الفصل العاشر

رحمتك اللهم ورضاك، كان أهون عليَّ لو أرحتها من العالم وأخذتها إلى جوارك، ولكن الأمر أمرك لا حيلة لنا فيه. ما ذنبها يا رب؟ ماذا جنت؟ ولكن سبحانك، تصيبنا لتختبر الصبر فينا، وهل نملك إلا الصبر؟ بماذا تلاقي الدنيا هذه الفتاة المسكينة؟ بنتي حبيبتي، لقد سدت منافذ الصوت إلى عقلها، وقف وعيها عند هذه السنوات القلائل التي بلغتها من العمر، ما مصيرها؟ أتظل ترنو إلينا بهذه العيون الحائرة القلقة المذعورة؟ إنها لا تدري ما بها وهي تحسه أو فيما يكون الحس، لم تعد تسمع شيئًا، لا تستطيع الضحك، ولا تعرف إلا البكاء، كلما رأتنا نتكلم، فهي لا تسمع كلامنا وإنما تراه، تبكي، لقد فقدت شيئًا كبيرًا، ثم هي لا تدري ماذا فقدت فتبكي، تسأل، تسألني، وتسأل أخاها، وتسأل أختها: لماذا لا أسمع؟ وكيف نجيب؟ وكيف تسمعنا إن نحن أجبنا؟ يا حبيبتي يا بنتي، أهكذا ينقطع ما بينها وبين الحياة، لا تتصل بالدنيا إلا بعيون جاهلة. طفلة صغيرة حائرة، تُرى أتجدي هذه المعلومات القلائل التي تعلمتها؟ وإلا فكيف تتعلم؟ أو كيف تعيش؟ يا رب هذا هو القضاء، فأين اللطف فيه؟ وتلك هي الكارثة، فيدك الكريمة يا رب ترفع بعضها أو تخفف وقعها، يا كريم يا رب.

ضاقت بالسرير وضقت بالأمل، فتركت هي السرير. أتراني أستطيع أن أترك الأمل؟ وماذا لي غيره، يأس؟ يأس قاتل أسود مرير، كحياتها بل كحياتي، أبقاك الله يا عزت، تريد أن تخفف عني المصيبة ولعلها عليك أشد. وتريد أن تفسح لي أملًا من السفر إلى الخارج، وهل أجهل المرض، أليس في أوروبا صم؟ فما لهم لم يعالجوا هناك إذا كان هناك من يعالج؟ ولكنها صغيرة، فالفاجعة فواجع، والمصيبة مصائب، لن تكون بنتي فايزة صماء فحسب، بل قد تغدو شبه بلهاء. أو كيف تفهم ما يدفع عنها البله وهي لا صلة لها بدنيا الناس إلا عقل استقر عند السادسة لا ينمو. وكيف له أن ينمو؟ وعلم توقف لا يزيد. وكيف يزيد؟ أأرجو لها الموت؟ يا لي من أم قاسية، أأتمنى لها الموت لترتاح هي أم لأرتاح أنا؟ ماذا فعلت يا رب حتى يصبح موت ابنتي أمنية عندي؟ هل أستحق هذا؟ لعلك في مطوي علمك قد ادخرت لي عندك ثواب هذا العذاب. ولكن سبحانك أي ثواب يعدل ما ألاقيه، ولكن سبحانك فإنك تعلم ما لا نعلم وحسبنا أنت. إنك أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.

وقامت إجلال هانم من جلستها الصامتة الصاخبة تملأ الدموع وجهها، دموع حارقة لا تُطفئ نارًا ولا تريح فؤادًا. قامت فاستقبلت القبلة وأقامت الصلاة تتمتم ألفاظها غائبة عن معانيها وتؤدي مناسكها ذاهلة، وإنما هي قيام وركوع وسجود تقوم بها جميعًا كشيء يسير في طريق فُرض عليه لا يدري مبتدأه أو منتهاه.

وحين بلغت إجلال قراءة التحيات الأخيرة دلف إلى الغرفة زوجها عزت واتخذ كرسيًّا وظل يرنو إليها يجاهد نفسه ما وسعه الجهد ألا تبدر من عينيه دمعة، والله وحده يعلم أي كفاح مرير بذله حتى يذود الدموع عن عينيه، تاركًا قلبه يبكي في نشيج مرير مكتوم. كان لا بد له أن يصبر حتى يصبر البيت جميعه، وكان لا بد له أن يتماسك حتى لا يفقد أسرته كلها، فصبر وتماسك.

إذا أصاب الموت بيتًا فأيام أو شهور ثم يعود البيت إلى سابق حياته، فالموت يطوف طواف الزائر العجلان، يختار من يختاره ثم يمضي به لا يترك إلا الذكرى. وللأيام على الذكرى سطوة، فهي تنسيها، وإن عادت بها فلحظات أو ساعات ثم يعود القوم المصابون إلى مألوف حياتهم. أمَّا هذه الكارثة التي أصابت بيت عزت فهي قائمة تسعى في البيت تطالع القلوب التي تحف بها بالهول الذي أصابهم فيها، وإنهم ليدركون ما أصابهم ويقدرون عواقبه، وينظرون إلى المستقل الذي ينتظرها فلا يرون إلا سوادًا حالكًا، أمَّا هي فقطعة من إحساس يسعى في البيت، إحساس يعلم أنه مصاب بفادح من الأمر، ثم يقف بها العلم عند الشعور بلا إدراك ولا تفكير في العواقب ولا نظر إلى المستقبل.

فرغت إجلال من الصلاة ولم تفرغ دموعها فإنها لا تزال تنهمر على وجنتَيها سكبًا بلا توقف، وأنعم عزت فيها النظر بعض الحين حتى ملك مر لسانه وقال: وبعدلك يا إجلال؟

– لا عليك يا عزت، تحملني، المصيبة كبيرة.

– لعل الله يكرمنا فنجد علاجًا في أوروبا.

– أتراني صغيرة يا عزت؟ لا فائدة، وأنا أعلم أن لا فائدة.

وارتج على عزت هنيهة ثم قال: كيف؟ كيف؟ من قال هذا؟

– أنا أقوله، اسمع، المهم أن نبحث الآن عن طريقة تتعلم بها القراءة والكتابة.

– لعلنا في أوروبا نجد الطريقة.

– ماذا تتعلم هناك؟ لغة أخرى غير لغتنا، لا، دع عنك سفر أوروبا هذا، لا فائدة منه على الإطلاق.

– يا ستي من يعرف؟

– عزت، أرجوك، أنا لست صغيرة.

– طيب! لعلنا نجد لها مدرسة هناك؟

– ولا هذا، هل يمكن أن أتركها في هذه المدرسة؟ ثم ماذا تتعلم فيها؟

أتتعلم أن تجهلنا نحن أيضًا ونحن كل ما بقي لها؟ أم تتعلم قراءة لغة أخرى وكتابتها فلا نستطيع التفاهم معها؟

– إذن فماذا تريدين؟

– أريد شيئين، أريد بنتًا كبيرةً بعض الشيء ترافقها وتحاول أن تلهيها وتؤدي لها ما تحتاج إليه، وأريد أن تبحث عن وسيلة لتستأنف تعليمها، فهي تعرف الحروف، وكانت قد ابتدأت تتعلم الهجاء. فلنحاول أن ننتفع بهذا القليل الذي تعلمته لعلها تستطيع القراءة فتفهم ما لا نستطيع إفهامه لها بالكلام.

– أمرك.

– تعليم فايزة أهم من تعليم محسن نفسه. فايزة ستظل وحيدة العمر كله.

وأطرق عزت في حزن مرير وهو يقول: نعم، أعرف هذا.

– لا بد أن نواجه الحقيقة، نحن نعرف أنها لن تتزوج ولن يكون لها بيت إلا هذا البيت، فلا بد أن تفهم حتى تستطيع أن تعيش.

– نعم يا إجلال، أنا أدرك هذا تمامًا، ربنا يوفقنا إن شاء الله.

– سبحانه ليس لنا إلا هو.

•••

كان بيت عزت واجمًا جامدًا لا يخطئ من يدخله أمره، هو بيت ينضم على كارثة. نجح محسن في الامتحان ونجح معه خيري، ولكن خبر النجاح مر بالبيت عابرًا عجلًا لم تستقبله إلا ابتسامة باهتة. بل إن بيت خيري نفسه لم يستطع أن يفرح بنجاح ابنه البكر الذي صاحب هذه المصيبة التي ألمت بعائلة عزت.

بل إن خيري نفسه لم يفرح بنجاحه كما كان يقدر لنفسه أن يفرح. فما كان هناك من سبيل أن يتحقق أمله الكبير في هذه الأيام الأولى من الفاجعة. وما استطاعت نفسه أن تفرح وهو يرى إلف هواه حزينة أسيفة. نجح الشابان ولكنهما استقبلا نجاحهما استقبالًا فاترًا هادئًا لا نبض فيه ولا حياة.

وقد استقر خيري في بيت عزت بك لا يبرحه، يرافق محسن أينما ذهب لا يتركه إلا عند الليل، وكانا يقضيان أغلب وقتهما في البيت. وكانت وفية تجلس إليهما في كثيرٍ من الأحيان، وكثيرًا ما خلا خيري إلى وفية، ولكن لا حديث إلا عن فايزة ما تقول وما تفعل وما سيفعلان بها، وكيف يقضي عزت بك وقته، وكيف تحيا إجلال هانم حياتها. خيمت التعاسة على البيت جميعه، وإن كان نبض الحب لا يزال قويًّا في القلبَين الصغيرَين إلا أنه نبض لا يجاوز القلب إلا في نظرة وامضة، أو دمعة مشفقة يتبادلها الحبيبان.

كان خيري ومحسن يجلسان في حجرة المكتب حين قدم إليهما الأستاذ حامد. حيَّاهما وجلس صامتًا وهما صامتان، ثم لم يلبث أن قال: لا أعرف ماذا أقول يا محسن، هل أقول مبروك أو أقول الله معكم؟

وقال محسن في ألم: والله يا أستاذ نحن في أشد الحاجة إلى عون الله.

– لم أعرف إلا الآن، فقد مررت ببيت خيري فوجدت يسري وهو الذي أخبرني.

وأراد خيري أن يغير الموضوع فقال: متى تسافر يا أستاذ حامد؟

– الأسبوع القادم إن شاء الله.

– بالسلامة.

– سلمك الله، سأكتب لكم دائمًا.

– هل ستغيب هناك؟

– والله حسب الظروف، سأبقى ما استطعت البقاء.

وقال خيري: والست والدتك وأختك هل ستقيمان في نفس البيت؟

– طبعًا، البيت إيجاره رخيص.

– لا تُشغل بهما، فسأزورهما دائمًا، وأرى إن كانتا تحتاجان إلى شيء، اعتبرني أخاك.

– أنا أعرف يا خيري مقدار وفائك، وأنا معتمد عليك كأخ وكصديق.

وقال محسن: هذا أقل ما يجب يا أستاذ حامد. نحن لا ننسى معروفك.

– بل أنا الذي لا ينسى معروفكم أبدًا، أنتم لا تعرفون أثركم في حياتي لأنكم تعودتم أن تجيبوا طلبات الناس، هي عندكم رجاءات تبذلون جهدكم في تحقيقها. أمَّا عند كل فرد تحققون رجاءه فهي مستقبله وحياته، وربنا لن يضيع أجركم أبدًا يا محسن.

– هيه يا أستاذ.

– لا، لا تيأس، لكل ضيق فرج.

– ألف شكر يا أستاذ، طبعًا أنت تعرف أننا على استعداد لأي طلب تريده قبل السفر. السفر طلباته كثيرة وقد تكون فوجئت به، فإن كنت تريد سلفة فنحن طبعًا أخواك ونحن …

وقاطعه حامد شاكرًا: أبدًا، أبدًا يا محسن، لقد أعددت نفسي تمامًا ولكن …

– ماذا؟

– كنت نويت ألا اذكر هذا الطلب.

– ولماذا يا أخي؟

– والله الحكاية الأخيرة هذه، أظن لا يجوز لي أن أرجو في شيء وأنتم مشغولون بأمر فايزة.

– إننا نحيا على كل حال يا أستاذ حامد. قل ماذا تريد؟

– أختي.

– ما لها؟

– تعرف القراءة والكتابة وتريد أن تجد عملًا، فإذا استطاع البك الوالد أن يجد لها عملًا في مستشفى مثلًا أو شيئًا كهذا أكون شاكرًا.

– بالطبع سأبلغه، سافر وأنت مطمئن.

وقال خيري: اطمئن يا أستاذ حامد، سأضم رجائي إلى رجاء محسن وألح على عمي عزت بك.

– شكرًا، أستأذن أنا.

وقال خيري: كنت أنوي والله أن أسافر معك إلى الإسكندرية لأودعك، ولكن لا أستطيع ترك محسن وحده في هذه الأيام.

– أنا أعرف شعورك تمامًا يا خيري، وأعتبرك أخي الأصغر، وأنت بتفكيرك هذا كأنك ودعتني في الإسكندرية. السلام عليكم.

ومد حامد يده وشد على قبضة خيري في حب وود، وصافح محسن وخرج. وخلت الغرفة بالصديقين مرة أخرى، وانفرد بهما الصمت فترة طويلة، ثم قال خيري: ربنا يوفقه.

ولكن محسن قال، وكأنما تذكر شيئًا كان غائبًا عنه: الله، خيري، ألم يقل إن أخته تريد أن تعمل؟

– نعم.

– فلماذا لا ترافق فايزة؟ فنحن نريد لها مرافقة.

– أتظنه يرضى؟

– ولمَ لا؟

– فعلًا، ولمَ لا؟ سأذهب إليه.

– أتعرف بيته؟

– نعم، كثيرًا ما أوصلته إليه بالسيارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤