مقدمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمدِ بن عبد الله.

تعوَّد المؤلفون أن يفتتحوا كتبَهم بكلمةٍ وجيزةٍ جامعةٍ، تدلُّ القارئ على روح الكتاب والغاية من وضعه، وقد جعلنا الفصول الأولى من هذا الكتاب وافيةً بهذا الغرض، فهي بمثابة مقدمة الكتاب.

هذا ويكفي أن نشيرَ بهذه الجملة الافتتاحية إلى أنَّ كتابنا «الشهاب الراصد» بحثٌ انتقادي تحليليٌّ لكتاب «في الشعر الجاهلي» الذي وضعه الدكتور طه حسين أستاذ آداب اللغة العربية بالجامعة المصرية، بعد أن ألقى موادَّه دروسًا ومحاضرات في الجامعة أولًا، وفي مسرح دار التمثيل العربي بالحديقة ثانيًا، فأذاع آراءه ثلاث مرات: الأولى بين الطلاب، والثانية على جمهور من الأعيان والأدباء، والثالثة في كتاب مطبوع، فأعطاها أقصى ما يعطيه مؤلف لأفكاره من النشر والشيوع بين الطبقات. فلمَّا وقع لنا الكتاب وقرأنا فصوله دُهشنا مما حواه، مخالفًا للعلم والتاريخ والأدب، ورأينا من واجبنا أن نقوم بفرض نقده من تلك الناحيات دون أن نتعرَّض للمسائل الدينية التي آثارها المؤلف؛ لعلمنا بأن في مصر وفي العالم العربي علماء فطاحل يستطيعون الرد عليه من الناحية الدينية.

وقد اشتهر المؤلف بحب الانتقاد، يدعو نفسه كاتبًا انتقاديًّا فيسرُّه — بلا ريب — أن يتقدم الباحثون إلى نقد كتابه، فإنَّ الانتقادَ في الغرب أنفع الآلات لتقدم العلوم والفنون وارتقاء الآداب، فلا تخلو صحيفة أو مجلة أوروبية من محررين أخصائيين لانتقاد ما يكون له قيمة من تأليف أو تصنيف أو ابتكار أو ابتداع، حتى أنَّ المؤلف الذي لا ينتقد تأليفَه مُنتقِدٌ منهم يعدُّ نفسه ساقط المنزلة بين أقرانه، ولا نظن المؤلف يقتدي بمَثَل من أمثال الحرَّاثين «إذا صار لك صيت بين الحصادة فاكسر منجلك»، فهو — بلا ريب — يعلم بمزية الانتقاد، ولا بدَّ أن يقبل ذلك أحسن قبول، فليس الانتقاد مما يُثبِّط همة أمثاله، ولا نظنه واثقًا بنفسه فيراها وراء النقد؛ لأن ثقة الإنسان بنفسه مجلبة للخَطَاء.

لقد كان حقًّا علينا أن ندافع بالحق عن السلف الصالح، وألَّا نترك ميراث أجدادنا الأمجاد لعبث العابثين وأحقاد الشعوبيين، فإنَّ كتاب «في الشعر الجاهلي» ليس مقصورًا على الأدب العربي قبل الإسلام كما يدل عنوانه على ذلك، بل إنَّ مؤلفه تناول المدنية العربية في الجاهلية والإسلام ونال منها تجريحًا وقذفًا، ونحن المصريين موطنًا وأخلاف هؤلاء العرب وأبناء تلك المدنية الإسلامية نمُتُّ إلى العرب بأقوى الأسباب، فلغتنا التي بها نكتب ونتكلم عربية، ومدنيتنا التي عشنا ونعيش في ظلالها عربية، وهذا المؤلف لم يترك فضيلة للعرب في علومهم وتاريخهم وآدابهم وعقائدهم دون أن يحاول هدمها بشدة وقسوة وتهكُّم واستهزاء لم نعهد لها مثيلًا في كتب العلماء، فيخيل للقارئ أنَّ المؤلف يلعب ويلهو بأشرف الأشخاص وأسمى المبادئ التي خلَّفتها المدنية العربية الإسلامية منذ أربعة عشر قرنًا. وكنا نودُّ أن نظنَّ بكتابه خيرًا — على حد قول عمر بن الخطاب — فلم نجد له في الخير محملًا، وحاولنا ونحن نقرأ كتابه أن نلمح بصيصًا أشبه بالبصيص الذي يراه الإنسان وهو سائر في أحد الأسراب إذا قارب آخره، ولكننا لم نلمح شيئًا في وسط هذه الظلمات المتكاثفة من أول الكتاب إلى آخره؛ لأنه للأسف طافح بالأوهام، فهو سراب يحسبه الإنسان من بعيدٍ ماءً. والحقيقة أنَّ كتاب «في الشعر الجاهلي» عبارة عن بعض نصوص صحيحة أو مزوَّرة، وبعض أكاذيب وأساطير، وشيء من التهويل، وشيء من السياسة، وشيء من الخرق، وكثير من الشعوبية والتعصب ضد العرب وعقائدهم.

ولم يترك المؤلف نبيًّا أو صديقًا أو عالِمًا أو راويةً أو شاعرًا إلا ابترك في عرضه ابتراكًا، ونال من شرفه وسمعته. وإننا نتحدى هذا المؤلف أن ينقل كتابه أو جزءًا منه إلى لغة أجنبية، فإن وافقه ربع عالم على بعض ما جاء فيه كنا مخطئين وكان هو مصيبًا، ولكننا واثقون من أنه لن يجد من نفسه شجاعة على تفسيره بلغة إفرنجية؛ لئلا يصبح أضحوكة الأجانب، وهم في العلم والتاريخ لا يرحمون مُدَّعيًا، ولا يصبرون على سخف يدلي به مقلد أو مغرور. ولعل الأستاذ من شدة حسن ظنه بنفسه وبكبريائه العلمي أساء الظن بالأمة المصرية كلها، فكتب لقومٍ يحسبهم خطأ جُهَّالًا لا يعلمون من مراجع بحثه شيئًا، ولا يستطيعون وقفه عند حدِّهِ، وقد استكشف اليوم خطأه بعد أن رفعنا الحجاب عن مغامزه المقصودة وأغلاطه التي ساقه إليها عدم إلمامه بموضوعه.

هذا وقد أنجزنا وضع كتاب «الشهاب الراصد» في وقت ضيق وانشغال دائم، ونشرنا بعض فصوله في جريدة المقطم، وما نشر في الجريدة لا يتجاوز ثلث مواد الكتاب.

وقد حاولنا جهد الطاقة أن نُبيِّن لقُرَّاء العربية فن الانتقاد على حقيقته في الشرق والغرب، كما حاولنا أن نرجع بعض الحق إلى نصابه، ورددنا ما نقله المؤلف مُحوَّرًا ومشوَّهًا إلى أصوله، واستشهدنا بآراء العلماء الثقات في الشرق والغرب، وناقشنا نظريات المؤلف التي ليست من العلم أو التاريخ أو الأدب في شيء، وأتينا بما يلزمه الحجة إن كان مخلصًا في البحث عن الحقيقة.

يقول المؤلف إنه ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قدمه، وهو يعُدُّ أعظمَ مفاخر المدنية العربية في القوانين والأنظمة والعلوم والآداب قديمًا يجب تركه، ولا يؤيد أقواله بدليل، أو مرجع صحيح، أو إسناد يعول عليه. فنقول: ليس لنا أن ننبذ القديم لمجرد قدمه، فما كل قديم يُنبَذ ولا كل جديد يؤخذ، والواجب على من رأى المصلحة في القديم ألَّا يتركه ما لم تقم الأدلة على صحة الجديد، وهذا ما فعلته الأمم الأوروبية، فلم تترك قديمها، بل فتشت عنه وبعثته، وأحيت العلوم والآداب التي كانت مفاخر اليونان، واتخذتها أساسًا متينًا للجديد في عهد إحياء العلوم، على أنَّ معظم قديمهم أساطير وخرافات وأخبار لم يستطع أحد من علمائهم تحقيقها إلا في النَّدْرَى، بيد أنَّ قديمنا معظمه حقائق وشرائع وقوانين وآداب رائعة. أما في اللغة فقد جربنا القديم مئات السنين، فقام بالكفاية وظهر صلاحه لقبول كل جديد نافع، ولم نر — قبل هذا المؤلف — عالمًا أو أستاذًا يسعى بالوهم والخِيلَة ليقطع ما بين السابق واللاحق؛ ليضيع على المتأخرين تراث أسلافهم المتقدمين، ولم يفهم أحد وجهًا لتشبُّث المؤلف بإحداث هذه الفتنة، ولا نريد أن نفترض أن يكون مصابًا بداء الشعوبية، وهو تفضيل العجم على العرب، ونميل إلى الظن بأنه مقلد الغالب كما قال ابن خلدون. ولعل تشبُّثه وتعصُّبه لفكرة تسلطت على ذهنه — وهي تشويه سمعة العرب ومدنيتهم وآدابهم — ضَرَبَا بينه وبين الحقيقة حجابًا مستورًا.

يرجع الرومان بتأسيس مدينتهم رومة إلى القرن الثامن ق.م، ويبنون هذا التاريخ على أسطورة، وهي مولد «روميولوس» و«رينوس» ورضاعتهما من ذئبة، ولا تزال الذئبة التي اتخذها هذان التوءمان ظئرًا في حديث الخرافة رمزًا مُمثَّلًا ومحفورًا ومصوَّرًا في هياكلهم وقصورهم ودواوينهم إلى يومنا هذا.

أما العرب الذين ينتسبون حقًّا إلى الشعوب السامية، وينحدرون أصلًا وفرعًا من إسماعيل وإبراهيم بإجماع المؤرخين الأقدمين والمحدثين، فقد استعظم المؤلف عليهم أن يؤسس جدهم الأعلى إبراهيم بناء الكعبة، وهي قاعة صغرى لا يصعب تشييد مثلها على أضعف الخلق، وجعل يتقعر في اختلاق الأقاويل والأباطيل لإخراج أصول تاريخ العرب القديم من حيز الحقائق إلى حيز الخرافات والأساطير، وهذا المؤلف الذي حمل على المدنية العربية الإسلامية حملة شعواء لم يتقدم إلى طلابه وقُرَّائه وسامعيه بدليل علمي أو عقلي مقبول، بل يريد أن يكون قوله حجة الحجج وبرهان البراهين، وغاية تنتهي إليها أبحاث المتقدمين والمتأخرين.

والناس في هذا الزمان — أيها الشيخ — لا يرضون إلا أن يكون لهم عقول يفهمون بها، ويستعينون بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان، ولم يأتِ على العرب زمن كانت تؤخذ فيه أقوال أمثالك قضية مسلمًا بها، فعلينا أن نقتدي بهم في هذا السبيل، وإذا كنت تقول في كتابك إنك لا تقدس أحدًا من الذين يعاصرونك، ولا تبرئه من الكذب والانتحال، ولا تعصمه من الخطأ والاضطراب، فإذا تحدث إليك بشيء أو نُقِل لك عنه شيء فأنت لا تقبله حتى تنقده وتتحرى وتحلل وتدقق في التحليل — ص١٢٨ من كتاب «في الشعر الجاهلي» — فلا بدَّ أن تخضع لهذه القاعدة فيما تقول وتملي.

لقد كان لاتخاذك اسم ديكارت ومنهج ديكارت ستارًا تخفي وراءه نياتك أثرٌ في النفوس، فلما اعترضك بعض أساتذة دار العلوم الذين سمَّيتهم أنصار القديم، نهضت تعيب عليهم جهلهم بديكارت وفلسفته، وتغري بهم وزارة المعارف لتقصيهم عن مناصب التدريس لما ادَّعيت به من أنهم يجهلون اسم مؤسس الفلسفة الحديثة ومبادئه. وفي الحق إنك استخدمت اسم هذا الفيلسوف الجليل وأنت خاطئ، وألحقت بمذهبه أذًى وأنت متعمد، فلم يكن الرجل من الفلاسفة المتشككين حتى تتحكك به وتتعلق بأكفانه، ولم يقل أحد من النقاد أو العلماء إنَّ مذهب ديكارت الخاص بالرياضيات والطبيعيات والميكانيكا والفلك يُطَبَّق في التاريخ والأدب على المنهج الذي سلكته. ونحن نجلُّ ديكارت ونمجِّد اسمه ونذكره بالاحترام المقرون بالإعجاب، ولا نُقرُّك على اتخاذ منهجه حجابًا بينك وبين ناقديك.

لقد طعنت في علوم العرب وتاريخهم وآدابهم قبل الإسلام وبعده بثلاثة قرون، ولم تترك فرصة إلا اختلقت منها غميزة ضد المدنية العربية وشرائعها وقوانينها وآدابها وتاريخها، فسُقْتها في عمد وإصرار كأنك تهدم بمعول الحقد الكمين بناءً شاده أعداء لك ألدَّاء، وطعنت قبل كل شيء في الرواية والتواتر والإسناد، ونلت من أعراض الرواة وشرفهم، وأنت تعلم — أو ينبغي لك أن تعلم — أنَّ الرواية والتواتر والإسناد هي وسائل العلم والدين والأدب عند العرب في جاهليتهم وإسلامهم. ولم يسبق لأحد من الباحثين أن طعن في تلك الوسائل من علماء المشرقيات الأجانب المحققين أمثال: نولدكه، وويلهاوزن، وجولدزيهر، ورينان، وكليمان هوار، ونيكلسون، وليون كايتاني، وبرتلميه سانت هيلير، بل أقروها ووافقوا ابن قتيبة في قوله المأثور: «ليس لأمة أسناد كأسنادهم»، ولعمر الحق لو أراد علماء العرب والإسلام أن يستنبطوا لشريعتهم وتاريخهم وآدابهم حججًا وبراهين من كتب المستشرقين الأوروبيين وحدها لاستطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

لك حقًّا أن تفكر كما تشاء، وتعتقد بما تشاء، وتكتب وتملي ما تشاء، فنحن من أنصار حرية الفكر والقول، ولكن ليس لك مطلقًا أن تتعدى حقك لتعتدي على حقوق الآخرين، فإنَّ للدولة قانونًا يحمي حرية الفكر والاعتقاد، ولهذه الدولة أيضًا قانون يحمي جمهور الأمة الذين خضعوا للقانون، واطمأنوا له وأطاعوه، ولم يعتدوا على حقوق أحد، ولم يمسوا آداب معاصريهم وتاريخهم وعقائدهم.

وليس لك باسم التجديد أو الابتداع والابتكار أو التفريق بين العلم والدين، أن تسيء إلى العلم والدين معًا، فإنَّ العالِم الحقيقي يستطيع أن يكتب ويقول كل ما يريد دون أن يشتم أو يسب أو ينتهك الحرمات، ودون أن يمس القواعد الثابتة، وليس العلم الصحيح سلاطة ولا شماتة، بل إنَّ للعلم سياجًا من أدب النفس وكمال الخلق، ولست من رجال التجديد حقًّا؛ لأن المجددين أهل عقل وحصافة، وليسوا ذوي تهجم ورعونة واستخفاف. وما تعده فكاهة لنفسك وأصدقائه تلهون به وتضحكون منه هو أقدس الأشياء في نظر الآخرين.

فالاعتدال — أيها المؤلف — واحترام آراء المعاصرين وحفظ كرامة الجمهور ادعى إلى نشر الأفكار، ولا يمكن أن تنشر الأفكار الطيبة بالإكراه، فما بالك بدعاية السوء والأفكار الخبيثة! وما دخل الدين في الأدب؟ بل ما دخل النبي في كتابك، وهو الذي كتبت عنه في [ماذا يقصد بالجاهلية] «ولكنه توفي بعد الفتح بقليل ولم يضع قاعدة للخلافة ولا دستورًا لهذه الأمة»؟ فهل تكتب تاريخ النبي أم تكتب في أصول الحكم في الإسلام، أم أنت تنفث السم وتدسه في ثنايا هذا الكتاب؟

لقد التمسنا إسكاتك بما تعرف، واحتججنا بالصدق وطلبنا الفلج بالحق، ولم نستعن بالخلابة، ولم نستعمل المواربة. ولا نجد لختام هذه الكلمة أفضل من جملة بليغة وجيزة دبجها يراع أحد كتَّاب العصر في العمود الأول من الصفحة الأولى من العدد ٢٧ للسياسة الأسبوعية، وهي: «وا أسفا! إنَّ الممعود ليضطرب لمرأى أطايب الطعام والأعشى ليقذى بساطع الضياء، وهما مع ذلك يدركان لذة الطعام السائغ وبهاء النور الوضَّاء.»

أكتوبر سنة ١٩٢٦
محمد لطفي جمعة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤