الفصل الثامن عشر

الغايات الثلاث التي يرمي إليها المؤلف

أما مؤلف الشعر الجاهلي فيقصد بفصل القصص وانتحال الشعر (ص٩٠–١٠٥) إلى جملة مغامز تنصبُّ كلها على الحط من قدر العرب وعلومهم ومدنيتهم وآدابهم، فادَّعى في ص٩٠ أن «هذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية خالصة»، وقد بينا في تاريخ القصص وذكر رجاله في أطواره الثلاثة أنه لم يكن له مساس مباشر بالدين أو السياسة أو الاجتماع، وأنه كان أولًا نوعًا من تعميم التعليم Vulgarisation وتقريب بعض علوم الدين لأذهان الشعب، ثم صار فنًّا للتسلية ثم اندثر، فأين إحاطة القصص بالحياة العربية والإسلامية مع أنه لم يكن إلا فنًا من فنون الأدب؟ إنما هذا المؤلف يرمي إلى غاية أبعد من ظاهر هذا القول، فهو يقول إنَّ هذا القصص كله خلط وخرافات وأساطير، فيوهم القارئ بأن الحياة العربية الإسلامية والتاريخ العربي الإسلامي اللذين تناولهما القصص هما أيضًا خرافات وأكاذيب وأساطير.

وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى المقارنة بين الإلياذة والأوديسة من وضع العبقري الإغريقي هوميروس وبين القصص العربي، ويدعي زورًا وبهتانًا أنَّ القصاص من المسلمين قد تركوا آثارًا قصصية لا تقل جمالًا وروعة وحسن موقع في النفس عن القصيدتين المذكورتين آنفًا، وهذه المعارضة بين القصص العربي والشعر القصصي اليوناني ترشيح لنظريته، ومحال لا ينطلي علينا، فهل تاريخ الإسلام في صدره الأول وحياة العرب في زمن النبي والراشدين تشابهان حرب طروادة ورحلة عولس وما بينهما؟ هل دلَّه علمه التاريخي وفنه الأدبي على هذه المقارنة أم قادته أحقاده على العرب والإسلام إليها؟ الشعر القصصي اليوناني ثمرة الخيال ومثال عظيم للعبقرية الشعرية، وقد وفينا هوميروس حقه في صدر هذا الكتاب، ولكن القصص الإسلامي فن كان يستمد قوته وثروته من مصادر مختلفة في أول أمره، أهمها القرآن والأحاديث وسيرة النبي والخلفاء الراشدين وغزواتهم وفتوحهم، ومنها أخبار الأنبياء والرهبان والأحبار والقديسين والحواريين الواردة في الكتب المقدسة الإسرائيلية والنصرانية، فكيف تمكن المقارنة بين القرآن والحديث وبين شعر هوميروس؟ إنَّ القرآن شريعة وعقيدة وقانون، وشعر هوميروس فن وخيال، وأنت نفسك ذكرت أنَّ فن القصص الإسلامي قام على مصدر القرآن والحديث (ص٩٣)، فكيف تملي مثل هذا القول؟ إنَّ الإلياذة والأوديسة ديوانان عظيمان من الشعر، وكان فن القصص فن كلام ورواية وإلقاء فيه تفسير قرآن وأحاديث وتواريخ أنبياء وقواد وأمراء، وواضع الإلياذة والأوديسة شاعر واحد والقصاصون عشرات، بل مئات، منهم من يجيد ترتيل القرآن حتى قال عمر بن عبد العزيز عن أحدهم (مسلم بن جندب الهذلي): «من سرَّه أن يسمع القرآن غضًّا فليسمع قراءة ابن جندب.»

وفي آخر ص٩١ لم يستطع على إظهار غايته صبرًا فقال: «فبينما كان اليونان يقدسون الإلياذة والأوديسة ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا.» وبعبارة أخرى أنَّ القرآن كالإلياذة من حيث العناية لدى الإغريق والعرب، وأنَّ المسلمين عنوا بقرآنهم مثل عناية اليونان بإلياذتهم، وأنَّ هؤلاء المسلمين — ما عدا المؤلف طبعًا — هم أهل جهل وغفلة؛ لأنهم اشتغلوا بتفسير القرآن ودرسه وحفظه، ولم ينشغلوا بالقصص الذي هو في مقام الإلياذة والأوديسة بالنسبة لهم.

أين نحن من انتحال الشعر الجاهلي؟ إنَّ المؤلف يخوض في غير احتشام أسمى وأرقى مسائل المسلمين الدينية والتاريخية! ولكن مثله كالأطفال الذين يهولهم فيضان النيل، فيكشفون عن سيقانهم وينحدرون إلى الضفة ليمتعوا أنفسهم بوهم السباحة، فتزل أقدامهم وينزلجوا في اللجة.

هذه غاية المؤلف الأولى: الخلط بين القرآن والإلياذة والقصص، ووضعها جميعًا في صف واحد، وكل عالم أوروبي أو شرقي يعلم خطأ هذه المقارنة وظلم صاحبها، وما يحدثه من الألم في نفوس طلاب العلم والحقيقة، فالقرآن كتاب دين وشرع وحق، ويعتقد ثلاثمائة مليون إنسان في أنحاء الأرض أنه منزل على محمد أفصح العرب. وفن القصص من فنون الأدب التي لا يعيرها العالم المحقق اهتمامًا؛ لأن كثيرين من القصاص كانوا يمضون في تفسير القرآن والحديث وسرد وقائع المغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق، وقد جاء حين من الزمن صار القاص فيه عند أهل العلم أحمق ممخرقًا أقرب إلى الشعوذة منه إلى الأدب؛ لأنه يستبيح «نقل الكذب الذي لا بأس به وإسناده إلى أهله».

والإلياذة شعر قصصي إغريقي في أرقى درجات البلاغة، ونحن لم نبخسها حقها (الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب)، ولكن لا يصح علمًا ولا عقلًا ولا فنًّا ولا أدبًا أن يجمع كاتب أو مؤرخ بين القرآن وبين الشعر والخرافات، ولكن هذه غاية هذا الشيخ الأولى التي يقصد إليها، وأمنيته التي سعى إلى تحقيقها.

ثم انتقل المؤلف إلى غايته الثانية، وهي الطعن في ابن إسحاق وابن هشام والتشكيك في صدق السيرة التي ألفها الأول ورواها عنه الثاني، وقد سبق في جملة صفحات إلى ذكر السيرة بما لا ينطبق على الحقيقة كما جاء في ص٧٤ وغيرها. قال في ص٩٨: «وآخرون غير ابن سلام أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصاصون»، و«إنَّ ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروي من غثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر، إنما أُوتى به فأحمله، فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله.» ص٩٥. وانتهت بالمؤلف الحال إلى تشبيه ابن إسحاق وأمثاله بإسكندر دوماس الكبير يستكتبون الناس القصص، وينسبونها إلى أنفسهم، وقال في ص٩٦: «فلديك في سيرة ابن هشام دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر، وبعضها حول غزوة أحد، وأضيف كل هذا إلى الشعراء وغير الشعراء من الأشخاص المعروفين، وأضيف بعضه إلى حمزة، وبعضه إلى علي، وبعضه إلى حسان، وأضيف بعضه إلى نفر من شعراء قريش وإلى نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط.»

إذا كان ابن إسحاق كاذبًا مخادعًا في رواية الشعر وإضافته إلى غير قائليه أو إضافته إلى رجال ونساء لم يقولوا الشعر قط في حياتهم، فأحرِ به ألَّا يكون صادقًا في بقية ما أثبت من السيرة، وحينئذ يكون المصدر الوحيد الجدير بالثقة في حياة النبي قد تسرب إليه الشك، ولا يجوز الاعتماد عليه ولا الرجوع إليه، وإذا بلغ المؤلف هذه الغاية فما أعظم اغتباطه بثمرة جهوده!

وغني عن البيان أنَّ المغازي لم يصح منها إلا كتاب المغازي لابن مسلم الزهري المتوفى في الربع الأول من القرن الثاني، وقد ضاع هذا الكتاب، وكتاب المغازي لموسى بن عقبة المتوفى في وسط القرن الثاني، وبقيت منه نسخ خطية، ونذكر أنَّ العلامة ويلهاوزن طبع قطعًا منتخبة من كتاب المغازي للواقدي في برلين في أوائل هذا القرن، وقرأنا بعضها بالألمانية في سنة ١٩١١ بمدينة ليون.

أما سيرة النبي كاملة فأقدم نص وصل إلينا منها فهو ما ألفَه محمد بن إسحاق، ولم يصل إلينا الكتاب الأصيل، ولكن وصلت إلينا رواية عبد الملك بن هشام عن ابن إسحاق، وقد اتفق العلماء على أنَّ السيرة والمغازي التي رواها ابن هشام عن ابن إسحاق هي أقدم المصادر وأوثقها مما وصل إلينا، قلنا: اتفق العلماء على صحتها، ونقصد علماء الإفرنج المحققين الذين لا يعد مؤلف الشعر الجاهلي في جنب علمهم وصدقهم وإخلاصهم شيئًا! قال الأستاذ نيكلسون أستاذ الآداب الشرقية في جامعة كامبردج ص١٤٦ من كتابه: «يظهر أنَّ رواية ابن هشام عن ابن إسحاق أمينة وفي جملتها صحيحة ومنطبقة على الحقيقة.» وهاك النص باللغة الإنجليزية:
But his narrative appears to be honest and fairly authentic on the whole.

واتفق نولدكه وليون كايتاني ودي جوجيه وويلهاوزن على صحة «سيرة رسول الله» التي ألفها ابن إسحاق ورواها ابن هشام، ولم يكن هذا التصديق اعتباطًا، إنما لأن ابن إسحاق المتوفى في منتصف القرن الثاني كان ثبتًا في الحديث والمغازي، ودرس على أكثر العلماء المعروفين في زمنه، وقد ألف سيرته واتبع فيها طريقة الأسانيد، وقد رأينا كتابًا خاصًّا بأخبار الرجال الذين روى عنهم محمد بن إسحاق، وهو مطبوع في هولاندا سنة ١٨٩٠، أما السيرة ذاتها فقد طبعت في أوروبا سنة ١٨٦٠، وتُرجمت إلى بعض اللغات الأجنبية. وابن هشام الذي روى عن ابن إسحاق كان مشهورًا بعلم النسب والنحو، وتوفي بمصر في أوائل القرن الثالث، وسلاح حملة المؤلف على ابن هشام وابن إسحاق رواية وردت في ص٧ من كتاب طبقات الشعراء لابن سلام نصها: «وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل منه كل غثاء محمد بن إسحاق، وكان من علماء الناس بالسِّيَر فقَبِل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أُوتى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا.» وهذه الرواية الواردة في طبقات ابن سلام كغيرها من الروايات التي تحتمل الصدق والكذب، ولا يجوز الأخذ بها إلا بعد نقدها نقدًا صحيحًا، ولكن المؤلف سارع إلى تبنيها والإيمان بها، دون أن يضعها في إحدى كفتي الميزان العلمي ما دام فيها طعن مر في ذمة مؤرخ الرسول أو في علمه.

على أننا إذا نظرنا في هذه الرواية بشيء من العناية تكشَّفت لنا عيوبها:
  • فأولها: أنه يعيب على ابن إسحاق أنه روى شعرًا، ونسبه إلى عاد وثمود (ص٨ الطبقات)، ويعاتب ابن إسحاق ويقول: «أفلا يرجع إلى نفسه (ابن إسحاق)، فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف السنين.» ولكن ابن سلام نفسه وقع في عين الخطأ الذي يدعي أنَّ ابن إسحاق وقع فيه، فقد روى طائفة من الشعر على أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح، والتي يضاف بعضها إلى جذيمة الأبرش، وبعضها إلى زهير بن جندب، وبعضها إلى أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. ومؤلف الشعر الجاهلي الذي آمن برواية ابن سلام ضد ابن إسحاق وسلَّم بها واتخذها حجة، عاد ينتقد ابن سلام في روايته هذه الأشعار وقال في ص٩٩: «وكل هذا الشعر (أي الذي رواه ابن سلام عن هؤلاء الشعراء الجاهليين) إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلف بيِّن الصنعة.» فلا يجوز الاحتجاج بقول المخطئ، ولا نقبل أن يحلل قوله مرة ويحرمه أخرى.
  • ثانيًا: لم يكن ابن سلاح أخصائيًا في السير والأنساب والمغازي، ولكنه كان أخصائيًا في نقد الشعر، فإن كان المؤلف يدَّعي أنه أظهر جهل ابن سلام وقال إنَّ كل هذا الشعر مصطنع بعد الإسلام ليفسر الأسماء والأساطير والخرافات، فيجدر بالناقد البصير ألَّا يخضع لحكم ابن سلام في علم السير والأنساب والمغازي التي لم تكن له فيها مشاركة.
  • ثالثًا: جوهر الرواية أنَّ ابن إسحاق كان يعترف بأنه يضيف إلى سيرة الرسول التي ألفها كل غثاء من الشعر، وكان الأدباء المعاصرون ينتقدونه ويعتبون عليه فيعتذر لهم بجهله، ويعترف لهم بأنه يؤتى بالشعر فيحمله، ولا ندري أي الأمرين أغرب: الاعتراف أم الاعتذار، ولا نرى أنَّ واحدًا منهما يصدر عن عاقل، وقد مرت هذه السيرة بنثرها وشعرها بيد عالم آخر، وهو الذي هذَّبها ولخَّصها وخلَّفها لنا، وهذا العالم هو ابن هشام، والفرق بين ابن إسحاق وابن هشام ستون عامًا، وكان في استطاعة ابن هشام أن يمحو ما يظنه دخيلًا؛ لأنه لم يكن مقيدًا برواية كتاب ابن إسحاق بحذافيره إذا ثبت له أنَّ بعض الشعر فيه منحول أو محمول على غير أصحابه، فرواية ابن سلام لا يعول عليها، ولا يحتج بها، وإن جاز الاحتجاج بها لسائر الخلق فلا يجوز ذلك للشيخ طه حسين المؤلف؛ لأنه طعن في ابن سلام وزيَّف آراءه واحتقرها، والصدق لا يتجزأ، فإن حكمت — أيها الشيخ — بأن ابن سلام كاذب أو جاهل أو مخدوع (قوله «ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلام» ص٩٩) في الجزء، فيجب أن يسري حكمك عليه في الكل، وقد خطَّأتَه في اختصاصه.

وإذا تمشينا معك في فروضك الخاطئة فلا نراك أقمت دليلًا على كذب السيرة النبوية، كذلك لم تدلنا على طريقة نميز بها بين الشعر الجاهلي الصحيح والشعر الجاهلي المنتحل، ولم تذكر لنا مثلًا واحدًا من الأشعار الواردة في السيرة أيها صحيح وأيها محمول، بل نراك تقول في هذا الفصل عبارات يصح أن تكون دليلًا على بعض الأغراض كقولك في ص٩٧: «ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أنَّ العرب لم يكونوا جميعًا شعراء.»

ولكنه لا يبرز نصوصًا قديمة وحديثة، ولا ندري سببًا لإخفاء هذه النصوص، ولا ندري مكانها، ومثله كمثل تاجر عاجز عن السداد يقول لدائنيه إذا ضيَّقوا عليه الخناق: «لديَّ عروض وسندات قديمة تكفي للوفاء»، ولكنه لا يبرزها حتى يحكم عليه بإشهار الإفلاس!

يعود إلى محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب فيقول إنَّ النبي أبى أن يأذن لعلي أن يقول شعرًا يرد به على شعراء قريش وأذن لحسان، ويدعي أنَّ السبب في ذلك أنَّ عليًّا «لم يكن من ذلك في شيء»؛ أي إنه لم يكن شاعرًا، ودليلنا على ذلك قوله في ص٩٧: «فكثيرًا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء، وقد طلب النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرًا يرد به على شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له؛ لأنه لم يكن من ذلك في شيء»، وهذا الرجل قد كذب على الحقيقة والتاريخ، وعلى محمد وعلي لغاية في نفسه، وإليك تصحيح هذه الرواية:

قال قائل لعلي بن أبي طالب: «اهجُ عنا القوم الذين قد هجونا، فقال علي: إن أذن لي رسول الله فعلت، فقال رجل: يا رسول الله ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا، قال: ليس هناك، أو ليس عنده ذلك.» نقلًا عن الشعر والشعراء ص١٧٠، والأغاني ٢ ج٤، و١٦٩ ج٨، و١٦٩ ج١٠، و١٥٠ ج١٣، و٢ ج١٤، وخزانة الأدب ١١١ ج١، والجمهرة ١٢١، وص٤٨٢ ج٦ من مجلة الهلال، وص١٥٠ ج١ من تاريخ آداب اللغة العربية طبعة ثانية ١٩٢٤ تأليف المرحوم العالم المؤرخ جورجي زيدان. فهذه الرواية تدل صراحة على أنَّ عليًّا كان شاعرًا، ولو لم يكن شاعرًا ما قال له القائل: اهجُ عنا القوم، ولو لم يكن شاعرًا ما أجاب: إن أذن لي رسول الله فعلت. وليس معنى قول النبي: «ليس هناك أو ليس عنده ذلك» أنه ليس شاعرًا، وهي الجملة التي حرَّفها الشيخ حسين بقوله: «لأنه (علي) لم يكن من ذلك في شيء»، ولكن معنى قول النبي أنه لا يليق بعلي بن أبي طالب وهو ابن عمه وصهره ومرشح للخلافة في أي وقت من الأوقات عقب وفاة الرسول أن يقول الشعر هجوًا في قريش، ولا بأس أن يتقدم إلى ذلك حسان وغيره من الشعراء الذين عرفوا بهذه الصناعة، وبين أيدينا شعر لعلي كثير لم يطعن في صحته أحد، والأسباب التي دعت النبي لهذا الإباء معقولة، وإليك دليلًا من عالم إنجليزي على شاعرية علي وفصاحته، قال نيكلسون ص١٩١: «امتاز عليٌّ بالشعر والفصاحة، وأشعاره وحكمه مشهورة في سائر أنحاء الشرق الإسلامي.»

على أنَّ هناك حكمة خفيت على هذا الكاتب الكرتيزي فلم ير جلالها وجمالها، وهي أنَّ عليَّ بن أبي طالب — عليه رضوان الله — كان وزيرًا ومستشارًا لرسول الله في سائر أطوار الدعوة من بدايتها، فكانت له أعمال عامة في السياسة والحرب وتدبير شئون المسلمين تستغرق وقته وتعوقه عن التفرغ للشعر، وكان الإسلام قائمًا على مبدأ تقسيم الأعمال، وعدم إبهاظ كواهل الرجال بما يقومون به، وفي هذا من العدل وبُعد النظر وحسن الإدارة ما لا يخفى على كل بصير.

ثم إنَّ حسانًا كان بفطرته وصنعته وخلقه ومواهبه شاعرًا في الجاهلية، وشاعرًا في الإسلام، ووظيفته التي عرف بها هي أنه شاعر النبي، فإذنُ رسول الله له بالشعر والرد على شعراء قريش إنما هو من قبيل وضع الشيء في موضعه، وإعطاء القوس باريها، وأداء حسان واجبه، والقيام بأعباء وظيفته التي أهلته لها الطبيعة وخلقه الشخصي، على أنَّ عليًّا فوق شاعريته المشهورة وفصاحته التي ضُربت بها الأمثال كان رجل حرب وسياسة، كما أنَّ حسانًا كان رجل شعر وفصاحة، فلا عجب في أنَّ النبي لم يأذن لعلي وأذن لحسان، ولو أنه أذن لعلي لكان هناك العجب، وقد كان دأب الرسول في أثناء حياته أن يرشح الصحابة لما يصلحون له من الأعمال.

الغاية الثالثة من فصل القصاص هي الطعن في تاريخ العرب والإسلام جملة واحدة ولكن بغير دليل أو سند، قال في ص١٠٤: «كل ما يُروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرهم والعماليق موضوع لا أصل له، وكل ما يُروى عن تُبَّع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة وأخبار الكهان وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له.

وكل ما يروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعًا، وكل ما يروى من هذه الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعًا.»

ألا يشعر قارئ هذه الجملة برعشة الحمى تهز أعضاء من أملاها، ألا يحمل هذا الكلام آثار المرض؟

إذن لا عاد ولا ثمود (التي وجد منها فيلق روماني في القرن الخامس للمسيح)، ولا سد مأرب الذي شاهده شهود رؤية من العلماء الفرنسيس والألمان والإنجليز، ولا علاقات تجارية ولا حروب بين العرب والأمم المجاورة، وهو نفسه القائل في ص٢٨: «فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة … تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية.» وهو القائل في ص١١٠: «ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع»، وهو القائل ص٨٧: «وليس من شك عندي في أنَّ الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول الدين الجديد وتأييد صاحبه.»

أليست في هذه الأقوال كلها أدلة على صحة ما ينكره في صفحتي ١٠٤ و١٠٥، فما حكم علماء الأدب وعلماء النفس في هذا التناقض؟ وهل يحل أن يتلقنها مائتان من الطلاب الأعزة الذين أرسلهم آباؤهم لتلقي العلم الصحيح لا العلم المريض في الجامعة المصرية؟ ولا شك عندنا أنَّ الطلاب إذا تلقوها عن أستاذ يثقون في علمه ويتحتم عليهم تصديقه، ويرغمون على أداء الامتحان فيها، وهم يعتمدون على النجاح في هذا الامتحان، بل تلك المحنة؛ فإنهم حتمًا يضلون وتمرض نفوسهم، وقد لا ينفع في مستقبلهم علم يعيد الحق إلى نصابه أو يرجعهم إلى صوابهم، ويكون هذا الذنب الفظيع على رأس من أضلهم واستغواهم بدلًا من أن يرشدهم ويهديهم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤