الفصل التاسع والثلاثون

كان خيري جالسًا في حجرة أمه، وهي تصلي جالسةً على كرسي، جاعلةً ركوعها وسجودها على نضد اتخذته أمامها، وكانت نادية تقرأ شِعرًا على أخيها وهي مأخوذة بجمال الشعر، فهي تلقيه في إعجاب وقد صعدت الدماء إلى وجهها فزادت براءتها جمالًا وروعةً، يتهدل شعر ذهبي على جبينها فترفعه في غير ما كلفة ولا اصطناع، وعيناها بريق أخضر أودعهما حب الفن شعاعًا من نور، فهما تتألقان، وينساب الشعر من بين شفتَيها موسيقى رخية النغمات عميقة فيخيل إليك أنه نبض قلب أو نبض شباب، وخيري ينظر إليها بإنعام مأخوذًا بقوامها الأهيف وجمالها الطاغي الهادي البريء وصوتها الناغم الندي، ويجد في نفسه لهفة أن يضمها بين ذراعيه فيناديها إليه ويطويها في حنان أب بين أحضانه ويقبِّلها وهو يقول: أنت خير قصيدة رأيتها أو سمعتها.

وتقول في خجل: وبعد لك يا آبيه خيري، ألا تجعلني أكمل القصيدة؟

– كم أغار من ذلك الشاب الذي سيأتي يومًا ليأخذك مِنَّا.

وقالت نادية وقد ازداد خجلها: آبيه خيري.

وتفرغ الأم من صلاتها وهي تقول: ستفسد البنية يا ولد بكثرة مديحك لها.

– نادية لا تفسد أبدًا، ربنا يحميها.

وضحكت الأم ونادية في جذل، ودق جرس الباب فقالت الأم: افتح الباب يا خيري، دادة زينب لم تعد قادرة على المشي في سهولة، يا ابني أين بنت عبد التواب التي قلت إنك ستحضرها من البلد؟

ولم يستطع خيري أن يجيب أمه، فقد شخص إلى الباب، وما إن فتحه حتى وجد نجيبًا واقفًا به، وكان قد غاب عنه فترة طويلة، فصاح به: أهلًا، أين أنت يا ولد؟

– ألا تسأل أنت؟ النهاية، أريد فنجان قهوة.

وقاد خيري صديقه إلى غرفة الجلوس وأقفل الباب، وعاد إلى نادية يطلب إليها أن تصنع لهما قهوة.

وحين استقر المجلس بالصديقين راحا يديران بينهما الحديث، ونجيب يقص على خيري ما يعرض له في مهنة المحاماة التي احترفها، والتي أصبحت تدر عليه ربحًا مرضيًا، وبعد قليل وقت سمع خيري طرقًا على الباب فقام يحضر القهوة من نادية، وقال نجيب وهو يشربها: أين تذهب اليوم؟

– أمرك.

– عندي لك هدية.

– خير؟

– بيت جديد عرفته.

– كبيت مصر الجديدة!

– وما له بيت مصر الجديدة!

– والله عمك كان رجلًا عظيمًا، ماذا فعل الله به؟!

– مات وتزوجت الآنستان من شابين موظفين محترمين.

– أتعرف العناوين؟

– يا حبيبي لذة العيش في التنقل، التنقل يا حبيبي التنقل، البيت الذي سنذهب إليه اليوم فيه امرأة لا تراها ولا على الشاشة الأمريكية.

– وفيه لك عم أيضًا؟!

– لا، أخ، فزوجها رجل طيب، وابن حلال ويرضى بالقليل.

– وما القليل؟

– جنيهان!

– جنيهان؟! ألا تذكر القروش؟

– الحرب يا سيدي رفعت أسعار البضاعة، كانت أيام ومرت ولن تعود، ولكن الحق أن الجنيهين ثمن بخس بالنسبة للجمال الذي ستشاهده هناك.

– سنرى.

•••

نزل الصديقان في ميدان الدقي، وأخذ سمتهما إلى الشارع المفضي إلى الجامعة، ولم يطل بهما المسير، فقد أمسك نجيب بذراع خيري وحاد به إلى عمارة حديثة. وصعد بهما المصعد إلى الطابق الأعلى، فوجدا شقة لا تقابلها شقة أخرى، فدق نجيب الجرس وفتح الباب شاب أنيق الثياب جريء النظرة جبان النظرة، وحدق فيه خيري يريد أن يتذكر أين رآه، فقد كان واثقًا أنه رآه، ولكن أين؟ لم يذكر.

وقاد الشاب الصديقين إلى حجرة للجلوس عبر ردهة صغيرة ضيقة، ولم يتكلم وإنما غاب عنهما لحظات وعاد فوجد على المنضدة أربعة جنيهات لم يكن في حاجة إلى عدها، فوضعها في جيبه، ثم ترك الغرفة وما لبث الصديقان أن سمعا صوت الباب الخارجي يفتح ثم يغلق، فقال نجيب لخيري: قُم.

فقام خيري غير محتاج إلى دليل، فلم يكن بالبيت إلا حجرة أخرى، ففتحها ثم تولاه ذهول، وصاح: دولت؟!

ونظرت إليه دولت مشدوهة كأنما مسها صاعق، ثم سارعت تضع يديها كلتيهما على وجهها، وارتمت على الأريكة تبكي في خزي وألم.

وترك خيري الباب مفتوحًا لم يقفله ولم يذهب إلى نجيب، وإنما قصد إلى الباب الخارجي وانصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤