علمه وثقافته

لأسرة الرافعي ثقافة يصح أن نسميها «ثقافة تقليدية»، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفًا لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه، والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أوَّلهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.١

وعلى هذه النشأة نشأ مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئًا من القرآن، ووعى كثيرًا من أخبار السلف، فلم يدخل المدرسة إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نُقل أبوه قاضيًا إلى محكمة المنصورة، فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل.

ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة المعارف،٢ وكان يُدرس له العربية، وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يُقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة، فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلًا: «يا مصطفى، لا أحسب أحدًا غيري وغير الله يقرأ خطك»، وقد ظل خط الرافعي رديئًا إلى آخر أيامه.

وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه، فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم — وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة — وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرِّسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالسًا إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للرافعي حديث محدثه كتابة في ورقة، وإنا لكذلك والحديث يتشعب شُعَبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين؛ إذ نهض الرافعي واقفًا، فانتبهتُ، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل، يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة … وإذا الرافعي يطأطئ له وينحني يهم أن يُقبِّل يده، ثم عاد إلى مجلسه فمال عليَّ يقول في همس: «هذا أستاذي مهدي خليل …» وكان في صوته رنة هي أقرب إلى صوت الطفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يُسِر إليه … ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت، بما فيه من طبيعة المرح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يُعْن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له، أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم.

•••

وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية — وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية — أصابه مرض مُشفٍ أثبتَه في فراشه أشهرًا، وأحسبه كان التيفويد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا كان حبسةً في صوته ووقرًا في أذنيه من بعدُ.

وأحس الرافعي آثار هذا الداء تُوقر أذنيه، فأهمه ذلك همًّا كبيرًا، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئًا، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عامًا بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأنَّ متحدثًا يتحدَّث وهو منطلق يعدو … فإنَّ صوته ليتضاءل شيئًا بعد شيء، حتى فقدت إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتمَّ الثلاثين حتى صار أصمَّ لا يسمع شيئًا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس.

وامتدَّ الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معًا، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينًا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة …

وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعدَّ برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلمَ والتلميذ.

وحظ الرافعي من الشهادت العلمية مثل حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرازق الرافعي — على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيسًا للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم — لم تكن معه شهادة «العالِمية» حتى جاء إلى طنطا، ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدَّم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض تسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء.

وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتًا من نوادر كتب الفقه والدين والعربية، فأكبَّ عليها إكباب النَّهِم على الطعام الذي يشتهيه، فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد … وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مُجالسة أحد … وكان ضجيج الحياة بعيدًا عن أذنيه … وكان يحس في نفسه نقصًا من ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية … وكان يُعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدَّث … وكان مشتاقًا إلى السمع؛ ليعرف ماذا في دنيا الناس، فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس … وفاتتْه لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة؛ ليجد لذة المتحدِّث حين يتحدَّث … وقال لنفسه: إذا كان الناس يُعجزهم أن يُسمعوني فليَسمعوا مني …

وبذلك اجتمعتْ للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت عِلَّتُه خيرًا عليه وبركة، وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأتْه القدرة بأسبابها والعجزُ بوسائله ليكون أديبًا من أدباء العربية في غد …!

كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه هي دنياه التي يعيش فيها، ناسُها ناسه، وجوُّها جوُّه، وأهلُها صحابته وخلانه، وعلماؤها رُواته، وأدباؤها سُمَّاره، فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمَّة عن العلماء والرواة فمًا لفم، فنشأ بذلك نشأة السلف، يرى رأيهم، ويُفكر معهم، ويتحدَّث بلغتهم، وتستخفُّه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومُناهم.

وإذ كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلًا لغشيان المجالس يتحدَّث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم، فإن حظه من العامية المصرية كان قليلًا، وكان عليه أن يسألني أحيانًا أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مَثل مما يقع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحيانًا ويقول: «فلتكن أنت لي قاموسَ العاميَّة …»

وإذ كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما، فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وإخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكنه كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمةَ على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا منذ قريب.

ولم تُجدِ على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلًا أو أقل من القليل،٣ فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعًا قويًّا، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، على أنه كان يأسف أحيانًا على هجرها ويُمنِّي نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ، وهيهات أن يجد مثلُ الرافعي فراغًا من وقته!

هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل على هذا الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعاتٍ متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه، كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.

وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلًا يحييه ويستمع لما يقوله، ثم لا يلبث أن يتناول كتابًا مما بين يديه ويقول لمحدِّثه: «تعال نقرأ …» وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكفُّ عن القراءة حتى يرى في عيني محدِّثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة …

وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب، وكان في أوَّل عهده بالوظيفة كاتبًا بمحكمة طلخا، فكان يسافر من طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب «ملازم» من كتاب أيِّ كتاب ليقرأها في الطريق، وفي القطار بين طنطا وطلخا «وبالعكس» استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام عليٍّ، وكان لم يبلغ العشرين بعد …

١  كان الرافعي يتخذ في بيته امرأة قارئة حافظة، تقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن، وتعلم بناته من القرآن في وقت فراغهم من المدرسة وتقيم ألسنتهم في تلاوته.
٢  تُوفي سنة ١٩٤٤ فيما أذكر.
٣  كانت اللغة الأجنبية في مدارس الحكومة إلى ما بعد الاحتلال بقليل هي الفرنسية، ولم تدخلها الإنجليزية إلا بعد أن قويت شوكة المحتل حتى نفذت إلى برامج التعليم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤