الفصل الحادي والثلاثون

وأُقيم الفرح، فرحًا متألقًا، وجلست فايزة إلى جانب يسري يحف بهما الورد أكداسًا، وكان يسري فَرِحًا غاية الفرح، وكانت فايزة تعسة يملأ الخوف قلبها رعبًا، تكاد تثق أن زوجها هذا لم يتزوجها لذاتها، وإنما لمالها، ومع ذلك لا يزال وامض من الأمل يراوحها ويغاديها تذوده عن نفسها باليأس القاتل المرير. حتى إذا بارحها هذا الوميض المتهافت وخلت إلى اليأس وحده خالصًا عادت تسترجع وامض الأمل لتجد فيه راحة، ثم ما تلبث أن تجد في الشك عذابًا يعدل عذاب اليأس أو يزيد، فتظل تتقلب بين نيران الأمل ولواذع اليأس يملأ الرعب قلبها على الحالين، ويسري بجوارها ينظر إلى الراقصة نظرات جريئة، وينظر إلى المستقبل نظرات مقتحمة، يطمئن نفسه أنه بلغ من الحياة ما يريد أن يبلغ. وتلتقي عيناه بعيني أمه فيجد فيهما الخوف فيشيخ عنها لينظر إلى الدكتور حامد، فيجده فَرِحًا مطمئنًّا مقبلًا، وإذا التقت عيناه بعيني دولت وجد فيهما تساؤلًا ووجد في شفتَيها ابتسامة المتفضل إلى المفضول، وابتسامة حامل السر يبديها لمن يحمل سره.

وبحث يسري عن أخيه خيري فلم يجده، فخطر في ذهنه أن يبحث عن وفية فلم يجدها أيضًا، فقال في نفسه: «لعلهما التقيا ولعلهما الآن يتذكران الهوى القديم.» ثم يبتسم ساخرًا من أفكار أخيه الخيالية ويعود إلى الراقصة ينعم النظر في جسمها اللدن يتأود أمامه فيرى فيها فرحة الدنيا التي يقبل عليها.

لم تكن وفية ولا كان خيري في البهو الذي أقيم فيه الفرح، فقد انتهزت وفية خلسة من الناس وأومأت إلى خيري أن يتبعها فتبعها، وصعدت إلى الطابق الأعلى وهو وراءها. حتى إذا اطمأنت إلى نجوة من العيون جلست وجلس، وقالت وفي عينيها خوف ولهفة: خيري، لقد أردت أن أراك منذ وقت طويل.

وقال خيري في هدوء: نعم أعرف.

– لماذا لم تأتِ؟

– لأنني أعرف ما تريدينني فيه.

– هل أخوك مثلك؟

– أترينه كذلك؟

– بل أرى فيه صنفًا من الناس يختلف عنك كل الاختلاف.

– إذن فقد أدركت.

– لا شك.

– أنا لا يد لي في الأمر.

– وهذا أدهى.

– وماذا تريدينني أن أفعل؟

– أمَا كان جديرًا بك أن تحذر أبي؟

وأطرق خيري مليًّا وقد ران الصمت على الحجرة، فقالت: لماذا لا تجيب؟

– يا وفية قدِّري ظرفي، ماذا ترين كنت أقول؟ وكيف أعتمد على مجرد الاستنتاج لأطلب إليه أن يرفض يسري؟ لعله … لعله — من يدري — يدرك الفضل الذي أسبغه أبوك فيحسن معاملتها!

– أتضيع أختي من أجل لعله؟ لعله! أنت تعرفه، إن شخصًا يتقدم ليتزوج من فايزة الصماء … ماذا أقول ماذا أقول؟ لماذا يا خيري سكت، لماذا سكت؟

– كان الأمر أقوى مني يا وفية، إنه أخي.

– أليست فايزة أختك؟ وهي عاجزة يا خيري، ماذا سيصنع بها؟

– نسأل الله اللطف.

– إن اقتصر الأمر على المال هان، ولكن أخشى أن يعذبها.

– لا تخشي.

– أهو طيب؟ أهو شفوق؟ ألا يؤذيها؟

– إنه يطمع أن يساعده أبوك، فلا تخشي.

– وهل سيعيش لها أبي دائمًا؟

– دعينا نؤمل الخير في حياته على الأقل، وبعد ذلك يتولاها الذي لا تغفل له عين.

– كيف؟

– قد ينجبان، وقد يحب أولاده فيكرمها من أجلهم.

– أكثر من زيارتنا يا خيري.

– ألا أحرجك بكثرة الزيارة؟ ألا يعرف جميل ما كان بيننا؟

– إنه يعرف، ولكن السنين مضت. وهو يُقدِّرك ولا يخشى جانبك، فزرنا لتطمئن على فايزة. إنها أختك، وهي وديعة بين يديك، إن فايزة لن تخبر أحدًا منا بعذابها إذا تعذبت، ولكنها قد تخبرك أنت، فزرها وأكثر ولا تخف أن تحرجني، لقد سكتَّ فتزوجها، فلا تتركها في هذه الأمواج من الطمع التي ألقيتها إليها.

– أمرك يا وفية.

– أنت أخونا يا خيري، أنت دائمًا أخونا.

– أعرف يا وفية وسأظل دائمًا، دائمًا تحت أمرك.

وأمسكت وفية بيده في كلتا يديها وشدت عليها في إعزاز وإكبار وأمل: لا أمل لي إلا أنت يا خيري.

– ربنا معنا، إن شاء الله خير.

– أرجوك يا خيري، إنها أختك.

– هي أختي، إن لم يكن من أجلها وأجل أبيها فمن أجلكِ أنتِ، فأنت دائمًا عندي وفية، وفية التي …

وانهمرت الدموع من عينَيه وعينَيها، ثم هوى على يديها فقبلهما في حب وإعزاز.

•••

انتهى الفرح وصعد العروسان إلى الحجرة التي خُصصت لهما، وجلست فايزة مطرقة وجلس يسري بجانبها، وطال بينهما الصمت، فمد يسري يده وربت كتف زوجته وحاول أن يحتويها في ذراعه، فرفعت إليه عينَين مخضلتَين بالدموع وقالت: لماذا تزوجتني؟

كان السؤال نافذًا مباشرًا لا لف فيه ولا دوران، نوع من الكلام لم يتوقعه يسري وحار في الإجابة، وحاول أن يتكلم ليجيب، ثم تذكر أنها لن تسمع فحمد الصمم مرة أخرى، فإن الكتابة ستتيح له وقتًا للتفكير. أمسك القلم وكتب على الورق الذي يظل دائمًا قريبًا من فايزة، فهو أذناها، كتب: «لأني أحبك.» ونظرت إليه في ألم ويأس وقالت: إنني صماء، صماء، ألا تعرف؟

وكتب يسري: «أعرف، ولكن ما أهمية هذا؟»

– أتشفق عليَّ؟!

وكتب: «إن بنت عزت باشا الأزميرلي الوزير الغني لا تستحق الإشفاق.»

فقالت في ألم: أتتزوج عزت باشا الأزميرلي والوزارة والغنى؟

فكتب: «بل أتزوج فايزة، فايزة وحدها، بلا إشفاق وبلا تفكير في وزارة أبيها أو غناه.»

ونظرت إليه فايزة مليًّا وقد رفأت دموعها وأطالت التحديق ثم قالت: أنت لا تعرف مدى لهفتي إلى تصديقك.

فكتب: «فصدقيني.»

– يا ليت!

فكتب: «ستجعلك الأيام تصدقينني.»

فقالت: لا تستهن بالأيام، فهي تأتي من قريب، وعن قريب أعرف مقدار صدقك، لا تجعل الأيام تؤيد خوفي وتزيل أملي، فأنا لا أستحق هذا، ولا أستحقه منك أنت بالذات، أنت أخ لنا، وأنا … وأنا … وأنا لقيت من الزمان ما يكفي.

وكتب: «ستعرفين مدى صدقي.»

فأطرقت فايزة وأطالت الإطراق، وعاد يسري يربت كتفها، وما لبثت أن قالت: يا رب، إن كان كاذبًا فلا تجعلني أرى كذبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤