شروط الأخذ من لغة

  • أول شروط الأخذ: اتصال الأمة الواحدة بالأمة الثانية؛ أي إن الأمة الآخذة كلمتها من الأمة الثانية المقتبسة منها الكلمة أن تتصل بها، وقد يكون هذا الاتصال بالْجِوار، أو المتاجرة، أو المعاملة، أو المصادقة، أو المكاتبة، أو المطالعة، وهاتان الصلتان من مزايا هذا العصر، فإن لم يكن ثَمَّ اتصال، فلا أخذ، ونحن نذكر لك بعض الشواهد العصرية، فالفوتغرافية والتلغراف والتلفون، وما أشبه هذه الكلم العصرية هي يونانية الأصل، لكن لا نستطيع أن نقول إننا اقتبسناها من اليونان، بل من أبناء الغرب كالفرنسيين، والإنجليز، والإيطاليين، والألمان مثلًا، وهؤلاء وضعوا الكلمة نحتًا من اليونانية، أو من اللاتينية، فهم اقتبسوها من كتب الْهَلَّنيين لا منهم مباشرة، وهذه مسألة لا بد من الاحتفاظ بها؛ لكي لا ينخدع الكاتب بما ينقله عن الغير، أو يدعي بأنه مقتبس من الأمة الفلانية؛ إذ يكون خاطئًا في مُدَّعاه.
  • الشرط الثاني: لا يشترط في الأخذ أن تأتي الكلمة في العربية مطابقةً «كل المطابقة» للكلمة الواردة في اللغة المأخوذة منها؛ بل قد يجوز أن يكون أُخِذ منها بعض معناها؛ أو أن العرب تصرفت في معناها بعد نقلهم إياها إلى لغتهم، وربما صحفتها أيضًا، فالقرطاس مثلًا يونانية من (khartès,ou) χάϱιης, ου (δ) ومعناها الورقة من الكاغِد، فالسلف ثلثَّوها، مع أنها في الأصل مفتوحة، ثم نقلوها إلى قَرْطَس كجعفر وقِرْطَس كدِرهم، وقالوا من معانيها: «الجمل الآدم أو الجارية البيضاء المديدة القامة، والصحيفة من أي شيء كانت، وكل أديم يُنْصب للنضال، والناقة الفَتيَّة، وبُرْد١ مصري، ودابة قِرْطَاسِية لا يخالط بياضَها شِيَةٌ، ورَمَى فقرطس: أصاب القِرطاس، وتَقَرْطَس: هَلَك» (القاموس).

    فأنت ترى من هذا أن المعاني تعددت وكلها مبنية على التوسع في البياض؛ لأن اللون الغالب على الكاغِد هو البياض، وكان الأولون ينْصِبون للنضال قطعة قرطاس، لتظهر ظهورًا بينًا للرامي، فَسُمِّيَ الغرض قرطاسًا، وإذا أُصيب الغرض مُزِّق، فانتقل المعنى إلى مَنْ يصيبه سَهْم القدر أو الموت فيقتلُهُ، وعلى هذا الوجه تُرى مئاتٌ من الكلم المعربة جاريةً هذا المجرى.

  • الشرط الثالث: ليس من الضروري أن تعرَّب الكلمة لحاجة الناس إليها أو إلى معناها، كما ذهب كثير من اللغويين؛ إذ يظنون أن الكلمة الفلانية غير معرَّبة؛ لأن الناطقين بالضاد لم يحتاجوا إليها؛ إذ مَعْنيُّها موجود في بلادهم، أو لأن في لغتهم ما يُغْنِيهم عنها، أو لعدم احتياجهم إليها، إلى ما ضاهى هذه الأسباب، لكن السلف نطقوا بألفاظ دخيلة كانوا في غنًى عنها، وإنما تكلموا بها لأنهم أرادوا ذلك، أو حاولوا أن يكلموا مَنْ فهم تلك الكلمة ولا يفهم غيرها، أو أرادوا أن يطلعوا السامع أنهم يعرفون معاني بعض الكلم العجمية، أو لأن اللفظة الدخيلة طبعت في النفس طابعًا لا تؤدي إليه مفردتنا؛ إذ إن حروفهم غير حروفنا، ونبرتهم غير نبرتنا، والاشتقاق من أصولهم غير الاشتقاق من أصولنا، وشعورنا بتلك الدخيلات غير شعورنا بألفاظنا الضادِية، إلى غير هذه الأمور المتعددة.

    فقد جاء في لسان العرب في مادة «س و ر»: «وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: أن النبي ، قال لأصحابه: قوموا، فقد صنع جابر «سُورًا»، قال أبو العباس: وإنما يُراد من هذا أن النبي تكلم بالفارسية، صَنَعَ سُورًا أي طعامًا، دعا الناس إليه.» ا.ﻫ.

    فقد كان يستطيع الرسول أن يقول صنع طعامًا، أو صنع ضيافة، أو وليمة، أو أدب مأدبة، إلى غيرها من المفردات التي تُعَدُّ بالعشرات؛ لكنهُ عدل عنها كلها؛ لأن «سُورًا» بالفارسية طبعت في النفس طابعًا لا يُشْعَر به أو لا يُحَسُّ به إذا قيل غيرها.

    ومثل ذلك ما نقلهُ المذكور من كلام أمير المؤمنين فقد ذكر في تركيب «ق ل ن» ما هذا نقلُهُ: «الأزهري: روي عن عليٍّ عليه السلام أنه سأل شُرَيْحًا عن امرأة طلقت، فذكرت أنها حاضت ثلاث حِيَض في شهر واحدٍ، فقال شُرَيْحٌ: إن شهد ثلاث نسوةٍ من بطانة أهلها أنها كانت تحيض قبل أن طُلِّقت في كل شهر كذلك، فالقول قولها، فقال عليٌّ: «قالون.» قال غير واحدٍ من أهل العلم: قالون بالرومية معناها: أصبت … وذكر هناك مثل هذه الكلمة ونسبها إلى عبد الله بن عمر وفسرها برجل صالح.»

    قلنا وقالون كلمة يونانية χαλός, ή, ον (kalos,è,on) ومعناها: حسن وصالح وجيد، إلى آخر ما ضاهى هذه الألفاظ، وتقال على الناس وعلى غير الناس.
  • الشرط الرابع: يعرف الدخيل في لغتنا بكثرة أحرفه، وبأنه لا يمتُّ إلى أصل عربي بما يوجه وضعه، واشتقاقه، وصيغته؛ ولهذا تكثر فيه اللغات؛ أي اختلافات الكلمة الواحدة بأوجهٍ شتى، هذا من باب الأغلبية؛ إذ قد تكون الكلمة دخيلة وهي ثلاثية، أو قد تؤوَّل الدخيلة بما يوجه اشتقاقها، وإن لم يرد فيها لغات، لكن كلامنا يقع على غالب ما جاء في هذا الباب، وإلا فقد ورد ما يخالفه والحكم على الغالب.
    فقد عُرِّبت ιό χήιος εος-ους (kètos) بأوجهٍ شتى، فقالوا ما هذا بعضهُ: القَاطُوس، والعَاطُوس، والقِيطُس، والغاطوس، والفاغوس، والقَطَّا، وحُوت الْحَيْض، ولا نريد أن نثبت محل ورودها لئلا يسوقنا الكلام إلى أَبْعَدِ ما نَوَيْناهُ من طيَّتِنا، مع أن السلف كانوا في غنًى عن هذه الكلمات؛ لأن عندهم «الحوت» وهو ينظر إلى الكلمة اليونانية نفسها؛ لأن k تقابل الحاء في لغتنا في أغلب الأحيان فتدبَّر.
    وعرَّبوا φάλαινα (BALAENA) بما يأتي: البال، والوال، والفال، والأوال، والأَفَال، والشال، والآل، والوالي، والأول، والأوك، والواك، وأكيال، والبالام، وقد ذكرنا في كتابنا «أغلاط اللغويين الأقدمين» مواطن ورود هذه الكلم، فلتُراجع من ص٢٦٨ إلى آخر ص٢٧٤، وكان العرب تسمِّيها: «جمل البحر»، فهذه اللغات الثلاث عشرة لا تتصل بأصل عربي يوجِّه هذه التسمية، وهذا الباب أوسع مِمَّا أن تُعَيَّن حُدودهُ، فالوقوف عند هذا الأفق أوفق وآمن.
  • الشرط الخامس: إن العرب عند تعريبهم الكلمة قد يتحكمون في تعيين معانيها على ما يهوون، من غير أن يحق للأعاجم أو لبعض المتنطعين أن يردوهم عن قصدهم ويقولوا لهم أخطأتم في المعنى؛ لأن هذا المعنى ليس في الأصل، أو أن يقولوا لهم أخطأتم في إفراغ الكلمة الدخيلة بهذا القَالَب الذي يُنكرهُ الأجانب على الناطقين بالضاد، فكل ذلك مماحكات لا معنى لها.
    مثال ذلك: الأُوقيانوس، وهو باليونانيَّة δ ωχεανός ου (okeanos)، فإن أبناءَ يعرب لما أرادوا معنى «البحر المحيط» عَرَّبوهُ بصورة «الأوقِيانُوس»، أو «الأوقِيانُس»، أو «الأقْيَانس»، أو «الأقْيَانُوس»، وقصروهُ بصورة (القاموس)، ثم صَحَّفوهُ قليلًا فقالوا: «الإِفْرِيدُوس»، وقد وردت في كُتُب أوْصَاف البلدان، قال قريتغ: إنها تَصْحيف «الأقيانوس»، وهو عندهم بحر محيط بالأرض؛ إلا أن السفن لا تجري فيه، لأن حواشي الأرض هناك، مكفوفةٌ كف الثياب. ا.ﻫ.
    وقصروهُ قَصرًا آخر بصورة «قَيْنَس» وزان زَيْنب، وأرادوا به البحر الثالث من أَبْحر الأرض السبعة٢ ذكرهُ صاحب قصص الأنبياء محمد بن عبد الله الكسائي (طبع لَيْدَن في ص٩).

    وصحَّفوهُ بصورة «عِقْيَوْن» وزان «كِدْبَوْن»، وقالوا عليهِ: بحر من الريح تحت العرش، فيه ملائكة من ريح، معهم رِماح من ريح، ناظرين إلى العرش، تسبيحهم «سُبْحَان ربِّنا الأعلى.» راجع محيط المحيط في «ع ق ي ون».

  • الشرط السادس: لا حقَّ لأحدٍ أن يعترض على أبناء عدنان أن يتخذوا اسمًا مفردًا يضعونهُ هم، وقد استلُّوه من لفظٍ مجموع دخيل. مثال ذلك: النِّبْر لبَيْت التاجر الذي يُنَضِّد فيه المتاع، فإنه مفرد أنبار، وأَنْبَار تعريب اليونانية έμπόϱιον (EMPORION) بمعناه.
    والفردوس للبستان، فإن جمعه فراديس، وفراديس تعريب اليونانية δ παϱάδεισος, ου PARADEISOS واليونانية من الزنديَّة بَيْرِدايزا.
    والقرميد مفرد القراميد، وهذه مأخوذة من اليونانية χεϱαμίς, ίδος (keramis, idos).
    والقرن بمعنى الوقت من الزمان هو من قرون δ χϱόνος (KHRONOS)، والكر بمعنى عشرة ملايين هو مفرد الكرور المعرَّب من الهندية كرور وتلفظ CROR، والدرب دروب وأصله في اليونانية ΰνϱώμ, (αια,ων) (thurom, (ata,όn)).
    وفي المائة الثامنة عشرة من الميلاد دخل في كلامنا الغِرْش أو القِرْش على يد الترك باختلاطنا بهم، وهم اقتبسوهُ من الألمان، من غروشن أي GROSCHEN.

    وهكذا يقال عن ألفاظ أُخر جاءتنا عن هذه السبيل أو عن سبيل أخرى، فجرَّد السلف من اللفظ المجموع مفردًا، والناظر إليه يظنُّ الخلاف، والأصل ما ذكرناه.

  • الشرط السابع: لا اعتراض على أبناء مُضَرَ إذا قطعوا الكلمة قِطْعَتَيْن صدرًا وعجُزًا، فيحتفظون بصدرها ويُلقون عجُزها، أو يحتفظون بعجزها ويلقون صدرها، أو يحتفظون بكلٍّ من صدرها وَعَجُزها ويُعَيِّنُون لكلٍّ من هذين الجزءين معنًى مستقلًّا بذاته.
    مثال الاحتفاظ بالصدر: نَشَا سْتَج، فإنهم قطعوا الكلمة جزأين فقالوا: «نَشَا»، أو «نشاء»، ورموا «سْتج»، وقالوا في هَزَاردَسْتَان: «هزار»، وألقوا «دَسْتان»، وقالوا في «دِيْك باي»: «الديك». أي الأثفية وفي σαϱχοφάγος الشَّرْجَع.

    ومثال الثاني: خَرْدَاذِي فإنهم نبذوا «خَر»، واحتفظوا ﺑ «دَاذِي». وقالوا في «أذريطوس»: «الطُّوس»، وقالوا في «نابَهْرَهْ»: «الْبَهْرَج».

    ومثال الثالث: «أُدْرَه قيلة»، وهي من hydrokèlè ΰδϱοχηλης (ή)، فقالوا: «أُدْرَة»، و«قِيلَة»، وكل منهما يعني الفتق في إحدي الخصيين (راجع القاموس).
  • الشرط الثامن: أن لا يحكم الباحث على أن اللفظة الفلانية هي تعريب الكلمة الأجنبية الفلانية لمجرد مجانسة أو مشابهة بين الاثنتين، فلا يحق له أن يقول مثلًا: إن الجليد تعريب GELIDUS اللاتينية، وهي كالعربية مبنًى ومعنًى؛ لأن الروميَّة من فعل GELARE، والضادية من «جَلَدَ»، وبين الفعلين فرق بَيِّن، فالمشابهة عرضية ومن باب المصادفة لا غير.
    ولا يقال: إن الْعُتُل وهو الغليظ الجافي من اليونانية άΰήλυς, (athélus) أي غير المخنَّث، فإن المشابهة ظاهرة لا غير، وأما الأصول فمتباعدة بعضها عن بعضٍ.

    وإننا نكتفي هنا بهذه الشروط، مذخرين كلامًا أطول في كتابنا الموسوم ﺑ «المعرَّبات وفوائدها».

هوامش

(١) كذا ورد في القاموس ولسان العرب، ولعل سبب هذه التسمية بياض ذلك البُرد كالقباطي مثلًا، وقد اشتهرت ببياضها النَّاصع ورِقَّتها، وكانت من كتان، لكن يحتمل أيضًا أن تكون الكلمة تصحيفَ «الْبَرْدِي المصري»، وبردي مصر مشهور بحسنه وهو يكاد يكون أبيض؛ أي إنه آدم اللون كالجمل المذكور آنفًا، وقد كتب ابن النديم في فهرسته (ص٢١ من طبعة الإفرنج): «كتب أهل مصر في القرطاس المصري. ويُعمل من قصب البردي. وقيل أول مَنْ عمله يوسف النبي عليه السلام.» ا.ﻫ. فالقرطاس هنا بمعنى البابيرس أو الفافيرس PAPYRUS، ومنه اشتق الإفرنج كلمتهم PAPIER، والقرطاس يُسَمَّى باللاتينية CHARTA، ويُراد به البردي المصري، ومنه قولهم: CHARTAM TEXERE، أي نَسَج البردي أو نضَّده، ويُراد من ذلك صَنَع ورقًا. وقيل ذلك؛ لأن الأقدمين كانوا يتخذون ورقهم أو كاغِدهم أو قرطاسهم من تنضيد قشر البردي المصري دون غيره؛ ولهذا وجدنا الصواب هنا البردي المصري، لا الْبُرْد، اللهم إلا أن يقال إن الْبُرْد هنا جمع برْدي، كما قالوا في جمع تركي وكردي ورومي: ترك وكرد وروم، وضموا الباء إشفاقًا من اللبس؛ لأننا لو فتحنا باء الْبُرْد جاءَنا الْبَرْد، وهو غير مرغوب فيه في هذا الموطن، زِدْ على ذلك أن CHARTA اللاتينية معناها الْبَرْدي نفسه؛ أي النبات الذي يُتخذ منه القرطاس، فرَأْيُنا في رد المعنى إلى أصله لا غبار عليه.
(٢) أشهر البحار عندهم سبعة وهي: الأول بَيْطَش وأكثرهم يسمونه: نيطش، وهو البحر الذي يُسَمَّى اليوم الأسود. والثاني: الأصم وهو بحر الروم أو البحر المتوسط، وهو الذي يسمِّيه بعضهم البحر «الأبيض» المتوسط، والبحر الأبيض بحر آخر غير بحر الروم. والثالث: هو قَيْنَس هذا الذي ذكرناه وَسُمِّيَ كذلك لعظمه. والرابع: الساكن وهو المشهور بالهادئ أو الباسيفيك أو الباسيفيكي، والياء لزيادة في الصفة كما في دوَّار ودوَّاري، وأحمر وأحمري. والخامس: الْمُغَلِّب وهو بحر الهند؛ لأنه يفضي إلى هذه الديار المعروفة بغناها وأموالها،والسادس: الْمُؤَنِّس بتشديد النون المكسورة، هو الأتلنتي أو الأتلنتيكي، وهو الذي سَمَّاهُ بعضهم: الأطلسي، وهو وهم قبيح شنيع. والسابع: الباكي الذي ينتهي بباب المندب، باب البكاء والعويل، وقد كثرت أسماء هذا البحر واختلفت بين «بحر سوف»، و«بحر إساف»، و«بحر الْقُلْزُم»، و«البحر الأحمر»، وهو المشهور اليوم وعليه المعتمد في كتب المدارس والجرائد؛ لكن العرب الأقدمين لم تعرفه، بل عرفت بحر الْقُلْزم، وقبل ذلك: البحر الباكي، وبحر سوف أو بحر إساف، فاحفظه تُصِبْ إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤