العمل

ثمَّ جاء إليه فلاح وقال له: هاتِ حدِّثنا عن العمل.

فأجاب قائلًا:

إنَّكم تشتغلون لكي تجاروا الأرض ونفس الأرض في سيرها؛
لأن الكسول غريب عن فصول الأرض، وهائم لا يسير في موكب الحياة، السائرة بعظمة وجلال في فضاء اللانهاية إلى غير المتناهي.

•••

فإذا اشتغلت فما أنت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام، فتتحول إلى موسيقى خالدة.
ومن منكم يودُّ أن يكونَ قصبةً خرساء صماء، وجميع ما حولها يترنَّم معًا بأنغام متفقة؟
قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة.
أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءًا من حلم الأرض البعيد، جزءًا خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم.
فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة؛
لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها، وتُدنيه من أبعد أسرارها.

•••

ولكن إذا كنتم وأنتم في الآلام تدَّعون الولادة كآبة، ودعامة الجسد لعنة مكتوبة على جباهكم، فإنني الحقَّ أقول لكم، إنه ما من شيء يستطيع أن يمحو هذه الكتابة ويغسل جباهكم من آثارها سوى سعيكم وجهادكم.
وقد ورثتم عن جدودكم القول إن الحياة ظلمة، فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجون.
فالحقَّ أقول لكم، إن الحياة تكون بالحقيقة ظُلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة،
والحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة،
والمعرفة تكون عميقة سقيمة إن لم يرافقها العمل،
والعمل يكون باطلًا وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة؛ لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم وأفرادكم بعضها ببعض، ويرتبط كل واحد منكم بربه.

•••

وما هو العمل المقرون بالمحبة؟
هو أن تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك، مفكِّرًا أن حبيبك سيرتدي ذلك الرداء.
هو أن تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك وإخلاصك، مفكِّرًا أن حبيبك سيقطن في ذلك البيت.
هو أن تبذر البذور بدقَّة وعناية، وتجمع الحصاد بفرح ولذة، كأنك تجمعه لكي يقدَّم على مائدة حبيبك.
هو أن تضع في كل عمل من أعمالك نسمة من روحك،
وتثق بأن جميع الأموات الأطهار محيطون بك يراقبون ويتأملون.

•••

وكثيرًا ما كنت أسمعكم تناجون أنفسكم، كأنكم في نوم عميق، قائلين: «إن الذي يشتغل بنحت الرخام، فيوجِد مثالًا محسوسًا لنفسه في الحجر الأصم هو أشرف من الفلاح الذي يحرث الأرض،
والذي يستعير من قوس قُزَح ألوانًا يُحوِّل بها قطعة النسيج الحقيرة إلى صورة إنسان، هو أفضل من الإسكاف الذي يصنع الأحذية لأقدامنا.»
ولكنني أقول لكم، لا في نوم الليل، بل في يقظة الظهيرة البالغة، إن الريح لا تخاطب السنديانة الجبارة بلهجة أحلى من اللهجة التي تخاطب بها أحقر أعشاب الأرض.
والعظيم العظيم ذلك الذي يحوِّل هينمة الريح إلى أنشودة تزيدها محبته حلاوة وعذوبة.

•••

أجل، إنَّ العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة.
فإن لم تقدر أن تشتغل بمحبة وكنت متضجرًا ملولًا، فالأجدر بك أن تترك عملك وتجلس على درجات الهيكل تلتمس صدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينة؛
لأنك إذا خبزت خُبزًا وأنت لا تجد لك لذة في عملك، فإنما أنت تخبز علقمًا لا يُشْبِع سوى نصف مجاعة الإنسان.
وإذا تذمرت وأنت تعصر عنبك، فإن تذمرك يدسُّ لك سُمًّا في الخمرة المستقطرة من ذلك العصير.
وإن أنشدت أناشيد الملائكة، ولم تحب أن تكون منشدًا، فإنما أنت تصمُّ آذان الناس بأنغامك عن الإصغاء إلى أناشيد الليل وأناشيد النهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤