا صفصفًا.

•••

لأنه كما أن المحبة تكللكم، فهي أيضًا تصلبكم.
وكما تعمل على نُمُوِّكم، هكذا تعلِّمكم وتستأصل الفاسد منكم.
وكما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس،
هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب وتهزُّها في سكينة الليل.

•••

المحبة تضمُّكم إلى قلبها كأغمار الحنطة،
وتدرسكم على بيادرها لكي تُظهر عريكم،
وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم،
وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج،
وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا،
ثمَّ تعدُّكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزًا مقدَّسًا يقرَّب على مائدة الرب المقدَّسة.

•••

كل هذا تصنعه المحبة بكم، لكي تدركوا أسرار قلوبكم، فتصبحوا بهذا الإدراك جزءًا من قلب الحياة.
غير أنَّكم إذا خفتم، وقصرتم سعيكم على الطمأنينة واللذة في المحبة،
فالأجدر بكم أن تستروا عريكم وتخرجوا من بيدر المحبة إلى العالم البعيد حيثما تضحكون، ولكن ليس كل ضحككم، وتبكون، ولكن ليس كل ما في مآقيكم من الدموع.
المحبة لا تُعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها.
المحبة لا تَمْلك شيئًا، ولا تريد أن يملكها أحد؛
لأنَّ المحبة مكتفية بالمحبة.
أما أنت إذا أحببت فلا تقل: «إنَّ الله في قلبي»، بل قُل بالأحرى: «أنا في قلب الله.»
ولا يخطر لك البتَّة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة؛ لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقًا لنعمتها تتسلط على مسالكك.
والمحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسها.
ولكن إذا أحببت، وكان لا بدَّ من أن تكون لك رغبات خاصة بك، فلتكن هذه رغباتك:
أن تذوب وتكون كجدول متدفق يشنِّف آذان الليل بأنغامه.
أن تخبر الآلام التي في العطف المتناهي.
أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك، وأن تنزف دماؤك وأنت راضٍ مغتبط.
أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق، فتؤدي واجب الشكر ملتمسًا يوم محبة آخر.
أن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبة.
أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكرًا؛
فتنام حينئذٍ والصلاة لأجل من أحببت تتردد في قلبك، وأنشودة الحمد والثناء مرتسمة على شفتيك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤