الفصل التاسع عشر

اسمع يا بطل، أنت تبحث لك غدًا عن مكان تبيت فيه.

– ماذا؟ ماذا؟ نعم يا سي خيري.

– نعم يا سي نجيب، أكثير هذا عليك؟

– لا يا حبيبي، شرط المرافقة الموافقة.

– وما الذي يوافقك؟

– بالنصف يا حبيبي.

– بعمرك.

– لماذا؟ هل وقعت من قعر القفة؟ ألم أعرفك بالغسالة وبالست؟ وكنت غدًا سأصحبك إلى جلسة لم تحلم بها في حياتك.

– ولو.

– أأنت جاد؟

– كل الجد.

– ما المناسبة؟

– هذه شيء آخر.

– وما الآخر فيها يا حبيب الروح؟

– أعرفها وأعرف أسرتها.

وكأنما تذكر خيري شيئًا كان غائبًا عنه، ولكنه ما لبث أن تناساه ثانية واستأنف حديثه: إنها لا تقبل، وإن أردت الحق، أنا أيضًا لا أقبل.

– طيب يا سي خيري، سأنام في مكان آخر، ولكن ستظل هذه الحكاية نقطة سوداء في تاريخ حياتك، لن أنساها العمر كله.

– لا عليك، أعوضها لك.

– تعوضها؟ ومن أين؟ أنت تظل هادئًا كالباشا حتى يتقدم إليك خادمك الذي هو أنا برغباتك وحين استطعت مرة في العمر أن تصل إلى شيء وحدك تطردني من البيت، طيب يا سي خيري، نترك البيت، أمرك يا سلطان الزمان، سلطان طماع أناني.

– اعقل يا نجيب، قلت لك هذه شيء آخر.

– وطبعًا ستصبح المسألة عادة، وأضطر أنا في كل ليلة أن أبحث عن صديق ينيمني عنده، وأصير مُشرَّدًا وأنا صاحب البيت.

– لا، لا تخف، غدًا فقط، وبعد ذلك سأطردك مدة ساعات فقط وتعود.

– عظيم، عظيم يا خيري بك.

– أين ستبيت غدًا؟

– وهل أعلم؟

– قل لي وحياة والدك أين ستبيت؟ أنا مستعد يا سيدي أن أدفع لك أجر اللوكاندة.

– سميراميس.

– تنيل.

– أين تريدها إذن؟ في سيدنا الحسين؟!

– ألا تستبدل بسميراميس إلا سيدنا الحسين؟ اسمع، هي عشرون قرشًا وتصرف أنت.

– لا يا سيدي، رد العشرين عفريتًا على نفسك، ستنفعنا بعد غد في السهرة التي أحدثك عنها.

– إذن فأين تبيت؟

– ما شأنك أنت؟

– عند خالتك.

– وكيف عرفت؟

– وهل لك صدر حنون إلا هي؟ تذهب إليها وتدعي الزيارة، وتطفح العشاء وتنام وتطفح الفطور.

– يا سيدي، هذه الإجراءات تتخذ عند الفقر فقط، أمَّا الآن فأنا في أول الشهر والأشيا معدن والحمد لله.

– وماذا تخسر؟ اعملها مرة وأنت غني، لعلك بهذا تخدع خالتك وتجعلها تظن أنك تزورها من أجل الزيارة لا من أجل الفقر.

– أمرك يا سيدي، نعملها.

إنها تغنيني عن الغسالة والست والجميع، وأين هذه الأجسام القديمة التي تقلبت وأكثرت التقلب من هذا القوام الرائع. ثدياها، شعرها، كل شيء فيها جميل جديد طازج يصرخ منه الشباب ويثور، وهي لي وحدي بلا شريك، وهي تحبني وإني … ماذا؟ هل أحبها؟ ألابد من الحب؟ لقد أخذت من الحب حظي، فكان حظًّا عاثرًا، أكان عاثرًا حقًّا؟ ألم أجعله أنا عاثرًا؟ ألم أطلق على آمالي هذا الوحش الذي يكمن في ذاتي وأسميه ضميرًا أو أسميه مُثُلًا أو أسميه كبرياء؟ وهو وحش يلتهم الآمال ويحطم الحياة ويدمر الأحلام، ما لي أذكر هذا الآن؟ أسمع في نفسي من ذلك الوحش همسًا، أله بي شأن الآن؟ ألم يتسلط عليَّ بهذا الطنين حتى حرمت نفسي من حبي وسافرت وفية وبقيت؟ ماذا يريد مني الآن؟ ما هذه الخرافة التي يديرها في نفسي منذ الأمس؟ نعم أعلم أنها أخت حامد أفندي، وأعلم أن حامد أفندي قال إنه يعتبرني أخًا له، ولكن ما لهذا وما نحن فيه الآن؟ دولت فتاة فائرة، إن لم أكن أنا فمصيرها إلى غيري. وهل يعتبرني حامد أخًا له حقًّا، أم هو تعبير ألف الناس أن يقولوه في سهولة ويسر؟ وإذا صدقت كل من قال إنه أخي أو قال إنه أبي أو أمي لأصبح كل من أعرف يتصل بي بهذه الآصرة القوية.

وعزت باشا، ألم يقل إنه كأبي، فكيف كنت سأتزوج ابنته؟ ما أصدق الشاعر:

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
أخاها ولم أطعم لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا
من الأمر ما لا يفعل الأخوان

هل أنا أخو دولت؟ نعم قال أخوها إنه يعتمد عليَّ في رعاية أمرهم. ولكن أكان يقصد ما يقول أم هي عبارة يلقيها بعض الناس إلى بعض ليظهروا مقدار ثقتهم وحبهم لبعضهم البعض؟ نعم أعترف أنه يحبني، وما البأس في ذلك؟ وأخته أيضًا تحبني، وأنا … أعجب بها، ألا بد من الحب في هذا الذي أقدم عليه؟ ألا بد من تفكير كهذا الآن؟ إنها قادمة، بقوامها الحلوة، وقميصها الوردي، قميص وفية، أتلبسه اليوم؟ لا أدري، إن كانت عرفت أنني أدركت أنه قميص وفية، أتراها تلبسه؟ سنرى مقدار ذكائي. لا شك أن عيني أظهرت لها أنني أدركت، تُرى أتلبسه اليوم؟ وماذا تلبسه غيره؟ وأين لها بغيره؟ من مرتبها الضئيل أم من أخيها حامد؟ رجعنا إلى حامد. أي شيطان يرسل به إلى ذهني كلما نسيته؟ هل نسيته؟ لا بد أن أنساه، ألا يستطيع جمال دولت الصارخ أن يطغى عليه؟ لا يستطيع فمها العذب؟ دولت … دولت.

وطرق الباب في همس، وقام خيري إليه مسرعًا، ودخلت دولت، وأسرعت تقفل الباب وترد رتاجه وتسأل لاهثة: متأكد أننا وحدنا؟

ولف ذراعه حول خصرها قائلًا: طبعًا، تعالي وانظري بنفسك.

– لمن هذه الشقة؟

– لصديق لي طلبت إليه أن يتركها الليلة.

وكانت دولت قد بلغت حجرة النوم وهي تقول: صحيح؟

– ما هذا الفستان الأنيق؟

كان فستان دولت من الحرير الأخضر، ولو حكَّم خيري ذوقه لما رآه أنيقًا بحال من الأحوال، فهو رخيص الصنع من هذا النوع الذي تلبسه متوسطات الحال في أيام العيد. وقد كانت دولت تستطيع أن تختار خيرًا منه، ولكنها ما كانت لتفعل، فكل ما يفضله عندها من ملابس وفية، ولم تكن تحب أن تلبس شيئًا لوفية في يومها هذا، وقدرت أنها غالبًا ستستغني عن الفستان، وقدرت أيضًا أن جمالها يغفر كل عيب فيما تلبس، أدركت دولت أنه يريد أن يبدأ حديثًا ليس إلا، فهي تعلم أن الفستان ليس خليقًا برضائه، قالت: أيعجبك؟

– طبعًا.

وقالت في دلال وهي تجلس إلى الأريكة ذات المساند والوسائد: هو أم القميص؟

– كلاهما، أمَّا ما يعجبني أكثر منهما فهو …

ونظر إلى نهديها فقالت: هيه؟

– ما تحتهما.

– لا أفهم.

– أقصد هذا.

ولم تجعل يده سبيلًا لها ألا تفهم، فقالت: على مهلك، انتظر.

ولم يتمهل أو ينتظر، وإنما راح يفك أزرار الفستان وهي تقول في دلال: ستقطع الزر، انتظر، اسمع، لا شأن لك بملابسي.

وفهم خيري ما تقصد، وما هي إلا لحظات حتى كان كلاهما عاريًا!

وطالع خيري جسمها لأول مرة متألقًا كالصباح الوليد، رائعًا صافيًا مترقرقًا كماء الشباب، وعلى فمها ابتسامة حائرة بين النشوة والخجل. انسدل شعرها على كتفيها كاد يعدو على صدرها. فمد إليه خيري يدًا مرتعشةً فأزاحه إلى ظهرها كرسام يهيئ النموذج الذي سينقل عنه. وراح ينظر إليه ثانيةً مبهورًا متلاحق الأنفاس جياش الخلجات معجبًا حائرًا مذهولًا. قبَّلها خيري وقبَّلها، قبَّلها جميعًا ثم طواها في أحضانه. حامد … ما هذا؟! أي طنين هذا الذي يدور برأسه؟ أهمله وعاد يُقبِّلها في جنون، في ثورة عارمة فيها من الاصطناع ما يحاول به أن يخفت هذا الطنين الذي لم يجد وقتًا آخر إلا هذا ليلح على تفكيره. حامد، وما شأني به؟ وعاد يقبِّلها في جنون أشد وفي ثورة أكثر جموحًا، ولكن، حامد، تطن في رأسه تعلو مع جنونه فتطغى على جنونه، وتصرخ مع ثورته فتتداعى لها ثورته، وحاول خيري ثانيةً وثالثةً وعشرًا، ولكن حامد تخذله في كل مرة، ودولت دهشة جاهلة ذاهلة، ماذا به؟ ما هذا الومض الذي يبرق في عينَيه؟ ما هذه الثورة التي يفتعلها؟ ماذا به؟

استلقى خيري على الأريكة وأدار وجهه إلى الحائط، وراح يضرب الوسادة بقبضته قائلًا: حامد، حامد، حامد، حامد.

وأطرقت دولت ثم قامت إلى ثيابها، وحين استدار خيري ليواجه هزيمته كانت دولت تركت البيت جميعه.

أسرع خيري إلى ملابسه، فارتداها ونزل إلى الطريق، وحين مر بشقة صاحب البيت وجد الرجل العجوز يدلف إلى شقته، ووجد زوجته تستقبله، ورأى في عينَيها شيئًا لم يفهمه، ولكنه واثق أنه رآه. ولم يعر الأمر كثير تفكير، بل سارع إلى الطريق، وما وقع في ليلته لا يزال يسيطر على كيانه فيشعر بالعجز والأسى، من أدراني أن حامد هو السبب؟! لعله ستار تختفي من ورائه خيبتي وقلة حيلتي. إنها المرة الأولى التي ألتقي فيها بهذا الخذلان، ولعلي لا ألتقي بعد ذلك إلا بالخذلان، دولت التي تفتن العابد يمنعني عنها تفكيري في حامد، حامد، أي مصيبة.

كان يعرف طريقه، وقف بباب خالة نجيب وطرق الباب، وأجابت الخالة طرقه وكانت تعرفه، سألها في لهفة عن نجيب، وكان نجيب بمسمع فخرج إليه: خير يا خيري؟

وقال خيري في لهفته ما يزال: خير، استأذن من خالتك وتعالَ.

– ماذا؟

– سنسهر معًا الليلة.

– ماذا حصل؟

– اذهب يا نجيب مع صاحبك ولا تكثر الأسئلة، وسأنتظرك حتى تعود.

وقال خيري: والله — إذا سمحت — اتركي نجيب يبيت معي الليلة.

وقال نجيب: تسمحين يا خالتي؟

– ما تراه يا ابني.

ودون أن يحيي واحدًا منهما السيدة الطيبة هبطا السلم جريًا، وما أن بلغا الشارع حتى حاولت كلمة استفهام أن تصدر عن نجيب، ولكن خيري لم يدع لها مجالًا، فقد راح يقص على صديقه ما وقع له، ولم يعقِّب نجيب بشيء إلا: يا خيبتك!

– المهم.

– ماذا؟

– أتعرف طريق الغسالة؟

– الست أقرب.

– البك زوجها في البيت.

– إذن؟

– ألم تقل إنك كنت تريد أن تذهب بي إلى سهرة؟

– والله فكرة، معك فلوس؟

– كم تريد؟

– كم في جيبك؟

– جنيه تقريبًا.

– نعمة، هيا بنا.

•••

في مصر الجديدة وفي بيت أنيق ولج نجيب يتبعه خيري، وحين همَّ نجيب بالصعود قال خيري: الله يخرب بيتك، إلى أين؟

– وأنت ما لك، اطلع، اسمع، لا تنطق أنت بشيء.

– أمرك.

وعلى باب شقة في الدور الثاني وقف نجيب ودق الجرس، ووقف خيري من ورائه ذاهلًا دهشًا خائفًا متشوقًا مفكرًا في كل شيء. وأجاب الجرس رجل مهيب الطلعة ذو شاربين أنيقين وخطهما الشيب وقامة مديدة وقوام ممشوق لم تعدُ عليه السن، وقال الرجل وهو يطل من ضلفة الباب: مَنْ؟

وأوشك خيري في سرعة خاطر أن يسأل عن اسم وهمي يعلل به مجيئهما ثم ينصرف، وكأنه أخطأ في العنوان، ولكن نجيب سارع يقول: أنا يا عمي.

– أهلًا، كيف أنت يا بني يا …؟

وقال نجيب: نجيب، نجيب يا عمي، قد جئت في الأمس مع صلاح.

– نعم، نعم، أذكرك يا بني تمامًا، ادخل يا نجيب.

وقال نجيب: الأستاذ خيري صديقي.

– أهلًا، تفضلا.

وتقدمهما الرجل الكبير إلى غرفة الجلوس، وهمَّ خيري أن يقول شيئًا، ولكن نجيب وضع سبابته أمام شفتَيه وهو يقول: هس.

فدخل نجيب إلى البهو، وراعه أول ما راعه سيفان على الحائط يحيطان بصورة الرجل الذي لقيهما، وقد بدا في الصورة أعظم منظرًا وأشد هيبةً. ورأى تحت السيفَين مسدسَين قديمين كقوسَين حول أسفل الصورة، ثم لم يجد سعة من الوقت ليرى شيئًا آخر، فقد وجد نفسه مسحوبًا إلى غرفة على شيء من الأناقة عرف أنها غرفة الجلوس.

وقعد الثلاثة ودار بينهم الحديث، ولكن قليلًا ما دار، فقد قطعه نجيب: الهوانم هنا؟

وقال الرجل في وقار: أخواتك هنا.

ثم نادى: يا ليلى، يا يسرية.

وأقبلت فتاتان، إحداهما شقراء الشعر خضراء العينين ناصعة البشرة، وإن شاب بياضها قليل من النمش لا يعيب جمالها، والثانية سمراء ممشوقة القوام سوداء الشعر، وكان في كلتيهما عزة لا توحي برخص. وأقامت الفتاتان قليلًا، وخرجتا بعد حديث قصير تناول الجو ومصر الجديدة والمواصلات. ولحق بهما العجوز، وقال خيري: ما هذا؟

– وما شأنك؟ أيهما تختار؟

– ممن؟

– ليلى أم يسرية؟

– أهما …؟

– نعم.

– كان يقول: أختاك!

– كلام.

– كلام؟! أليس أباهما؟!

– نعم.

ويقول: أختاك! وتقول: يا عمي!

– يا سيدي كلام، أنا لم أعرف العائلة إلا أمس، يا أخي لا تضع الوقت.

وفكر خيري في كلمة الأخوة التي قدسها، ورجع به ذهنه إلى دولت، ولكن نجيب سارع يقول: انطق.

وعاد بذهنه إلى ما هو فيه، لقد كان يريد الشقراء، فهو يحب الشقراوات، ولكن الآن، في هذه اللحظة يريد السمراء، إنها سمراء كدولت، كدولت في سمارها على الأقل.

قال دون أن يحس: السمراء.

– تترك ثلاثين قرشًا في الحجرة.

ودخل الرجل، العم، وجلس ثانية، وبدأ حديثًا عن الجامع الذي يقوم بجمع المال له؛ لأن مصر الجديدة تكاد تخلو من الجوامع، وقال نجيب: هذا مشروع عظيم يا عمي، أتسمح أن أساهم فيه؟

– بكل سرور يا بني.

– عشرة قروش تكفي؟

– عظيم، كله لله.

وسارع خيري يقول: تسمح لي أنا أيضًا؟

– تشكر يا بني، أنت ابن حلال.

ونادى صوت من الخارج: نجيب، أريدك في كلمة.

وقام نجيب وهو يقول: عن إذنك يا عمي، تعال يا خيري لترى الشقة.

وقام خيري وهو يقول: تسمح لي يا …

وكاد لسانه يقول عمي جريًا على عادة البيت وزائريه، ولكنه وقف عنها ليقول في اللحظة الأخيرة: يا بك.

وقال البك: تفضل يا بني، شف فيما تريدك أختك.

وطنت أختك في أذن خيري، ولكنه ما لبث أن ضحك منها في نفسه ساخرًا!

•••

عاد خيري مطمئنًّا إلى بيت نجيب، فما كان يستطيع أن يعود إلى بيته بعد أن أخبر أمه في الصباح أنه سيبيت ليلته عند نجيب ليذاكر، كان إذ ذاك يفكر في ليلة مع دولت، فأصبحت ليلة مع يسرية، أهناك فرق؟ هذه أخته وهذه أخته، تُرى لو عادت إليه دولت؟ لا، كلهن إلا دولت، إنه يعرف حامد وبينهما صلات قوية، الأخوة مع حامد مشفوعة بصداقة وبأستذة من حامد وبمعروف قدمه هو لحامد، وحامده هو من عرَّفه بأخته وهو من أوصاه بها، وإن تكن دولت سهلة المنال إلا أنها ليست مثل يسرية ولا ليلى تُباع لكل من يشتري، نعم هناك فرق، إذن فهو الضمير، ملعون أبو الضمير ومن عرف الضمير، النهاية، سليمة، على كل حال هكذا أحسن، بلغ الصديقان البيت وأذان الفجر يعلو، فقال كل منهما في نفسه: إن الله غفور رحيم، ثم لم يعقب أحدهما على الآذان بكلمة، أطرق كل منهما في صمت وراحا يصعدان السلم، وبلغا شقة صاحب البيت فوجداه خارجًا وقد التف بعباءة وراح يتمتم مسبحًا في طريقه إلى صلاة الفجر في الجامع.

وقال نجيب: حرمًا مُقدَّمًا يا عم عبد الباقي أفندي.

ولكن عبد الباقي أفندي قال في حزم: يا سي نجيب، أنا لا أقبل هذه الأمور في بيتي أبدًا، أنا مضطر أن أطلب منك أن تترك الشقة.

– ماذا؟ لماذا يا عم عبد الباقي أفندي؟ كفى الله الشر!

– اسأل صديقك، اسأله عن البنت المايعة التي كانت عنده الليلة، لقد رأتها زوجتي.

وسارع خيري قائلًا: من؟ أنا؟ رأت …

وقبل أن يكمل الجملة سارع نجيب يقاطعه: أبدًا، أبدًا يا عم عبد الباقي أفندي، لا بد أن الست أخطأت النظر، لم يأتِ لصديقي إلا صديقنا صلاح، أحيانًا يخرج من غير طربوش.

– من غير طربوش؟ أهذا كلام يا بني! أيمكن أن تخطئ زوجتي بين رجل وامرأة؟ لا يا بني، أرجوك أن تبحث عن مكان من أول الشهر.

وأطرق نجيب متظاهرًا بالأسف وقال: أمرك يا عم عبد الباقي أفندي.

وحاول خيري أن يتكلم، ولكن نجيب أمسك بيده خفية فسكت، ثم توجها إلى السلم يكملان صعوده، ولكنهما لم يكادا حتى أوقف نجيب خيري مرة أخرى ممسكًا بذراعه دون أن يحادثه، ومال نجيب على الدرابزين ونظر إلى الباب الخارجي حتى إذا اطمئن إلى خروج عبد الباقي أفندي قال لخيري: تعالَ.

وفهم خيري ما يريده صديقه، فنزل وراءه وهو يقول: المقابلة الشريفة الوحيدة التي تتم في بيته يكون هذا جزاؤها.

وقال نجيب: اسكت، تعال.

ودخلا شقة عبد الباقي أفندي ولاقتهما الست.

لم يترك نجيب البيت أول الشهر، ولم يطلب إليه عبد الباقي أفندي إلا شيئًا واحدًا، هو أن يقبل اعتذاره، وقبله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤