الفصل السابع والثلاثون

حين بلغ خيري بيت عزت باشا وجد فايزة قد أعدت العدة لتنفرد به، وما إن خلت بهما الحجرة حتى أقفلت الباب بالمفتاح ووضعت الورق والقلم على منضدة جعلتها بينها وبين خيري. ثم راحت تقص على خيري ما رأته، باذلة أقصى جهد تطيقه إنسانة طعينة تحرص ألا يرى أحد الدماء النازفة أو الجرح الغائر، وقد زاد جهدها الدماء نزيفًا والجراح غورًا أمام عيني خيري الإنسان الكبير. رأى في وجهها العذاب نيرانًا، ورأى في وجهها جهادها أن تخفي هذه النيران، ولم تبكِ ولكن خيري بكى. وما إن رأت دموعه حتى انهارت عزيمتها الصلبة فوجدت نفسها تميل على المنضدة بينهما، ثم وجدت نفسها تنطلق في نشيج يندلع من أقصى حبات قلبها، حتى لخُيِّلَ لخيري أنه سيرى عن قريب قلبها يتسرب من عينيها. ولكنه لم يشأ أن يذكِّرها بوجوده، لم يربت كتفها ولا كتب لها أن اصبري، لم يفعل شيئًا، فقد رأى أن خير ما تفعله هو أن تبكي وخير ما يفعله هو أن يسكت.

حتى إذا هدأ نشيجها ورفعت وجهها المخضب بالدموع نظر إليها خيري نظرةً طويلةً فيها حنان وفيها أخوة، وحرص ألا يبدو في نظرته عطف أو إشفاق، ثم كتب: «ماذا تريدين أن أفعل؟»

وقالت: لا أريد دولت، ولا أريد أن أطردها أنا.

وأومأ خيري أن نعم، إيماءة فيها حزم وفيها وعد لا شك في تنفيذه. ثم كتب: «هل تريدين شيئًا آخر؟»

وقالت في حزم: لا، اترك الباقي لي، لا أريد يسري أن يعرف أنني رأيته.

وأومأ أنه لن يعرف. ثم كتب: «اطلبيني في أي وقت، وسأنفذ لك ما تشائين.» ثم قامت فقامت وأمسكت يده بكلتا يديها وراحت تربتها وهي تقول: أنت دائمًا أخونا، أنت عندنا مثل محسن، وأنت تعرف.

وأطرق خيري ولم يقل شيئًا، وربت يدها بيده، ثم أخذ طريقه إلى الباب، فأدار فيه المفتاح ثم أخرج المنديل من جيبه ومسح دموعه ووقف هنيهة يتهيأ للقاء الناس، تنحنح وخرج يجاهد نفسه ألا يلتفت إلى فايزة.

•••

قصد خيري من فوره إلى الشركة، وحين دخل حجرة السكرتير وجد بها شابًّا في سن يسري، إلا أنه كان مهمل الثياب، ووجد السكرتير ينظم أوراقًا على مكتبه كأنه لا يجد شيئًا يعمله. وقال خيري: البك موجود؟

فانتبه إليه السكرتير وحدق فيه هنيهة ثم قال: هل هناك موعد؟

فقال له خيري في هدوء: قل له أخوك يريدك.

وانتفض السكرتير يفتح باب يسري، ونظر الشاب الجالس إلى خيري وهمَّ أن يقول شيئًا. وانتظر خيري هنيهة أن يسمع ما يريد الشاب أن يقول، ولكنه رأى في عينيه أنه عدل عما يزمع قوله. فعبر خيري الباب إلى يسري.

ودهش يسري لحظة من قدوم أخيه، ثم ما لبث أن وثب إليه يرحب به مبالغًا في الترحيب، فقد كان فرحًا حقًّا بزيارة أخيه.

وقال خيري: استطعت أن أجد فرصة لترك المكتب، فقلت أزورك في شركتك التي لم أرها.

– أهلًا، أهلًا، كم أنا فرح بزيارتك هذه يا آبيه خيري.

ولم يترك السكرتير لهما فرصة للحديث، فقد دخل يحمل دوسيه أوراق وعاجله قائلًا: ألا تستطيع الانتظار؟

فقال السكرتير: إنها عملية عاجلة يا سعادة البك.

فقال خيري: لا تعطل عملك، انظر الدوسيه.

وتقدم السكرتير إلى يسري ووضع الدوسيه أمامه. وقرأ يسري عنوانه، إنها عملية شركة النقل. وأوشك أن يقول للسكرتير اتركه، ولكنه سرعان ما أدرك أن لا فائدة تُرجى من تركه، وسرعان ما أدرك أنه سيوقع، وقال في نفسه: «خير البر عاجله.» ثم ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول في نفسه: «الأولى بي أن أقول خير الشر عاجله، ربنا يستر.» ثم نظر إلى أخيه وقال في نفسه: «ترى ماذا يفعل بي لو عرف أي عملية هذه التي أوقعها؟» وكان خيري متشاغلًا بالنظر في أرجاء الغرفة الأنيقة، فلم يرَ ما مر بأخيه في هذه اللحظات من سخرية بنفسه ومن حيرة وقلق.

وأعاد يسري عينيه إلى الورق ثانية وهو يقول في نفسه: «الأمر لله.» ثم سخر من نفسه وهو يقول دون أن ينطق: «بل الأمر للشيطان.» ثم سمعه أخوه يقول: هيه!

ثم أجرى قلمه في سرعة على الورقة وكأنه يدفع بخنجر إلى جسم، وخُيِّلَ ليسري أنه يطعن ضميره، ولكنه وقَّع ورفع الورق إلى السكرتير في سرعة يريد ألا يراه ثانية. وعاد إلى أخيه يرحب به.

ودار الحديث بينهما، حتى قال خيري فجأة: يسري، ما صلتك بدولت؟

وامتقع وجه يسري وجف ريقه، وتولاه ذهول طغى على تفكيره وظل شاخصًا إلى أخيه باهتًا لا يدري بماذا يجيب، حتى أكمل جملة جمع حروفها من شتى النواحي: ما المناسبة؟

وأدرك خيري ما يمر به أخوه من حيرة واضطراب. فقال وقد عزم أن يزيد من حيرته واضطرابه: لا، فقط أريد أن أعرف؟

وصمت يسري لحظات ثم قال: علاقة عادية.

وتوغل خيري في أخيه بعينَيه وأطال التحديق، ثم قال: هيه، أهكذا؟

ثم صمت فصمتت الحجرة إلا من صوت واهن هو صوت يسري يحاول أن يعيد إلى لسانه ليونة فارقته، ولما طال الصمت قال يسري: هل هناك شيء؟

وقال خيري في حزم: والله نعم، هناك شيء.

واستجمع خيري نفسه ليقول: خير؟

وقال خيري: لا والله، ليس خيرًا.

– ماذا؟ ماذا حدث؟

– ألا تعرف؟

– آبيه خيري، هل هناك شيء؟ أرجوك. لا تعذبني.

– اسمع يا يسري! هل تصر أن تبقى دولت بالبيت؟

وأطرق يسري طويلًا ثم قال: ماذا أفعل؟

– ألا تذهب إلى أخيها؟

– وما شأني أنا؟ إنه ليس بيتي.

– يسري، أرجوك لا تلف عليَّ.

– أنا؟!

– نعم أنت.

– آبيه خيري، هل سمعت شيئًا؟ هل قال لك أحد إن هناك شيئًا؟

– يسري، إنني واثق أن بينك وبينها أشياء.

– هل أخبرك أحد بذلك؟

– هل رآكما أحد حتى يخبرني؟

وأدرك يسري أن أخاه يريده أن يعترف. أدرك أنه لو قال «لا.» اعترف. فصمت هونًا ثم قال: ليس بيننا ما نخفيه.

وصمت خيري ثم قال: إذن، فأقوم أنا.

واضطرب يسري وخشي أن يتركه أخوه هكذا مُعلَّقًا دون أن يطلعه على حقيقة ما يعرفه، فتشبث ببقائه قائلًا: لماذا؟ لماذا تقوم؟

– لأنك تصر على أن تدور عليَّ وتلف.

– ماذا تريد؟

– لا أريد دولت أن تبقى في البيت.

– هل سمعت شيئًا؟

– إني أعرف دولت وأعرفك.

وارتاح يسري بعض الشيء، واطمأن أن علم أخيه قائم على الاستنتاج، فاستقر مضطربه. وكان ترك دولت للبيت أمرًا يفكر فيه هو، بل إن دولت أنبأته في الأمس أنها تريد خمسين جنيهًا لتعود فتاة عند الحاجَّة … الحاجَّة … قالت الحاجة من؟ لا يهم، فلماذا لا يعطيها ما طلبت، ويزوجها؟ والله فكرة، من يتزوج بها؟ إنها هي أيضًا لا تريد البقاء وتريد أن تستقل ببيت، فلماذا لا ينفذ هذا؟ ولكن من يتزوج بها؟ من؟ من؟ وقبل أن يبدأ أخوه الحديث ثانيةً دخل السكرتير ليقول: الأستاذ صبحي، هل ينتظر؟

وانتفض يسري عن مقعده وهو يقول: هو، إنه هو.

وقال أخوه: ماذا، ما بك؟

فقال لأخيه وقد استعاد ثباته: لا، لا شيء.

ثم قال للسكرتير: اسأله أن ينتظر، فسأطلبه حالًا.

وخرج السكرتير. وقال خيري: هيه، أأتركك لتفرغ لعملك، أم أنتظر دقيقة أخرى لأسمع منك كلامًا مستقيمًا لا لف فيه ولا دوران؟

قال يسري وقد اطمأنت فكرة في ذهنه: ماذا تريد مني؟

– اطلب إلى دولت أن تخرج.

– وما الحجة التي تقدمها لتخرج؟

وارتج على خيري هنيهة ثم قال: هذا شأنها وشأنك، لتقل إنها ستتزوج، أو لتقل إن أخاها يريدها، أو لتقل ما تشاء، المهم ألا تبقى في البيت. فإن نظرات الخدم أمس لم تعجبني، وأخشى أن تنتقل نظرات الخدم إلى السادة.

فقال يسري: سأطيعك يا آبيه خيري، وستسمع حالًا أني أطعتك.

وقام خيري دون أن يشكره على هذا الأدب ولا على الترحيب الذي لاقاه به، فقد كان لقاؤه مع فايزة لا يزال مسيطرًا عليه.

وهمَّ خيري أن يخرج من الباب الذي دخل منه، ولكن يسري عاجل يسبقه قائلًا: بل من هنا يا آبيه خيري، فهذا بابي الخاص، لا تزرني بعد اليوم إلا منه.

ولم يقل خيري شكرًا، بل واصل طريقه إلى باب الشركة الخارجي ويسري من خلفه يتبعه حتى خرج إلى الطريق.

وعاد يسري إلى مكتبه مسرعًا، واستقر على كرسيه وطلب أن يدخل إليه صبحي. ورحب يسري بصديقه ترحيبًا بالغًا، وراح يسأله عن زملائهما، وراح صبحي يجيب في لعثمة أول الأمر، ثم انطلق لسانه في ظلال الذكريات، ووجد نفسه دون أن يحس قد عاد مرة أخرى زميلًا لهذا الجالس على الكرسي الأنيق لا يفصله عنه منصب كبير حين هو بلا منصب على الإطلاق، ولا يفصله عنه غنى وجاه حين هو بلا غنى ولا أمل في الجاه، تحادث الصديقان وجمحت بهما الأحاديث حتى لقد نسى يسري نفسه هو أيضًا، وراحت الذكريات ترفرف عليهما بجناحين فيهما حنان ولها في القلب وجيب قوي الأخذ آسر. وكان يسري ينسى ما انتوى أن يقوله لصديقه، بل كاد صبحي نفسه ينسى ما جاء له وقد جاء لحياته. قليلًا ما ترفرف هذه الأجنحة، وقليلًا ما يدوم هذا الحنان في حجرة اجتمع فيها اثنان لكل منهما عند الآخر نشيدة ترتجى وأمل مرموق. غير أن يسري عجب من نفسه أن أحست هذا الدفء، وعجب من نفسه أن تسيطر عليه الذكريات فيلتذ أسلوبها. وسرعان ما أفاق إلى مجلسه ومنصبه فحرص أن يشيع في الغرفة صمت، وحرص ألا يفاتح صبحي فيما جاء له، فقد أراده أن يكون هو البادئ بالطلب. وسرعان ما استرد صبحي نفسه من الأيام الغابرة ليعيش في حاضره ويذكر ما نسيه من فوارق ومن فراغ ومن فقر وشظف عيش.

قال صبحي: ماذا عملت لي؟

واصطنع يسري النسيان، فقد كان يعلم كيف يصطنع النسيان: فيمَ؟

– في مسألتي.

– آه، الوظيفة.

– نعم.

وأطرق يسري ليقول: والله يا صبحي المسألة معقدة.

– ألا أمل يُرجى؟

– كل شيء ممكن، إلا أن المسألة صعبة جدًّا، فالوظائف معدومة والشركة تشكو كثرة الموظفين. وقد نبهنا مجلس الإدارة مرات إلى تضخم اعتماد الوظائف، حتى إننا نفكر في هذه الأيام في توفير بعض الموظفين.

وأطرق صبحي صامتًا آسفًا، يرى أمله يُصرَع بعد أن كان قد أنشأه في نفسه فكبر حتى كاد يصبح حقيقة، ولم يجد ما يقوله إلا: أي وظيفة يا يسري، يا يسري بك، لا يهمك أنني أحمل شهادة عالية، فقد أصبحت الشهادات اليوم عقبة أمامنا، وضاق بي أبي وأصبح في كل يوم يصبحني ويمسيني بقوله: «ها قد تعلمت، فهل جئت بالسبع من ذيله؟ لو تعلمت الصنعة مثلي لكنت اليوم تأتي بأكلك على الأقل.» وحياتي أصبحت لا تُطاق حتى أمي أصبحت تضيق بي، اللقمة التي أتناولها في بيتي لا أستطيع أن أبتلعها، فإني أحس أنها حق إخوتي الذين يعملون مع أبي، أو حق أبي الذي يشقى نهاره وليله ليأتي بها، وإني أحس أنظار البيت جميعه تحدق باللقمة في طريقها إلى فمي فتمسك أنظارهم بها وأعيدها إلى الطبق وأقوم … جوعان، أرى الأكل ولا أطيق أن آكله، تعافه نفسي وأحتاج إليه، أي عمل يا يسري، يا يسري بك.

وانهار صبحي باكيًا في نشيج مكتم لا يعلو، ولم يملك يسري إلا أن يقول: الله! صبحي ما بك؟ تشجع إنك رجل!

فقال صبحي: لا رجولة مع الحاجة أبدًا.

فقال يسري وقد قام يقف إلى جانب صبحي ويربت كتفه: تهون يا صبحي، تهون إن شاء الله، اسمع.

– نعم.

– هل أنت متزوج؟

وأفاق صبحي إلى صديقه إفاقة تامة: نعم، ماذا قلت؟

– هل أنت متزوج؟

– وهل أجد طعامي حتى أتزوج؟ إن كان أهلي لا يحتملونني وحدي، فهل يحتملون معي فمًا آخر؟!

– ما رأيك لو تزوجت؟

– وهل هذه وظيفة؟

– نعم.

– لا أفهم.

– أخت عضو مجلس الإدارة المنتدب، تتزوجها اليوم تصبح غدًا من كبار موظفي الشركة.

– ولكن؟!

– ماذا؟!

– هل بها عيب؟

– أبدًا.

– إذن فلماذا تتزوجني؟

– تركها أخوها وسافر إلى أوروبا، وطال غيابه بها فلم تتزوج، وسنها اليوم كبيرة بعض الشيء، لكن الفارق بينكما لا يُذكَر.

– أهي عجوز؟

– سأجعلك تراها!

– ومن أين آتي بالمهر والملابس؟

– الملابس يسهل تدبيرها.

– والمهر؟

– أسلفك.

– ومن أين أسدد؟

– من مرتب الشركة.

– إذن؟

– سأجعلك تراها غدًا.

– غدًا؟!

– غدًا.

– وهو كذلك.

وخرج صبحي على موعد في الغد، وكان الموعد بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان، يراها هناك مع يسري.

وما إن أقفل صبحي الباب من خلفه حتى أمسك يسري بسماعة التليفون وطلب بيته، وحين أجابت دولت قال لها: الآن في بيت أخيك.

وتأكد أن الدكتور حامد بالشركة ثم نزل.

•••

وحين التقى يسري بدولت بادر فأعطاها ورقة بخمسين جنيهًا وهو يقول: غدًا سيراك العريس بحديقة الشاي معي، ثم تذهبين من فورك إلى الحاجة … الحاجة …

فقالت دولت: توحة، الحاجة توحة … ولكن من العريس؟

– شاب متعلم، سأعينه في الشركة بعد زواجك مباشرة.

– أكبير في السن أم صغير؟

– في سني أنا، سترينه غدًا، قومي الآن، فإني سأعود إلى الشركة.

ونظرت إليه مليًا ثم قالت مفكرة: طيب، اذهب أنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤