أمثلة من الألفاظ المماتة أو البائدة

بَيَّنَّا أن ألفاظًا جمَّة، لا يعرف عددها إلا الله، ماتت من هذه اللغة لعدم تدوينها، أو لموت المتكلمين بها، أو لأنها لم تناسب البيئة التي تغيَّرت بتغيُّر الأحوال والمعيشة، على أن هناك شيئًا يدل على بعض تلك المنقرضات، ونحن نذكر هنا ما نظنُّهُ زال واضْمَحَلَّ، وأبقى له أثرًا ضئيلًا؛ مثال ذلك:
  • (١)

    فدِعَ: قال في القاموس: «الْفَدَعُ، مُحَرَّكةً: اعوجاجُ الرُّسْغ من اليدِ أو الرِّجْلِ، حتَّى يَنْقَلِبَ الكفُّ أو الْقَدَمُ إلى إِنْسِيِّها، أو هو الْمَشْيُ على ظَهْر الْقَدَم، أو ارتفاعُ أَخْمَصِ الْقَدَم، حتى لو وطِئَ الأَفْدَعُ عُصفورًا ما آذاهُ، أو هو عِوَجٌ في الْمَفاصِلِ، كأنها قَدْ زَالتْ عن مواضعها، وأكثرُ ما يكونُ في الأرساغ خِلْقَةً، أو زَيْغٌ بين الْقَدَم وبين عَظْم الساق، ومنهُ حديث ابن عُمَر: «أنَّ يهود خَيْبَرَ دفعوهُ من بيت، فَفَدِعت قَدَمُهُ.» وفي البعير أن تَرَاهُ يَطَأُ على أُمِّ قِرْدانِهِ، فَيَشْخَصُ صَدْر خُفِّهِ. جَمَلٌ أفدَع، وناقة فَدْعاء، والتفديع: أن تجعلهُ أفْدَع.» ا.ﻫ.

    والمعهود في الأفعال الدالة على عيب أو مرض أن تجيء على صيغة المجهول، أو على وزن فَرِح وتُشتق من أسماء الأعضاء نفسها، كقُلب البعير — على المجهول — أصابه القُلاب فهو مَقْلوب، والقُلاب: داء للبعير يشتكي منه قلبهُ، يُمِيتهُ من يومهِ.

    وكُبِد فلان — على المجهول — شكا كبدهُ فهو مكبود.

    وفُئِد فلان — على المجهول — فأْدًا، وَفَئِدَ كَفَرِح فَأَدًا بالتحريك: شَكَا فؤادهُ أو وَجِع فؤادُهُ، وأشباه ذلك كثيرة لا تخفى على الباحث.

    وعليه يكون اشتقاق «فدع» من كلمة تدلُّ على الرِّجل، أو القدم، وهي «الفدع» بضم الفاء أو كسرها، وهي موجودة في لغات كثيرة، بإسقاط حرف الحلق منها، فهي باللاتينيَّة PES, PEDIS، وباليونانية πούς ποδός، وبالهندية الفصحى pada-s أو pad,pad، وبالقوطيَّة fotu-s، وبالإنجليزية FOOT، وبالألمانية FUSS.

    (٢) ودونك كلمة ثانية هي «الفُقْع»، ففي هذه المادة معانٍ مختلفة، نلخِّصها لك من القاموس: «فَقَعَ لونهُ: اشتدت صفرتهُ، أو خلصت وصفت، وفَقَع الشيءُ: احمرَّ، وفَقَّع الأديم: حَمَّرَهُ، وتفاقعت عيناهُ: ابيضَّتا، وأحمر فاقِعٌ أو أصفَر فاقِعٌ؛ أي شديد مشبع اللون، ورجل فُقَاع (وهو غير منصرف؛ لأنهُ معدول عن فاقع، ووزنهُ وزن فُعَلٍ بزيادة الألف) أي أحمر، وأحمرُ أو أصفرُ فُقَاعِيٌّ أي شديد، والفِقِّيع: الأبيض من الحمام، وأبيضُ فِقِّيع أي شديد البياض، والفَقْع: البيضاء الرِّخوة من الكمأة، والجمع: فِقَعَةٌ كَعِنَبَةٍ، والفِقْع كالفَقْع: للكمأة المذكورة، والفقيع: الرجل الأحمر، والأفقع: الشديد البياض، والْمُفَقِّعَة: طائر أسود وأصل ذَنَبهِ أبيض.» ا.ﻫ. تلخيصًا.

    فالمعنى السائد في هذه الألفاظ لا يخرج عن أحمر وأصفر وأبيض، فالأحمر عند السلف يدل على كل من الأصفر والأبيض. يقولون: رجلٌ أبيض، كما يقولون: رجلٌ أحمر.

    ويسمون الذهب أصفر، كما يسمونه أحمر، وثَمَّ أدلة لا تُحصى على أن هذه الألوان الثلاثة قد تتبادل عند الأقدمين من أبناء الضاد.

    فلا جرم أنهم كانوا يعرفون مادةً حمراء موجودة في الطبيعة، حتى جاز لهم أن يستعملوا مشتقاتها للمعاني المذكورة، وهي مفقودة اليوم في اللغة، لكنها موجودة في اليونانية وهي φύχος εος-ους (ιό) (phukos)، وباللاتينية FUCUS، وهو نبت بحري، تُسْتَخْرج منهُ الْحُمْرة أو الْغُمْرة، وهي ما يُصْبَغُ بهِ الوجه بالأحمر، واستعار ابن البيطار اسم هذا النبات من اليونانية وسمَّاهُ «الْقُوقُس»، بقافين، فأخطأ، والصواب: الْفُوقُس، بفاءٍ مضمومة، يليها واو ساكنة، فقاف مضمومة، فسين، ولو درى أن الكلمة اليونانية نفسها سامية الأصل، كما أقرَّ بذلك علماء الغرب من الواقفين على أصول الكلم، لقال: «الفُقْع»؛ لأنك لَوْ حذفتَ من الْهَلَّنِيَّة السين، وهي من علامات الإعراب عندهم، لبقي «فوقو» فالواو الأولى عوض الضم؛ لأنه يُصَوَّر عندهم بهذهِ الصورة، والثانية هي عوض العين، والعين حرف حلقي يسقط في كلامهم، لكان الحاصل: «الفُقْع».

    (٣) وإليك مثلًا ثالثًا: جاء في اللغة: «القَرَمُ، مُحَرَّكةً، شِدَّة شهوة اللحم.»، وورد في تركيب عرن: «العَرين: اللَّحْم، والعَرَنُ، مُحَرَّكةً، اللحم المطبوخ، وأعْرَن: دام على أكل اللحم» (ملخص عن القاموس).

    وعندنا أن القَرَم، وهو على وزن فَعَل، يدل على عيب؛ كالعَرَج والْحَوَل، والقَبَل، والعيب يشتق من اسم يؤخذ منه العَيْب، والاسم الأصل هنا «القَرْمُ»: بفتح فسكون، وهو اللَّحْم، والكلمة تنظر إلى اللاتينية CARO, CARNIS وهو اللحم.

    وما العَرَن إلا لغة في القرم، أُبدلت فيها الميم نونًا والقاف عينًا، وإبدال الميم نونًا كثير في كلامهم (راجع المزهر طبعة بولاق ١ : ٢٢٢ و٢٢٥)، وكذلك إبدال القاف عينًا.

    فقد قالوا: القُصْلُب: العُصْلُب، وهو القوي الصُّلْب. وَعَبَا الثياب يَعْبَاها، مثل قبَاهَا يَقْبَاهَا، وطوَّعَت لهُ نفسهُ تطويعًا، مثل طوَّقت له نفسهُ تطويقًا؛ أي رخصت لهُ وسهَّلَت، إلى آخر ما هناك.

    ولا تتعجب إذا وقع إبدالان في حرفي الكلمة الواحدة، فقد جاء في اللسان في مادة «عرف» في نحو آخرها ما هذا نقلهُ: «وأما قولهُ: أنشدهُ يعقوب في البدل:

    وما كُنْتُ مِمَّنْ «عَرَّفَ» الشرَّ بينهم
    ولا حِينَ جَدَّ الْجِدُّ مِمَّنْ تَغَيَّبا

    فليس «عَرَّفَ» فيهِ (أي في هذا البيت) من هذا الباب (أي من مادة عرف يعرف)؛ إنما أراد «أَرَّثَ»، فأبدل الألف لمكان الهمزة عينًا، وأبدل الثاءَ فاءً.» انتهى.

    فأنت ترى من هذا البيت أن الشاعر كان في مندوحةٍ عن استعمال «عَرَّف» بمعنى «أَرَّث»؛ لأن الوزن واحد، والمعنى واحد، لكن «عرَّف» كانت لغة قومه، فلم يَحِدْ عنها، ومُثُلُ وقوع إبدال حرفين في الكلمة الواحدة كثيرة، وقد جمعنا منها شيئًا غير قليل، وبهذهِ الإشارة مجزأة.

    ومن لغات «قَرِمَ»: «قَطِمَ». قال اللغويُّون: قَطِمَ الرَّجُلُ: اشتهى اللَّحْم أو غيرهُ، والقَطَامِي وَيُضَمُّ: الصَّقْرُ، أو اللَّحِمُ منه كالْقَطَام: كَسَحَاب، فأنت ترى أن معنى «اللحم» ملازم لهذا التركيب وهو أمر عجيب غريب، وكل هذا الاختلاف حاصل عن اختلاف القبائل المبثوثة في ديار العرب.

    (٤) ومن الكلام الممات: الجَدَف محركةً: قال في اللسان: «الْجَدَف من الشراب: ما لم يُغَطَّ، وفي حديث عُمَرَ رضي الله عنهُ، حين سأل الرَّجُلَ الذي كان الْجِنُّ استهوَتْهُ: ما كان طعامُهم؟ قال: الفُول، وما لم يُذْكر اسم الله عليهِ، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الْجَدَفُ، وتفسيرُهُ في الحديث أنَّهُ ما لا يُغطَّى من الشراب، قال أبو عَمْرٍو: الْجَدَفُ، لم أسمعهُ إلا في هذا الحديث، وما جاء إلا وله أصل؛ ولكن ذهب مَنْ كان يعرفهُ ويتكلَّم بهِ، كما قد ذهب من كلامهم شيءٌ كثير.» ا.ﻫ. كلام ابن مكرم.

    قلنا الذي يبدو لنا أن الْجَدَف هنا فَعَلٌ بمعنى مفعول، كما قالوا: النَّفَض والقَبَض والْهَدَم بمعنى: المنفوض والمقبوض والمهدوم، ولما كان معنى الجدف المجدوف غطاؤهُ أي المرميُّ غطاؤهُ، كان معناهُ المكشوف أو الذي لا غِطاءَ عليهِ.

    (٥) ومن قبيل الْمُمَات البائد الذي لا ذكر لهُ في الأسفار التي بأيدينا: «الْبَرَم» بالتحريك. قال الفيروزآبادي: «الْبَرَم حَبُّ العِنب، إذا كان مثلَ رءوس الذَّرِّ، وقد أَبْرَمَ الْكَرْمُ.» ا.ﻫ.

    قلنا قولهُ مثل رءوس الذَّرِّ يوجب أن يكون «الْبَرَمُ» في معناهُ الأوَّل: الذَّرَّ ثم شبَّه بهِ حب العِنب؛ لأنْ لا بُدَّ من أن يكون للمشبَّهِ أصل موجودٌ في أصل المشبَّهِ به، إذن البرَم: الذَّر كما في اليونانية: (myrmèx, èkos) μύομηξ, ηχος، وهو باللاتينية FORMICA، وبالهندية الفُصَحى vamrà-h, VAMRI (VARMA-I).

    وَالْبَيْرَمُ في العربية: الْبِرْطِيل أي الحجر الطويل الصلب خِلقة، ينقر به الرحى، والكلمة اليونانية تعني الصخرة التي يُغَطِّيهَا الماء، فبين اللفظين والمعنيين تقارُب ونسبٌ.

    (٦) ومن الممات البائد: النُّهْر بضم النون، وإسكان الهاء، وفي الآخر راء، بمعنى الضياء، ومنها النهار، وهو ما تظهر فيه الشمس من ساعات اليوم، ولم ينطق به العرب، بل قالوا في مكانه: «النور».

    وقالوا: «الرُّكْبة»، وكان الحق أن يقال: «الْبُرْكة»؛ لأنهم اشتقوا منها «بَرَكَ»، ولم يقولوا «رَكب» بهذا المعنى؛ لئلَّا يختلط بمعنى اعتلاءِ ظهر الحيوان.

    والبحث واسع لا تحويه المجلدات، فكيف هذه الصفحات؟ ولا سيما أن العرب اختلطوا بأقدم الأمم وامتزجوا بهم امتزاج الراح بالماء القراح، فأعاروهم شيئًا كثيرًا من ألفاظهم، وأخذوا منهم أيضًا ألفاظًا لا يُستقل عددها، واتصالهم بالمصريين، والحبشة، والفلسطينيين، وَالْفَنِيقيِّين، والأشوريين، والفرس، وغيرهم، أمر غير مجهول اليوم، وقد بقي من لسان كل قوم شيء بمنزلة الذكرى، فَنِعْمَتْ هذه الذكرى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤