حرف الألف

أحمد محمد إبراهيم

في السماء زرقة صافية، وعلى الأرض تغفو ظلال أشجار البلخ، وأديم الميدان العتيق يشرق بنور الشمس، ويتلقَّى من الحارات هديرًا لا ينقطع؛ ميدان بيت القاضي يضم قسم الشرطة الحديث، وبيت العدل والمال القديم، وتطؤه أقدامٌ حافية، وشباشب مُزخرفة، ومراكيب ملوَّنة، وحوافر الخيل والحمير والبغال. ويطَّلع أحمد على ذلك الملعب الواسع فسرعان ما ينسى بيته الأصلي؛ بيت والدَيه بحارة الوطاويط. كان ابن أربعة أعوام عندما حُمل إلى بيت جدِّه لأمِّه بميدان بيت القاضي ليؤنس وحدة خاله قاسم الذي كان يكبُره بعامٍ ونصف عام. خلا البيت بعد زواج البنات والصبيان فلم يبقَ فيه إلا عمرو أفندي الأب وراضية الأم، وآخر العنقود قاسم. لم يعرف قاسم أخواته صدرية ومطرية وسميرة وحبيبة، وأخويه عامر وحامد إلا كضيفٍ عابر مع أُمِّه أو أبيه، يزورهم، كما يزور فروع أُسرته في ميدان خيرت أو سوق الزلط أو العباسية الشرقية. وفي بيت شقيقته مطرية بحارة الوطاويط أحبَّ ابنها أحمد حبًّا فاق حُبه للجميع. وكان لأحمد أخٌ أكبر يُدعى شاذلي وأختٌ في اللفة تُدعى أمانة ولكنه خصَّ أحمد بكل قلبه. وكانت مطرية تُحب قاسم كأبنائها فأهدته إليه ليعيش في كنَف جدَّيه ويُؤنس وحدته في بيتٍ كبيرٍ خالٍ من الأنيس. ولم يرتح محمد أفندي إبراهيم — أبو أحمد — لذلك كما لم ترتح له أُمُّه — حماة مطرية — ولكنهما لم يعترِضا مُصمِّمَين على أن يستردَّاه حال بلوغه السنَّ المناسبة لدخول الكتَّاب. وجهل قاسم تلك النية المُبيتة فنعِمَ بالصحبة في صفاءٍ لا يشوبه كدَر. وكان أحمد كأنه آية في الجمال، مورَّد البشرة ملوَّن العينين ناعم الشعر خفيف الروح، يتبع خاله كظلِّه في أرجاء الميدان، يُشاهدان ألعاب الحاوي، وعربة الرش، وطابور جنود الشرطة، ويستقبلان معًا عم كريم بياع الدندورمة، ويتابعان بشيءٍ من الخوف مواكب الجنازات، وكانت الرائحة والغادية من الجارات تنظُر إلى أحمد وتتساءل: من هذا الولد الجميل؟

فيُجيب قاسم باعتزاز: أحمد ابن أبلة مطرية.

فتمضي المرأة وهي تقول: الجميل ابن الجميلة.

وكان محمد أفندي إبراهيم يقول لراضية أم قاسم: لا تملئي رأس أحمد بحكايات العفاريت يا نينة.

فترمُقه باحتقارٍ وتقول: يا لك من مُدرس جاهل!

فيضحك الرجل كاشفًا عن ثَنِيَّتَيْه المُتراكبتَين ثم يُواصِل تدخين غليونه. ذلك أن ختام اليوم يتم عادةً بين يدَي راضية فتنداح النشوة في قلبَي الطفلَين على سماع الحكايات قبيل النوم، وتنهمر على خيالهما كرامات الأولياء وعبث العفاريت، وينغمس الواقع في دُنيا الأحلام والخوارق والآيات الربانية. وتمضي بهما في أوقات الفراغ من بيتٍ إلى بيت، ومن ضريح ولي إلى جامع حبيب من آل البيت. وظلَّت الدُّنيا لهوًا ولعبًا حتى حُمِل قاسم ذات يومٍ إلى الكتَّاب ليبدأ حياةً جديدة وليُحرم من رفقة أحمد ثلثَي النهار. والكتَّاب يقع في مُنحنًى من مُنحنيات عمارة الكبابجي على بُعد خطواتٍ من البيت، ولكنه مُحاط بسياجٍ من التقاليد الصارمة تجعل منه سجنًا تُتَلقَّى فيه المبادئ الإلهية تحت تهديد المقرعة … ولم تُجْدِ التوسُّلات ولا الدموع. ويُغادره عصرًا فيلقى أحمد وأمَّ كامل في انتظاره عند الباب. لم تعُدِ الدنيا كما كانت. تسلَّلت إليها هموم لا مفرَّ منها. وبغريزةٍ يقِظة شعَر بخطرٍ آخر يَتهدَّدُه من ناحية محمد إبراهيم والد أحمد، فهو لا يرتاح لإقامة أحمد بعيدًا عنه. وتتجلَّى في عينَيه الجاحظتَين نظرةٌ باردة نحوه، ويقول لأُمِّه: أنا لا أحبُّ هذا الرجل.

فيكفهِرُّ وجهُها الأسمر الطويل وتقول له: يا لك من جاحد! ألم يُهدِ إليك ابنه؟

– ولكنه يريده.

فتضحك قائلة: أترغب في أن ينزل لك عن ملكيته؟!

•••

ولكنه ذات يومٍ لم يجد أحمد في انتظاره لدى خروجه من الكُتَّاب، ووجد أمَّه جادةً أكثر من عادتها، وقالت له: حبيبك مريض.

ورآه مُستغرقًا في نومٍ ثقيل في فراشه، وراحت أُمُّه تعمل له مكمَّدات خَلٍّ وهي تُتمتم: يا ولدي … يخرج منك صهد كالنار.

ولا تكفُّ عن تلاوة الآيات. ولمَّا رجع عمرو أفندي إلى البيت مساءً رأى أن يُرسِل أمَّ كامل لإخطار مطرية وزوجها. ولمَّا لم تنخفض الحرارة بالبخور والتعاويذ، جاء عمرو أفندي بطبيبٍ من الجيران، ولكنه أعلن أنه طبيب عيون ونصح باستدعاء الدكتور عبد اللطيف المُقيم في باب الشعرية. واعترض عمرو أفندي قائلًا: ولكنه مُتزوج من العالمة بمبة كشر!

فقال الطبيب ضاحكًا: بمبة كشر لم تُنسِهِ الطب يا عمرو أفندي.

وجاء الطبيب زوج العالمة المشهورة، وشعر قاسم بأنه شحن الجوَّ بمزيدٍ من التوتر. وسمع أُمَّه وهي تقول: أنا لا أُصدق الأطباء ولا أعترف إلا بطبيبٍ واحد هو خالق السماوات والأرض.

وتمرُّ الأيام ويتساءل قاسم أين أحمد؟! أين غابت نضارتُه وجماله؟!

عاد عصر يوم من الكتاب.

دهمَه البيت بمنظرٍ جديد، رأى أهله جالسين في صمتٍ غريب. في حُجرة أحمد لمح أُمَّه وجدة صديقه لأبيه، وفي حجرة المعيشة رأى إخوته وأخواته … عامر وحامد وصدرية وسميرة وحبيبة. أما مطرية فكانت تُجهِش في البكاء وإلى جانبها يجلس محمد إبراهيم واجمًا يُدخِّن غليونه. وتسرَّب الخوف إلى قلبه مع الهواء المُفعم بالحزن، وأدرك بطريقةٍ ما أن ذلك العدو الذي سمع عنه في مناسباتٍ ماضية، الذي رآه يُخيم فوق الجنازات المُتجهة نحو الحُسين، قد اقتحم بيته وخطف أحبَّ خلق الله إلى قلبه. وصرخ باكيًا حتى حملته أمُّ كامل إلى السطح. ومن وراء خصاص نافذة الحجرة الصيفية رأى جدَّة أحمد تحمِل بين ذراعَيها لفافةً مُزركشة وتستقلُّ حنطورًا مع ابنها وعمرو أفندي. وذهب الحنطور يتبعه حنطور آخر يحمل عامر وحامد وعمه سرور أفندي. جنازة من نوعٍ جديد فهل انتهى أحمد؟! أبى أن يُصدِّق ذلك أو يُسلِّم به. آمن من كل قلبه بأنه سيراه مُقبلًا ذات يومٍ مُطلًّا بعذوبته الوردية، ولكنه لم يكفَّ عن البكاء. وفي الليل انفضَّ الجميع، نهرَه أبوه قائلًا: كفاية!

فسأل أباه برجاء: أين ذهبتُم به؟

فقال عمرو: لم تعُد طفلًا، أنت في الكتَّاب وتحفظ سورًا من كتاب الله، أحمد مات، وكل إنسانٍ سيموت كما يشاء الله، وهذه هي إرادة الله.

فتساءل محتجًّا: ولكن لماذا؟

– إرادة الله، ألا تفهم؟!

– لا أفهم يا بابا.

– لا … هذه قِلة أدب أمام الله … سيذهب أحمد إلى الجنة بغير حساب، وهذا حظ عظيم …

فاحذر قِلة الأدب.

فصاح: أنا حزين جدًّا يا بابا.

– اقرأ الفاتحة يبرد قلبك.

لكن قلبه لم يبرد. وكان كلَّما تذكَّرَه بكى. وقيل إن حُزنه عليه فاق حزن أُمِّه نفسها … ولم يَسْلُ عن حزنه حتى تحطَّم واقعه وخُلق خلقًا جديدًا لم يَجْرِ لأحدٍ على بال.

أحمد عطا المراكيبي

عملاق في الرجال، بالطول والعرض، وقسمات الوجه الخليقة بتمثال، يجري دمُه الدافِق في أديمٍ أسمر، صورة خيالية لبطل حكاية شعبية بشاربه الكثِّ وراحته المُنبسطة، وظاهر يدِه الأشعر، يملأ مقعد الحنطور وهو يتهادى به في ميدان بيت القاضي قبل أن يقف أمام البيت القديم إذا جاء لزيارته في هالةِ إقطاعيٍّ كبير، ويتلقَّى ابن أُخته عمرو أفندي — وهو يُماثله في السن — بين أحضانٍ عامرة بالودِّ، ويُصافح راضية بحرارة، ويضع الهدايا فوق الكنصول وهو يتساءل: أين قاسم؟

ويندُّ عنه صوت هادئ خفيض يُعَدُّ غريبًا بالنسبة للهيكل العملاق الصادر عنه، وتشعُّ من عينَيه البنيَّتَين نظرة وانية مُتودِّدة تتحلَّى بالطيبة والسلام، كأنه مسجد ضخم يجمع بين الجلال والأمان.

– حدِّثنا كيف حال أولادنا؟

يقصد البنات والأبناء. وكان يزور الجميع على فتراتٍ وخاصة البنات ليُزكي مكانتهن أمام أزواجهن. وكان يغمر قاسم بالحلوى، وقد حزن لوفاة أحمد الذي أحبَّه كثيرًا لجماله.

ويبقى عادة للغداء مُشترطًا تقديم وجبةٍ بلدية من طواجن راضية التي اشتُهِرت بإتقانها مع إضافاتٍ جاهزة من طعمية الحلوجي وكباب العجاتي، ويواصل البقاء حتى يقضي السهرة مع عمرو، وشقيقه سرور في الكلوب المصري. وكان الفرع الفقير من الأُسرة يسعد بزيارات الفروع الغنية مثل آل المراكيبي، وآل داود ويزهو بما تُحدِثه من أثرٍ باقٍ في الحي رغم أن راضية كانت تقول لعمرو: لا أصل لأحدٍ منهم، كلهم نشئوا في التراب!

ثم تلتفت إلى قاسم قائلةً بتحدٍّ: يُوجَد رجل واحد ظُفره بكل هؤلاء، هو جدُّك الشيخ معاوية!

فيبتسِم عمرو ويصمت إيثارًا للسلامة. على أن قاسم لا يُفيق أبدًا من سحر سراي آل المراكيبي بميدان خيرت. في حجم ميدان بيت القاضي وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان، لا حصر لحجراتها، ولا مثيل لأثاثها، وأي تُحف مختلفة الأشكال والألوان وتلك التماثيل من الجص والبُرنز في الأركان، وفوزية هانم حرم أحمد بك ونازلي هانم حرم محمود بك، ذواتا البشرة العاجية والأعيُن الملونة. عالم حقيقي يفوق بسحره عالم الحكايات والأحلام. وجدَّتُه لأبيه نعمة عطا المراكيبي هي أخت أحمد بك ومحمود بك. ولكنها امرأة فقيرة رغم ذلك لا تملك من دُنيا الله سوى ابنَيها عمرو وسرور وابنتها رشوانة، غير أن الأخوَين الثَّرِيَّين كانا يُحبَّان أختهما ويُحبَّان ذُريتها وخاصة عمرو أفندي الذي تميز بحكمة فطرية. وكان أحمد بك يُوثِّق عِزوتَه بآل داود، أقارب أولاد أخته نعمة وأصهاره، على ما بين الفرعَين الثَّرِيَّين من غيرةٍ مُتبادلة ويدعوهم لسراي ميدان خيرت، وكان أحمد أحبَّ إلى عبد العظيم باشا داود من أخيه محمود لدماثة خُلقه وبساطته وتواضُعه. ولكن جرت العادة عند ذِكر آل المراكيبي في بيت عمرو أن يقول عبد العظيم باشا بسخرية: مال كثير وجهل أكثر وما المنبع؟ … بيَّاع مراكيب حقير بالصلحية!

أو يقول محمود عطا عن آل داود: ألقاب رنانة … والأصل أجير على باب الله!

فيقول عمرو بتقواه المعروفة: كُلنا أولاد آدم وحواء.

وقد بدأ عمرو وسرور ومحمود وأحمد حياتهم التعليمية في سنواتٍ مُتقاربة وقنعوا بالشهادة الابتدائية، فالتحق عمرو وسرور بالحكومة لفقرهما، واقتحم محمود تجربة الحياة تحت جناح أبيه، وجنح أحمد للدَّعة وحياة الأعيان، فأسقطه أبوه من حسابه. كان يُمضي وقتًا في العزبة ببني سويف على هامش العمل الزراعي، ثم يرجع وحده، أو هو وفوزية هانم إلى السراي بالقاهرة بمقامه في الدور الثالث، ويُنفق وقته بين زيارات الأهل واستقبال الأصحاب. كان بهوه الفخم مُعدًّا لاستقبال الأصدقاء والأقارب، يحتسون الشاي والقهوة والقرفة ويلعبون النرد والشطرنج ويدعون للغداء أو العشاء، ويسهرون في ليالي رمضان والمواسم حتى مطلع الفجر. كان الفونوغراف رفيق خلوته، والحنطور مُتعته، وحدائق شبرا والقبة مُرتادَه، والسيدة مُصلَّاه أيامَ الجُمَع، وقد يحضر بعض ليالي الذكر الصوفية مع عمرو ابن أخته المنتسِب للطريقة الدمرداشية. ولمَّا مات الأب عطا المراكيبي تلقَّى مجرى حياته الهادئ الدائم الخضرة دفقةَ هواءٍ عنيفة كادت تعصف به. وجد نفسه بغتةً أمام مسئوليةٍ ضخمة لم يُدرَّب على التعامُل معها. كان عليه أن يُدير أرضه الموروثة — ثلاثمائة فدان — بالإضافة إلى أرض زوجته البالِغة المائة. وقال له محمود بك: ستتعلَّم كل شيء، ولديك من يُعاونك، ولكن … وكوَّر الرجل يدَه الغليظة ثم واصل: عليك أن تتخلَّى عن طِيبتك، فالتعامُل مع الفلاحين والمُستأجِرين غير التعامُل مع الأصحاب والأقارب!

وفكر طويلًا وهو يتخبَّط في الشرك، ثم قال: أنت أخي الأكبر، وما لقيتُ منك إلَّا البرَّ والوفاء، وأنا لم أُخلَق لذلك.

بذلك حلَّ محمود محلَّ أبيه. ولم ترتح فوزية هانم للقرار وقالت له بأدبِها الجمِّ: شدَّ ما تعجَّلتَ قرارك دون مشاورة.

فسألها بحيرة: هل يُداخلك شكٌّ مِن ناحية أخي؟

فقالت بأمانة: نِعمَ الأخ هو، ولكن لِمَ تضع نفسك تحت وصايته؟!

فقال: إنه شقيقي وحبيبي، وأنتِ شقيقة زوجته، وأُسرتنا مِثالٌ في الوئام والحُب، وقد فعلتُ ما أراه مُناسبًا.

وواصل حياته الناعمة، وكان يتسلَّم نصيبَهُ دون مُراجعة، وكان الخير عميمًا والبال رائقًا. وانقضَّت عليه ثورة ١٩١٩ فهزَّته من الأعماق وأشعله سِحر زعيمها، وتبرَّع لها بعشرة آلاف جنيه مُستجيبًا لاقتراح أخيه. تناسَيا وصيةً قديمة لأبيهما بالبعد عن السياسة وتجنب ما يُثير غضب السلطات الشرعية وغير الشرعية. كان المد أقوى من أن يُفلِت منه إنسان. ولكن عندما أطلَّ الشقاق بقرنِه وحصل الخلاف بين سعد وعدلي، تشاور الرجلان فيما ينبغي فعله. أو راح محمود يفكر وأحمد يُتابعه. قال محمود: انقضت فترة العواطف وجاءت فترة العقل.

فقال أحمد: الأرض كلها مع سعد.

– نكون حيث تكون مصلحتنا.

فاشتدَّ انتباه أحمد حتى استطرد أخوه: لا يغرنك الهتاف، الإنجليز هم القوة الحقيقية، عدلي قريب منهم ولكنه لا يُوفِّر الأمان الدائم، هناك سلطة شرعية هي الوسيلة الباقية بين الإنجليز وهي العرش، فليكن ولاؤنا للملك!

فقال أحمد مُستسلِمًا: الصواب معك دائمًا يا أخي!

وعرف ذلك الموقف في بيت القاضي حيث يتجاور بيتا عمرو وسرور. وهمس عمرو بأسلوبه الهادئ: سلوك غير لائق.

فقال سرور بِسخرية: أقاربنا الأغنياء، وهبَهُم الله مالًا لا يُعدُّ وخسَّةً لا تُدانى.

وكان عمرو يتحرَّج من العنف لأكثر من سبب؛ لهدوء طبعه من ناحية، ولزواج حامد ابنه من شكيرة بنت محمود بك، وعامر من عفَّت بنت عبد العظيم باشا، ولكنه لم يُخْفِ رأيه عن خاله أحمد بك وهو يتعشَّى معه في السراي، فقال له أحمد باسمًا: علم الله أن قلبي معكم ولكنه رأي محمود!

فقال عمرو آسفًا: الميدان تحت بيتنا يموج بالمظاهرات كل يوم، والهتاف بسقوط الخونة يتصاعد إلى السماء.

فقال أحمد: أصحاب المصالح لا يُحبُّون الثورات يا ابن أُختي.

والواقع أن أحمد هو الذي تعرَّض للنقد لاختلاطه بالناس ليلَ نهار، أما محمود فكان أكثر وقته منغمسًا في عمله في العزبة. ونتيجة للولاء المُعلن في تلك الفترة الحرجة فاز الأخوان برتبة البكوية في عيد الجلوس، وسُرَّ بها الرجلان سرورًا فاق كل تصوُّر. وأولَمَ أحمد وليمةً دعا إليها جميع الأقارب نساءً ورجالًا، من آل عمرو وسرور وداود، وبدت السراي في حلةٍ لا تبدو بها إلَّا في الأفراح. وغاص أحمد في حياته الخاصة حتى قمَّةِ رأسه، ولم يأذن لهموم الوطن بالتسلُّل إلى خلوته وتكدير صفوِها. ولكن بتقدُّم الزمن ونموِّ الأبناء جاءته المتاعب من حيث لم يحتسِب. لم يُوافِق ابنه الأكبر على الوضع الذي اختاره لنفسه تحت وصاية أخيه. وخاض نزاعًا طويلًا عنيدًا مع أُمه أولًا ثم مع أبيه ثانية. ولم يُعفِ أباه من مُلاحقته حتى وعد باسترداد حقِّه الذي نزل عنه بمحض اختياره. ومن تلك الشرارة اندلعت النيران في أركان الأسرة المتحدة. انتهز أحمد فرصة زيارة محمود للقاهرة لبعض شأنه وفاتَحَه في الموضوع على استحياء، وختم حديثه كالمُعتذِر قائلًا: الأولاد كبروا ولهم رأيهم!

أدار محمود ما سمع في رأسه طويلًا وهو يتلقى من الغضب أمواجًا هادرة. كان قد تطبَّع بسلطةٍ غير محدودة، ومارس في السراي هيبة تجاوزت أسرته إلى أسرة أخيه الوديع الطيب. كانت فوزية هانم تهابُهُ وتصدَع بأوامره على حين تُناقِش زوجها مناقشةَ الندِّ للند. وكان ابنا أحمد يلتزِمان أمامه حدود الأدب والطاعة على حين يتعاملان مع أبيهما بالحب والمرح والحرية. وأفلت الزمام من يدَي محمود فقال لأخيه: يا لك من رجل ضعيف! كيف سمحت لابنك بهذا العبث؟!

فاستاء أحمد ولم يشأ أن يُفرط في احترام أبنائه له فقال: لا ضرورة للكلمات القارصة يا أخي.

فسأله بوحشية: هل تشكُّون في ذِمَّتي؟

فبادر يقول: معاذ الله، ما هو إلَّا حقي في تولي شئوني بنفسي.

– حقك في تدمير نفسك بنفسك بوحيٍ من حماقة أولادك؟

فقال عابسًا: الله المُستعان.

وتلا ذلك مناقشة مع عدنان الابن الأكبر لأحمد اعتبرها محمود بك قِحةً تستحق الزجر. وكان أن خاطب الشابُّ عمَّه بشيءٍ من العنف اعتدَّه الرجل جريمة. وسرَتِ النار من فردٍ إلى فرد. تخاصم الشقيقان، وانحازت كل زوجةٍ إلى زوجها مُمزِّقةً الولاء لشقيقتِها، وتبادل أبناء العم أسوأ ألوان السباب. وتهرَّأت عروة الأسرة، وانطوى كل فرع على نفسه في دوره بالسراي كأنه لا يعرِف الآخر، وخابت مساعي رشوانة وعمرو وسرور في إصلاح البين، بل إن حامد بن عمرو — وكان يُقيم مع زوجته شكيرة في دور محمود وأُسرته — وجد مشقةً وحرجًا ليُحافظ على صلته الطيبة بآل أحمد خال أبيه. وانتقل أحمد بك إلى العزبة في بني سويف ليتسلَّم أرضَه على كبر، فيزرع ما يزرعه منها ويؤجر ما يؤجره، ولقي في ذلك من المتاعب ما لم يتصوَّره وتعرَّض لخسائر لم تَجْرِ له في حسبان. وقُبيل الحرب العظمى الثانية بقليلٍ أصيب الرجل بالفالج وحُمِل إلى فراشه بالقاهرة في انتظار النهاية. كان أول من هوى من الجيل الثاني العتيد، وكانت الأمراض تُرشِّح بقية الجيل للَّحاق به بطريقةٍ أو بأُخرى، وكان عمرو ما زال يقاوم الأجل، وفي الحال زار محمود بك وقال له: آن لك أن تنسى الخصام وأسبابه وأن تعود شقيقك.

وصمت الرجل مُتأمِّلًا ثم قال: ثمَّة أمور لا تُنسى، ولكني سأفعل ما يليق بي .. وما تدري أسرة أحمد بك إلَّا ومحمود بك يستأذن في الدخول. وجموا ووقفوا له مُتأدِّبين وقد دمعت أعينهم. وكان بِصُحبته زوجته وأبناؤه فتمَّ التصافح وقال الرجل: يذهب الشقاق ويُنسى ويظل القلب ينبض بدقَّات القُربى.

ومضى إلى أخيه المطروح فوق فراشه بلا حركة ولا نطق. انحنت فوزية هانم فوق أذنه وهمست: أخوك محمود بك جاء ليطمئن عليك.

فانحنى بدوره فوقه ولثم جبينه ثم استقام وهو يقول: العفو عند الرحمن، شد حيلك.

ورفع الرجل جفنَيه الثقيلَين، وتبدَّى عجزه عن النطق، ولكن لم يَشُكَّ أحد في الأثر الطيب الذي اختلجت به وجنتاه المُحتقنتان. وأسلم الروح عند منتصف تلك الليلة الحزينة.

أدهم حازم سرور

مهندس معماري من خريجي عام ١٩٧٨. استقبل حياته العملية وهو ابن خمسةٍ وعشرين في القاهرة الحافلة بالمشكلات، ولكنه لم يعثر في حياته بمشكلة واحدة. وتلاطمت حوله أمواج البشر والمركبات وانفجر هديرُها مثل عزيف البراكين، ولكنه نَعِمَ في فيلَّا والدَيه بالدقي بالهدوء والسكينة وشذا الورد والأزهار، وتحيَّر جيله في مسالك الحياة بحثًا عن الهوية والبيت والزوجة وتحقيق الذات ولكنه وجد مكتب والده الهندسي في انتظاره ليشغل فيه مركز السيادة المرموق. وسيم مثل أبيه، ومِثله أيضًا ضعيف العين اليسرى لدرجة العمى، ولا يعرف من شئون الدنيا إلا فنَّهُ ولا ينتمي إلَّا لأحلام التفوق والثراء، ويكاد لرقَّةِ دينه أن يكون بلا دينٍ عن غير إلحاد. وقالت سميحة هانم أُمُّه مُخاطبةً أباه: خسِرْنا أخاه الأكبر، فدعْنِي أُهيئ له حياةً محترمة!

فقال برقَّةٍ مُشفقًا كالعادة من إغضابها: هذا جيل يختار لنفسه فلا تتحَدَّيْ كبرياءه … ولكنها غضبت رغم رقَّته، اشتعلت كالعادة صائحة: في أُسرتكم عِرق قَذِر أخشى أن يسُوقه إلى طريق أخيه.

فأشعل سيجارة وقال لها: افعلي ما بدا لك.

ولكن أدهم كان مُبادرًا بأكثر ممَّا تخيلت، فأخبرهما وهم جلوس في حديقة ميناهاوس صباح يوم العطلة بأنه اختار شريكة حياته … وفزعت أُمه وحملقت في وجهه مُتسائلة، وحدس الشابُّ مخاوفها فقال باسمًا: كريمة، في السنة النهائية بكلية الحقوق، أبوها محمد فوزي مُستشار بقضايا الحكومة.

هدأت أعصابها فيما بدا وتناولت ملعقةً من الكاساتا وراحت تلوكها في فمها المنقوشة حوافيه بتجعيدات السنين، ثم تمتمت: لا بدَّ من التحري.

فقطَّب أدهم، وقال الأب مُلاطفًا: مجرد إجراءات ولكني مُتفائل.

وتُبُودلت زيارات، وحظي الاختيار بالرضا، وكان لا بدَّ أن تُعلق بنقدٍ ما فقالت لحازم زوجها: أُمُّها جاهلة فيما يبدو.

فعجب الرجل لقولها إذ إنها — سميحة — لم تحصل على البكالوريا ولكنه قال: لا أهمية لذلك.

وتَمَّ الاتفاق على كلِّ شيء، واشترى حازم لابنه شقةً في المعادي بتسعين ألفًا من الجنيهات، استقرَّ ابنه وعروسه فيها في نهاية العام.

ولم يكن أدهم يعرف من شجرة أهله إلا فرع أُمِّه، جدَّهُ محمد سلامة مُنشئ المكتب الهندسي وأخواله وخالاته. أما أهل أبيه فكان يعرف — ربما معرفةً عابرة — أن جده سرور أفندي عزيز كان موظفًا بالسكك الحديدية، وأن عمرو أفندي عم والده كان موظفًا بالمعارف، وكان له عمَّات ولكلٍّ أبناء وبنات ولكنه لم يرَ أحدًا منهم. يعرف أيضًا أنَّ أُسرته من حي الحسين وهو حي يقترن في ذهنه بالفقر والتأخُّر فلا حاجةَ به إلى تذكُّره، ولم يمُرَّ به إلَّا عابرًا وهو في سيارة. وكثيرًا ما يلتقي بنفرٍ منهم في الميادين أو بعض الأماكن العامة فلا يعرفهم ولا يعرفونه. وتابع أبوه نشاطه بارتياح، واطمأن إلى أنه إذا تقاعد يومًا — وهو قريب — فسيترك المكتب لرجلٍ قادر. وقد قال له يومًا بمناسبة ما ذاع وشاع عن الفساد: كل الفرص مُتاحة، لك العلم والذكاء والهمَّة فتجنب الانحراف، لا تسخر من النصيحة. إن كنتَ ممن يسخرون من القِيَم، فعلى الأقل احرص على السمعة واخشَ السجن!

أمانة محمد إبراهيم

مُشرقة اللون، دقيقة القسمات، ناعمة الشعر، صورة جديدة لأمِّها مطرية لولا بروزٌ ما في ثَنِيَّتَيها وهي آخِر من أنجبت مطرية، وجاء ميلادها قُبيل وفاة أحمد بأشهر. وأحبَّها خالها قاسم ولكنه لم يجرؤ على المُطالبة بها كما فعل مع شقيقها الراحل. فجعل يُحبها من بعيدٍ حتى انتزعته مأساته الشخصية من هموم الدنيا جميعًا. وماتت جدتها لأبيها وهي في السابعة فحزنت عليها حزنًا أكبر مما يجوز في سنِّها. ودخلت المدرسة الابتدائية دون اعتراضٍ بحُكم زمنها، وبحكم زمنها أيضًا انتقلت منها إلى المرحلة الثانوية. ومع أنَّ مطرية لم يكن يشغل بالها إلَّا الزواج إلا أنها قالت لزوجها: كبنات أختي سميرة، الدُّنيا كلها تودُّ أن تتعلَّم اليوم.

وكان محمد إبراهيم يُسلم بذلك دون مناقشة. وكان قد رُقِّي لدرجة مدرس أول مع بقائه في مدرسة أم الغلام بشفاعة عبد العظيم باشا داود. والحق أن أمانة أبدت استعدادًا طيبًا للتعليم وتجلَّى تفوُّقها في الرياضيات، وتراءت لها الجامعة كحلمٍ سهل التحقيق. وحصلت على البكالوريا ولكن في العطلة الصيفية التالية مرِض أبوها مرضًا لم يُمهله فسرعان ما توفي وهو في الخمسين. ورثت الأسرة البيت والمعاش وإيجار دكانٍ في أسفل البيت، وكانت الحرب العظمى الثانية قد انتهت ورحل من الجيل الثاني عمرو وسرور ومحمود عطا، فشعرت مطرية بأنها تُواجه الحياة وحيدة. في ذلك الوقت تقدَّم عبد الرحمن أفندي أمين الموظف بدار الكتب لِطلَب يد أمانة. رجل يكبُرها بخمسة عشر عامًا ذو سمعة طيبة، وكان رأي أمانة أن الرجل مقبول ولكنها تودُّ أن تُكمل تعليمها. وقالت لها مطرية بعطف: ظروفنا تقتضي تفضيل الزواج.

وشاورت مطرية أُمَّها فقالت راضية: الرجل المناسب أهم من الجامعة ألف مرة.

ونظرت إلى أمانة بإعجابٍ وقالت: كيف تهتم بالتعليم بنت في جمالك؟

وقال لها خالها الشيخ قاسم: رأيتك في المنام وأنت ترقُصين في قسم الجمالية!

وسألت مطرية أمها عن تأويل الحلم فقالت دون تردد: القسم هو الأمن والأمان، هو بيت الزوجية.

وجهزت مطرية أمانة بمهرها وثمن حُليِّها وحُلِي جدتها لأبيها وما تبقى من مُدخرٍ قليل للمرحوم محمد إبراهيم، وزُفَّت إلى زوجها بشارع الأزهر. ووضح أن الحب أظلَّ بجناحه الأسرة الجديدة، ولكن التوافُق بين الزوجَين بدا من أول الأمر أنه يقتضي عناءً مريرًا. المسألة أن عبد الرحمن أمين آمَنَ بسيادة الرجل، وأنها كانت شديدة الحساسية تتهوَّل في وجدانها قرصةَ نملةٍ فتخالها قرصةَ ثعبان. سرعان ما تبكي وتنفرد بنفسها أو تذهب من الأزهر على حارة الوطاويط. وتمضي بها مطرية لتفضَّ الاشتباك فتتورَّط في الخصام. وقالت لها شقيقتها الكبرى صدرية: ليس زوج بنتك بأسوأ من زوجي … ومع ذلك لم يدرِ أحد بما ينشب بيننا، لا تتدخلي بينهما ولا تَميلي مع أمانة مع كلِّ خلاف.

وعلمت راضية بذاك النقار المُتجدِّد فاستعانت بالتعاويذ والرُّقى وزيارة الأضرحة، وبدا أن الحال تُنذِر دائمًا بمزيدٍ من الشقاق حتى لاح شبح الطلاق بوجهه القبيح كالوطواط الأعمى. وضاعف من عُمق المأساة أن أمانة بمجرد أن أنجبت بِكرها محمد استحوذت عليها الأمومة واختفت الزوجة الجميلة أو كادت. وأنجبت بعده عمرو وسرور وهدية، وابتعد شبح الطلاق، واستمرَّ النقار، وانطبع الوجه الجميل بطابع أسًى دائم. وشرع الأبناء في التعليم مع أول جيلٍ لثورة يوليو، وعبروا جوَّ بيتهم الكئيب فحلَّقوا في سماوات من الآمال والمجد حتى غرقوا في بحر الحيرة الذي ابتلع ضحايا ٥ يونيو ١٩٦٧، ومضوا يستقبلون حياةً عملية بعد رحيل الزعيم الأول، وفي موجة النصر والانفتاح فازوا بعقود عملٍ في البلاد العربية، حتى هدية لم تتخلف عن ذلك وكانت مطرية قد رحلت بدَورها بعد مُعاناةٍ طويلةٍ لخيبة الأمل، بعد موت البِكري ورحيل الزوج قبل الأوان، وانحراف شاذلي، وسوء حظِّ أمانة، وسلَّم عبد الرحمن أمين بالواقع بعد طعنِهِ في السن، ونَعِمَت أمانة بنجاح أبنائها وإن حل بها الكبر والسقام قبل الأوان. وبحكم الزمن شهِدَت رحيل الأعزَّة من الأخوال والخالات وبقية الأقارب، وقرأت كتاب الأحزان وهو يُقلِّب صفحاته صفحةً في إثر صفحة … واستَمَعَت إلى نبوءات الشيخ قاسم المُرسلة من وراء السُّحب لتجري أحكامها فوق المصائر.

أمير سرور عزيز

وُلِد ونشأ في بيت القاضي، وكان بيت سرور أفندي يُلاصق بيت شقيقه عمرو أفندي، كما كان أمير يُقارب ابن عمِّه قاسم في سِنه، وقد شارك ابن عمِّه في لعبه وجولاته، وانفصل عنه عقب مأساته على رغمه، وكان بخلاف إخوته قوِيًّا مع مَيل إلى البدانة وحُبٍّ للدعابة، وكان أشبه الجميع بعمِّه عمرو في رجولته وتقواه. وقد عرف ثورة ١٩١٩ كأسطورةٍ من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعدِيًّا وطنيًّا مؤمنًا. وحاول أن يُقلد أخاه لبيب في تفوُّقه واجتهاده فشقَّ طريقه بنجاحٍ ولكن دون أخيه بمراحل. وبسببٍ من تقواه وروحه المحافظة على الآداب والتقاليد ساءت علاقته بأُخته جميلة التي كانت تكبُره بأربع سنوات، لاعتراضه على ما اعتبره تحرُّرًا في سلوكها لا يليق بسمعة الأسرة ولا بكرامة الدين. ولم يرَ أحد من أُسرته رأيه فزادوا غضبَهُ حتى قال له أبوه: أنت مُتعصب أكثر من اللازم فدع الأمر لي.

وبدخوله المرحلة الثانوية بدأ يُشارك في المعارك الحزبية التي نشِبت بعد رحيل سعد زغلول. اشترك في المظاهرات التي قامت احتجاجًا على دكتاتورية محمد محمود، وأصابته هراوة لبث بسببها في المُستشفى أسبوعين. وكان له ثلاثة أقارب من ضباط الشرطة في مراكز حساسة بالداخلية، حامد عمرو ابن عمه، وحسن محمود عطا ابن خال أبيه، وحليم عبد العظيم داود ابن عمِّ أبيه، وتشاوروا في الأمر وكلَّفوا أقربَهم إليه بتحذيره وترشيده. وكان حديثٌ قدَّمه حامد على مسمع وشهود من سرور عمِّه، وعمرو أبيه. قال مُخاطبًا ابن عمه: اسمك على رأس قائمة سوداء في الداخلية.

فقال أمير ضاحكًا — وكان الضحك عادته: لي الشرف.

فأشار ابن عمِّه إلى أثر الجرح في صدغه وقال: ما كل مرة تسلَم الجرَّة.

وقال له أبوه: لا يتورَّعون عن فصلك من الكلية.

وقال حامد: إني وفدي مِثلك، ولكن لا بدَّ من النصيحة.

وكان الشابُّ لا يُخفي احتقاره لآل عطا وآل داود، وكان يشعر بفتور عواطف أبيه نحوهما، وتهكُّمه عند كل مناسبة بأصلهما. ومضى أمير يتألَّق في سماء السياسة في أوساط الشباب الوفدي، ويُقدِّم لزعماء الوفد، ويطير بطموحه الوطني إلى آفاقٍ بعيدة. وحاول شقيقه لبيب — وكان وكيل نيابة في ذلك الوقت — أن يفرمل من اندفاعه ولكنه قال له: قد عرفتُ سبيلي ولن أتراجع عنه.

فسأله بهدوئه الطبيعي: وإذا رُفِتَّ ونحن فقراء كما تعلم؟

فقال بثقة: في تلك الحال أعمل في الصحافة.

ولكنه لم يُرْفَتْ ولم يعمل في الصحافة ولم يواصل جهاده السياسي. ففي أوائل عهد إسماعيل صدقي، وفي طوفان المظاهرات التي قامت احتجاجًا على إلغاء دستور ١٩٢٣، أردَتْهُ رصاصة قتيلًا في شارع محمد علي. وقد تولى رجال الأمن دفنَهُ مع كثيرين حتى لا تُهيئ جنازاتهم فرصةً لقيام مظاهرات جديدة، ولم يسمح لِشُهود دفنه إلَّا لأبيه وعمِّه وإخوته، وقد هزَّ مَوته المُبكر آل سرور من الأعماق، وكذلك آل عمرو، وتذكروا ما قاله له الشيخ قاسم في آخر زيارة لبيت عمه: سترفع العلَمَ الأحمر.

فأوَّلوا قوله بأنه إشارة إلى دَمِهِ المسفوح يوم استشهاده!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤